|
|
خواطر حول فلسفة نظم الذكاء الاصطناعي -2
لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل
(Labib Sultan)
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 04:47
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
1. زياة المعرفة وتسارع التحضر الانساني لابد من التوقف قليلا عند مناقشة العلاقة بين المعرفة بالحضارة وعملية التحضرالانساني خصوصا ونحن مقبلون على عصر الاستخدام الواسع لنظم الذكاء الاصطناعي في كافة مجالات الحياة ، فالمعرفة هي المادة الاولية التي تستخدمها كما وهي المنتوج الاساس لها "حلولا وبضائع معرفية " تستنتجها من المعارف الممثلة فيها لتقدم حلولا معرفية "ذكية" بشكل سريع ومتكيف مع خصوصية القضية والحالة التي يطلب منها النظر فيها وايجاد حل لها ، وكما فهي ليست الة مبرمجة بل وكيل اومرشد ذكي (Intelligent Agent) يقدم الحل المعرفي المستنتج بسرعة تفوق بملايين المرات الحصول عليها من خبير عارف "المرشد الاعلى " الخبير الحكيم الذي تقيم المنظومة معارفها على اسس معارفه وحكمته وخبرته. ن عملية استخدام المعارف المتراكمة لاستنتاج وانتاج معارف او حلولا معرفية في وقت قصير وميسر هو جوهر فلسفة وعمل ووظائف نظم الذكاء الاصطناعي .ولو تمعنا وتعمقنا اكثر بمعنى وبمحتوى الاستخلاص اعلاه، فانه يحمل ضمنا اعلانا هاما بدخول البشرية في عصر جديد يمكن ان نسميه "عصر التسارع المعرفي" ، أي النمو السريع المتسارع في استخدام وانتاج المعارف . ولو اخذنا بالحقيقة الفلسفية القائلة ان المعرفة هي اساس التحضر ، فيمكن دون ريب تسمية عصرنا " عصر التسارع الحضاري" ومنه يحق لنا التوقع ان هناك نموا حضاريا هائلا سيحصل نتيجة لنمو استخدام المعارف وانتاج الحلول المعرفية واسعا في مجالات الحياة. اما ان المعرفة هي اساس التحضر ، ونمو الحضارة مرتبط اساسا بنمو واستخدام المعرفة، فهذا مايثبته تاريخ البشرية على مر الحقب التي مرت بها، فتاريخ التحضر هو واقعا تاريخ المعركة التي خاضتها البشرية لليوم للحصول على المعارف ( ولولاها لما تمكنا اساسا من اقامة هذه المنظومات اليوم) . ان التوقع بتسارع التحضر البشري اليوم نابع من حقيقة نمو الاستخدام المعرفي الواسع لنظم الذكاء الاصطناعي في كافة مجالات الحياة ، فهي المنتجة للحلول المعرفية بسرعة وكفاءة عالية، ومنه التوقعات بالتحضر المتسارع في تطوير وتحسين حياتنا اللاحقة بشكل متسارع ايضا. وحول التسارع لنأخذ مثالا ، فما قطعته البشرية من بحث خلال الف عام مثلا للحصول على معرفة ما ، يمكننا اليوم استخدامها للوصول لحقائق ومعارف مفيدة وجديدة ، بدلا من الانتظار لالف عام اخرى لتطويرها واستخدامها ( كمثال على ذلك تحويل مفهوم الديمقراطية الاثينية الى الديمقراطية المعاصرة استغرق اكثر من الفي عام) ، دعك عن تعميم مفهوم هذه المعرفة بين الناس ، وهكذا بقية مفاهيم التحضر. نحن واقعا ندخل لعصر انساني جديد هو " عصر التسارع المعرفي والحضاري" باعتبار ان انتاجها واستخدامها اصبح متيسرا وسريعا ، ومنه التوقع بحصول التسارع في عملية التحضر. وعموما فنحن نفهم ان العملية التطورية للبشرية هي عموما علاقة تسلسلية مترابطة بين