أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مسعد عربيد - المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحلقة الرابعة والعشرون















المزيد.....


المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحلقة الرابعة والعشرون


مسعد عربيد

الحوار المتمدن-العدد: 8494 - 2025 / 10 / 13 - 00:50
المحور: القضية الفلسطينية
    


الحلقة الرابعة والعشرون: متابعة ثيودور هرتسل
الحل الصهيوني في كتاب هرتسل “دولة اليهود"

مشروع هرتسل: مقدمات

تتعذر قراءة كتاب "دولة اليهود" لثيودور هرتسل دون تَلَمس ذلك القلق الوجودي على اليهود ومستقبلهم. فهرتسل لا يُخفي هذا القلق الذي يظل الخيط الناظم لأطروحته بشأن إقامة الدولة اليهودية، والدافع الأساسي لمشروعه الاستيطاني، والمحور الذي ينطلق منه. وهو قلق لا يقتصر على هرتسل، بل ينسحب على النخبة الفكرية والسياسية الصهيونية. وجدير بالملاحظة أنه بعد ما ينوف عن قرنٍ وربع القرن من صدور كتاب هرتسل، وما يقارب ثمانية عقود على تأسيس الكيان الصهيوني، لا يزال هذا القلق يلاحق الكيان والمجتمع الاستيطاني الصهيوني.

يتجسد هذا القلق في جوانب عدة أبرزها:

- رفض الشعوب العربية التطبيع مع الكيان الصهيوني. أمّا تطبيع بعض الحكومات العربية، فهو تطبيع مهتز ويفتقر، في المدى الاستراتيجي، إلى عوامل الاستقرار والديمومة.

- وعلى نحو مشابه، نشهد تعاظم فهم الشعوب على مستوى العالم لحقيقة الكيان الصهيوني الاستعمارية والإبادية حيال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المجاورة، ورفضها لهذه السياسات والممارسات. ومع التباعد، بل والتناقض، بين مواقف هذه الشعوب وحكوماتها، أخذنا نشهد ازدياد عزلة الكيان الصهيوني وتراجع بعض الحكومات عن دعمها بحيث لم تعد قادرة على الاستمرار في الصمت أو التواطؤ أو المشاركة في احتلاله لفلسطين وجرائمه الإبادية على شعبها.

هنا ينبري السؤال: حتى لو ارتمى الكيان في أحضان الغرب الإمبريالي، (وفق ما دعا إليه هرتسل في كتابه لرعاية مشروعه الاستيطاني)، فهل سيتمكن الكيان من ردم هذه الهوة؟ هل سيتمكن من مواجهة الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني في جميع أرجاء فلسطين المحتلة، ورفضه الهجرة من بلده على قسوة حرب الإبادة في غزّة، وتوحش الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية؟

من هنا فإن قراءة قلق هرتسل ومَن جاء بعده - في سياق مأزق الكيان، وتراجع هيمنة الإمبريالية الغربية (الأميركية والأوروبية) الذي لا يعني بالطبع تحولاً جوهريًا في العلاقة بين الإمبريالية الغربية وأداتها "إسرائيل" - يسعفنا على المستوى الإستراتيجي في فهم المشهد الحاضر واستشراف مستقبل الصراع في بلادنا.
***
قبل الدخول في مناقشة تفاصيل خطة هرتسل لإقامة الدولة اليهودية، سنتناول المقدمات التي يعرضها تمهيدًا لمشروعه.
يقدم هرتسل في كتابه، السياق التاريخي والسياسي لأطروحته بشأن "دولة اليهود"، مستندًا إلى ركيزتيْن أساسيتيْن:

الأولى، تفاقم المسألة اليهودية ومعاداة اليهود التي يراها مشكلة أزلية لا أفق لمعالجتها ما دام اليهود يعيشون في المجتمعات الأخرى، وأن الحل يكون بالحصول على قطعة أرض يجري تهجير اليهود إليها ليقيموا دولتهم المستقلة عليها.

