أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - لبيب سلطان - خواطر حول فلسفة نظم الذكاء الاصطناعي -1















المزيد.....


خواطر حول فلسفة نظم الذكاء الاصطناعي -1


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 04:51
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


1. الغرض من المقالة
تحاول هذه المطالعة تعريف القارئ العام الغير متخصص باسس وعمل ومميزات نظم الذكاء الاصطناعي وفرقها عن بقية المنظومات المعلوماتية ، بشكل مختصر جدا ولكنه يسمح بتكوين صورة وفهم جيد لها وذلك كي نتمكن معا لاحقا من مناقشة ابعاد تأثيرها على حياة الناس والدول والمجتمعات، فهذه المنظوماى تشكل نقطة تحول جوهري في حياة الناس ينتقل من تطور التكنولوجيا اليها ويعيد صياغتها بشكل مختلف تماما عما الفناه ، وتسمية هذا القرن انه قرن الذكاء الاصطناعي ليس هباء،كما سبق واطلق على القرن العشرين انه قرن ثورة الاتصالات ،بدء بادخال السيارات والطائرات واسعا في حياة الناس وانتهى بدخول الانترنت وتطبيقاته في نصفه الاخير ، واحدثا ما احدث من تغييرات جوهرية في حياتنا يمكن ايجازها عموما انها صغرت حجم كوكبنا وجعلته فعلا يبدو صغيرا ،فما يحدث في لندن تجده خلال لحظات في بومباي كما والسفر بينهما يستغرق عدة ساعات بعدما كان 80 يوما في القرن الذي سبقه كما جاء في رواية جول فيرن.
ان الغرض الاساس من هذه المقالة هومناقشة فلسفية للتأثيرات القادمة على حياتنا وطرح اسئلة بسيطة ولكنها هامة، هل ستجعلها ميسرة وسعيدة مثلا ، وهل سنجني منها ماتوقعناه ونحن شبابا ندرس هذا العلم بتطبيقاته الاولي في السبعينات في الاتمتة وبناء نظم الروبوتات الانتاجية وفق اطروحة وتصور انها ستقلص ساعات عمل الانسان ولن يحتاج لثمانية ساعات متواصلة من جهد فيزياوي عضلي وعصبي مستمر بل بمراقبة الروبوت وهو ينتج عشرات بل ومئات الاضعاف من البضائع والخدمات ، ليرجع بعدها لبيته وعائلته ليس منهكا ومتعبا ، بل سنراه فرحا بعد رجوعه للبيت بعد اربعة ساعات عمل ( مراقبة وليس جهدا عضليا ونفسيا) ليصرف الوقت الفائض على تعليم اولاده او ممارسة الرياضة معهم وهو في كامل قواه العقلية والفيزيائية .ولكن كما نعلم ، ان هذا لم يحدث . فبقدر ما تم مضاعفة الانتاج مئات المرات بفضل هذه الروبوتات ( اي زيادة الثروة العامة للمجتمع مئات المرات ومرات) وانخفضت كلف الانتاج ، الا ان يوم العمل لم يقصر، بل الانكى ان العامل نفسه قد فقد عمله باحلال الروبوتات محله، وكيف للانسان ان يصبح سعيدا دون عمل ؟ بل تحول لهامش الحياة، واصبح ينحاز لليمين المتطرف، ويعتبر ان مأساته ناتجة من تواجد الصوماليين والمسلمين والعرب واللاتين حوله ، ينافسونه على الزاد ، بينما منافسه الحقيقي هو الروبوت الانتاجي الذي حل محله ، ومشكلته الحقيقة هي فقدان القيمة للذات ، لذاته نفسها بعدما فقدت قيمتها الانتاجية واصبح مطلوبا منه اما اعادة التأهيل لممارسة العمل الذهني الكفوء او القبول بواقع العيش المهمش لقد فاتك القطار .
