|
|
الهجرة والتحولات الاجتماعية والمجالية بسهل سوس (تابع) الدراسة الميكرو مجالية الحلقة الثانية
لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)
الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 11:31
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
حدث أثناء سفري إلى بلدة تاليوين بإقليم تارودانت، جنوب المغرب، يوم 25 من شهر نونبر (تشرين الثاني) لإلقاء مداخلة حول «المجتمعات القروية في مواجهة العصرنة والتغيرات المناخية» ضمن نشاط ثقافي تنموي منظم بقاعة الفقيد لكبير أوحجو الخبير في التنمية القروية بالوسط الواحي، وهي القاعة التي خصصتها جمعية الهجرة والتنمية بتاليوين فضاء للتنادي والتفكير لمواجهة تخلف التنمية بجبال الأطلس الكبير والواحات المغربية المبثوثة جنوبه، أن صادفت الباحث الخبير الدكتور خالد ألعيوض. وهب لي نسخة من كتابه حول الهجرة. جاهدت نفسي لإجراء القراءة فيه في ثلاث حلقات، الأولى نشرت بالعدد 8556 من الحوار المتمدن بتاريخ 14-12- 2025 والثانية ضمن مقاله والثالثة ستخصص للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. والكتاب، للتذكير، صادر عن مركز «تاوسنا للدراسات والأبحاث»، عنوانه: «التحولات السوسيومجالية والاقتصادية بسهل اشتوكة، حالة جماعتي سيدي بيبي وايت اعميرة». طبع لأول مرة في سنه 2025، مستغرقا 322 صفحة من الحجم الكبير. وإني أحسب الكتاب دليلا لكل باحث في الأوساط القروية المغربية، إذ يصح عليه القياس، إن لم يكن مرجعا لمن يبتغي الاشتغال على النماذج التي تتراءى في الميدان، بما هي وحدات سوسيومجالية. أشرت في الحلقة الأولى إلى المواقف اللازم التركيز عليها في الباب الأول، «سهل اشتوكة الإنسان والمجال»، أقصد المجال الذي شهد «دينامية كبيرة وحركات هجروية في اتجاه الخارج نتيجة شح الموارد المحلية» (الصفحة 123)، ثم أضحى مجالا مستقطبا للمهاجرين وجاذبا لهم «بعد دخول البيوت البلاستيكية». إنه تحول شمل المجال والإنسان معا، بعد أن تفاعلت في أسبابه عوامل داخلية وخارجية تعذر تحديد العوامل الرئيسة منها، والعوامل الثانوية. ولتفوق الكاتب في تضمين نماذج تبرز التفاعل بين العوامل وتصييرها إشكالية، وتوفق الكاتب، فوق ذلك، في ملامستها في الميدان حق القول، بدون مبالغة، إن كل المهتمين بالإنسان والمجال، في علاقتهما بالهجرة، وما تفرزه من تناقضات داخلية وخارجية قد كسبوا وثيقة مرجعية يحق الاستئناس بها، والقياس عليها في ملامسة المجتمعات القروية بجنوب جبال الأطلس الكبير عامة. لم يدع الباحث خالد ألعيوض أنه قدم كل شيء، مادامت الهجرة مجالا ديناميكيا «جديرا بالدراسة خصوصا في علاقتها بالمجال وانعكاساتها الاجتماعية» (الصفحة 127)، وهي مجال للدراسة الدؤوبة ، ولكن الباحث خالد ألعيوض حقق المراد باستحضار اللباس الثقافي واعتباره عنصر من بين العناصر التي يمكن عدها أسباب الطاهرة الجغرافية. وذاك هو الجديد الذي قدمه لمنتدى الجغرافيين بجامعة ابن