أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - -دورك يحدث فرقا- قراءة في كتاب -الدنمارك، نسير سويا، كل بمفرده- ل حكمة حسين















المزيد.....


-دورك يحدث فرقا- قراءة في كتاب -الدنمارك، نسير سويا، كل بمفرده- ل حكمة حسين


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 15:13
المحور: الادب والفن
    


يواجه الناقد احيانا صعوبة في تصنيف كتاب ما يقع بين يديه. يعود ذلك لواجب يعتبره الكاتب انه أمرٌ لابد منه خصوصا إذا ما قرر الكتابة عنه. والكتابة عن كتاب محدد تحددها موجبات تتعلق بأهمية الكتاب ذاته. على أقل تقدير هذا بالنسبة لي، ذلك أن تتوفر في الكتاب المعني عدد من الثوابت المهمة منها الجديد والمُحدث في العمل ذاته بالإضافة إلى الفائدة المرجوة التي سيغدقها الكتاب على قارئه، مع متعة قد تكون هي الأهم في كتب محددة. كثيرا ما واجهت في هذا الأمر صعوبة في التخصيص لضمان التركيز على طبيعة الكتاب، واحيانا تختلط الرؤيا لدى الكاتب ذاته فلا يستطيع تصنيف عمله كونه مذكرات، أم سيرة ذاتيه أم انطباعات أو حتى أدب رحلات. وجميعها لها خصائصها ومستوياتها الكتابية. هذا التعيين يساعد الكاتب نفسه أولا على التركيز على نصه وما يريده لكتابه ولماذا يكتبه أصلاً، فيما سيساعد القارئ والناقد معا على الاتفاق على نوع بنية السرد إضافة للحبكة في تنزيل الأحداث وتناولها، وهي البنية الأساسية لكتاب حكمة بعنونته: (الدنمارك، نسير سويا، كل بمفرده) الذي صدر عن دار ميزر للنشر 2025 . وبطبيعة الحال يختلف الأمر من نوع لآخر فما نراه في الروايات هو غير ما نراه في عناوين أخرى تهتم بالسيرة واليوميات وما الى ذلك من فروع.

حينما وصلتني نسخة الكتاب الالكترونية، قبل صدوره، لصديقي الكاتب "حكمة حسين" الذي كلفني بكتابة مقدمة له، فأشكره على ثقته، جعلت أتصفحه فدار برأسي ما كتبته آنفا عن تصنيف الكتاب، وأكثر من ذلك لكي استوفي شروط المقدمة التي هي مفتاح النص الأصلي التي ستعين القارئ على قراءة ماتعة ومفيدة، بل على ما يشده للنص الذي سيرفده بدوره إلى ما هو مهم وجدير بالقراءة والفائدة. والأهم من ذلك إرضاء فضوله المعرفي بأن الكتاب سيقدم له وجبة أو وجبات دسمة وبمذاق مختلف، إضافة الى مصداقية قولي بحق الكتاب. وهذا بالضبط ما سأتحدث عنه.

أعدت صياغة تساؤلاتي الآنفة عن تصنيف الكتاب على نحو: إنني واحد من جيش المهاجرين والمقيمين بالغرب لعدة عقود. وحينما نظرت إلى المساحة الشاسعة لهذا الأثر الدرامي وجدت أننا بحاجة إلى أسلوبية مكثفة تغطيها، فهي تجربة تستحق التأمل والإصغاء. فيا ترى ما نوع الكتابة التي ستغطيها وتجعلها قادحة بالمعنى وبعيدة عن الاستفزاز والمداهنة، بحيث تكون متوهجة وغير انانية بل مفعمة بالمشاركة لكلا الطرفين: لمعايشها في الخارج، وقارئها في الداخل؟ إضافة إلى معتمد آخر هو المحلي الدنماركي أن يرى بعينين واسعتين إبهارا من نوع آخر يتجلى عن مساهمة نوعية لرائي ومساهم برفقة التحولات الكبيرة التي صادفت أن تكون في فترة الثمانينيات من القرن الفائت ولحد الآن، فيرى بلده بعين اجنبية/ دنماركية هذه المرة، عين منصفة، ذكية ولّماحة لا تخفي وراءها مقاصد، بحيث ترى النبيل والرذيل، الجميل وعكسه، وتشهد لصالح الإنسانية وحقوق المواطن والإنسان إجمالا، ولكنك وأنت تقرأ ستعقد المقارنات بين هذه البلاد ذات الدخل المتواضع وبلادك الغنية.

