أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - لماذا تراجع اليسار في المنطقة العربية















المزيد.....


لماذا تراجع اليسار في المنطقة العربية


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 14:57
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


1. مقدمة للموضوع
ان تناول موضوعا معقدا، كتراجع اليسار العربي، هي مهمة صعبة ، كونها مليئة بالالام والاشجان والتفرعات والتقولات ، فالاسباب كثيرة . أما الموضوع ملئ بالالام لأن اليسار العربي قدم الكثير من التضحيات وقوافل الشهداء، وخصوصا في بلدي العراق ،فهو مميزا بين البلدان العربية الاخرى من هذه الناحية، انه قدم قوافل والافا مؤلفة من خيرة مثقفيه وخبراءه ومهنييه وجلهم من الطبقة المثقفة الوسطى الوطنية المحترفة العراقية ،واقعا عماد المجتمع، حتى يعجز اي سجل من حصر اعداد الشهداء والضحايا، فهم الوفا مؤلفة ، وقعوا ضحية وذبحوا على يد القومجية العرب ، ونظمها الديكتاتورية الفاشية والتي فيما بعد اعلنت اسفها لبرهة ، وتقولت انها تتبنى حتى الماركسية والاشتراكية العلمية وباسس عربية ( كالحركات الناصرية والبعث السوري والعراقي مثلا) ولكن الاخير،أي البعث العراقي، بعد مذابح عام 1963، عاد ليصفي الحزب الشيوعي مرة ثانية بعد تحالفه معه في السبعينات للتصفيات الجناعية بغرض قلعه كليا من المجتمع العراقي، صفى الالاف من اعضاءه ، واجبر الافا على التخلي عن الحزب، وشرد الافا اخرى خارج العراق، وحجة البعث الرئيسية ان لاشغل ولا وظيفة تبرر بقاء حزب شيوعي بتولي حزب ثوري ( أي البعث) للسلطة في العراق ، فهو يقود بناء الاشتراكية، وامم النفط ، ويقف ضد الامبريالية ، وله معاهدة صداقة وتعاون مع السوفيت، وهذه كانت جميعها فعلا كل مطالب ومهام الحزب الشيوعي العراقي وها هو البعث يلبيها ، بل وسماه منظري الحزب الشيوعي انه قائدا لحركة تحرر وطني ويسير بطريق اللارأسمالية الى الاشتراكية ، وانه تقدمي معادي للامبريالية وصديق للمعسكر الاشتراكي ،الخ، ومنه فادعاء البعث ان لاداعي لوجوده ليس من فراغ ، بل عليه الانضمام للبعث ، كما حصل قبلها بحل الحزب الشيوعي المصري وانطوى قيادييه للاتحاد العربي الاشتراكي بقيادة ناصر، ونال رضا السوفيت ومباركتهم ، فلِمَ يعاندوا البعث ويتمردون عليه وهم دون مهمة ولا وظيفة حيث البعث يقوم بما ارادوه ويريدوه .
لو يجري تحليل هذه المقدمة بمعطياتها ووقائعها بعمق وموضوعية، ستوفر وتؤدي تقريبا لتشخيص كل الاسباب والجذور التي ادت لتراجع اليسار العربي بدوره ومهامه ، والعزوف عن طروحاته ، وخير دليل عليه هو وصعود والسيطرة الفكرية للتيارات السلفية الاخونجية والولائية على الساحة، وهل يوجد تراجعا اشد وافصح واوضح من هذا.