وحتى هؤلاء الاذكياء والكفوئين هم اليوم تحت التهديد. فالانتقال للعمل الذهني الاكثر تأهيلا ومردودا جعلته كئيبا حبيسا امام الحواسيب يراجع البيانات ، ومنه جعلته ينفر من القراءة ومن الشعر ومن العاطفة والخيال حتى استغنى عن لقائه في المقهى مع الاصدقاء (حل محلهم التلفزيون واجهزة الموبايل وشبكات التواصل الافتراضي والاجتماعي بديلا) .واقعا حولته لمستهلك لما تنتجه الروبوتات من بضائع رخيصة ، وزادت عليه في الاستهلاك المنتجات المعلوماتية على شبكات التواصل الاجتماعي. والانكى انه اليوم خائف، وهو محق، ماذا ان حلت تقنيات نظم الذكاء الاصطناعي التي تقوم بمهام العمل الذهني والابداعي وتستهدف احلال افضل الخبراء والاكثر تأهيلا في المجتمع ،فكيف به ؟ ستجعلهم يفقدون اعمالهم ومنها فقدان القيمة والفائدة للذات ، ليضافوا الى هذه الفئة التي ما باتت تتوسع اضافة للعمال الغير ماهرين بعد ادخال الروبوتات . وعموما يمكن فرز ظاهرة انه كلما تطورت التكنولوجيا اكثر يزداد توجه عدد اكبر من الناس الى فقدان معنى الذات الانتاجية والابداعية والتوجه نحو الانغلاق ومنن نحو التطرف الفكري اليميني العرقي والديني املا في ايجاد متنفس لذاتهم المفقودة ، ومنه ربما نجد اعادة انبعاث الحركات اليمينية المنادية باغلاق الحدود ظانين ان ذلك سينقذهم ، وهنا الفهم الخاطئ ، فالمشكلة اعمق من المهاجرين ومن غلق الحدود ، ان المشكلة واقعا هي فقدان قيمة الذات نفسها ، فهي كانت تستمد قيمتها من عملها وابداعها، وحلت التكنولوجيا اليوم محلها، واصبحوا يبحثون عن ذاتهم الضائعة ،ويضعون على الغريب وزر مأساتهم، وليس على سبب تغريبهم بسبب احلال التكنولوجيا محلهم في الاساس.
ومنه لاغرابة ابدا ان الوضع ربما سيزداد سوءً اكثر عندما يتوسع انتشار نظم الذكاء الاصطناعي التي ستجهز على ماتبقى في الابداع من الذات ، كون هدفها اتمتة العمل الذهني للانسان، اي القدرة التحليلية والابداعية له، فهي تستطيع انجازها اسرع منه بملايين وربما مليارات المرات ( تستطيع اجراء مليار عملية استنتاج وربطها مع بعض والخروج بنتيجة خلال ثانية واحدة وربما اقل او عدة ثوان لاغير). مالذي سيحل وقتها بالجزء " المتأهل الذكي " من الناس، هؤلاء ايضا سيشعرون بالتهميش وبالمرارة ، وهم فئة واسعة ،جيش من الخبراء والعاملين في الهندسة والطب والقانون والمعمار وادارة الاعمال والاموال ، ستتقلص الفرص امامهم تدريجيا باحلال هذه المنظومات تدريجيا في مناحي الرزق في الحياة ، وفي نهاية المطاف سنجد هؤلاء سينضمون للفئة الغير ذكية من العمال الذين قلصت الروبوتات الحاجة اليهم تحت ذريعة تحريرهم من العمل الفيزيائي المرهق ، وهذه المرة بذريعة تحريرهم من العمل الذهني الاكثر ارهاقا، وهؤلاء ضمنا سينضمون للتيار القومي او الديني بحثا عن الذات، وهل نستغرب اذا صعد التطرف اليميني اكثر في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا ، ومبعثه كما نناقشه هنا هو البحث عن الذات الضائعة او اللاجدوى من الذات فيتجه الفرد للتطرف. شخصيا لم استغرب جواب الباحث الانثربولوجي ايفال نواح ، صاحب