نمو واستخدام المعرفة وماينتج عنها من نمو في التحضر الانساني، ويمكن اثبات انها علاقة متبادلة ايضا اضافة لكونها تسلسلية، فبقدر ان الاولى تنتج الثانية ، فالثانية بدورها تساعد على نمو الاولى ، وكونها متبادلة بمفهومها الرياضي والفلسفي ، فعكس هذه العلاقة هو صحيح ايضا، فتدهور الحضارة يؤدي لتدهور المعرفة ، وتسير بتسلسليةايضا نحو تعميق اللاتحضر بتغييب اكثر لدور المعرفة ( كما نراه في مجتمعاتنا العربية التي تسير من سيئ الى اسوء ،مثالا جيدا تعيشه اغلب مجتمعاتنا التي ابتليت بداء سيطرة اللامعرفة). ان بحث العلاقة بين النمو المعرفي والحضاري يطرح سؤالا هاما حتى في المجتمعات المتحضرة ، سؤال هام وجوهري ، ما هو فهمنا وتصورنا للمعالم الاساسية للحضارة او لمفهوم العالم المتحضر او الانسانية المتحضرة ؟ لابد وان نمتلك تصورا جيدا عنها كي تصبح هدفا ولكي يتم تحديد المسارالذي ندفع باتجاهه عملية التحضر من خلال استخدام وانتاج المعارف ( والا تصبح الحضارة كسفينة عارفة تستطيع الابحار الى اية نقطة ولكنها تبقى تائهة تمخر بين البحارما دامت لاتعرف هدفها). ان هذا السؤال يقودنا الى النظر في حقيقة اخرى موازية، ان علاقة المعرفة بالتحضر هي ليست علاقة اطلاقية ، بمعنى ان نمو الاولى يؤدي اوتوماتيكيا لنمو الثانية ، بل هي فقط تنمو وتتسارع وربما في حالة واحدة وهي ان نمو المعرفة يخدم التحضر فعلا ، فليس كل نمو معرفي يخدمها، ولنأخذ استخدام معارفنا عن الانشطار النووي مثالا، فهو يمكن ان يخدم الحضارة عندما يستخدم لانتاج الكهرباء لمدينة كبيرة كاملة باستخدام عدة غرامات من اليورانيوم (بدلا من حرق اطنان من الفحم الحجري او الوقود الاحفوري ومنه الحفاظ على البيئة اضافة لجدواه الاقتصادية العالية) ، كما ويمكن استخدام نفس هذه المعرفة لصنع قنابل نووية قادرة على افناء الحضارة والتحضر وقلب الارض وما عليها معا ( ولليوم يجري صرف مليارات الدولارات عليها كما نعلم ). والسؤال الهام اعلاه يطرح نفسه ، لو فعلا امتلكنا تصورا حقيقيا عن معنى الحضارة والتحضر لما صرفنا هذه المبالغ الطائلة على صنع قنابل للافناء بل لصرفناها على ادامة وتحسين الحياة . وسيبق. هذا السؤال الجوهري يرافق ويواجه كل تطورات ومسيرة التحضر من النمو الواسع لاستخدام المعرفة سواء من الانسان او في نظم الذكاء الاصطناعي ( أي استخدام المعارف التي ينتجها الانسان ومعه النظم الذكية اليوم ). هنا تبرز القضية الاساس والتحدي الكبير الذي يواجههنا اليوم ، تحديد مفهوم واهداف التحضر ، خصوصا ونحن مقبلون على تسارع كبير في النمو المعرفي واستخداماته من قبل المنظومات الذكية، فمن دون هذا التصور يمكن ان تقع سفينة الحضارة والتحضر في حالتين ، اما تبقى هائمة على وجهها في البحار لاتعرف هدفها، او ربما تقودها الظروف الى تطوير نماذج موازية للقنابل الذرية ،تكون ذكية هذه المرة ولها القدرة على التصرف ذاتيا، وهذا هو الخطر القاتم ، واذا اردنا الدقة اكثر في تلمس معنى التحضر فهو على الاقل لدرء هاتين الحالتين. دعونا نناقش امر هذا التحدي، او القضية الجوهرية واقعا، حول رسم معالم وتصور حضاري لاهداف الحضارة نفسها لكي نفهم ، ونستطيع