ان كل مايكتب عن اسباب تراجع اليسار العربي ،وهي متفرعة وكثيرة، الى حد كبير صحيحة وواقعية، الا واحدة ، تلك التي تتقول بها التيارات الماركسية من داخل اليسار العربي، بان اسس وطروحات الايديولوجية التي تبناها اليسار ‏منذ الثلاثينات أوالاربعينات ( وهي رسميا النسخة السوفياتية من الماركسية) هي حقائق مطلقة وصحيحة وعلمية، اثبتها المنطق المادي الديالكتيكي لماركس، ولكن الخطأ في اليسار العربي اتى من سوء الفهم التفسير والتطبيق، ومن انتهازية من قاد احزاب اليسار ، وانهم تحريفيون وبرجوازية وغيرها من الاتهامات التي يروجونها، اما الطروحات والاسس الايديولوجية ، التي اقام عليها اليسار مهامه ومنهجه ، فهي صحيحة وعلمية وماركسية لينينية اصيلة. هذا الرأي والطرح تجده غالبا عند اليساريين العرب، وخصوصا السلفية منهم من عبدة النصوس ومقدسيها، دوما يستشهدون قال ماركس وكتب انجلس واورد لينين وهكذا . ولكن الواقع يقول ويشير لغير ذلك، فمهما تناولنا من ظواهر وممارسات ومهمات فشل فيها اليسار العربي ( وقليلة جدا تلك التي نجح فيها وهي ليست مهام رئيسية له) ، ومهما حاولنا تحليلها لمعرفة اسباب الفشل فسند انفسنا ان الجذر في القضية ( أي قضية الفشل) يعود للاطروحة الايديولوجية الجاهزة التي تبناها اليسار منذ تأسيسه وحاول الباس الواقع لباسها. لنأخذ مثالا لاثبات ذلك من المقدمة اعلاه. من ادعاءات البعث العراقي الفاشي على وظيفة ولا جدوى وجود الحزب الشيوعي العراقي الذي تحالف معه لانجاز مهمة مرحلة التحرر الوطني والسير بطريق اللارأسمالية نحو الاشتراكية وفق الاطروحة المؤدلجة السوفياتية، فحجج البعث فعلا قائمة، انه يسير بها ويطبقها، واذا اعترض عليه يساري معترض انه نظام ديكتاتوري بحزب واحد ، له الحق ان يجيبه انه ليس اقل منزلة وشأنا كحزب قائد للمجتمع من الحزب الشيوعي السوفياتي، واذا اعترض على اشتراكيته انها ليست علمية ، يجيبك انه قد قام بما قام به السوفيت ، واستمر بتصفية الرأسمالية كطبقة مستغلة ، وسار بالتأميمات التي بدأها الناصريون عام 1964 زمن عارف في العراق بل واضاف لها تأميم شركات النفط الاجنبية العاملة في العراق وقضى على الرأسمالية كطبقة في العراق. وفي السياسة الخارجية قام بضرب المصالح الغربية ويتخذ نهجا مضادا للغرب والامبريالية وحليفا للسوفيت، وهذه جميعها تقريبا هي نفس مهام الحزب الشيوعي لو كان في السلطة ، فهي مهام اشتقت من نفس الاسس الايديولوجية التي قام عليها الحزب الشيوعي وخاض النضال والمعارك وقدم التضحيات لتحقيقها ، وها هو قد حققها البعث العراقي وهو متمسك بها، مجرد انه لاداعي لحزبين لهما نفس الاهداف والمهام التي حددها الحزب الشيوعي لنفسه، و هل يمكن محاججة البعث الصدامي انه ليس نظاما ديمقراطيا يسمح بحريات الرأي والعقيدة ،وتشكيل الاحزاب لتشارك بانتخابات ببرامج في برلمانات انتخابية حرة؟ ان نفس الحزب الشيوعي لم يطالب في ميثاق الجبهة مع البعث بها ، بل ان الاطروحات الايديولوجية التي يتبناها تقول وتنص ان هذا هو نموذج النظم البرجوازية الرأسمالية الغربية التي تطرح الديمقراطية لخداع الشعب والطبقة العاملة فيها، والبعثيون متمسكون وتعجبهم هذه المقولة السوفياتية ، فهم لن يسمحوا للقوى الرجعية والبرجوازية لتعكير التحولات الثورية والاشتراكية التي يقودها البعث لضرب الرأسمالية والامبريالية العالمية . وهكذا فالديمقراطية الغربية هي لتغطية الاستغلال الطبقي الرأسمالي وحضارة الغرب رأسمالية استغلالية زائفة وديمقراطيتها وحرياتها مزيفة، الخ.