الديمقراطية
لم يُخفِ حكمة روح الدعابة في الكثير من المواقف، ولا المتناقضات وحتى الميول المعاكسة للأجانب، بل الكثير من اللقطات المفعمة بالحياة والتندر والبعيدة عن التنمر. وتناول الشخصية الدنماركية الناقدة بشفافية وحرص على مستقبل بلدها بغض النظر عن سياق الانتماءات العقائدية والأيدلوجية، فقد وفر لها دستور البلاد حريتها واعتدالها عل اختلافها وخلفياتها بما فيها الإسلامية.
انتمى حكمة في كتابه في جوهره لفكرة أسماها (الديمقراطية) ونحن نعرف أنها سلعة مبتسرة ورائجة ومشجعة للهروب من أي مأزق خصوصا دوليا، غير أنه رصدها من جانبها النوعي الذي طالما شغله وشغلنا فكنا ضحايا ومنبوذين ليس بالنسبة للذين سلموا بجلودهم واختاروا الغربة حسب، وإنما كل من تنازعته الحروب وتقاذفه العوز لعدة عقود، مواطننا الذي لم يذق للحرية طعما. وربما لنا بعض اختلاف مع وجهة نظره باعتباره أنه (تعلمها) هنا في الدنمارك فيما أكد عليها مرارا في كتابه لأهميتها. نعم نتعلم، ولكن قبلها هو السياق المكثف لبلدان الغرب في صياغة المفاهيم ابتداءً بما نطلق عليه (العصور المظلمة) وعصور التنوير والنهضة فقد شكلت بنية تحتية ثقافية منتجة لإنسان مشفوع بقوانين وأنظمة ضامنة لحريته وحقوقه. لكن كان على حكمة أن يتعلمها ليس على رحلة دراسية أنما ممارسة وسليقة وطريقة حياة في أصغر وحدات المجتمع بالفهم والتصرف، القبول والرفض، حتى في اشد المواضع تعقيدا كالدين والسياسة والمؤسسات جميعها. وسؤالي: ترى كيف نتعلم الديمقراطية ونحن وريثي النزاعات والأبواب المغلقة والعنف بصنوفه ومستوياته بدءًا بالعائلة ومرورا بالمدرسة والحياة، في المقهى والجوامع والمؤسسات وإلى ما لذلك من صروح لا يمكنك حتى النظر إليها لقداستها؟
أعتقد في هذا المفصل المهم كان على حكمة أن يبتكر لنفسه ولادة جديدة ويقترحها أيضا على قارئه عكس ما قاله كاعتراض «أن يولد الأنسان وفي فمه ملعقة من ذهب»، فعليه أن يولد وفي دمه يجري نسغ الديمقراطية والحرية، مكفولة بالأنظمة والتشريعات والسلوك المؤسساتي الرصين. يقول بهذا الصدد: " كان من الصعب عليّ اقتلاع جذوري وزرعها في ثقافة أجنبية جديدة، أن انتقل من العيش في نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي » فاحتار هو نفسه حتى عرّفها بعد جهد إنه: دنماركي من أصول عراقية.
إن سعيا من هذا النوع لا تضله الانتماءات السياسية ولا يمتثل للميول الدينية والعقائدية، هو سياق غير خاضع للتأويل أو المناقشة، بل يسير معدلاً نحو التوسع تناسباً مع أي حاجة جديدة أو ظاهرة مهما كان نوعها. ولكن كيف هو الحال بالنسبة للمهاجر؟ وفي كل مرة كان على حكمة أن يجيب برؤيته ومساهمته كفرد في مختلف المناصب التي شغلها والمؤسسات التي دخلها وهي كثيرة حقا من حيث التنوع والأهمية قياسا بعمل مهاجر، طري العود، مثله.

