مسعد عربيد
الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 10:40
المحور:
القضية الفلسطينية
قراءة في كتابه "دولة اليهود"
• بعض معالم الدولة اليهودية المنشودة
منافع الحل تعود على الأطراف كافة
أولاً: منافع الجماعات اليهودية
ثانيًا: منافع الهجرة اليهودية على المجتمعات التي سيغادونها
ثالثًا: منافع "البلد المستعمَر"
رابعًا: منافع الدول الإمبريالية الراعية - حماية مصالحها
▪️▪️▪️
خطاب هرتسل: بين البراغماتية والمراوغة
حرص هرتسل في كتابه "دولة اليهود" وصياغة حله الصهيوني، على استخدام خطاب براغماتي يهدف إلى إرضاء جميع الأطراف، كي يتسنى له أن يوازن بين الأطراف المعنية كافة، ويوزع منافع حلِّه عليها. وعليه، نرى أنه يقدم لكلِ طرفٍ منها منافع تخدم مصالحه، ومن ثَمَّ يضمن رضاها على مشروعه ودعمها له.
وفي هذا المسعى، لم يقتصر هرتسل على الأطراف اليهودية، على تنوعها واختلاف أماكن تجمعاتها، بل شمل القوى والحكومات الإقليمية والدولية: الدولة العثمانية، والإمبراطورية الألمانية، والقوى الاستعمارية الغربية (خصوصًا بريطانيا). وقد اتضح ذلك لاحقًا بعد تأسيس الحركة الصهيونية في مساعيه الحثيثة التي لم يحل دونها سوى وفاته المبكرة عام 1904 عن عمرٍ لم يتجاور الأربعين عامًا.
ولتحقيق هذا الهدف، إرضاء الأطراف كافة، تعيَّن أن يكون خطاب هرتسل مرنًا ومراوحًا بين البراغماتية والمراوغة، وقادرًا على المناورة والتعايش مع الخلافات وحتى التناقضات. وقد أسهم هذا الخطاب في صياغة مخططاته وتحقيق أهدافه في إطار تعاقدي وعملي فيما بين التجمعات والتيارات اليهودية المختلفة، وكذلك بين اليهود (خصوصًا الغربيين) من جهة، وقوى الغرب الاستعماري، من جهة أخرى.
أولًا: منافع الجماعات اليهودية
عايش هرتسل أوضاع اليهود في كلٍّ من أوروبا الشرقية والغربية اللتين كانتا تمرَّان بتحولات اجتماعية وسياسية عميقة. وتمكَّن هرتسل، على خلاف غيره من يهود أوروبا الغربية الذين كانوا ينظرون إلى المسألة اليهودية "من الخارج"، من طرح حله الصهيوني وتحديد خطة تنفيذه. ومع أنه واجه تحديات مع الأطراف كافة؛ إلاّ انه تمكن من تحديد دور كلٍ من: (1) اليهود التوطينيين، أي اليهود المندمجين في المجتمعات الغربية، (2) اليهود الاستيطانيين، أي المقيمين في أوروبا الشرقية، ويطلق عليهم أيضًا اليهود اليديشيين وكانوا المستهدفين الأوائل للهجرة اليهودية. وتمكن من تقسيم العمل بينهم وتهدئة قلقهم على المستقبل. لذا، يجوز القول إنه وحّد العناصر اليهودية، بموافقة الأطراف كافة ورضاها. ولا غرابة في ذلك، فالخطاب المرن يسمح بامتصاص كل شيء.
1- منافع اليهود المهاجرين
أولى هرتسل في خطته لحل المسألة اليهودية اهتمامًا كبيرًا ليهود أوروبا الشرقية وتخليصهم من الاضطهاد والتمييز. ولكنه رأى أنْ يجري أولًا التخلص من بعض الأفكار القديمة والبالية. فمن أجل تحقيق حلم اليهود في تأسيس دولتهم، أكد هرتسل: "من أجل هذا لا بد أولاً أن تمحى من عقول الناس تمامًا تلك الأفكار القديمة المتضخمة أو المضطربة أو المحدودة".
ومن أبرز الأفكار التي انتقدها هرتسل وقاومها بشدة تلك التي تدّعي أن هجرة اليهود ستأخذهم من منطقة متحضرة إلى الصحراء. وذكر أن الأمر ليس كذلك، بل على العكس سيحصل الارتقاء باليهود المهاجرين إلى الأعلى والنزوح في قلب الحضارة؛ " فلن ننزل إلى مرحلة أقل بل سنرتفع إلى مرحلة أعلى، لن نعيش في أكواخ من الطين، بل سنبني بيوتًا أجمل وأحدث وسنمتلكها بسلام ... ".