واليوم، وبعد تجاوز محنة البعث والفاشية وصعود السلفية الاسلاموية ،هل اخذ اليسارالعراقي الدرس وغير هذه الطروحات الايديولوجية ؟ ابدا ،فهو يرددها والى اليوم ، وله نفس الموقف المعادي لاسس الحضارة المعاصرة ( حضارة الغرب) التي تسود العالم ، وفق الاطروحات المؤدلجة التي يتبناها ، ونفس هذا الموقف المعادي تجده عند التيارات السلفية والولائية الاسلاموية ، هي تسميها حضارة الغرب الكافر ، وهو يسميها حضارة الغرب الرأسمالي، والكفر والرأسمالية صنوان، وهل حدث والتقى اليسار والسلفية الدينية في اي مكان او دولة في العالم ؟ ابدا . هذا امرا يقول ويشير للكثير ، ان هناك خطأ ما، والخطأ في الحقيقة نابع من الاطروحة التي تبناها اليسار ، وهو ما اشرنا اليه ،ان سبب تراجع اليسار يعود لاطروحاته المؤدلجة التي قام عليها. ومنه ضرورة مراجعة الاطروحات و التي قادته ان يلتقي مع السلفية ، كونها اطروحة خاطئة حتما والا لما التقت. وعموما فليس غريبا من خلال مراجعة طروحات ومهام وتثقيف اليسارالعربي انه يتبنى طروحات ايديولوجية معادية للحضارة الغربية بكل تفاصيلها ونظمها وانجازاتها، وهذه اصبحت تشكل اهم مهامه، واغلبها وهمية كما سنطرحها ونناقشها تحت وتقودنا لنتيجة: ان الطروحات الايديولوجية التي قام عليها اليسار هي المسؤولة عن فشله، وان المهام التي تبناها يسارنا هي ليست واقعا مهام اليسار التنويري الذي بتعريفه عليه قيادة تحضر دول ومجتمعات المنطقة، وهو مافشل فيه يسارنا، كما نطرح ونناقش تفاصيله.

2. اصل القضية
لنحاول التعمق اكثر في مناقشة كيف عملت الايديولوجيا التي تبناها اليسار العربي رسميا، وهي كامل مقولات وطروحات النسخة السوفياتية من الماركسية، على افشاله في منطقتنا. ولنبدأ من الهدف الاعلى للماركسية وهو اقامة الاشتراكية في المجتمعات الصناعية، فطروحاتها ومنهجها متوجها اساسا ، انها ممكنة ، وتمثل مرحلة أعلى من الرأسمالية لتطورمجتمعاتها. ومنه فاهم شروطها انها مجتمعات صناعية، ان يسارنا تبناها ، ومجتمعاتنا تفتقر لهذا الشرط والاساس، فهي غير صناعية ، ومنه فلا بروليتاريا موجودة فيه كما ولارأسمالية صناعية، ومنه تنهار كل الوصفة الطبية ( طروحات الايديولوجيا ) جملة وتفصيلا ، بما فيها مقولات الصراع الطبقي ، والقضاء على الرأسمالية الخ، كونها وصفة لمرض اخر في مجتمعات اخرى، صناعية ، ومرضنا غير مرضها ، كون مجتمعاتنا ، كانت ومازالت متخلفة اقتصاديا، لم تدخل الحضارة بعد ، وغير صناعية ، بل ريعية زراعية ، كما كانت قبل مئة عام وهي لازالت لليوم كذلك.