الفكرة
ترك حكمة الوصفيات واعتنى بالإحالات الكثيرة، لحد بعيد، كشواهد كان يكتبها على نحو أخبار ومفارقات تحت مسمى (يوميات دنماركية) كنت انتظر نشر حلقاتها لأهميتها ودعاباتها ومفارقاتها المدهشة. «في أيار 2014، وافقت المحكمة على قرار لجنة المساواة الصادر في شباط 2012 المتعلق بعدم قانونية وجود طابق خاص للنساء في فندق (بيلا سكاي) في كوبنهاكن، باعتباره يتنافى مع قانون المساواة وعدم التمييز المعمول به في الدنمارك»، واحد من الأمثلة المهمة في تصحيح السلوك التجاري الربحي الذي يرتكز بهذا القدر أو ذاك على الفصل الجندري، وربما سيفتح ثغرة في مفهوم الديمقراطية والمساواة، بما في ذلك حق المثلية الجنسية التي كفلها القانون وقد أعربت أمثلته عنها بغاية التلقائية والمعرفة الجينية والميول العاطفية. فيما سيكون لمفهوم الرفاهية حصة في المواقف والنشاطات التي أورد لها حكمة بعض الأمثلة المحببة كعمل المؤسسات في الهواء الطلق ومشاريع أخرى تخص دور الرعاية للمسنين والتجوال على دراجات خاصة لمتعتهم.
في كتابه نجد الكثير من هذه الشواهد الماتعة وقد شكلت بمجملها واحدا من الأسباب المهمة التي دفعت حكمة الى كتابة كتابه الذي آثر فيه الابتعاد عن الوصف السردي الجاف واستبدله بواقع الأحداث ذاتها، وهذا باعتقادي سبب أساسي لنجاح فكرة الكتاب بحيث يجد قارئه نفسه مستمتعا باللقطات والمواقف والتجارب والمفارقات أيضا. وبهذا انضمام طوعي لفكرة الديمقراطية من حيث ممارستها فلا نكاد نلمس تكرارها ككلمة في السياق الكلامي للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني كمفهوم مجرد، كما يحصل في بلداننا، وإنما نتحسس نموها وازدهارها في بنية المشاريع والرؤى المستقبلية للبلاد. ولذلك نجد البرلمان أمينا على تلك المبادئ فكثيرا ما نلحظ تغييرا واختلافا في مواقف أفراد في كتلة واحدة، فمصلحة البلاد أهم من أي شيء آخر. لذلك الزم حكمة نفسه باقتطاف عددا من المواقف البرلمانية التي تؤشر للاختلافات والتوافقات بالنسبة للتشريعات، فيما تم ترك الإجراءات التي تعنى برفاهية المواطن والخدمات، كالبيئة والمناخ والمحميات الطبيعية والطاقة البديلة والصحة والنقل وما الى ذلك، إلى المؤسسات العاملة بتخصيص مبالغ كبيرة لاستيفاء تحقيقها وضمانة تدبيرها وحمايتها بقوانين، بينما سيكون للاستطلاعات أثرا مهما، قبل وبعد، في تقييم التجارب. وهنا استوجبت الملاحظة: إن حكمة كان يكتب كتابه منذ أمد بعيد وليس كنتاج لمتقاعد يستثمر وقته الفائض. فبالإضافة إلى اليوميات الدنماركية كان عليه أن يسجل ما أسدت له تجربته ونشاطه في الدنمارك على ورق محايد بأفكار وملاحظات ستنظم بسلاسة إلى متن كتابه.

التغيير النوعي
وبالرغم من أن حكمة أعرب عن موقفه إجمالا من نظام الحكم في الدنمارك قوله: «لا أرى مبررا أن يولد الإنسان وفي فمه ملعقة من ذهب»، لكنه في كتابه كان محايدا ولم يجبر قارئه على أية فكرة من أفكار الكتاب. بل شغل فصله عن الملكية بذات الطابع الذي أوسم به فصوله الأخرى بحيث يبدو الفحص الاختباري بمثابة مجسات ناقلة للحدث من تاريخ بلاد تحمل ماضيها مثلما عدم إقحام الملكية بقرار بشأن مستقبلها. وفي هذا نوع من المراضاة التي تختلف عن الملكيات غير الدستورية بمعنى الحكم المطلق، أو كونه شكلا من أشكال الأنظمة القديمة وغير النافعة التي مازالت قائمة في عددٍ من البلدان. ففي عرضه لسلسلة من اللقطات والمواقف يتبين للقارئ الدور الشفيف والمسؤول للملكة، بل تمتعها بشخصية متفردة ومقنعة وجديرة بالتصدي لمهامها الاجتماعية والوطنية حتى في تنازلها عن العرش علم 2023 لنجلها الأكبر الأمير (يواكيم) ليتمكن من شغل المنصب المهم وهو بسن خمسيني يعينه على تأدية مهامه بحيوية، فيما تقبلت الأمر برحابة بتراجعها للصف الثاني في التشريفات والمناسبات. ثم يذكرنا حكمة بجوانب شخصية الملكة من حيث الاهتمامات والمواهب كمصممة أزياء ورسامة آثرت، بل استحقت، أن تجد لها مكانة عملية كمشتغل صميمي ومبدع ليظهر فنها في عروض البالية العالمية كـ "كسارة البندق" وملابس "المسرح الصامت" في التيفولي، وفي الكثير أيضا من المعارض والمناسبات العامة.