أمّا الركيزة الثانية، التي يرى هرتسل أنها تعزز أطروحته، فهي فشل المحاولات السابقة لحل المسألة اليهودية وانسداد الأفق أمام الحلول التي طرحت في زمنه. ويتجلى هذا الانسداد في: (1) فشل اندماج اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها لقرون طويلة مع إخلاصهم ورغبتهم في ذلك، (2) فشل ما يٌسمى "الهجرة الخيرية" أي محاولات تهجير اليهود، خصوصًا من أوروبا الشرقية إلى فلسطين وغيرها، عن طريق نشاطات الجمعيات اليهودية المختلفة مثل "أحباء صهيون" التي كانت تتلقى الدعم المالي واللوجستي من أثرياء اليهود (عائلة روتشيلد على سبيل المثال).

على هاتين الركيزتيْن بنى هرتسل تصوره لحل المسألة اليهودية، وخطته لإقامة الدولة اليهودية التي فصّلها في كتابه. وسوف نعود لاحقًا لمناقشة هاتين المسألتيْن بشيء من التفصيل.

أولاً: المسألة اليهودية

" في الواقع إن كل شيء يتجه إلى خلاصة واحدة تعبر عنها بوضوح العبارة التقليدية في برلين: أيها اليهود اخرجوا"

ثيودور هرتسل
"دولة اليهود"، ص 13

وضعية المسألة اليهودية في عصر هرتسل

يرى هرتسل أن كراهية اليهود وحملات الاضطهاد بحقهم متفشية في المجتمعات التي يعيشون فيها: "إن العداء للسامية بين الشعوب يتعاظم يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، وهو حَريٌ بأن يتعاظم حقا؛ لأن أسباب نموه مستمرة في الوجود ولا يمكن إزالته؛ فسببه القديم هو فقدان القدرة على الاندماج إبَّان العصور الوسطى، أمَّا سببه في الوقت الحاضر فيرجع إلى ظهور أنصاف المثقفين بيننا بإعداد كبيرة، وهؤلاء لا يجدون متنفسا أسفلهم أو من فوقهم، أعني أنهم لا يجدون متنفسا صحيحا في أي اتجاه" .


ثمّ يضيف هرتسل أن العداء للسامية أمرٌ لا يمكن إنكاره، فهو جلي في جوانب الحياة كافة في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود. و"لا أحد يستطيع أن ينكر خطورة وضع اليهود، فحيثما يعيشون في أعداد ملحوظة نجد أنهم مضطهدون على نحوٍ أو آخر. لقد أصبحت مساواتهم أمام القانون - التي منحها لهم التشريع - حبرا على ورق؛ فهم محرومون من شغل الوظائف ذات الأهمية النسبية سواء في الجيش أو في مجال عام أو خاص، بل إن المحاولات قائمة لإبعاد هم عن جميع المهن أيضا: "لا تشتري من اليهود". "إن الحملات عليهم في البرلمانات، وفي الاجتماعات، وفي الصحافة وعلى المنابر، وفي الشوارع، والرحلات؛ فهم مستبعدون مثلا من فنادق معينة، حتى في أماكن التسلية. كل هذا أصبح يتكرر كثيرًا في كل يوم" .

المسألة اليهودية ... أزلية

يؤكد هرتسل بيقين لا يشوبه شك، " أن المسألة اليهودية لا تزال قائمة ومن الغباء إنكارها، وأنها موجودة حيثما يوجد عدد ملحوظ من اليهود ويتساءل: كيف ينظر الآخرون إلينا؟ ثم يجيب مستحضرًا تجارب اليهود السابقة: في بعض البلاد التي عشنا فيها قرونا طويلة لا يزال الناس ينظرون إلينا شزرًا بوصفنا أجانب، حتى أولئك الذين لم يكن أجدادهم مواطنين في
الوقت الذي كان اليهود موجودين هناك يتعرضون لألوان من المعاناة" .