ومن أجل تهدئة روع اليهود المهاجرين، يؤكد هرتسل أنه لن يغادر إلَّا أولئك الذين ستتحسن أوضاعهم بالهجرة. فسوف يذهب أولًا أولئك الذين هم في حالة يأس، ثم يتبعهم الفقراء، وبعدهم يذهب الأغنياء. أمّا الذين يذهبون أولًا فسيرفعون أنفسهم إلى مرتبة توازي مرتبة الذين سيلحقون بهم من الأغنياء. وهكذا فإن خروج يهود شرقي أوروبا (الفائض البشري) سيكون طريقًا للرقي الطبقي، وسيحقق لهم، عن طريق التشكيل الاستعماري الغربي، ما فشلوا في تحقيقه عن طريق التشكيل الحضاري الغربي.
بعبارة أخرى، هذه دعوة لجماهير يهود أوروبا الشرقية والبورجوازية الصغيرة اليهودية لتحقيق أحلامها عن طريق المشروع الصهيوني.
يشير هرتسل في تفصيل رؤيته إلى أن يهود أوروبا الشرقية الفقراء (يهود اليديشية) سينتفعون من توظيفهم لصالح الراعي الإمبريالي الغربي الذي سيقوم بوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ وإقامة وطنهم القومي في "الدولة اليهودية". وسيكون هؤلاء، في مخططات هرتسل الاستيطانية، المادة البشرية الأساسية للمشروع الاستيطاني لأنه يعدُّهم "الفائض البشري اليهودي".
يرى هرتسل، في إشارة إلى فوائد أخرى ستعود على اليهود، أنّ حله يمنح هؤلاء اليهود فرصًا لتحسين أوضاعهم: "نحن أنفسنا سوف نستخدم ونستفيد من كل محاولة جديدة، وننفذها في أرضنا اليهودية .... جاعلين من الأرض الجديدة أرض تجارب ودولة نموذجية".
هرتسل يرد على ناقديه
كان الهدف من تهجير اليهود، من بين القضايا الخلافية التي احتدم الجدل فيها بين التيارات اليهودية والصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. وفي هذا الصدد سادت وجهتا نظر:
الأولى، الصهيونية الإثنية: أي تهجير اليهود إلى "وطن" يهودي (إرتس يسرائيل) في الأرض الموعودة ليعبِّر عن الهوية الإثنية وأنواعها التي عاشوها في بلدان أوروبا الشرقية؛ وقد انتقد هؤلاء هرتسل لأنه، في نظرهم، أهمل الإثنية اليهودية في خطته.
والثانية، التي تبناها هرتسل، رأت أن الحل الصهيوني ليس مسألة حفاظ على التقاليد أو تعبير عن هوية إثنية، بقدر ما هو حل لمشكلة اجتماعية عن طريق إنقاذ اليهود ونَقْلهم إلى خارج الغرب، ولا يهم، في هذه الحالة، إن كان نَقْلهم إلى فلسطين أم إلى الأرجنتين. بعبارة أخرى، كان هرتسل يرى أن الحل يكمن في إفراغ أوربا من اليهود ما يضع نهاية لمعاداتهم.
2- استفادة اليهود الغربيين المندمجين
يرتكز موقف هرتسل من اليهود المندمجين في مجتمعات أوروبا الغربية على عدد من العوامل أهمها: (1) فشل اندماج اليهود في المجتمعات الغربية وانسداد حل المسألة اليهودية في تلك المجتمعات، و (2) التخلص من اليهود الفقراء.
لقد فشل اندماج اليهود في المجتمعات الغربية في حل المسألة اليهودية والتخلص من معاداة اليهود، ولا بد من البحث عن حلٍ بديل. ولكن، هذا لا يعنى، من وجهة نظر هرتسل وضمن خطته، أن على اليهود الغربيين ان يرحلوا من المجتمعات التي اندمجوا فيها ونجحوا في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كان توجه أثرياء اليهود إلى دعم تهجير اليهود الفقراء من بلدان أوروبا الشرقية في إطار النشاطات الاستيطانية الخيرية، ما يُطلق عليه الصهيونية الخيرية أو التوطينية، هو ما دفع هرتسل إلى نقدهم. فقد رأى أن دعمهم للهجرة اليهودية ظلّ خارج أي أطروحات قومية، أو تنظيم هذا التهجير عن طريق حركة منظمة أو دولة وظيفية. (وربما كان هذا الموقف سببًا في رفض الأثرياء اليهود أطروحات هرتسل في بداية إعلانه عن مشروعه). غير أن هذا الدعم لم يحل دون استمرار يهود الشرق في الهجرة إلى المجتمعات الغربية بأعداد متزايدة، ما زاد من التوتر بين هذه الجماعات اليهودية المتباينة.