وعلى طريقته الشيقة بعرض الأحداث في كتابه يقوم حكمة بالتقليل لحد الممكن من صفة الانفعال والجدية المفرطة لكنها واقعية، فيبدو النص لامعا وذا صفة كريستالية يمكّنك من مشاهدة متعلقاته وأبعاده كنسيج يكمل صورة الدنمارك. تبدو تلك الصور بمثابة لوحة أصابت كاتب النص منذ وصوله الدنمارك بالاندهاش كبلد خارج من شريط صور متحركة (كارتون الأطفال) مفعمة بالجمال والحسية والتجانس. وعلى طريقته، كما أسلفنا، لم يبالغ بالوصفي المترهل وإغداق المديح، أنما جعل للنص سلطته ووسع له بالمكان ليشهد له حقيقة اندهاشه المبكر وسلامة رؤيته. سيما أنه، أي حكمة، أشار بنصه مرارا لحجم المشاركة الشعبية في المناسبات الملكية، مما اظهر حب غالبية الدنماركيين لنظام الحكم في بلدهم، برمزيته ودوره.
فهل نسمي ذلك عرفانا بالجميل؟ لا أظن ذلك! لسبب أنه وضع أيضا عددا من الإيضاحات والتناقضات في تناوله للنظام البرلماني في الدنمارك وطريقة اشتغاله، فغالبا ما تصاحب انعقاد جلساته الأولى مظاهر الاحتجاجات المطلبية وكأن المحتجين يذكّرون أعضاء البرلمان بأسباب وجودهم تحت قبته. يقترن ذلك بالسلوك المتحضر للأعضاء فيورد حكمة قولا لـ(سورن يسبرسن) من حزب الشعب الدنماركي (اقصى اليمين): «نعم نحن نكافح ضد بعضنا البعض وأفكارنا متباينة في الكثير من القرارات، ولكن هذا تحت قبة البرلمان فقط، أما خارج ذلك فنحن نتعامل بكل المودة والاحترام ونقضي ساعات طيبة خارج نطاق العمل».