أمّا زوال المسألة اليهودية وكراهية لليهود فيكون فقط، من وجهة نظر هرتسل، حين يرحل اليهود من تلك المجتمعات التي يعيشون فيها، فتختفي المشكلة لأن اليهود قد هاجروا وحملوها معهم، "ومن الطبيعي أننا نرحل إلى الأماكن التي لا نلقى فيها الاضطهاد، حتى إذا حللنا هناك فإن وجودنا في حد ذاته يولد الاضطهاد" .

وعليه، فالمسألة اليهودية أزلية في نظر هرتسل الذي يؤكد أنَّ "هذه هي الحال في كل بلد، وستظل أبدًا – حتى في الدول ذات المستوى الحضاري الرفيع مثل فرنسا – إلى أن تجد المسألة اليهودية حلًا على المستوى السياسي. إن أصحاب الحظ العاثر من اليهود يحملون الآن العداء للسامية إلى إنجلترا وقد حملوه من قبل إلى أمريكا" .

المسألة اليهودية ... قضية سياسية

يخلص هرتسل في تحليله إلى أن مشاكل اليهود سياسية في طبيعتها، وعليه فلا حلّ لها دون الحل السياسي: "أعتقد أن المسألة اليهودية لم تعد مشكلة اجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ مسميات أخرى؛ إنها قضية قومية يمكن حلها عندما تعالج بوصفها قضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضر في مجلس دولي". .. إننا شعب .. وشعب واحد" .

أسباب معاداة اليهود

يسعى هرتسل في فهمه لكراهية اليهود إلى تفكيك "العناصر التي تدخل في تركيبها. فهي مزيج من السخرية المبتذلة، ومن الغيرة في المسائل التجارية العامة، ومن التعصب الموروث، وعدم التسامح الديني، إلى جانب التظاهر بالدفاع عن النفس" .

1. الجذور التاريخية لكراهية اليهود
يرى هرتسل أن المسألة اليهودية، "والتعصبات القديمة تجاه اليهود لا تزال تكمن في سويداء القلوب"، و" أنها إحدى مخلفات العصور الوسطى التي يبدو أن الشعوب المتحضرة ليست قادرة حتى الآن على التخلص منها" .

ويكشف هرتسل، في تفسيره لهذه الظاهرة "التاريخية" وأسبابها، عن البعد الاقتصادي (الطبقي) معربًا عن خشيته من انخراط اليهود في الصراع الطبقي والالتحاق بالتيارات الاشتراكية. " ... إننا نحن اليهود قد صنعنا الجيتو على ما نحن عليه. فمما لا شك فيه أننا اكتسبنا تفوقًا ماليًا لأن ظروف العصور الوسطى دفعتنا إلى ذلك. والآن تتكرر العملية نفسها؛ فقد أجبرنا مرة أخرى، على العمل في البورصة بعد أن حرّم علينا أي نشاط اقتصادي آخر. ولأننا في البورصة؛ فإننا من ثَمَّ، نتعرض من جديد للاحتقار. وفي الوقت نفسه نحن مستمرون في تخريج كثرة من المتعلمين الذين لا يجدون متنفسا لهم، وهذا يُعرِّض أوضاعنا الاجتماعية للخطر بالقدر نفسه الذي يفعله ثراؤنا المتزايد. إن اليهود المتعلمين الذين يعوزهم المال سرعان ما يتحولون إلى الاشتراكية. وهكذا فإننا بالتأكيد نعاني بشدة في الصراع الطبقي لأننا نقف في أكثر المواقع تعرضا بين كل من معسكري الاشتراكيين والرأسماليين" .