زهربمدينة أكادير المغربية يحمله، أعني جعل الجغرافية البشرية تغوص في السوسيولوجيا بدون قيود، واعتماد الدراسات الميكرو- مجالية، وذاك هو المراد ملامسته في هذه الحلقة الحلقة الثانية من القراءة. لا أحب أن أقول إن الاشتغال على النماذج مجازفة، لتشوه الوحدات السوسيو- مجالية حتى كادت في بعض المناطق تفقد تجانسها ولكن كتاب الأستاذ خالد ألعيوط غير الرؤية. في كتابي: حفريات في المجالية والهوية الثقافية بمحيط قرية تزمامارت، وقفت عند التجانس بين الإنسان وثقافته والأرض، تحت غطاء قيمة الدفاع الذاتي، وأن معتقل تزممارت مؤثر عنيف بالفعل لكنه لم يتوفق في تشويه الوحدات السوسيومجالية المحيطة به لقوة الانغلاق الثقافي. لكن الأستاذ خالد ألعيوط ما خشي، لشجاعته المعتادة، في إقدامه على تسليط الضوء على الوحدات المتجانسة، وخاصة «سيدي بيبي» و«أيت عميرة»، بمنطقة سوس، في تفاعلها والمؤثرات العنيفة هناك، ليخلص في ثنايا بعض الفقرات إلى أن التحول حاصل وحتمي، لكنه لا يؤثر على قيم التشبث بالأرض. ماذا لو انخرطت الجامعة بمنطقتنا، شرق جهة درا تافيلالت، في ملامسة تمازيرت، وإن شئت الوحدات السوسيو- مجالية، نحو واحة بودنيب، ومدغرة، والرتب، وغريس، وأفركلا، وتيزيمي، سيكون الكتاب مرجعا لها من حيث المنهج، لممارسة وقع التحولات في الحال، والتنبوء بالخطورة المنتظرة، في المآل. قد يواجه القارئ السؤال التالي: لماذا لجأ الباحث خالد ألعيوض إلى التركيز على القرى الصغيرة؟ يكمن السبب في كون «الدراسات المركزة على القرى الصغيرة قليلة» للغاية. لذلك فضل الباحث اعتماد القرية، البلدة، أو الكَفر (بفتح الكاف وسكون الفاء) ويعني في المغرب «الدوار» أو «القصر» بمنطقة تافيلالت، ويفيد «إغرم» بالأمازيغية. ومن مرادفات الكَفْر القرية والبلدة .ستركز الحلقة الثانية من القراءة على الدراسة الميكرو – مجالية المخصصة لكل كَفْر على حدة، وسيقدم الباحث خالد ألعيوض أربعة نماذج، «أولاد ميمون»، و«توزايكو»، و«تيفنيت»، و«أكرام». ولكل نموذج هوية ثقافية تميزه، هويات يجمعها قاسم مشترك يتمثل في الهجرة، وذاك مكمن الإضافة التي تنسب للباحث خالد ألعيوض ولحقل الجغرافيا البشرية. قد يبدو إضافة بعد الهوية الثقافية استثناء في الجغرافيا البشرية، لكن مع القراءة الجادة للكتاب سيتراءى عنصران مهمان، الدراسة الميكرو – مجالية، واستحضار الهوية الثقافية للإنسان والمجال مؤثرا بشكل رئيسي أو ثانوي. وقد ثبت أن كل ظاهرة بشرية يحق توزيعها على المجال وتمثيلها كارتوغرافيا لا تخلو من للباس الثقافي. وعن الكَفْر سلف للفقيد المؤرخ أحمد البوزيدي في بحثه حول تاريخ درعة حول تاريخ درعة أن وقف عند قبيلة «الدوار» أو عند قبيلة «القصر». ولاغرو، فالدوار في المجال المعمر بالسكان المستقرين، وحدة سوسيو- مجالية متجانسة، وإن شئت فهو وحدة سوسيوثقافية متجانسة (انظر الصفحة 12). وحسبنا أن تخصيص الدراسات للدوار، بما هو وحدة، قد يلزم العروج إلى الهوية الثقافية، ولو أن مجال البحث مقتصرا على الجغرافية البشرية. وحسبنا انه في السنوات الأخيرة، بدأ الأساتذة الجامعيون يشجعون الطلاب على اعتماد الدوار مجالا للبحث. أين يتجلى العروج إلى الهوية الثقافية؟ لنبدأ بالنموذج الاول. يقول الأستاذ خالد ألعيوض «تعتبر قبيلة اولاد ميمون ذات أصول صحراوية من قبائل الرحل الذين استوطنوا المنطقة»، )الصفحة 131(، مستشهدًا بما أورده الأستاذ عمر أوفا وبعض المخطوطات. وعقب استيطان قبيلة أولاد ميمون بسهل «اشتوكة»، منعطفات عنيفة شملت تدميرًا لدورهم على يد القائد الدليمي، مما أثار الخوف والعنف في المنطقة. بعد استيطانهم في شهدت القبيلة إلى المقاومة عبر التحصين، بإقامة أبراج صغيرة للمراقبة، والتي أصبحت رمزًا للدفاع الذاتي وهي عنصر أساسي في الهوية الثقافية. وفي الميدان دوار «الخربة» نسبة إلى الخراب الذي أحدثه القائد المذكور ودور «البريج» نسبة إلى البرج الصغير رمز الدفاع الذاتي، وهو عنصر من عناصر الهوية الثقافية. كيف كانت الحياة داخل القرية؟ الجواب على هذا السؤال دفع الباحث خالد ألعيوض إلى اقتحام مجال الذاكرة الجماعية معتمدا على رواية المسنين، ننقل إحداها بالحرف :«حياتنا بسيطة تتوزع بين العمل داخل البحيرة Albahira، حيث نزرع الذرة والبرسيم، وبعض الخضر خصوصا الجزر واللفت، وكل أسرة تكسب بقرة أو اثنثين، وبعض الأغنام، والبغال والحمير للأعمال» (الصفحة 136). تمتاز الحياة، في هذه المنطقة أول الأمر، قبل التحولات القروية، ببساطتها اليومية، مما يعكس اقتصادًا زراعيًا تقليديًا متكاملاً. وهذه البساطة تمتد إلى النسيج المعماري للقرية، وحسب الذاكرة المحلية – وهي مرادف للذاكرة الجماعية – فهي تشكل أساسًا لفهم الاستمرارية الثقافية في هذه الوحدة السوسيو-مجالية المتجانسة. وفي سياق هذه الوحدة، لا نزال «نتحدث عن الأبواب المفتوحة» نحو «الباب القبلاني (الموجه نحو القبلة، أي الشرق) والباب السحلاني (الجنوبي، مصدر رياح الشرقي أو الساحل) »، (الصفحة 138). تمثل عنصرًا أساسيًا في التصميم، كدأب جميع قرى الجنوب المغربي في معظم القرى بالجنوب المغربي، حيث تتجه الأبواب نحو القبلة أو الجنوب على الأقل، وهي قبلة شمسية في المفهوم الأمازيغي. ويعكس هذا التوجه التوفيق بين الاحتياجات الدينية والمناخية، ويعزز التماسك السوسيو- ثقافي للقرية بما هي كيان متجانس. ثم غشي التحول بالبناء ( بالإسمينت والياجور، والتخلي تدريجيا عن الدور والمنازل التقليدية) وبذلك أصبحت «منازل قبيلة أولاد ميمون لا تختلف إطلاقا عن المنازل الحضرية في المدن الكبرى، وهو ما سيجعل المنافسة في البناء بين المهاجرين والموظفين خلال الثمانينيات قوية) (الصفحة 138). وبعد استعراض الوضعية التقليدية بما، هي منطلق للتغيير، عمد الباحث خالد العيوط إلى سرد عوامل التحول ومظاهره، مع التركيز على حياة بعض المهاجرين في بلاد المهجر ومتابعة أوضاعهم. ولأن الهجرة نفسها كانت دافعًا للدينامية، شهدت «أواخر التسعينيات من القرن الماضي بداية