الكتاب المعروف "تاريخ الانسان العاقل" ، عندما سؤل هل يوجد احتمال ان تنقرض الانسانية وحضارة الانسان العاقل بعد الف عام ، اجاب نعم ، بل ربما حتى بعد مئة عام ! وانا اذ اوافق على هذا التقييم في ظل الظروف السائدة ، ولكني لا اعتبره فرضا مفروضا واقعا على الحضارة والانسان، وكأنه امرا لا مفر منه، بل يعتمد على الخيارات المتاحة امام الانسان والمجتمعات ، على فهم الغرض من الحياة نفسها وفهم الذات ، وعلاقة الافراد والمجتمعات، انتهاء بعلاقات الدول . فهذه المنظومات والتكنوجيات واقعا هي مفيدة جدا للبشر والانسان، ولكن الامر يتعلق بكيفية الاستفادة منها ومايتطلبه من تغيير في فهم الحياة العاقلة واعادة النظر في العلاقات القائمة كي لاتتعرض الحضارة للخطر من فقدان الانسان لقيمة الذات امام الالات الاذكى منه او بدقة اكثر الاسرع منه باستخدام المعرفة والذكاء . هذا ما سنناقشه تفصيلا في نهاية هذه المطالعة، ولكن اولا لابد من فهم كيف تعمل هذه المنظومات لكي نفهم مدى تأثيراتها على الانسان والحضارة والحياة.

2. موجزلفهم تقنيات نظم الذكاء الاصطناعي
وجدت من الضرورة اجراء زيارة سريعة مع القارئ لفهم الاسس والفرضيات التي تعمل بها هذه المنظومات كي نتمكن معا من الدخول لمناقشة تأثيراتها المستقبلية.
عموما هناك ثلاثة تقنيات اساسية تشكل الاساس العلمي والعملي لبناء وعمل نظم الذكاء الاصطناعي والتي تهدف اساسا لتقليد عمل دماغ الانسان الذهني والمعرفي عند الانسان الخبير العارف المتمرس (وليس اي دماغ).
اول هذه التقنيات بدء بتطويرها واقعا على فرضية طرحت منذ السبعينات ، وتقوم على التحول لاستخدام اللغة الطبيعية للانسان لتمثيل المعارف في المنظومات الحاسوبية ،والفرضية ( التي تحولت لاحقا لاطروحة مقبولة علميا وحسم العلم امرها) ان كل المعارف في ادمغتنا هي تركيبات من هياكل لغوية (رغم التكوين الفسيولوجي للدماغ من حوامض امينية وغيرها فهي اساسا مكيفة لحفظ واستخدام هذه الهياكل اللغوية) ، فلاتوجد معارف ومفاهيم معرفية خارج اللغة الانسانية سواء التي ننطق اونكتب بها (حتى اللغة الرياضية الدقيقة لوصف الظواهر الفيزيائية الدقيقة بمعادلات هي معارف لغوية بمتغيراتها وعلاقاتها ومصاغة من وحدات ومصطلحات ومفاهيم اللغة الطبيعية للانسان ) ،واثبت الواقع ان المعادلات الرياضية للظواهر الفيزيائية لا تمثل غير جزء بسيط من معارفنا ، ومنه فلا توجد واقعا معرفة موضوعية نعرفها خارج اللغة، فما نعرفه نصيغه لغويا، واصبح تمثيل هذه المعارف في الكومبيوتر علما قائما بذاته ( يدعى تقنييات تمثيل المعارف Knowledge Representation ) ليكون الاساس للتطوير اللاحق للمنظومات الحاسوبية لتحويلها من رقمية مبرمجة الى نظم معرفية ذكية ،وليست مبرمجة لانجاز وظيفة موصوفة رياضيا. هذه كانت اول خطوة شقها هذا العلم "الذكاء الاصطناعي" لتأسيس بدايته على اركان متينة، وتحويل الحاسوب من جهاز مبرمج لحل معادلات رياضية، الى مفكر له معارفه الخاصة وبصيغ ومفاهيم وهياكل قائمة على استخدام اللغة الطبيعية للانسان ، ومنه اصبح قادرا على محاكاة وظائف دماغ الانسان.