في هذا الملمح لدي ما أقوله لأعزز فكرتي المكملة للديمقراطية من حيث تعلمها، أقولها على سبيل المقارنة مع بلداننا واخص بها العراق، الذي له ايضا (برلمانا) يمتلك ذات الصلاحيات في سن وتعديل القوانين وكل ما يلزمه للعناية بالمواطن والوطن. وإذ نحن أمام نموذجان تختفي في الأول صفة التناحر فيما تنتعش في الثانية وتبلغ أعلى مستوياتها غير عابئة بمصير البلاد. وبذلك تتراجع فكرة المواطنة إلى أبعد من المتوقع حتى إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار يفاعة التجربة وحداثتها. ففي الأول تسير التحولات معدلة إلى أفضل ما يمكن تقديمه للبلاد والمواطن، في وقت تبلغ في ثانيها اقصى ما يمكن وصفه من التحلل والانحطاط ليتراجع النموذج إلى أبعد الحدود، ناهيك عن مخرجات التناحر الذي تدفع البلاد إلى أشد مظاهر العنف والقتل والدمار. فهل يمكننا القول إننا نتعلم الديمقراطية؟ لا أظن ذلك! ذلك لأن المشكل يقع في النسق التاريخي الفلسفي، والاجتماعي بما فيه الاصطلاحي والنمو الفوقي التراكمي للّغة والأفكار. هنا منظومة ترقّبها حكمة تتعلق بالاستدامة الأخلاقية التي يولد الإنسان معها، وفي حال نموها لتشمل المؤسسات أستطيع تشبيهها بطاولة مستديرة تكون جديرة بالخلافات والمشاحنات على سطحها، أما ما تحتها فهو بناء مصمم لخدمة الوطن فلن يتم المساس به كأساس fondement مهما تبدل شكل الحكم لحزب أو مجموعة متكاتفة ككتلة برلمانية متوافقة، بحيث يُبقي النظام العام نفسه على مشروعية وأحقية الأقلية السياسية. ومن المفيد أن نذكر ازدهار حركات الشباب ذات الصبغة الأممية فهي تنتظم بيسر تحت هذا المبنى المهم. ومن حيث واقع التذكير بالمظاهر الاحتجاجية التي بدأت تتسلل الى قاموسها لغة التهديد في حوادث متفرقة جاء بها الكتاب ضمانة لمصداقية وتوثيق أوجزت رئيسة الوزراء ردها: « إن الديمقراطية تعيش على مبدأ الحوار مع بعضنا بعضا وتقديم حججنا والاستماع لبعضنا، وكذلك لمن نختلف معهم، ونأمل أن نصبح أكثر حكمة». بدى ذلك كنهج مكمل لزمن رئاسي سابق لحزب آخر، ربما نقيضا لحزب رئيسة الوزراء، قال رئيس الوزراء حينها، وعلى وجه التحديد عن أزمة الرسوم الكاريكاتيرية لنبي الإسلام، كلمته بذات الشأن مشدداً على حرمة حرية التعبير وموكلا أي إجراء للقضاء وليس للحكومة، حتى انتهت الأزمة بالاعتذار.

تجربة ذاتية
من الملاحظ أيضا أن حكمة برغم تبويبه لكتابه الذي جاء على نحو32 مبحثا وعنوانا نرى فيه سيرة ذاتية حتى خارج تأصيلها كمهمات ومناصب شغلها وتسنمها في حياته ومعايشته للتحولات كوسيط ثقافي ومنظم مشاريع بيئية وتربوية اجتماعية واستطلاعية أيضا والكثير غيرها كمساهمات لها خلفية فنية وتصويرية فيلمية ومسرحية، وتلك التي استهدفت واقع اللاجئين والمغتربين وفكرة الاندماج. ومن المدهش أن نرى مساهمة الشخصيات الدنماركية المهمة من السياسيين والفنانين والكتّاب في المشاريع التي اهتمت بهذا المفصل المهم عن حياة المغتربين ودورهم في المجتمع، فلم يتأخروا، بل اعتبروه مهمة وطنية باهظة القيمة.
وبذات الوقت كانت له عين أخرى رصدت الأحداث ذكرتني من جانب آخر بأدب الرحلات من حيث الالتقاط الحسي لمعايشة الكاتب. وهنا جاء جهده الأعظم والمنظم في التقاط البنية الإجرائية للدنمارك. فقد انطوت تلك اللقطات على ما يدعم بعضها بعضا ويؤهله إلى نسيج منسجم ليس هدفه الإفصاح عن التجربة حسب، بل تعداها ليحمل النص فكرة متكاملة عن سبب كتابته الكتاب. فأستطيع وصف الحالة بأنه وضع نفسه في تعقيد لن يسلم منه أي كاتب ماهر ما لم تكن له عدة إضافية لتبرير ما يكتب. وعليه كان يكتبها برقابة شديدة برغم التلقائية التي كتب بها اللقطات الحياتية المُزهرة في واقع السياسة والفنون والاجتماع ومضامين أخرى ذات نزعات اشتملت على المفارقة وردود الفعل. جعل حكمة بينها رابط خفي لكنه ظاهر كخيط رفيع يحيك سجادة موشاة بالألوان والنقوش بازدياد مبهر قياسا مع الزمن. وهنا يستطيع القارئ من تكوين فكرة كصورة متكاملة للنمو المزدهر للبلاد التي كانت وليدة لرحابة الفكر والالتزام الأخلاقي والدستوري لذوي القرار، والانفتاح الذي رافقها على العالم أولا وعلى النسيج الجديد للدنمارك ثانيا. هنا لا شروط على المعتقد ولا على دور العبادة وحرية الفكر. عشرات من اللقطات جاءت على نحو من الدهشة عن طبيعة التعامل مع الأحداث والمستجدات، بل القرارات الحاسمة، وإذا ما قورنت بمقتضاها الإجرائي ببلدنا الأم على سبيل الافتراض، فأنها ستتقدم عليه بمسافة ضوئية متسارعة مع الإشراق والتنور لرؤيا العصر ومنتجه الحداثي، فيما يكون لمقابلها، إن لم يكن تراجعا، فهو بالكاد يبقي على نفسٍ متواضعٍ لشحة ما نسميه مجرد حياة.