تدفق مهاجرين للاستقرار في أولاد ميمون»، وذلك لفرص «العمل في الضيعات سواء بأيت عميرة وبأيت ميمون غرب القرية»، و«قدوم مستثمرين كثر نظرا لتوافر الأراضي البورية» (الصفحة 158). ويشبه وضع «أولاد ميمون» ما نراه في كَفْر «توزايكو» من حيث الأصول والارتباط بالهوية الثقافية، مع نزوع قوي نحو الهجرة لتحسين ظروف العيش. ورغم صغر حجم القرية، لا يزال التضامن بين أفرادها قائما والتآزر بينهم قويا بل إن سكانها يتميزون – كغيرهم من الأمازيغ في الجنوب الشرقي – بكونهم «متشبثين بالأرض بالرغم من إكراهات الحياة وصعوبتها، عكس الدواوير المجاورة» (الصفحة 168) . في «توزايكو» تحديدًا، لم ينفتح أهلها على بيع الأراضي للخارج؛ بل اعتمدوا عمليات شراء داخلية بين أفراد القبيلة للحفاظ على الأرض في أيديهم، مما منع الهجرة الوافدة وأغلق الباب أمام التغييرات الخارجية، وذاك ما يميزهم عن غيرهم (انظر الصفحة 173من الكتاب). وللتصدي لإكراهات الانفتاح بما هي رياح تغيير تهب على الكَفْر «توزايكو» ، استعان أهله بالجمعية التي وفرت لهم ما يكفي من مساعدات، وردت مفصلة في ثنايا الكتاب، مما مكنها من إنجاز مشاريع فلاحية نموذجية. وأصبحت كَفْر «توزايكو» محط إعجاب القرى المجاورة والجمعيات خارج الإقليم، وذلك ما يفسر الكم الهائل من الزيارات للاطلاع على تجربة «العودة إلى الأرض»، (انظر الصفحة 186من الكتاب). وفضلا عن التجارب الزراعية العصرية ومؤثرات الدخل غير الزراعي على المعمار وفي إطار ملامسة سهل اشتوكة بالدراسة الميكرو- مجالية والتي تبين مدى محافظة الوحدات السوسيو- ثقافية على تماسكها أمام ضغوط الهجرة والتحديث، قدم الباحث خالد ألعيوض النموذج الثالث بما هو ينزع نحو نشاط السياحة لاستقطابها لهواة الصيد الساحلي بالقصبة «ولدى الأجانب الباحثين عن الأماكن الغريبة»، (الصفحة 191)، يتعلق الأمر بمرفأ تيفنيت. كيف تحول المرفأ الطبيعي إلى منتجع سياحي؟ من خصائص الدراسات الميكرو- مجالية، يبرز الانفتاح على ذاكرة المكان، وعلى الروايات التي يحملها السكان، خاصة حول المسطحات المائية وقداستها في المجال المعمر. وإنه مع انتشار الإسلام في المغرب، بدأت تتردد أساطير مثل وصول النبي موسى إلى مجمع البحرين (جبل طارق حسب سكان شمال غرب المغرب)، بحثًا عن ماء الحياة، وسقوط النبي سليمان في عين كائنة بمنابع سبو، موضع «تاغيت» في إقليم صفرو، قرب فاس، تحديدا. وفي شواطئ ماسة يُروى عن النبي يونس أنه نبذ بالعراء في ساحل ماسة، كما ذكر الحسن الوزان ليون الإفريقي (الصفحة 191). هذه الروايات تساهم في تحول المرفأ الطبيعي من قرية صغيرة للصيادين إلى منتجع سياحي، مستفيدًا من جاذبيته التاريخية والطبيعية .