التقنية الثانية هي اعطاء المنظومات القدرة على التعلم واكتساب معارف جديدة سواء في البحث عنها وتجميعها وفهمها لزيادة المعارف ، اوعندما تجابه موقفا جديدا لاتعرفه المنظومة كونه غير ممثل في قاعدتها المعرفية، فتحاول تعلمه سواء من اجراء تجارب واستخلاص ماينجح منها او طلب معطيات اضافية كي تستخدمها في بناء معارف جديدة وتضيفها لقاعدة معارفها ، وهكذا تنمو وتتوسع المنظومة ومعها المعارف فيها ( تماما كالانسان الباحث عن المعرفة سواء بقراءة الكتب ، او الدراسة في المدارس والجامعات ، او من تجاربه ومعايشته ومشاهداته في الحياة والتي يستنتج منها معارف جديدة يضيفها لمعارفه هي قابلية التعلم من خلال البحث عن المعارف ( والتي تدعى تقنيات اقتناء المعرفة Knowledge Acquisition ) ( وغوغل مثلا يضيف يوميا ما معدله تريليون معلومة جديدة يبحث عنها ويقتنيها كما ويجددها عند اي تغيير في قواعده المعرفية وهذا هو احد اسرار نجاحه وانتشاره الواسع رغم انه لم يصنف من نظم الذكاء الاصطناعي تماما كونه يجمع المعلومات ويصنفها ليعيد تجهيزها ، ولايمتلك كاملا وبشكل متطور ماكنة للاستنتاج كما سنطرحه.
التقنية الثالثة الاساسية في علم الذكاء الاصطناعي هي التي ندعوها ماكنة الاستنتاح وهي الاتيان بحلول غير ممثلة مباشرة في القواعد المعرفية للمنظومة بل تستنبطها من المعارف العليا في المنظومة ، أياستخدام المعارف المسبقة فيها( وبالحديث عن غوغل مثلا فقد بدأت ومنذ فترة على تطوير اليات للاستنتاج من خلال التكيف مع حاجة ومعطيات المستخدم، وهي جزء لاغير من تقنيات كثيرة لوسائل وطرق تستخدمها ماكنة او محرك الاستنتاج في النظم الذكية ( والواقع ان هذه التقنية ، اي التوصل الى حلول من معارف مسبقة تعادل جوهريا مهمة ما ندعوه ممارسة البحث العلمي لاكتشاف حلول وحتى حقائق جديدة مما هو متراكم من معارف سابقة ) . وما تم انجازه لليوم في هذه التقنية ( القدرة على الاستنتاج) ليس قليلا ،ومنها على سبيل المثال القدرة على التكيف واستنباط واستخراج المعارف الملائمة ‏لحالة او لمستخدم تتوفر معطيات واقعية عنهما ، فيتم وضع حل ملائم دون ان يكون هذا الحل ممثلا بشكل مباشر في المنظومة المعرفية ( تماما كما يضع الطبيب علاجا لمريض يستخدم فيه معارفه الطبية العليا ليستنتج مايلائم المريض من علاج وفق معطيات هذا المريض ). ان القدرة على الاستنتاج والاتيان بحلول لحالة معينة خاصة ،غير ممثلة في المنظومة بشكل مباشر ، وفق معطيات متوفرة لهذه الحالةهي احدى تقنيات الاستنتاج الشائعة والتي اصبحت تطبق بشكل واسع اليوم في نظم الذكاء الاصطناعي ( في مثال الطبيب اعلاه لو كان المرض بالسكري مثلا فمعرفة وزن المريض ودرجة تطور المرض تساعد الطبيب في تحديد كمية الانسولين التي تعطى له ،ونفس هذه الجرعة ستعطيها اياه منظومة الذكاء الاصطناعي فهي تحتوي على معارف الطبيب المختص كما وتقوم بنفس العملية الاستنتاجية ) . وهناك اليات اخرى تم تطويرها اليوم لتحاكي دماغ الانسان في الاستنتاجات مثل البحث عن حلول وفق تصنيف الافضليات ضمن الامكانيات وفرزافضلية الخيارات عن غيرها ، وغيرها من التقنيات التي تحاكي القدرات الاستنتاجية لدماغ الانسان، ولكنها تقوم بها بصورة اسرع بملايين المرات.