أسباب اجتماعية واقتصادية
يميّز هرتسل بين الاضطهاد الديني لليهود في العصور الماضية، من ناحية، والأنماط الحديثة لمعاداة السامية، من جهة أخرى. وينبه إلى " أن العداء الحديث للسامية لا ينبغي أن يختلط علينا مع الاضطهاد الديني لليهود في الزمن الماضي؛ إنه يتخذ أحيانا مظهر التعصب الديني في بعض البلاد؛ ولكن التيار الرئيس لحركة العنف قد تغير الآن" .

أما النمط الحديث لكراهية اليهود " ... فيحدث نتيجة لتحرير اليهود في أكثر البلاد التي يسود فيها العداء للسامية. فعندما تنبهت الأمم المحتضرة إلى لا إنسانية قوانين التمييز العنصري أعتقونا. ولكن تحريرنا جاء متأخرا جدًا؛ فلم يعد من الممكن إزالة عجزنا في أوطاننا القديمة. فمن الغريب أننا ونحن في الجيتو قد تحولنا إلى برجوازيين، وخرجنا منه فقط لندخل في منافسة ضارية مع الطبقة الوسطى. لقد وضَعَنا تحريرُنا فجأة في وسط دائرة الطبقة المتوسطة لنتحمل ضغطًا مزدوجًا أحدهما يأتي من داخلنا والآخر يأتي من الخارج" .

ثمّ يعود هرتسل ليعبّر عن قلقه من انخراط اليهود في التيارات الاشتراكية (المخربة وفق ما يرى)؛ ذلك "أن المسيحيين البرجوازيين لن يمتنعوا عن جعلنا ضحية للاشتراكية، وإن كان هذا لن يحسّن الأمور كثيرا. وفي الوقت نفسه لا يمكن إلغاء حقوق اليهود في المساواة أمام القانون بعد أن تم التسليم لهم بها. ليس لأن ذلك سيكون مضادًا لروح عصرنا، ولكن أيضا سيدفع اليهود على الفور – اغنياء وفقراء على السواء - إلى صفوف الأحزاب المخربة، فلم يعد هناك شيء فعال للإضرار بنا". فالاضطهاد يلقي باليهود في خضم الصراع الطبقي ويحولهم إلى بروليتاريا ثائرة: "ونحن عندما نغرق نصبح بروليتاريا ثائرة من أتباع جميع الأحزاب الثورية، وفي الوقت نفسه عندما نرتفع ترتفع معنا القوة الرهيبة للمال" .

ثانيًا: أين تكمن قوة اليهود؟

لا يساور هرتسل أي شك، بأن القومية اليهودية لا تفنى، وأنها تجسِّد القوة الدافعة لليهود. وفي هذا الصدد يقول: "أما القومية المتميزة لليهود فلا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. فلا يمكن تدميرها لأن الأعداء الخارجيين يدعمونها، وهي لن تُدمر لأن ألفي عام من المعاناة الرهيبة تؤكد ذلك ..." .

ولكن أين تكمن هذه القوة؟

"إن الظلم والاضطهاد لن يقضيا علينا. فلم يناضل شعب أو يتعرض للأذى على هذه الأرض كما حدث لنا. إن إيذاء اليهود المتتابع قد قضى على ضعافنا، أما الأقوياء منا فقد أخلصوا لجنسهم عندما تفشت أعمال التعذيب فيهم؛ وقد ظهر هذا الموقف بجلاء في السنوات التي تلت تحرير اليهود" .

فالعالم الذي اعتاد لقرون طويلة أن يرى اليهود "أحط الفقراء"، يستفزه ازدهارهم. ولكن هذا العالم "بسبب جهله وضيق أفقه قد أخفق في أن يلاحظ أن الازدهار يضعف يهوديتنا ويطفئ ميزاتها. إنها الضغوط وحدها هي التي تدفعنا للعودة إلى جذورنا، إنها الكراهية التي تحيط بنا هي التي تجعلنا غرباء مرة أخرى" .