ان نكون مطمأنين ، ان عصرنا الجديد "عصر التسارع الحضاري" الهائل الناتج من الاستخدام المعرفي الواسع لنظم الذكاء الاصطناعي ستقودنا اليها وفي مختلف مجالات الحياة. ان المنهج الذي سنتخذه لرسم هذه الصورة أو المعالم للحضارة، او "الاهداف الحضارية" من خلال تحليل ورسم صورة للامكانيات الهائلة التي ستتوفر من نمو المعارف واستخدامها الواسع من قبل منظومات الذكاء الاصطناعي والتي ستؤدي دون ريب للتسارع التحضري في حياتنا، اي محاولة رسم صورة عما ستوفره هذه المنظومات من وسائل للسير بالتحضر لمصلحة الانسان والانسانية ، على الاقل في تلك الاركان التي تشترك بها كل المجتمعات البشرية اينما وجدت . ولنفرز من بينها في الأهمية الاولى من بينها ربما ثلاثة هي: الاكتفاء، الامان، الشعور بالسعادة . وسننظر من خلالها في المقيدات او التأثيرات اوالمعوقات الحالية او المستقبلية التي ستعيق المنظومات المعرفية المرشدة والذكية السير المتسارع في التحضر وفق هذه الاهداف. وعموما فلكي نتحضر فعلا علينا رسم الاهداف التي نطمح الوصول اليها كمجتمعات ، ومنها كي نسير باطمئنان بالتحضر، وخصوصا المتسارع منه كالذي نحن على طريقه اليوم بفضل التوسع الكبير في استخدام نظم "المرشد " للذكاء الاصطناعي، مطمئين السير تجاه بناء حضارة تجعلنا مكتفين وامنين وسعداء، اوليست هذه هي حقا الاهداف العليا للحضارة؟ . لنبدء باولها ونناقش بُعْد "الاكتفاء" فيما نحتاجه من انتاج مادي او خدمي او ترفيهي وعلاقته بالثروة المنتجة من توسيع استخدام المعرفة في الانتاج.
2. علاقة المعرفة بالثروة ومفهوم الاكتفاء تعلمت البشرية ومنذ الثورة الصناعية ان استخدام المعرفة هو اهم مصدر لزيادة ثرواتها ومضاعفتها اضعافا، بشكليها، المعرفة العلمية في تصميم الالات الانتاجية التي تزيد الانتاج ومنها زيادة الثروات المنتجة، والادارية لحسن استخدام وتضخيم موارد الثروة المنتجة. الاولى تزيد الانتاج ومنه تتحقق الزيادة المباشرة لثرواتها، والثانية تقوم بالادارة الناجحة للموارد المتحققة في اعادة أستثمار مايتولد من ثروة في تحسين الالات الانتاجية ، وتحسين البنى التحتية واللوجستيية والمعرفية اللازمة لضمان نمو المعارف والاقتصاد معا . ان الواقع امامنا يدلنا ان اغلب ماحققته الامم من مضاعفة لنمو ثرواتها واقتصادها يعود لاستخدام المعرفة كمصدر اساس لتوليد الثروة وزيادتها ومضاعفتها بشكل مستدام ، باعتبار ان الثروة الناتجة من الموارد الطبيعية والانتاج الزراعي ( اصافة للغزو) هي ثابتة تقريبا ، وحتى زيادتها هو مرتبط اساسا باستخدام المعرفة ولكنه مع ذلك يبقى محدودا (مثلا فَدّان الارض ينتج مقدارا محددا من القمح حتى باستخدام اكثر المعارف الجينية والتقنيات الالية وذلك لمحدودية قطعة الارض لاغير)، بينما الانتاج الصناعي والتكنولوجي لايعرف واقعا حدودا في زيادة الانتاج ، ومن الناحية النظرية ، فلا توجد حدود او سقوف عليا على نمو الانتاج ومنه على نمو ثروات الامم المعرفية ( أي التي تأخذ بالمعارف) في تطوير اقتصادها الصناعي والتكنولوجي والمالي. وربما بريطانيا واليابان والمانيا امثلة جيدة لمضاعفة ثرواتها حتى خرافيا بينما هي لاتتوفر على