وعموما فاهم ما يجب فهمه في منظومات الذكاء الاصطناعي انها ليست الات مبرمجة مسبقا ( مثل الروبوتات والحواسيب) بل هي مرافق ذكي (Intelligent Agent) يرافقك ويسدي لك الخدمة حيثما وحينما تريدها وفق المعارف المتوفرة لديه عنك وعن المجال الذي تسأل عنه، ومنهما يستنتج ما هو الافضل والمتاح لك، كما ويمكنه تقديم تفسيرا لك عن سلوكه كيف ولماذا يقدم لك هذا الخيار دون غيره. وعلينا فهم ان انتاج نظم الذكاء الاصطناعي هي بضاعة معرفية.
تعتبر السبعينات هي الولادة الحقيقية لهذا العلم عندما تم اعتماد الهياكل اللغوية كاساس لتمثيل المعارف (وليست المعادلات الرياضية التي هي ايضا لغة ولكنها قادرة على وصف الظواهر الفيزيائية الدقيقة مث التحكم بحركة طائرة او سياقة سيارة اوتوماتيكيا او التحكم بخط انتاجي او تفاعل كيميائي وغيرها). ومنذ السبعينات تم التحول الى محاكاة عمل الدماغ على اساس انه يستخدم المعارف اللغوية في مجال محدد Knowledge) Domain) ليقوم بعمله في هذا المجال. ان التحول لاستخدام المعرفة كهياكل لغوية في الاساس يعد نقلة هامة وحاسمة من الفرضيات السابقة التي ربطتها وكأنها تركيبات فيزيولوجية من الحوامض الامينية مثلا، كما وان اغلب معارفنا ليست معادلات رياضية يتم حلها ، بل هي تركيبات لغوية ، ومنها اتت النقلة الثانية بضرورة العمل على تحويل الحاسوب من جهاز للحسابات الرقمية الى جهاز لمعالجة التركيبات اللغوية للغة الطبيعية للانسان ( والفرضية المشهورة ان الطبيب مثلا عند تشخيص مرض لايقوم بحل معادلات تفاضلية في عمله وكذلك الميكانيكي عند تشخيصه لتصليح سيارة، فالحاسوب يعتمد على تمثيل المعرفة بطرق رياضية ( Mathematical Models) التي تعتمد القوانين الفيزيائية، بينما الطبيب يستخدم خبرته ومعارفه الممثلة لغويا لتشخيص المرض ووصف العلاج بتفاعلات لغوية استنتاجية وليست وفق نموذج حل معادلات رياضية، والامر مثله حتى لوصف كيف يمكن مثلا ان تركن سيارة على جانب الطريق بين سيارتين، بل وحتى التحكم بلكثير من النظم الفيزيائية فيمكن القيام بها بنماذج لغوية صرفة مصاغة باللغة الطبيعية للانسان ( كمثال جيد عليها قمت شخصيا بداية التسعينات بالعمل على مشروع لنموذج ذكي للتحكم بمحرك الذراع