هنا تتبدى قوة اليهود، كما يرى هرتسل، أي في الكراهية التي تحيط بهم وتجعلهم غرباء، وفي الضغوط التي تدفعهم للعودة إلى جذورهم. "وهكذا سواءٌ رغبنا أو لم نرغب فإننا الآن وسوف نظل، جماعة تاريخية ذات خصائص عامة لا يمكن أن تخطئها العين. إننا شعب واحد .. لقد جعلَنا أعداؤنا نتحدُّ في ضغينتنا، كما حدث مرارا في التاريخ. إن الكروب تجمعنا معًا ومن ثم توحدنا .. وفجأة نكتشف قوتنا .. نعم إننا من القوة بحيث نستطيع أن نقيم دولة .. وفي الحقيقة دولة نموذجية. إننا نملك كل الموارد الإنسانية والمادية اللازمة لهذا الغرض" . ‏

مشروع هرتسل: تجسيد لقوة يهودية لا تفنى

يُموضع هرتسل مشروعه، ونفسه بصفته صاحب رسالة، تجسيدًا للقوة الذاتية اليهودية التي لا تفنى ولا يتسرب إليها الوهن أو اليأس:" ... وأنا – بصفتي واحدًا من أعداد لا تحصى من أبناء اليهود الذين لم يتطرق اليأس إلى قلوبهم – سوف أحاول مرة أخرى في هذا الكتاب أن أبرهن على صحة هذه المقولة: قد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط، أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة" .

وعليه، فإن هرتسل على يقين تام بأنه " ... على حق وإن كنت أشك فيما إذا كنت سأبقى حيًا لأرى الأيام تبرهن على ذلك، أما أولئك الذين سيكونون أو من يفتتح هذه الحركة فمن النادر أن يبقوا على قيد الحياة ليشهدوا نهايتها العظيمة، ولكن افتتاحها في حد ذاته يكفي لمنحهم الشعور بالفخر والسعادة بالتحرر الروحي" .

اما مشروعه الذي يطرحه في الكتاب فينطوي على “توظيف قوة دافعة موجودة بالفعل... إن كل شيء يعتمد على قوتنا الذاتية. ولكن ما هي قوتنا الدافعة؟ إنها بؤس اليهود؟ فمن يجرؤ على إنكار وجوده؟ " .

ثالثًا: فشل الحلول السابقة

يركّز هرتسل في استعراضه للمحاولات السابقة لحل المسألة اليهودية، على فشل الجهود اليهودية في مجالين أساسييْن: (1) اندماج اليهود في المجتمعات الغربية، و (2) نشاطات تهجير اليهود عن طريق العمل الخيري وتمويل الأثرياء اليهود.

تجدر الإشارة إلى أن موقف هرتسل في نقد ومعارضة المحاولات السابقة، لا يعود إلى فشلها وحسب، وإنما أيضًا لأن هذه المعارضة هي مقدمات موضوعية لأطروحاته وتُخلي السبيل لطرح بدائل أخرى: مشروعه لاستيطان فلسطين وإقامة الدولة اليهودية، مع أنه أبقى الباب مفتوحًا على الاختيار بين الأرجنتين وفلسطين.

وفي هذا الصدد، يطالب هرتسل قرّاءه (من المثقفين اليهود) بإمعان النظر في هذه المحاولات الفاشلة: "إن لي عند قرائي توقعات أكبر، فأنا أطلب من المثقفين الذين أخاطبهم أن يضعوا
جانبًا كثيرًا من الآراء التي كونوها في الماضي، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك لأطلب من أولئك اليهود الذين حاولوا ما في وسعهم حل المشكلة اليهودية أن ينظروا إلى محاولاتهم السابقة على أنها خطأ ولا فائدة منها" .