وعليه لو اخذنا الهدف والمهمة الاعلى لليسار العربي ، وهو اقامة الاشتراكية في بلداننا العربية ،فهو هدف طوباوي وغيبي بغياب طبقة عاملة وطبقة رأسمالية صناعية ، فالقضية اساسا وهمية ان تقيم اشتراكية في بلدان تفتقر اساسا لبنية صناعية وهي كما تريد بناء بناية لا اساس لها ولاركائز ، تبنى على تخوت من رمال، وحتى موادها الاولية ( وسائل الانتاج الصناعي) من رمال ايضا . وارجو ان يفهم القارئ نحن هنا لا نناقش صحة او خطأ، فشل او نجاح ، طروحات الماركسية ، فهذه متروكة للتجربة في الواقع وللمستقبل ، انما نناقش هل هي وصفة (طبيا) صحيحة لمعالجة امراض وتخلف مجتمعاتنا،تتماشى لمهام المرحلة التي نحن فيها، ام نحن بحاجة لوصفة تدخلنا لابواب التحضر ، اي التحول للاقتصاد الصناعي واقامة دول معاصرة ، وكلتاهما تتطلبها وتطرحها الماركسية نفسها شروطا في المجتمعات للتحول للاشتراكية، وبعدها لكل حادث حديث. من هذه النقطة بالذات نجد ان يسارنا قد طرح هدفا وهميا خاض معارك وهمية ايضا، وبطبقات وهمية غير موجودة في الواقع، وشعارات وهمية مثل القضاء على الرأسمالية ، ولا احد يعلم لم عليه ان يقضي عليها وهي ناشئة وفي طور التكوين وتقوم بالتصنيع ، وهو دور تقدمي دون شك ، يساهم بتحويل اقتصادنا من اقطاعي ريعي الى صناعي ، خصوصا ومجتمعاتنا كانت اقطاعية في الاربعينات حيث بدأ اليسار العربي نشاطه ، وانبرى يحاربها ويعتبررها عدوة المجتمع ومصدر الاستغلال ، وذلك وفق المقولات والطروحات الايديولوجة التي تبناها ( وهكذا مثلا في العراق يكون جعفر او التمن ومحمد حديد وفتاح باشا والجادرجي برجوازية ورأسمالية رجعية ، واطلق بعد التأميمات على ناصر وعارف والبكر وصدام انهم تقدمية واشتراكية ، كونهم يلتقون مع الاطروحة بمعاداة الرأسمالية، والاهم منها انحيازهم للسوفيت ومنه صاروا تقدمية وقادة تحرر وطني). هذا مثال على المطبات التي وقع بها اليسار العراقي ، وهي كثيرة، ولكن جميعها لو قمنا بتحليل جذورها ، سنجدها تعود دون شك للاطروحات الايديولوجية التي تبناها اليسار العربي، فهي الجذر في سبب فشله وتراجعه.
3. تناقض الطروحات الايديولوجية لليسار ومهام مرحلة التنوير
ان مجتمعاتنا ودولنا لم تبقى تراوح مكانها كما كانت عليه عند منتصف القرن الماضي ،حيث بدء اليسار العربي نشاطه الشعبي الفعلي، بل هي اليوم اسوء بكثير عما كانت عليه قبل 75 عاما، ويكفي ان ننظر لحال اكبر ثلاثة دول عربية وهي مصر والعراق وسوريا اليوم لتأكيد ذلك، فهي دولا ضعيفة ركيكة ، ذات نظم حكم عسكري وميليشياوي متخلف، و اقتصاد ريعي، وتخلف ثقافي ، وواقع اجتماعي ذو طابع وتوجهىسلفي ، دون شك لامقارنة مع واقعها قبل 75 عاما ، ولا بأي مقياس ، سواء من ناحية نظم الحكم ( ذات الحريات والانتخابات وحرية الصحافة) ، ولا اقتصاديا ولا ماليا واجتماعيا وثقافيا وفنيا. ومن هذه الحقيقة وحدها يمكن استخلاص فشل اليسار العربي اللامع الدامغ والمحسوس فيها، والا لاستطاعت ان تتطور اضعافا لو عرف اليسار مهامه الحقيقة ( وليست الوهمية) ، ولطرح حلولا لانجاز مهام عصر التنوير العربي، وليس حلولا من وصفات مؤدلجة لغير واقع مجتمعاتنا.
ان استخدام مصطلح "مهام عصر التنوير العربي" تناضر لحد بعيد نفس مهام عصر النهضة والتنوير الاوربي قبل مئتي عام على الاقل، حيث كانت مجتمعاتها ودولها بنفس وضع وحال مجتمعاتنا بداية القرن العشرين تقريبا، وقد بدأ فعلا عصر التنوير عندنا واخذت عجلاته تدور ، ولو ببطء ، ولكن دوما للامام، واستمرت حتى منتصف القرن ، ثم بدأت الانقلابات العسكرية الثورية ، والتي سميت تحررية ، ومنها بدأت واقعا النكسات ، والتراجع ، ومازالت مستمرة الى اليوم.