سلاسة المعنى
لم يعنَ نصه بالتحليل، بل جعل الحكايات تروي حقيقة الدنمارك وتطورها من دون ثني للعبارات أو الإشادة المجانية لأي منجز، ولو فعلها لاجتث مقارنات ومقاربات تملأ مئات الصفحات، لكنه اختار أن يتسق الإخبار على نحو سيجد القارئ نفسه فيه هو الذي سيسعى لعقدها، وستفعل فعلها كأسئلة قادحة في ذهنه، وسيكون لها بالغ الأثر في تغيير زاوية نظره ليرى الحقائق الصادمة من جانبي ازدهارها في الدنمارك وبؤسها في بلده الأم. كأن يرى في التقرير الدولي عن الفساد بأن الدنمارك تتصدر قائمة الدول الأقل فساد عالميا، فيما يذكر التقرير ذاته إن تسلسل العراق في القائمة هو 162 بـ 20 نقطة فقط، ثم حصول الدنمارك المركز الأول عالميا في مستوى العدالة. ناهيك عن تساؤلات ومقارنات ومفارقات وضع بعضها الكاتب على لسان والدته التي زارت الدنمارك فكانت تميل للمقارنة والتعجب والاندهاش من البساطة والعفوية في المؤسسات التي زارتها اضطرارا أو في مشاهداتها المجتمعية والبيئية وحال المسنين مع تقادمهم بالعمر.
غير أن الكثير في كتاب حكمة جاء ليعبّر عن نفسه بنفسه ومن غير تحليل أو تجميل؛ منه ما تعلق بنهج الاعتذار الحكومي والملكي، حتى بأثر رجعي، عن وقائع غير منصفة وتطلّب مراجعة التجارب والقرارات، وهذا بمجمله ما أعطى الكتاب روحا تنبض بالمشاركة وقوة المثال الذي دائما ما يرافق التعبير في الدنمارك، بينما نجده في واقع مجتمعاتنا لا صلة بين الاثنين، وهو بحد ذاته واحد من أهداف وضع الكتاب كأن يرافق أي قرار تنفيذ ومواظبة علاوة على متابعته شعبيا كمؤسسات مجتمع مدني وصحافة وغيرها.

بانوراما
لا أخفى صعوبة مهمتي في فحص كتاب الكاتب الصديق حكمة ذلك لاحتوائه على كمية كبيرة من المضامين التي ترافقت مع تجربته في الدنمارك، والكثير منها كان له دورا مهما فيها وجميعها مهمة ومتشعبة، فلا تكاد صورة منها تفلت منه فيما ركز في الكثير منها على ما يلامس حياة اللاجئ وسياسة الدولة اتجاه المهاجرين وتجارب الدمج الاجتماعي، في وقت لم يخفِ فيه تنامي التيارات والأحزاب العنصرية المضادة مع تنامي قوى الشباب والحركات اليسارية المناهضة لها. من جانب آخر رصد نجاحات الجيل الثاني من العراقيين وافرد لها عددا من الصفحات مزدانة بالأسماء والتجارب المهمة فشعرت شخصيا بنشوة المنتصر وانا اقرأها. وبذلك رسم حكمة لوحة متكاملة عن البلاد وعن المهاجرين وأجيالهم أيضا بحلو التجارب ومرها. ويبقى أن اشكره على كتابه الممتع أولا، ثم على ثقته باناطة مهمة كتابة مقدمته لي شخصيا لأنقل فحوى الكتاب قدر المستطاع إلى القارئ العربي المقيم هنا في الدنمارك، المعايش للتجربة والبعيد عنها أيضا لسبب واحد اسميه: "دورك يحدث فرقا" وهو عنوان مقدمتي. وككلمة أخيرة أقول لقارئ الكتاب لا ضير من قراءته على وجبات، بل ربما ذلك أفضل أن تستمتع وتستسيغ طعمها، بل يمكن تسميته بمرشد حي لمن يريد معرفة الدنمارك وخصائص نموها كبلاد بما فيها حياة المهاجرين واللاجئين.