1- فشل اندماج اليهود في المجتمعات الغربية

يجهر هرتسل بأن اندماج اليهود في المجتمعات الغربية، قد مُني بالفشل، ولن يُكتب له النجاح حلًا للمسألة اليهودية وإزالة الكراهية لليهود. ومن هنا نراه ينتقد هذا الاندماج ويعارضه. ويُعَدُّ هذا التحول في موقفه، نقلةً نوعية في مسيرته السياسية والفكرية، إذ كان قد أحرز، قبل ذلك، شوطًا طويلًا في الاندماج في المجتمع النمساوي.

معنى الاندماج

بادئ ذي بدء، وقبل الولوج إلى أسباب فشل الاندماج ودواعي معارضة هرتسل له، دعونا نطرح سؤالًا: ماذا يعني هرتسل بالاندماج؟

يقول هرتسل:" إنني أعني بالاندماج ليس فقط التطابق الظاهر في الملبس والعادات والتقاليد واللغة، ولكن أيضًا في وحدة الشعور والأخلاق. واندماج اليهود بهذا المعنى لن يتحقق إلا عن طريق الزواج المختلط. ولكن الحاجة الى الزواج المختلط بين اليهود وغيرهم يجب أن يكون تعبيرًا عن شعور أغلبية السكان، وذلك لأن الاعتراف القانوني به وحده ليس كافيًا" .

أما أسباب فشل الاندماج فهي عند هرتسل متعددة، أهمها:

أ - الآخرون لن يسمحوا لنا: ربما يكون في مقدورنا الاندماج تماما في الأجناس التي تحيط بنا إذا شاءت هذه الأجناس أن تدعنا في سلام لمدة جيلين. ولكنهم لن يدعونا في سلام. إنهم قد يتحملوننا لمدة قصيرة من الزمن ثم يبدأ عداؤهم يتفجر مرة أخرى" .

لقد كانت هناك محاولات اليهود المخلصة "... أن نندمج في الحياة الاجتماعية للمجتمعات المحيطة بنا، وأن نحافظ على عقيدة آبائنا، ولكن لم يُسمح لنا بذلك. إننا وطنيون ومخلصون، وقد ذهبنا بإخلاصنا أحيانًا إلى أقصى المدى ولكن دون فائدة ... نكدح في سبيل رفعة شأن البلاد التي نعيش فيها في مجالات العلوم والفنون والآداب، وفي مجالات إثرائها عن طريق التجارة، ولكن بلا فائدة" .


غير أن هذا، من وجهة نظر هرتسل، لا يكفي ليؤمِّن الاستقرار لليهود في إقامة دولة مستقلة وذات سيادة. وعليه، فإنه يرى أن "... على رجل الدولة الذي يرغب في أن يرى اندماج اليهود في نسيج أمته أنْ يؤمِّن لهم الاستقرار السياسي لمدة معينة. ولكن هذا الشرط لن يتأمَّن لأن أحدًا لن يفعله حتى ولو كان بسمارك نفسه" .

ب - اليهود المندمجون تخلوا عن أنفسهم: لا يتردد هرتسل في نقده تعرية اليهود المندمجين ويصفهم بأنهم تخلوا عن أبناء جلدتهم: "اما أولئك اليهود الذين اكتسبوا حظًا وافرًا من العلم والثروة فقد تخلوا نهائيًا عن الولاء لجنسهم، فحيثما ساد استقرارنا السياسي لمدة من الزمن استوعبتنا المجتمعات المحيطة بنا" .

ج - القوة الاقتصادية شرط الاندماج والتغلب على التحيز الاجتماعي: يحذّر هرتسل أولئك اليهود "... الذين يرغبون بصدق أن يروا اليهود يذوبون في بوتقة واحدة مع الشعوب الأخرى ليس أمامهم غير طريق واحد، وهو أن يمتلك اليهود بادئ ذي بدء قوة اقتصادية تمكنهم من التغلب على التحيز الاجتماعي القديم الذي يمارس بحقهم" .