ثم عرج الباحث خالد ألعيوض عقب ذلك إلى ذاكرة الصيد في موضع «تيفنيت»، وإلى العزوف عن البحر مستشهدًا بالمؤرخ الفرنسي روبرت مونتاني الذي أشار إلى عدم إعطاء الأولوية للصيد الساحلي (انظر الصفحة 192من الكتاب). يبدو الأمر غريبًا في بلد فلاحي أن يصبح عرضة للمجاعات بسبب الجفاف، أمام بحر تعد شواطئه من أغنى الشواطئ الأطلسية بالثروات السمكية. ما فتئ سؤال العزوف عن البحر يتردد في دراسات تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، لكنه لا ينطبق بالضرورة على «تيفنيت»، رغم شح المصادر. ذلك أن الدراسات الكولونيالية أثبتت صيد «سمك تاساركالت» بالأمازيغية – سمك القمبر بالعربية، والذي يزن من 5كيلوغرامات إلى 6، ويعيش في البحار المتوسطة المدارية، ويكثر في الصيف (انظر الصفحة 194). إنه سمك يحمل الاسم العلمي « pomatumus salfarix». تتناسب طبيعة السكن مع الصيد اللحظي في المرفأ، الذي يبدأ من شهر مايو مع ظهور سمك القمبر «تاساركالت» بالأمازيغية. ويتكون من كهوف ومغارات قرب السواحل، كان استخدمها الإنسان ملجأً للحماية من العوامل الطبيعية، مما يعكس تكيفًا تاريخيًا مع النشاط الموسمي، ويثري الذاكرة الجماعية للمكان (انظر الصفحة194من الكتاب). يجمع مع «تيفنيت» بين التراث والإمكانيات السياحية الحديثة. وعلى غرار الزراعة، تطور الصيد وتقنياته تحت تأثير الهجرة، حيث كان المرفأ في البداية ملجأً للأسر الفقيرة التي تعتمد على جمع الصدفيات لتغطية بعض المصاريف الأساسية (انظر الصفحة 200). ثم واجه البحارة صعوبة في تصريف منتجاتهم البحرية، مما دفع إلى تأسيس التعاونية لتتزامن مع تقنيات حفظ السمك، وإعداده ليصمد أمام الزمان، لفترات أطول (انظر الصفحة 202). وفي الستينيات من القرن الماضي، بدأت البنايات الأولى تغمر المكان. ومع تطور النقطة العمرانية، التي استرعت الانتباه وأدت إلى تحوّل الوضع مع استقرار السياح الأجانب، مما أدى إلى ظهور منازل جيدة مفتوحة على البحر تكاد تشبه الفنادق الصغيرة (الصفحة 210)، انقلب وضع المكان رأسا على عقب. ولما كان الباحث خالد ألعيوض يؤمن أن الدارس في العلوم الإنسانية لا يملك مختبرًا لإجراء التجارب، فإن الاقتراب من اليقين غير ممكن بعيدًا عن الميدان، لذا يستغل الصور، والأفلام، للمقارنة الدقيقة. رجع إلى فيلم «شمس الطباع» للمخرج التونسي رضا باهي، وبطولة محمود مرسي، ومحمد الحبشي، والعربي الدغمي من المغرب، مستشهدا به بمثابة وثيقة تاريخية تؤرخ لمرحلة هامة في «تيفنيت» بالصوت، والصورة، في عام 1976 (انظر الصفحة 209). ثم مرت «تيفنيت» بمنعطف آخر في مطلع الألفية الثالثة، حيث أعدت بيوت لوظيفة التفريغ تعويضا للسكن البحري، مما أثقل قطاع الصيد التقليدي ابتداءً من 2008، فغادر معظم أبناء المنطقة هذه الحرفة وحتى البحر بحثًا عن عمل آخر في البر (انظر الصفحة 213). ثم شهد المكان بناءً كثيفًا غير مسبوق، مع إنشاء حوالي 500 منزل في ظرف وجيز لتشكل مأوى لأصحاب المهن المتنوعة، كما أبرز الباحث خالد العيوض في مبيان يُرى عليه أنه يشمل المهاجر، والمتقاعد، والتقني، والبناء، والفقيه، والطبيب، ومربي الدجاج، والمقاول، والمخزني، والسائق، والبحري، والعامل. كل عنصر يلون شريطًا يناسبه في المبيان المنجز بناءً على بحث ميداني من عام 