المصادر الطبيعية ( النفط ، الذهب ، الغاز ، المعادن النادرة ،الخ) اضافة لمحدودية الارض الصالحة للزراعة والظروف الزراعة فيها. انه يثبت ان المعرفة هي اهم مصدر لتوليد الثروة، وهو اهم مايميز الحضارة الحالية منذ الثورة الصناعية. كما ان انفجار الزيادة في الانتاج ومنه الثروة منذ منتصف القرن العشرين بادخال الالات المبرمجة والروبوتات لتحل محل العمل الفيزياوي على خطوط اتمتة الانتاج، وهي المرحلة الثانية بعد الصناعية ،وضاعف الانتاجية اضعافا ( ومنها الثروة) كما وقلصت كلف الانتاج. وها هي اليوم تأتي المرحلة الثالثة لنشهد الانفجارية الانتاجية الثالثة مع الادخال الواسع لمنظومات الذكاء الاصطناعي في اتمتة الجهد المعرفي والذهني والابتكاري والتصميمي بعد اتمتة العمل الفيزيائي الانتاجي بمنظومات الروبوتات ،فان المنظومات الذكية ستدفع لمضاعفة جديدة وهائلة للانتاجية ( اي انتاج الثروات) الى اضعاف مضاعفة اخرى من خلال تقليص كلف ووقت العمل الذهني المعقد اللازم لوضع التصاميم لاعقد المنظومات واسداء الخدمات بمنظومات "المرشد الذكي الاعلى " قبل تحويلها للانتاج من قبل "الروبوتات اليرليتارية" ، اي مربعا لما تم مضاعفته، ومنه فالتوقع ان ثروات الامم المعرفية ( أي التي تأخذ بالمعارف من نظم المرشد الاعلى الذكية ) ستصل لحدود ربما خيالية خلال عقود قادمة لاغير. ان منظومات المرشد الذكي ( Intelligent Agents) ستقود لتسريع ولمضاعفة هائلة للانتاجية في مجالات تتطلب اليوم وقتا طويلا وجهودا مكلفة وكبيرة وتحديدا تلك التي تعتمد على الجهد الذهني المعرفي التصميمي الابتكاري والتحليلي لمجموعات كبيرة من العاملين على وضع التصاميم واختبارها في مجالات هامة مثل انجاز التصاميم المعمارية وتصاميم السيارات والطائرات ومختلف المنظومات وحتى تصاميم المنظومات البرمجية والذكية نفسها وانتاج نفسها اوتوماتيكيا ( تشبه عملية الولادة واقعا فالمنظومة الذكية تصمم وتبرمج عمل منظومة ذكية اخرى لتبدأ بتعليمها وباكتساب وتمثيل المعارف فيها لتنمو معها ، كتربية وتعليم طفل ثم تنشئته ليتعلم حرفة ذكية ) ، و ماينتج عن ذلك من زيادة هائلة في الطاقة الانتاجية والخدمية لجميع المرافق الانتاجية والخدمية التي تستخدم هذه النظم الذكية. لناخذ مثالا من صناعة السيارات، فقبل حتى عشرين عاما كان يستغرق تصميم جديد لسيارة لجهود قرابة الفي مهندس وفني ولمدة تصل الى ثلاثة سنوات كمعدل ، وها هو اليوم بفضل هذه المنظومات يتقلص الى قرابة ستة اشهر ومئتي مصمم وفني لاغير لانتاج تصميم جديد لسيارة فارهة بفضل هذه المنظومات المرشدة الذكية ( اي زيادة في انتاجية الخبير الواحد 60 ضعفا عند استخدام منظومات "المرشد الفقيه في تسريع تصاميم السيارات " ، وتستمر الدورة الانتاجية بعدها على يد الروبوتات لانتاج يصل الى ملايين السيارات سنويا (تنتج تويوتا اليابانية اليوم 12 مليون سيارة اي 30 الف سيارة في اليوم الواحد وبموديلات تتجدد سنويا) وكانت تنتج مليونين سنويا قبل ثلاثة عقود ، ولو استوعب السوق فهي فعلا حتى قادرة على انتاج عشرة اضعاف اي 100 مليون سيارة سنويا كما صرح رئيسها عام 2024 احتفالا بالعشرة ملايين ، اي ان