ولكي لا أطيل بمقدمتي وأفشي أكثر من أسرار الكتاب ومتعه على أن أشيد بطريقة فهم الكاتب للمعرفة التي أوضحها المعلم المعروف Dennis Littky كتابه The Big Picture قوله «التعلم الحقيقي ليس حفظ المعرفة، بل فهمها ومعرفة كيفية استخدامها والحصول عليها». وهذا ما اعتمده حكمة في سيرته ووضعه كعبارة مشابهة عن اللغة قوله: «التعلم الحقيقي لأية لغة يكون في الممارسة اليومية والمستمرة مع الناس».
ذهبت هذه العبارة معدلة لتشمل كتابه الممتع والذي كتبه بروح من الاعتزاز والجداء عن وجوده وتجربته في الدنمارك حيثما أصبح لوجوده الإنساني معنىً حقيقيا كفرد، ومساهما نوعيا في المجالات التي طرقها؛ وأينما وُلد أبناؤه واضحت علاقاته أممية بمعنى الكلمة من حيث الاختلاط وتبادل المعرفة والخبرات. حياة كاملة قضى فيها ثمانية وعشرين عاما في سوق العمل حتى تقاعده في العام 2025. سيرة منتجة كانت له فيها عين مدققة بالتفاصيل، غير سياحية يبهرها ما يظهر عن السطح، بل تلك الشاهدة على التحولات التي سيجدها القارئ مبثوثة في المقتطفات التي أراد لها أن تكون شاهده كتسجيل يكشف عن نفسه بنفسه.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مغنية الحيرة... حيرة الزمان والمكان في تطابق بين الاسم والتأ ...
- زمن آخر للمكافأة -مجرد وقت وسيمضي- لشاكر الناصري
- سمير الأذى وطير السعد - حياة بين ضفتين
- ما الذي يلح على الكاتب أن يكتب؟ - العيش على الصراط- رواية لل ...
- -أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان
- - اليوم بالذات لسنا بحاجة لنيرانك- / الأثيري والأرضي في مجمو ...
- العتابي وتحولات المكان -هل الفُل عراقي-؟ نعم (الحزن) عراقي و ...
- خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-
- عتاق يوم آخر
- - الهند أم العجائب- في عيد الحب
- كيف اكتب بعد غياب!
- بصرة - اورشليم
- -من ذاكرة الصور- صبا مطر بين حربين
- اشتقاقات الغياب - قراءة شعرية في نصوص محدثة
- كوپه-ديناري
- حبيبا الساحةِ
- -قافل-
- -شو بدي بالبلاد الله يخلي لأولاد-
- لنْ نخذلكَ في الخامسِ والعشرين
- سنغنيكَ لأنك غيرتَ العالمَ! حبيبي...


المزيد.....




- -إحدى أعظم ألغاز الأدب-.. دراسة تستكشف سر وفاة جين أوستن عام ...
- مدير الإدارة الفنية لمجلس وزراء الإعلام العرب: ضرورة الحفاظ ...
- متحف -غريفان- بباريس.. 250 تمثالا شمعيا لإضاءة صفحات التاريخ ...
- الممثل الأمريكي ديك فان دايك يكمل عامه الـ100 ويأمل في حياة ...
- 2025 بين الخوف والإثارة.. أبرز أفلام الرعب لهذا العام
- -سيتضح كل شيء في الوقت المناسب-.. هل تيموثي شالاميه هو مغني ...
- أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى
- الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ5 من مهرجان -البحر الأحمر ا ...
- مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم أنتوني هوبكنز وإدريس إل ...
- الفيلم الكوري -مجنونة جدا-.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق ا ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - -دورك يحدث فرقا- قراءة في كتاب -الدنمارك، نسير سويا، كل بمفرده- ل حكمة حسين