2020، مما يعكس «تيفنيت» واجهة بحرية لأيت عميرة وسيدي بيبي، الشاطئ المشترك بين الجماعتين الذي يعكس ديناميات المجال وتفاعلاته منذ القدم (انظر الصفحة 219). في استرسال الدراسة الميكرو- مجالية، انتقل الباحث إلى قرية أكرام قرية ببصمة إفريقية، بل بهوية ثقافية صوفية كما يشير اسمها (الصفحة 223). ومن الأمازيغ من يطلق على المتصوف الزاهد الناسك لقب "أكرام"، ويُسمى التصوف بالأمازيغية "تيكورما"، وهو يقتصر غالبًا على الجانب المسلكي. ولا تخلو أية وحدة سوسيو- مجالية من نقطة عمرانية مجردة من اللباس العصبي، بل ترتدي اللباس الصوفي الطرقي، مما يعزز التماسك الثقافي في المنطقة. عرج الأستاذ خالد ألعيوض إلى القرية الصوفية ودورها الاجتماعي وهي التي تحمل في المغرب اسم الزاوية، وتنقطع لمهمة روحية، والزاوية الاسم الذي اكتسبه التصوف الجمعي طفقت تختص بوظيفة إطعام الطعام على حبه، وإصلاح ذات البين بين الأشخاص والقبائل، مع اعتماد طريقة صوفية معينة، والسهر على تعليم الشعائر الدينية والمعارف الفقهية، مما يجعلها ملاذًا ومأمنًا (الصفحة 223). هذا الإرث هو ما جعلها تقبل كل وافد يدخلها ضيفا، بدءًا بهجرة المغاربة من مناطق الأطلس والشياظمة وخنيفرة وغيرها، مما يعكس الوجه الإثنوغرافي المتعدد لها دون تجرده من اللباس العصبي كما أُشير سابقًا. ومع مرور الزمان شهدت القرية الهجرة المعاكسة لما أريد لها ان تستغرق ظواهر سوسيولوجية جديدة مع توافد الأفارقة، جنوب الصحراء، من مالي، والسنغال، وكوت ديفوار(ساحل العاج)، وهي هجرة في اتجاه معاكس حيث داب المغاربة أن يهاجروا إلى الجنوب للتجارة، ونشر الطرق الصوفية (الصفحة 223). ويعتبر الباحث خالد ألعيوض هذه الظاهرة – أو يقدرها على الأقل– كما لو كانت مدرسة جديدة لفهم الهجرة الحديثة داخل القارة السمراء بكل تشعباتها وإكراهاتها، مع استحضار الفرص التي تقدمها بمثابة حلول لمعضلة التنمية داخل القارة (الصفحة 223)، وإن شئت، توفر عناصر الجواب حول سؤال: هل الهجرة مشكلة أم فرصة يجب إحسان استغلالها؟ انتقل الباحث إلى نسب دوار أكرام وتأسيسه التاريخي ينسب دوار أكرام إلى سيدي محمد أوطالميت، فقيه منقطع للإمامة بالدوار حوالي عام 1170 هـ (1757 م)، اعتنق الطريقة الناصرية لزاوية «تامكروت». وتزامن وجوده بسهل اشتوكة مع انفتاح السلطان المغربي على الزاوية بعد شنآن دام طويلًا منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي بين الزوايا والدولة العلوية في طور نشأتها. وشكل ضريح «سيدي محمد أوطالميت» نواة للتجمع العمراني المنسوب إليه بصفته «أكرام»، وأعطى الضريح للقرية – إضافة إلى كونها مركزًا للزاوية الناصرية – بعدها الروحي الذي تميزت به بين القرى المجاورة (الصفحة 224). وعقب استقرار الأسرة العمورية التي ينحدر منها القائد الحسين، وابنه الشيخ حفيظ، اكتسبت الكَفْر سمة القرية القائدية (الصفحة 224). وبعد ذلك، جرى تعيين قائد من قبيلة «أيت عميرة»، مما أنهى سلطة قواد (جمع قائد) حاحة، فارتقت القرية، في وقت متأخر، إلى مركز للقيادة. هذا التحول عزز من دورها الإداري والاجتماعي في المنطقة، مع التركيز على الهوية المكانية واللباس الثقافي. وماذا عن الأنشطة الاقتصادية والانفتاح الجمعوي؟ عرج الباحث بعد تفصيل القول في هوية المكان إلى الأنشطة الاقتصادية مثل الفلاحة المسقية وانتشار الضيعات الأسرية، مع الإشارة إلى أراضي القائد الحسين العميري وأملاكه ( انظر الصفحة 225 من الكتاب). وانفتحت القرية (أو الكَفْر بفتح الكاف وسكون الفاء) على النشاط الجمعوي في عام 1994، وهي سنة مرجعية لانطلاق الحركة الجمعوية بإقليم اشتوكة، لمعالجة مشكلات الماء، والكهرباء، وضعفْ البنية التحتية (انظر الصفحة 227). أدركت الجمعية في كَفْر (أكرام) وطر الهوية الثقافية للمكان، وحملت اسم «المرابط» (أكرام بالأمازيغية)، ولتعريب الاسم صلة بأول رئيس للجمعية، أحد حفدة الزاوية الناصرية نسبة إلى «تامكروت»، اسم التجمع العمراني الذي يحتضن الزاوية الناصرية بإقليم زاكورة. وبعد ذلك لزم الحديث عن دور الجمعية ومؤشرات التنمية وكدأب الجمعيات في النقط العمرانية السابق ذكرها، ركزت الجمعية على مشروع الماء الشروب والكهرباء، وهي الأعمال التي أخذت اهتمام السكان بتأطير من الجمعية خلال التسعينيات (انظر الصفحة 228 من الكتاب). والعمل الجمعوي في الوسط القروي مؤشر على الوعي بالتنمية المجالية. وشكل تدفق الهجرة الوافدة أواخر التسعينيات من القرن الماضي مؤشرا آخر لهذا الوعي. لبيان هجرة الوافدين إلى كَفْر أكرام، ولغاية التوضيح أنجز الباحث خالد العيوض خريطة الأصول الجغرافية للأصول المغربية الوافدة، مستثمرًا معطيات سجل التلاميذ المنتقلين إلى دور أكرام (الصفحة 229). وتعد المدرسة ذاكرة الهجرة بكَفْر «أكرام»، لا لشيء سوى أن ميلادها كان بفضل مرافعة جمعية «لمرابط» التي بادرت إلى الاتصال بالمصالح النيابية، وحملت الاستجابة فتح أول نواة للمدرسة المكونة من ثلاثة أقسام تابعة لمجموعة مدارس أغرايس (انظر الصفحة 233 من الكتاب). وبوقع الهجرة ستفتح مدرسة ثانية
وما هي آثار الهجرة على اللباس الصوفي وعلى التنمية؟
ومع مرور الوقت ساهمت الهجرة في تجريد الكفر من اللباس الصوفي، حيث جعلت الوافدين الجدد في الوضعية الجديدة غير ملتزمين بقرارات الجمعية في دفع واجب الاشتراك المعمول به في كل الدواوير (انظر الصفحة 238). كما ساهمت في تفريغ البناء العشوائي، وما ترتب عليه من مفعولات طفيلية نحو مشاكل النظافة والأمن وترويج المخدرات (انظر الصفحة 231). وللهجرة مفعولات مرغوب فيها نحو الرواج الاقتصادي المرتبط بكثافة السكان (انظر الصفحة 232)، رغم تفشي السرقة أو الخوف منها لتعدد الأجناس وضعف التجانس والتماسك الاجتماعي. وأخيرا برز المنعطف الجديد: هجرة أفريقيا جنوب الصحراء إلى كَفْر «أكرام» يتعلق الأمر بهجرة الوافدين من أفريقيا جنوب الصحراء، وهو المنعطف الذي يهم ما بعد دستور 2011. ستخصص له الحلقة الثالثة من القراءة.