لا سقف عمليا على القدرة على الانتاج عدا سقف حاجة السوق، وهو من ضمن ما يعني ان الوصول للكفاية اصبح وواقعا. أن ماينطبق على صناعة السيارات يجري تقريبا على كافة مجالات الانتاج الصناعي والخدمي ، فمنظومات المرشد الذكية تقدم الحلول لاصعب المهام التصميمية والابداعية والابتكارات والاختبارات وبقدرات سريعة وبشكل مذهل ادت لرفع الانتاجية ومضاعفتها عشرات واحيانا مئات المرات ومنها مضاعفة الثروة المنتجة في المجتمعات المعرفية. ومن اعلاه يمكن استخلاص إن الوصول لمجتمع "الكفاية الانتاجية " من المنتجات الصناعية والخدمية والغذائية اصبح ممكنا وواقعا ( بالنسبة للغذائية تحقق انتاج الغذاء بغزارة تفوق الحاجة الفعلية للسكان وباقل القوى العاملة حيث يشكلون في الولايات المتحدة 1% فقط من القوى العاملة) . لندخل في مناقشة موضوع الكفاء ،كاحد علائم واهداف الحضارة والتي فرزناها اعلاه، وأول سؤال يطرح نفسه هل القضية هي فعلا ان الانسان يقوم بالعمل والانتاج للوصول للاكتفاء ؟ من الناحية النظرية هو صحيح ، ولكن ما هو الاكتفاء ؟ واقعا لايمكن تحديده .اذا كان الاكتفاء هو توفير وتلبية الحاجيات الاساسية للانسان ( المسكن ، المأكل، الملبس، العلاج الطبي ،النقل ،التعليم) فيمكن القول ان هذا هو فعلا الحلم والطموح والهدف للمجتمعات والدول النامية ، ولكن هذا الهدف قد تم تحقيقه ومنذ مدة في المجتمعات المعرفية ، فهي تنتج ( أو قادرة على انتاج ) اكثر بكثير مما تحتاج وتستهلك ،وبالتالي فهو ليس هو الهدف الموضوع امام الدول والمجتمعات المعرفية، انها تعتبره انجاز جيد لاغير ولازالت تعمل على تحسينه ورفع نوعية الاكتفاء خضوعا لطلبات شعوبها وهي تأخذ بها كونها مجتمعات معرفية . ولكن لو طرحنا الكفاء او الاكتفاء بالانتاح فلسفة عامة للدولة والمجتمع سنجد انها ربما حتى مفهوم منبوذ من الجميع ، فهي عندهم تعني الركود (Stagnation) . على المستوى الشخصي ستجد من يجيبك ، كيف يمكن تصور اني مكتفي ، ولماذا علي ان اكون مكتفيا؟ وهو محق في ذلك ، فعلينا فهم ان الانسان متجدد الحاجيات ، وحتى لو تحققت له الحاجيات الاساسية للعيش الكريم وحتى الترفيهي والثقافي، فهناك حاجيات اخرى جديدة سيبتكرها ويعتبرها من ضرورات الحياة ، انها تترجم واقعا طموحه نحو الافضل ونحو التجدد في الحياة ، فلا تكفيه تلبية الحاجيات الاساسبة اللازمة للعيش حتى اللائق منه ،والذي بني عليه اساسا مفهوم "الكفاء والاكتفاء" . ولماذا لايحلم الانسان العادي بسيارة تطيرمثلا كحاجة هامة له،ووهل يوجد حقا ما يمنع حلمه وطموحه هذا ؟ وهو ما يعني الدخول في دورة لانهائية من الحاجيات والخدمات، ولو دققنا اكثر في احقيتها لوجدنا انها تعبير اخر عن التوق والانجاز في الحياة ، واقتصاديا تعني للكثير من الناس انهاهي واقعا مايدفعهم للعمل المضني والجهد والاجتهاد لتحقيقها ، سواء العمل في انتاجها او العمل لاجل اقتناءها ، وما يدعم السير للمجتمعات الى ما بعد "الكفاء" هو النظم الذكية والانتاجية المؤتمتة التي تؤمن التصاميم والانتاج السريع وبكلف انتاج واطئة يمكن ان تجعل المنتوجات المبتكرة والجديدة في متناول الجميع ، وهنا واضحا ان الدورة لاتنتهي