للكتابة والقراءة من القرص الصلب للكومبيوتر حيث جابهت الطرق الرياضية التقليدية للتحكم مشكلة التناقض بين الدقة العالية والوقت للوصول للقطاع وللمنطقة التي تحفظ المعلومة ( الدقة وصلت الى النانومتر او 10 اس ناقص 6 من الميليمتر الواحد للقطاع وذلك لضرورة الانتقال الى الاقراص الصلبة ذات الكثافة العالية بالكيكابايت داخل القرص ذو القطر الثابت قرابة 7 سنتم لحفظ معلومات ضخمة على قرص صغير) ، وتم تطوير نموذج ذكي للتحكم ، لغوي صرف ومن دون اي معادلات رياضية للتحكم بحركة الذراع لقراءة المعلومات ويستخدم معارف لغوية على شكل "تحريك الذراع باقصى تعجيل وسرعة لمنتصف المسافة ثم الكبح الاقصى لايقاف الحركة وتقليص السرعة تدريجيا حتى بلوغ سرعة الصفر عند الوصول للمقطع الواجب قرائته او للكتابة عليه لحفظ المعلومات) ، ونجحت تجاربه ايما نجاح ، ومثله تم العشرات بل المئات من هذه النماذج اللغوية التي طورت في الثمانينات والتسعينات وطبقت على النظم الصغيرة والمتوسطة التعقيد وبرهنت ان اعقد المشاكل يمكن حلها باستخدام نماذج لغوية ( وليس معادلات رياضية) لادارة عملها والتحكم بها بشكل ذكي يستخدم معارف لغوية ومحرك استنتاجي كأساس لادارة عملها . تلاه التحول للنظم الاكبر يحاكي الخبرة لخبير في مجال محدد ( Expert Systems ) ولكنه يجهز الحلول بطريقة اسرع من الانسان الخبير ودون ارهاقه، والاهم هنا انها لا تتعب ولا تجهد ويصيبها الاعياء ومنه فهي لا تخطأ كما يحصل مع الانسان عند وصوله لحالة من التعب والاعياء . كانت هذه من نماذج الجيل الثاني من تحول نظم الذكاء الاصطناعي لاستخدام اللغة الطبيعية للانسان وكانت حاسمة للانتقال الى الاجيال القادمة وصولا الى مانشهده اليوم من نماذج للمنظومات الكبيرة( Large Linguistic Models LLM ) التي بدأت تغزو الاسواق والحياة وجوانب كبيرة من نشاطات الانسان الذهنية والابداعيية منذ سنوات. ومن المهم ان نعلم ان هذا العلم لم ينل طوال خلال خمسين عاما ما يناله اليوم من شهرة وقبول واسع وثقة عالية من جراء التطور في التطبيقات وتحولها من النظريات والمختبرات الى التطبيقات التجارية (Commercialization) في مختلف القطاعات،فلها تعود هذا الانتشار والثقة والقبول.