ماهي مهمات عصر التنوير سواء العربي او قبله الاوربي بمئتي عام؟ واقعا يمكن حصرها بمهمتين ، لعب في كلاهما مفكري اليسار الاوربي في القرن الثامن عشر دورا هاما في انجازها ونجح نجاحا باهرا فيهما، وهما:
أ - مهمة تحويل شكل الدولة من نظم الحكم المطلقة الى دستورية ديمقراطية وحقوقية ( اي على اساس حقوق المواطنة وحرياتها الخاصة والعامة)
بـ مهمة تحويل الاقتصاد من ريعي اقطاعي زراعي وادخار المال او استخدامه في الربا والمضاربة والعقارات ( يسمى الاقتصاد الجامد النمو ) ، يكدس المال ويخزنه في سراديب تحت الارض او يكوله لعقارات، الى صناعي انتاجي من خلال اليات تحويل المال المدخر الى رأسمال استثماري في الانتاج الصناعي ( ومنه سمي الاقتصاد الرأسمالي ) وطرح معه نموذج اعادة واستمرارية الاستثمار للتوسع في الانتاج وزيادة الانتاجية ( ومنه الاقتصاد الدائم النمو ) ،ومنه ازدادت ونمت ثروات الدول والمجتمعات نموا خرافيا نقلت مجتمعاتها ودولها لمصاف الدول المتقدمة الغنية المتحضرة القوية .

كلا هذين الانجازين شكلا أهم مهام عصر النهضة والتنوير الاوربي ، نقل مجتمعاتها من الفقر ونظم الملكية الاقطاعية الى دستورية حقوقية علمانية ديمقراطية، واقتصادها من اقطاعي ريعي الى الى صناعي انتاجي مستدام النمو والتطور، ومعه الرفاه الاجتماعي والمعيشي للسكان.
انها نفس الظروف ونفس المهام التي واجهتها مجتمعاتنا قبل قرن ولا زالت تواجهها لليوم ( كونها لم تنجزها) . ولو اردنا اختصار مهام التنوير العربي فهي بكلمتين اصلاح نظم دولنا ونقلها لنظم حقوقية ديمقراطية ، ونقل اقتصادنا من زراعي ريعي تجاري ادخاري جامد الى انتاجي صناعي دائم النمو والتوسع، أي واقعا هي نفس مهام عصر التنوير الاوربي. والسؤال هنا ، اين دور يسارنا من قيادة هذه المهام، كما قادها اليسار الاوربي ؟ وما موقفه من الحلول التي اتى بها عصر النهضة والتنوير الاوربي ؟ واقعا ان يسارنا يرفضها جملة وتفصيلا ، لا لسبب سوى لان طروحاته الايديولوجية ( السوفياتية المنشأ والتفصيل) التي تبناها كليا ومن دون تمحيص تقول له ذلك ( طبعا معذورون رواد اليسار الاوائل لقلة المعرفة المتوفرة والتجربة انذاك ولكن لايمكن عذر من عايش انهيار الاتحاد السوفياتي مثلا والذي يعود في جذورلفشل هذه الطروحات ولا زال يسارنا يقدسها ويعتبرها ايات مقدسات ). انها تقول ليسارنا ان ديمقراطية نظم الغرب الرأسمالي وحرياته هي زائفة مزيفة ، والرأسمالية نظام استغلالي لا يؤدي لغير افقار الاغلبية في المجتمع ، وكلاهما طبعا يدحضه الواقع المادي المنظور المحسوس الملموس والمقاس بكافة المؤشرات الواقعية والمادية. ان الترجمة الواقعية لهذه المقولات المفصلة سوفياتيا ان لايأخذ يسارنا العربي لا بالديمقراطية الغربية كنموذج لاصلاح دولنا ونظم حكمها ، ولا بنموذج الاستثمار للرأسمال للتحول للاقتصاد الصناعي الانتاجي ( إرضاء للسوفيت ) جعلت يسارنا يقف دوما في احد موقفين كلاهما خاطيء ، اما مضادا لمهام عصر التنوير ( أي واقعا مضادا للحضارة المعاصرة وقوانينها وتجاربها) او عاجزا عن ادارتها ( اية عملية التحضر بسبب تعلقه بالاطروحات التي شكلت ايديولوجيته وقادته لهذا المواقف المضاد منها) . واقعا انها الايديولوجية هي التي وضعته في موقع المضاد الرافض للحضارة الحالية السائدة في العالم والقائمة واقعا على هاتين المهمتين والركيزتين . ومنه فلاغرابة ان يلتقي يسارنا اليوم مع السلفية الاسلاموية في نفس خندق العداء لها، وقبلها وقف مع الانظمة القومية الديكتاتورية لانها اممت المنشآت الصناعية وقضت على الرأسمالية الوطنية،وادعت مجابهة الغرب ( وهو واقعا يرفض ويعادي نموذج ديمقراطيته كونه يهدد نظامه الديكتاتوري). وكنتيجة عامة ، لاغرابة ابدا ان نحصد الحصاد اليوم ، ان بلداننا هي من اكثر الامم والدول تخلفا سواء في نظم حكمنا اوفي اقتصادنا، واكثر تخلفا بكثير عما كنا عليه قبل 75 عاما دون شك، وطبعا بسبب تخلف يسارنا وعدم تشخيصه وفهمه لمهام مرحلة التنوير ، وهذن بدورها تعود للوصفة الايديولوجية التي تبناها.