ابدا وتتجدد دوما بحاجيات وابتكارات تصبح حاجيات لانهاية لها ، ومنه فمجتمع "الكفاء" ليس مرغوبا ،ومنه فهو ليس هدفا بحد ذاته في المجتمعات المعرفية ( ولو تم اقرار الحاجيات الاساسية كهدف للاكتفاء وكفلسفة عامة تقود الدولة والمجتمع لاصبح ربما 90 % من السكان عاطلين عن العمل في اغلب هذه المجتمعات بالتوصل لحدود معقولة من الاكتفاء اذ يكفي جهود 10% لتلبية هذه الحاجات ومنه فيوم العمل يصبح ساعة واحدة لاغير اذا اريد تلبية هذه الحاجات كسقف اعلى) .فقضية او هدف "الكفاء والاكتفاء" ستجر لازمات وجودية وادمان ومشاكل نفسية لا نهاية لها، وهذه الحقيقة تشير ان الحلم الذي رفعه الماركسيون بشعار " من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته " ، والذي يعني واقعا يعني مجتمع الكفاء اعلاه ، لو طبق اليوم لتحول هؤلاء ال 90 % الى عطلة ومستهلكين ومدمنين ولا دافع لهم للعمل وللابتكار، ومنه فهو يبدو شعارا طوباويا ( أي غير واقعي، ولا شك ان رافعيه في القرن التاسع عشر قصدوا به تحقيق العدالة الاجتماعية يوم كانت الوفرة والكفاية حلما بعيد المنال ، فهي كانت محصورة فقط في قصور الاثرياء من الامراء والاقطاعيين وفي مرحلة بدايات الثورة الصناعية واستمر لمنتصف القرن العشرين، أي قبل مجتمع الكفاء والاكتفاء ) ، ولكن اليوم حولته الطاقة الانتاجية العالية في المجتمعات المعرفية ( يسميها الماركسيون رأسمالية ) اصبح واقعا محققا، فهي اليوم تنتج فعلا مايكفي من مستلزمات الحياة الاساسية وحتى الكريمة وحتى المرفهة ، لو اريد الاكتفاء لمجتمع الاكتفاء . اذن هناك ديناميكية داخلية ذات ابعاد عميقة تمنع وضع "الكفاء " هدفا للحضارة،، اولها ذاتية مرتبطة بعدم قناعة الانسان بما يتوفر له او يوفر له من حاجيات، فما ان ينالها حتى يبدء بالصعود في قائمة تستمر حتى الى مالا نهاية له من الحاجيات وصولا للاكثر تعقيدا وكلفا وتحقيقا .طبعا من حق الانسان ذلك، وان يطمح ويحلم اذا اعتقد انه بامكانه وجهده تحقيقها، وهي قضية تدفعه دون شك للعمل والابتكار ، وهو بنفس الوقت يرى فيها تحقيق ذاته واثبات وجوده ، وهذه فلسفيا ووجوديا هي اهم حاجة له فوق كل الحاجيات الاساسية والتكميلية التي تتوفر له، كونه يعرف انه من خلال عمله وجهده " تحقيق ذاته" سيتمكن من تحقيق مايتمناه من قائمة الاحتياجات التي يحددها لنفسه وليست تلك التي تحدد له من قبل " المرشد الاعلى البروليتاري" مثلما تصور قادة ما دعوه "الاشتراكية العلمية " في الصين والاتحاد السوفياتي مثلا حينما حددوا هدفهم "الاشتراكي " الوصول لمجتمع الكفاء تلبية الحاجيات الاساسية بخطط اقتصادية وواقعا لم ينجحوا حتى بالوصول اليها ( وخارج موضوع هذه الورقة وكمثال ان احد اهداف الخطط الاقتصادية زيادة انتاج الحليب مثلا ليكون لترا مثلا للفرد الواحد في عام كذا، وقد قرأت مرة ان احدى العاملات قد كوفئت بجعل احدى البقرات تنتج مئتي لتر في يوم واحد، ووقتها تسائلت وربما كثيرين مسكينة هذه البقرة فعليها شرب 400 لتر ماء على الاقل لتنتج مائتي لتر حليب، كما وتحتاج وقتا للاكل لانتاج الحليب، ومنه فلاتستطيع حتى التنفس بعدها عند حلبها، وربما شاخت مبكرا وماتت وهي