#لحسن_ايت_الفقيه (هاشتاغ)
Ait_-elfakih_Lahcen#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهجرة والتحولات الاجتماعية والمجالية بسهل سوس جنوب المغرب
...
-
المرأة وثقافة التحصين بجنوب شرق المغرب
-
إشكال الحكامة والديموقراطية وحقوق الإنسان في جنوب شرق المغرب
...
-
عشر غرائب شاذه تطوق أستاذ يخوض إضرابا عن الطعام للمرة الثالث
...
-
الماء الشروب بالوسط القروي، وأزمة المقاربة التشاركية والالتق
...
-
المقاومة لدى «ايت حديدو» بين الحاجة إلى إحياء الذاكرة الجماع
...
-
نداء إلى المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية أنقذوا الدكتور م
...
-
المرأة والجبل في المغرب بين الحاجة إلى إحياء الذاكرة وتعزيز
...
-
الذاكرة الجماعية وجبر الأضرار والممارسة الحقوقية بالمغرب لدى
...
-
ورش تعديل مدونة الأسرة في المغرب وإكراهات الحداثة والتقليد
-
مرجعيات العزوف عن الزواج في مغرب العصر المريني
-
دوافع الزواج بالمغرب ونظرة المجتمع إليه في العصر المريني
-
الإنسانية والسياسة وحقوق الإنسان في زمان الكوارث، زلزال المغ
...
-
الأسرة في مغرب العصر الوسيط، الحلقة الأولى: مفهوم الزواج وال
...
-
هل الجنوب الشرقي المغربي أحوج للعيش المشترك و(السلام)، وبأي
...
-
سيرة ماهن تنموي تزود بالمنهج العلمي والدراية ليبذل حياته في
...
-
الجنوب الشرقي المغربي يفقد ناشطا في مجال التنمية وحقوق الإنس
...
-
مشاهد من محفل الذكرى الخمسين لأحداث مارس 1973 حرقة السؤال عن
...
-
توثيق أماكن الذاكرة الجماعية بفجيج مراد مرغوب فيه
-
من وحي القافلة الحقوقية بمناسبة مرور نصف قرن على انتهاكات عا
...
المزيد.....
-
كاميرا توثّق ظاهرة غريبة.. فراشات ليلية تتغذّى على دموع الأي
...
-
إتيكيت الهدايا.. نصائح أساسية قبل تقديم أي هدية
-
الأردن يبين مشاركته في الضربة الأمريكية بسوريا ضد داعش
-
لأول مرة.. البحرية الأمريكية تطلق طائرة هجومية -انتحارية- من
...
-
تقرير المكتب السياسي أمام الدورة السابعة للجنة المركزية
-
مزيد من المحادثات حول أوكرانيا.. مسؤولون أمريكيون وروس يجتمع
...
-
بين سجون الأسد وقضبان الاحتلال.. -جميلة- تلخص حكاية وجع سوري
...
-
محكمة باكستانية تقضي بسجن عمران خان وزوجته 17 عاما
-
عبر الخريطة التفاعلية.. تعرف على المناطق التي استهدفها القصف
...
-
قتلى بقصف تايلندي لكمبوديا وتفاؤل أميركي بهدنة قريبة
المزيد.....
-
الاقتصاد السياسي لمكافحة الهجرة
/ حميد كشكولي
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
المزيد.....
|