4. الخروج من المحنة
انها لمحنة حقيقية حقا لشعوبنا وليسارنا معا ذلك الخندق العميق الذي وقعنا فيه منذ 75 عاما كاملة ومنه تحطمت دولنا واقتصادنا وثقافتنا وفنوننا وتعليمنا ومدننا وكل شيئ تقريبا في بلداننا.
لابد من نهضة جديدة ولابد من شجاعة استثنائية ليسارنا العربي ان يقلب الطاولة رأسا على عقب ويحرر نفسه من قفص المقولات الجاهزات المؤدلجات ،وكبديل لها يتحول لما يمكن ان نسميه يسار عصر التنوير وانجاز مهماته، تكفيه الشجاعة للخروج من القفص ويصبح يسارا متحررا من قيود المقولات المؤدلجات ، ويتحول ليسار المهمات ، ويأخذ بتشخيص المهام الحقيقية الواقعية التي تواجه تحضر مجتمعاتنا ويقودها لتحقيقها.
والواقع ان هذه المهام هي نفسها التي واجهها عصر التنوير العربي بداية القرن الماضي ، هي نفسها كونها لم تنجز لليوم، لا نظمنا حقوقية ديمقراطية معاصرة، ولا اقتصادنا صناعي انتاجي معاصر ، لم ينجزها يسارنا لليوم، بسبب وضع نفسه في قفص حديدي من الطروحات السوفياتية المؤدلجات والمفصلات وفق الجيوسياسية السوفياتية المصبوغات بعدالة وطروحات الماركسية.
ان على يسارنا لاعادة دوره ومصداقيته وواقعيته وعلميته وهيبته وشعبيته التخلص والخروج من هذا القفص، ووضع كافة طروحاته على الرف لحين اكمال مهام ومعارك مرحلة التنوير ( وعندها فلكل حادث حديث عندما نصبح دولا صناعية متطورة نبحث للتحول للاشتراكية) . ولكن المهم اليوم هونجاحه في اصلاح وتحويل دولنا الى معاصرة ذات نظم ديمقراطية علمانية حقوقية ، تحترم مواطنيها ولا تميز بينهم وتعمل وفق الكفاءة وليس الولاء) ، وتوفر وتحترم الحريات الخاصة والعامة ، والمهمة الثانية التوجه لنموذج الاقتصاد الدائم النمو لتحسين معيشة الناس ، من خلال منهج واليات تحويل اقتصادنا الوطني من ريعي عقاري تجاري ادخاري كنزي للاموال وتحويلها صوب الاستثمارات للتحول الى اقتصاد صناعي انتاجي يشغل الشباب في الانتاج وصقل مواهبهم الفنية والادارية ومنها كسبهم لمعارك اليسار اضافة للجمهور الشعبي الواسع الذي سيكسبه لو ساهم تحسين معيشتهم .
ان تبني هاتين المهمتين وانجازها يتطلب اولا وقبل كل شيئ انهاء العداء لمفاهيم حضارة عصر التنوير الاوربي والنماذج الناجحة التي اتى بها، كون نجاحات الواقع اثبت علمية وصحة طروحاتها العقلية التي وضعها اساسا مفكري اليسار الاوربي قبل قرون واثبت الواقع من تجربتها نجاحها ومنه يصح القول بانها اصبحت علمية.