شابة هذه البقرة المسكينة، ولكن المسكين معها هم الناس ايضا ،الشعب والعلماء والعارفين فيه خاصة عندما عليه ان يصدق حكوماته ان حالبة استطاعت بفضل الوعي الاشتراكي حلب 200 لتر من بقرة ، واية حالبة بقر تعرف ان حتى اقوى وافضل صنف لاينتج يوميا اكثر من خمسين لترا ، ومنه فالنظم الذكية لايمكن ولا يجب ان تكون ايديولوجية ان كانت فعلا ذكية ومبنية على معرفة موضوعية مجرد للتنويه). وعدا الجانب الذاتي "الشخصي" يجابه مفهوم "الكفاء" النموذج الاقتصادي الرأسمالي الاحادي التوجه والذي يقيم الاداء الاقتصادي العام ببعد واحد فقط، وهو مقدار ما تحققه المؤسسة الاقتصادية من ارباح، ويضع البعد الاجتماعي جانبا ولايهمها مباشرة ، ما دامت هي تولد وتزيد الثروة العامة وتقوم بالتشغيل وتدفع الضرائب ، فهي لاتقبل بالكفاء لاته يعني الحرمان من النمو ومن جني الارباح ، ولولا سقف السوق والمنافسة فيه ( كما رأيناها في حالة سيارات تويوتا اعلاه)، لما توقفت عن شراهتها بزيادة الانتاج والارباح حتى لو سببت امراضا خطيرة اجتماعية او بيئية او نفسية وحتى لو يتم تشخيصها معرفيا وموضوعيا . هل يعني من النقاش اعلاه استخلاص ان مفهوم " الكفاء والاكتفاء" غير واقعي تماما ولايمكن ان يكون بعدا او هدفا حضاريا للانسانية ؟ طبعا كلا لا ، واليكم السبب . لو اخذنا البعد او العائق الذاتي وتم طرحه منفصلا عن البعد الاقتصادي العام وتم تخيير الناس العمل 4 ساعات يوميا مثلا وتلقي نفس الاجور او حتى اعلى منها والابقاء على الحاجات ضمن مايضمن رفاها مقبولا ( وسبب طرح هذا الخيار هو اجتماعي صرف لتمكين العاملين مثلا على صرف وقت اكثر على عوائلهم او لصرف الوقت على تطوير الذات في المجال الثقافي والمعرفي) ، ستجد ان الكثيرين من الناس ستنحاز لهذا الخيار . والسؤال هل يمكن تحقيقه ؟ طبعا ممكن بفضل استخدام نظم الذكاء الاصطناعي واسعا واتمتة الانتاج ، طبعا في حالة لو تغيرت فلسفة الاقتصاد من السير وراء البعد الواحد لكفائته التي تقاس بزيادة الارباح الى اضافة ابعاد اخرى اجتماعية مثل تقليص يوم العمل اعلاه . ربما هذا هو شكل الاشتراكية المستقبلية ، وليست تلك التي رأيناها في الاتحاد السوفياتي والصين وكوريا الشمالية والتي يصح تسميتها الدول " الاستعبادية" اي التي تستعبد مواطنيها تحت مسمية الاشتراكية. طبعا سيجابه خيار يوم العمل 4 ساعات بمواجهة من الشركات وحتى من الحكومات فكلاهما لن يقبل ان تتقلص مداخيله. هنا ربما يأتي ربما الدور الهام لمنظومات الذكاء الاصطناعي مستقبلا لتعوض زيادة الانتاجية بديل الساعات الاربعة المستقطعة من يوم العمل. وعموما يمكن القول ان التخيل الشيوعي " من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته" ليس طوباويا تماما، ولكن الفرق انه سيصبح ممكنا بفضل منظومات الذكاء الاصطناعي، وليس على يد ماو وستالين ونظم الامن والمخابرات ، بل بفضل استخدام المعرفة لزيادة الانتاجية ومنها الثروة العامة لتحقيق هذا الهدف، والمعرفة الادارية بالتصرف بالثروة لتحسين ظروف عيش وتواجد الانسان كهدف اساس واعلى للتحضر. لا اود ان اختتم مناقشة علاقة "المعرفة بالثروة والكفاء " دون المرور على وضع