□ إنقاذ اليهود الغربيين: رأى هرتسل أنّ نمط الصهيونية الخيرية في تهجير اليهود، هو عبارة عن محاولة للتخلص من اليهود المعوزين. ولكن مع نقده هذا، فإنه يَعد اليهود المندمجين في المجتمعات الأوروبية الغربية بتخليصهم من هؤلاء الفقراء ولكن بطريقة منهجية ودون أن يهدد مواقعهم وانتماءاتهم، ودون أن يطالبهم بمغادرة بلدانهم الأصلية. "فمن يرغب أن يبقى فليبق، ومن يريد الذهاب معنا فلينضم الى رايتنا"، علمًا أن ترحيل هؤلاء الفقراء يخلص اليهود الغربيين من الحرج الذي يتسببون به: "أما اليهود المندمجون فسوف يستفيدون – ربما أكثر من المواطنين المسيحيين – من رحيل اليهود المخلصين؛ لأنهم سيتخلصون بذلك من أولئك المضطربين من يهود الطبقة العاملة الذين يسوقهم الفقر والضغوط السياسية من مكان إلى مكان آخر ومن بلد إلى بلد آخر. سوف تستقر هذه الطبقة العاملة الهائمة".
□ يرى هرتسل أن هناك حاجة إلى هجرة اليهود الساعين إلى الاندماج في مجتمعاتهم؛ "فهؤلاء الذين يستطيعون أو الذين يرغبون في أن يندمجوا فليبقوا أو يندمجوا"، بل يذهب إلى أن الحل الصهيوني سيساعدهم على مزيد من الاندماج في مجتمعاتهم حتى بعد قيام الدولة اليهودية.
□ لا تناقض مع الولاء للبلد الأصلي: يرى هرتسل أن دعم اليهودي الغربي للمشروع الصهيوني لن يتناقض مع ولائه لوطنه، لأن الولاء للواحد يعني الولاء للآخر؛ فالمشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الغربي، والغرب هو مصدر السيادة للدولة اليهودية المزعومة.
□ يرى هرتسل أن حله سيسهم في التخلص من العناصر الثورية أو مادة الثورة من يهود الطبقة العاملة الذين يسوقهم الفقر والضغوط السياسية من مكان إلى مكان آخر. غير أن مشرع دولته سوف يمنح هذه "الطبقة العاملة الهائمة" الاستقرار والأمان.
□ خلاصة القول، ستُنقذ الصهيونية يهود الغرب من جحافل يهود اليديشية، ولكنها لن تطالبهم بالهجرة ولن تَفرض عليهم الشعارات القومية، مع أنها ستطالبهم بدعم المشروع الصهيوني بالمال والنفوذ.
ثانيًا: منافع الهجرة اليهودية على المجتمعات التي سيغادونها
الهجرة اليهودية لن تخلق أزمة اقتصادية: يرى هرتسل أن "الهجرة التي أقترحها لن تخلق أزمة اقتصادية" في البلدان التي سيرحل اليهود منها، شارحًا أن: "رحيل اليهود لن يؤدي إلى اضطراب اقتصادي أو أزمات أو اضطهادات. إن البلاد التي سينزحون عنها سوف تفيق على مرحلة جديدة من الرخاء، فسوف يكون هناك هجرة داخلية للمواطنين المسيحيين ليحتلوا المراكز التي تركها اليهود. وسيكون التيار المنسحب بطرقية تدريجية وبدون اضطراب. وسوف تضع أول خطوة في هذه الحركة نهاية العداء للسامية. سوف يرحل اليهود كأصدقاء محترمين، وإذا عاد بعضهم فسوف يُستقبل بنفس الترحيب ونفس المعاملة التي تقدمها الشعوب المتحضرة لجميع الزوار الأجانب".
ويفسر هرتسل ذلك بأن "هجرة داخلية من المواطنين المسيحيين إلى المراكز التي أخلاها اليهود، تجري على مهل وبأسلوب منظم." ويختم فكرته هذه قائلًا: إذا ما: "... قُدمت إلينا مساعدات فعلية تعيننا على التنفيذ – فسيكون للحركة أثر نفعي عام". وعليه، لن يكون يؤدي رحيل اليهود إلى "إفقار البلاد".
تهجير اليهود سيسهم في تقدم البلاد التي يرحلون عنها: فبعد "رحيل اليهود ستبقى إنجازاتهم التي أبدعوها حيث كانت في الأصل، ولن تتخلف روح المشروعات اليهودية حيثما رحبت فها الشعوب. فالرأسماليون اليهود سيكونون سعداء باستثمار أموالهم، حيث يتألفون الظروف المحيطة، وكما يخرج المال اليهودي بسبب الاضطهادات القائمة، وتستغرق المشروعات الأجنبية في أقصى الأرض، سيعود ليتدفق مرة أخرى على أثر الحل السلمي، وسوف يُسهم في تقدم جديد بهذه البلاد التي فارقها اليهود".
الارتياح الاجتماعي: يزعم هرتسل أنه سيكون لرحيل اليهود "ميزة ربما من أعظم الميزات وهي الارتياح الاجتماعي الذي سيتولد". ويرى أن الأوضاع الاجتماعية "سوف تستقر"؛ فهذه المجتمعات سوف تتخلص من اليهود الفقراء، ومن العناصر اليهودية الثورية في الطبقة العاملة، المرشحين لقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية.
#مسعد_عربيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