اعتقد ان هذه المقدمة تقدم قدر كاف للقارئ ليفهم كيف تعمل نظم الذكاء الصناعي وماهي التقنيات الاساسية الثلاثة في عملها واسس تطور هذا العلم الهندسي لمعالجة المعارف ( فالمعارف هي مادتها الاولية للانتاج والمعارف هي ايضا انتاجها البضائعي ) لتلبي حاجات كثيرة وماسة وهامة لنا كأفراد ومجتمعات ودول وكجنس انساني . نعم لقد وصلنا اليوم لبداية عصر جديد بفضل هذه التكنولوجيا المعرفية الرائعة لتقوم بدور "المرشد العراف" واقعا ( والتي تعادل وتتفوق واقعا حتى على الخلق الالهي للانسان العاقل من حيث المعارف ،فهي اكثر معرفة واكثر شهية لاكتساب المعارف مما خلقه الله فياغلب البشر)، كما وهي اسرع منه بملايين المرات في معالجتها وابداء الرأي العارف . وهنا يبدأ السؤال الاساس لهذه الورقة ، هل ستجعلنا هذه المنظومات اكثر سعادة واكتفاء وانسانية وعقلانيةوتدفعنا لنكون سعداء ومتعاطفين ومتحابين ومتسامحين اكثر حيث يوجد بيننا هذا العراف ( النبي الحكيم نيابة عن الله) ونقبله وسيطا ، ونستخدم معارفه لاصلاح شأن الحضارة والانسان . انا اشك بذلك، رغم قدرته عليه، لان هناك قضية عالقة هي ان المعرفة الصحيحة والذكاء ، رغم اهميتها الحاسمة ، ليست كافية لوحدها لمعالجة الامراض والظواهر ( مثلا تخلص الانسان من انانيته وامراضه الكثيرة المرتبطة بوجوده بحد ذاته)، ولا بد ان نعلم ان لا احد يرغب في تصميم منظومات ذكية لمعالجة الانانية مثلا او الجشع او الانحياز الخ . فنحن بقدر حاجتنا للمعرفة وللذكاء نحتاج للضمير والاخلاق ولحسن استخدام هذه المنظومات ، اضافة نحن بحاجة للرقة والعاطفة والمشاعر الفياضة وليس الذكاء لوحده، كما نحتاج للتعاون كي نكون سعداء ومكتفين كبشر. سنناقش هذه الاموروكيف ستؤثر منظومات الذكاء الاصطناعي على حياتنا بفصل خاص قادم.
د. لبيب سلطان
December 10/2025



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سخرية ورقة ترامب لانهاء حرب اوكرانيا
- بديل الانتخابات امام اليسار الوطني العراقي
- مالذي يعنيه فوز زهران ممداني
- حول علاقة الديمقراطية والماركسية
- لماذا تراجع اليسار في المنطقة العربية
- لماذا يتراجع اليسار في العالم
- إنتاج : مشروع نهضوي لتشغيل الشباب في مشاريع انتاجية
- مستقبل حرب اوكرانيا ستغير صورة العالم
- بعثيو التشيع في العراق
- مداولة حول حرب اية الله وناتنياهو ونتائجها
- مشترك ألحرب الجنونية على اوكرانيا وغزة
- لماذا يخسر اليسار الوطني العراقي في الانتخابات
- انهيارسياسات ترامب بعد مئة يوم في الرئاسة
- فهم حضارة العالم المعاصر-2
- فهم حضارة العالم المعاصر-1
- أين يلتقي الماركسيون العرب ‏والسلفية الاسلاموية
- هل ستقود بريطانيا انقاذ العالم مجددا من الفاشية
- حلول الريفيرا والمناجم وخيال السريالية الفاشية
- شهادة بولادة محور ترامب - بوتين
- قراءة الغرائز السياسية في ترامب شو


المزيد.....




- هكذا ردت زعيمة المعارضة في فنزويلا على سؤال بشأن تأييد التدخ ...
- فيديو متداول لـ-فيضانات شديدة في كردستان العراق-.. هذه حقيقت ...
- شباب المنطقة في مواجهة تغيّر المناخ
- المغرب والسعودية في مواجهة طموح سوريا وفلسطين في ربع نهائي ك ...
- سيناتور أمريكي: محمد بن سلمان -سيُقتل- إذا لم يحقق نتيجة أفض ...
- فيديو- فيضانات جارفة تضرب إقليم كردستان العراق وتودي بحياة 3 ...
- بعد مقتل أبو شباب.. جماعات مناهضة لحماس تواصل التجنيد وتثير ...
- انهيار 3 مبان في غزة بسبب المنخفض الجوي والفيضانات تغمر القط ...
- لافروف يهدد أوروبا ويطمئنها بذات الوقت
- إحباط هجوم انتحاري يستهدف أكاديمية عسكرية بمقديشو


المزيد.....

- كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي / غازي الصوراني
- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - لبيب سلطان - خواطر حول فلسفة نظم الذكاء الاصطناعي -1