اغلب مجتمعاتنا العربية كمثال على المجتمعات اللامعرفية ، واطرح خيارا فرضيا ان يتم حكمها بواسطة نظم المرشد القائمة على الذكاء الاصطناعي ، فهي على الاقل تعرف كيف تزيد الانتاجية والثروة للوصول الى مجتمع "الاكتفاء " كمرحلة اولى ،وبعدها الله كريم ، اما خيار الرجوع لحكم المرشد الاعلى ابو عمامة ولحية ليحكم بما انزل الله ورسوله ، أو الاستمرار بحكم منظومات المرشد للذكاء الاصطناعي ، وعلى الاقل ستتوفر مقارنة ، بين حكم المنظومات المعرفية وحكومات الحرامية. سنناقش في الفصل القادم موقع مفهوم الامان ومفهوم السعادة الشخصية كابعاد حضارية هامة لتقام تحت ظلال نظم الذكاء الاصطناعي او بشكل ادق تحت ظلال نظم المرشد الذكي ، وليس المرشد ابو عمامة ولحية وجبة وجلابية، او بدلة عسكر بيضاوية وزيتونية وعوينات طيارين شمسية ) انظر لصور السيسي وصدام والقذافي وحافظ الاسد وعلي صالح والبرهان نفس العوينات ونفس النمونات). د. لبيب سلطان December 17/2025
#لبيب_سلطان (هاشتاغ)
Labib_Sultan#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خواطر حول فلسفة نظم الذكاء الاصطناعي -1
-
سخرية ورقة ترامب لانهاء حرب اوكرانيا
-
بديل الانتخابات امام اليسار الوطني العراقي
-
مالذي يعنيه فوز زهران ممداني
-
حول علاقة الديمقراطية والماركسية
-
لماذا تراجع اليسار في المنطقة العربية
-
لماذا يتراجع اليسار في العالم
-
إنتاج : مشروع نهضوي لتشغيل الشباب في مشاريع انتاجية
-
مستقبل حرب اوكرانيا ستغير صورة العالم
-
بعثيو التشيع في العراق
-
مداولة حول حرب اية الله وناتنياهو ونتائجها
-
مشترك ألحرب الجنونية على اوكرانيا وغزة
-
لماذا يخسر اليسار الوطني العراقي في الانتخابات
-
انهيارسياسات ترامب بعد مئة يوم في الرئاسة
-
فهم حضارة العالم المعاصر-2
-
فهم حضارة العالم المعاصر-1
-
أين يلتقي الماركسيون العرب والسلفية الاسلاموية
-
هل ستقود بريطانيا انقاذ العالم مجددا من الفاشية
-
حلول الريفيرا والمناجم وخيال السريالية الفاشية
-
شهادة بولادة محور ترامب - بوتين
المزيد.....
-
ترامب: نتنياهو قد يزورني في مارالاغو.. والسيسي -صديقي- مرحب
...
-
ماذا قالت أمريكا عن موافقة إسرائيل على صفقة الغاز لمصر؟
-
ليلة مجنونة في لوسيل.. المغرب يخطف كأس العرب من الأردن في نه
...
-
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على قاضيين إضافيين في الجنائية
...
-
عشاء خاص ووثائق سفر..الديمقراطيون ينشرون مواد جديدة من أرشيف
...
-
تأجيل توقيع الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وميركوسور إلى شهر ي
...
-
قمة بروكسل: امتحان صعب للقارة العجوز؟
-
المايسترو التونسي محمد الأسود ضيف الساعة المغاربية على فرانس
...
-
البرازيل والمكسيك تقترحان التوسط لحل دبلوماسي للأزمة بين أم
...
-
الداخلية السعودية تعلن تنفيذ حكم القتل لمدان يمني بجرائم إره
...
المزيد.....
-
كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي
/ غازي الصوراني
-
نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي
...
/ زهير الخويلدي
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|