ويستشهد على ذلك بمثال وضع الطبقة العليا من اليهود الذي يعدُّه "أصدق تعبير على ذلك الطريق. ففي هذه الطبقة يحدث الزواج المختلط بين أفرادها بنسبة أكبر. لقد انقرضت بالتدريج تلك الأسر اليهودية التي استعادت بأموالها مكانتها العالية السالفة. ولكن أي وضع تأخذه هذه الظاهرة في الطبقات الوسطى التي يكوِّن اليهود فيها طبقة برجوازية فإن المسألة اليهودية تطرح نفسها بحدة" .


د - مستقبل الاندماج: محكوم عليه بالفشل

يذهب هرتسل بعد توصيفه للاندماج تأكيد فشله قائلاً: " ... وعليه فإن الخطوة الأولى تجاه استيعاب اليهود في بنية الشعوب لن تتحقق، لأن هذه الخطوة سوف تتضمن خضوع الأكثرية لأقلية محتقرة لا تملك قوة عسكرية ولا إدارية؛ ولذلك فإنني واثق من أن اندماج اليهود مع غيرهم عن طريق إحراز مزيد من الرخاء الاقتصادي غير ممكن التحقيق" .

2 - فشل التهجير الخيري

المقصود بالعمل الخيري أو التهجير الخيري، (ويسميه بعض الباحثين الهجرة التسللية) هو مساعي تهجير اليهود من المجتمعات التي عاشوا فيها قرونًا عدة خصوصًا بلدان أوروبا الشرقية إلى فلسطين وغيرها، عن طريق نشاطات الجمعيات اليهودية (جمعية أحباء صهيون مثالاً) التي كانت تتلقى التمويل من الأثرياء اليهود مثل أسرة روتشيلد والبارون هيرش وغيرهم.
يرى هرتسل " أن المحاولات الاستعمارية التي قام بها بعض المحسنين الجادين، على أهميتها، لم تنجح. ويذهب إلى حد القول بإن المحسنين من المندمجين اليهود يعبرون عن هذا الضيم المستتر بأعمال الإحسان؛ فهم ينشئون جمعيات لتهجير اليهود المشردين. وهناك عكس الصورة التي قد تبدو مضحكة لو لم تكن تتعامل مع آدميين؛ فبعض هذه المؤسسات الخيرية أنشئت لا لمصلحة اليهود المضطهدين ولكن لما لا ينفعهم. فقد أُنشئت لترحيل هذه المخلوقات التعيسة في أسرع وقت وإلى أبعد ما يمكن. وهكذا فإن كثيرًا ممن يبدون على أنهم أصدقاء لليهود يصبحون – بالفحص الدقيق – أعداء للسامية من أصل يهودي، لكنهم متنكرين في ثياب الإحسان" .

***
سنتابع في الفصل المقبل تفاصيل خطة هرتسل في إقامة الدولة اليهودية والآليات التي يقترحها لتنفيذها.



#مسعد_عربيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة (ال ...
- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة (ال ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، (الح ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، (الح ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، (الح ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، (الح ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا ...
- المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، بح ...


المزيد.....




- ترامب في شرم الشيخ: توقيع تاريخي وقمة دولية لإنهاء حرب غزة
- هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا؟
- عاجل | ترامب: الحرب انتهت ووقف إطلاق النار سيصمد
- كارثة قيس سعيد في تونس
- ملفات غزة العالقة تهدد المرحلة الثانية من خطة ترامب
- اشتباكات في غزة بين -حماس- وعدد من العائلات الفلسطينية
- ترامب: حرب غزة انتهت.. ووقف إطلاق النار سيصمد
- ما الذي يمكن لملك بريطانيا أن يفعله حيال فضائح الأمير أندرو؟ ...
- -أخيراً انتهت الحرب-، مقتل صالح الجعفراوي بعد أيام قليلة من ...
- بعد تهديده بكين بفرض رسوم جمركية -هائلة-.. ترامب يخفف لهجته: ...


المزيد.....

- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مسعد عربيد - المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحلقة الرابعة والعشرون