هذا هو التحدي الحقيقي امام يسارنا ،انه ضرورة المراجعة الموضوعية والجرأة على التجدد، فان قبله سيكون يسارا حقيقيا ، يسار المهمات التحضرية والتنموية ويبرهن انه ليس ببغائيا اسيرا لمقولات قيدته وافشلته على مدى قرن تقريبا.

5. تنويه للقارئ
هذه المقالة هي الجزء المكمل لسابقتها التي تناولت ظاهرة تراجع اليسار في العالم، وكونها تختص بمعالجة امر تراجع يسارنا، وهو موضوع ذو الام وشجون سواء لي كما ولكثير من القراء ، فقد استغرق امر كتابتها وقتا طويلا ، واعدت كتابتها عدة مرات كي لايساء فهمها ، رغم انها طبعا ستواجه من سلفية العمائم الماركسية ، كما انا لا انوي اطلاقا تهبيط الهمم ليسارنا المضحي ، ولا النقد لاجل النقد ،فيكفي مايعانيه يسارنا من تحديات ومصاعب، وعلينا مساندته، ولكن هذا لايمنعنا، مثلما توصلت اليه من خلال كتابتي لهذه المقالة ، من الدفع على يسارنا العربي نحو التجدد وتخلصه من قيود المقولات ليتحول الى المهمات الواقعية ، بانفتاح وعزيمة جديدة تعيد ليسارنا دوره وهيبته ومكانته ودوره الرائد ، ومنه وجدت ضرورة التنويه لفهم القصد ، وذلك طبعا لغير السلفية من معتنقي ديانة ونصوص الديانة الماركسية السوفياتية.

د. لبيب سلطان
17/10/2025



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يتراجع اليسار في العالم
- إنتاج : مشروع نهضوي لتشغيل الشباب في مشاريع انتاجية
- مستقبل حرب اوكرانيا ستغير صورة العالم
- بعثيو التشيع في العراق
- مداولة حول حرب اية الله وناتنياهو ونتائجها
- مشترك ألحرب الجنونية على اوكرانيا وغزة
- لماذا يخسر اليسار الوطني العراقي في الانتخابات
- انهيارسياسات ترامب بعد مئة يوم في الرئاسة
- فهم حضارة العالم المعاصر-2
- فهم حضارة العالم المعاصر-1
- أين يلتقي الماركسيون العرب ‏والسلفية الاسلاموية
- هل ستقود بريطانيا انقاذ العالم مجددا من الفاشية
- حلول الريفيرا والمناجم وخيال السريالية الفاشية
- شهادة بولادة محور ترامب - بوتين
- قراءة الغرائز السياسية في ترامب شو
- مطالعة في نشأة الديانات الابراهيمية
- عرس لبنان ودلالاته الكثيرة
- دستور جولاني
- أرفع راسك فوق انت سوري حر*
- صورتين للصين


المزيد.....




- إيران تعلن -انتهاء- القيود المفروضة على برنامجها النووي بعد ...
- هل تصلح تجربة أيرلندا الشمالية نموذجًا لغزة في فترة ما بعد ا ...
- أسامة حمدان: حماس لن تلقي سلاحها قبل انتهاء الاحتلال ونحتاج ...
- غزة: الدفاع المدني يعلن مقتل تسعة فلسطينيين بضربة إسرائيلية ...
- هل تنتقل واشنطن بالملف الأوكراني من مسار الدعم العسكري إلى ا ...
- دعم صحة الأوعية الدموية يمنع تدهور العضلات لدى كبار السن
- خبير عسكري للجزيرة نت: لهذا السبب لن يمنح ترامب أوكرانيا صوا ...
- الجزائر تبدأ تشغيل مصانع مصادرة من النظام السابق
- قائد انقلاب مدغشقر يتعهد بـ-تغيير عميق- بعد تنصيبه رئيسا
- فرنسا متهمة بالتخطيط لمجزرة جنود أفارقة في 1944


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - لماذا تراجع اليسار في المنطقة العربية