أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-















المزيد.....


خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 6870 - 2021 / 4 / 15 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


- إلى أين يا خليل؟
- إلى بغداد يا أمي..
- ولماذا بغداد يا خليل؟!
وقتها، في ذلك العام كانت...، لا لا لا لا شيء، آسف! ذلك تفصيل يخص زمن لا تعرفه الأجيال، فأنا اكتب عن بقايا قرن مضى! وان قلت فسأكرر ما قالته آلاف المقالات، ولكن لا ضير سأجعلها مخففة في سياق الأخبار. فاسمحوا لي أن أتجاوز تلك المشاهد الطاغية في وحشيتها للحد الذي جعل خليل يسأل:
- ما هذا؟
التمس خليل ضمير الغيب نحو مغيب الشمس، وهو لم يؤمن به في يوم ما، بعد أن استقل الحافلة ذات الثمانية عشر راكباً في ذلك الربيع الُمرطب في الأول من نيسان، فسرعان ما تذكر كذبته، كذبة الشهر الأثير على قلبه، فحبيبته أشارت له بمنديلها في أول أيامه من العام الفائت. ربما كانت مغرمة بصوت عبد الحليم وأشعار محمد حمزة والحان بليغ فأرادت أن تعيش القصة، ثم أن خليل شاعر مغرم بالشطح، فلم لا!.
كانت أغنية (موعود) رائجة في تلك الأيام.. «ميّل وحدف منديلو كاتب على طرفه أجيلو... وأمانه يا دنيا امانه تاخذينه للفرح أمانه..». غناها له صديقه الحاج كامل ذات مرة، سنأتي على ذكره بعد قليل. دمعت عيناه آنذاك فعلى ما يبدو أن المطربين لن يتركوه بسلام، فها هي فيروز تخز شغاف قلبه هي الأخرى «موعود بعيونك أنا موعود...».
سكت كامل وقال: "اشبيك استاد خليل؟" لم يجب خليل لكنه دس رأسه في جريدة (طريق الشعب) التي تصفحها في ذلك اليوم ولم يجد فيها ما يطفئ لهيب قلبه الذي اضطربت دقاته كما فعلت به في ذلك اليوم، اليوم الأول. فهل ستحل المعجزة ويفرح في يوم من الأيام؟! وهذا سؤال آخر للغيب. حتى عشق المنديل المطرز ودرّب ذهنه بعد عناء لاستحضار صورته في كل وقت، لا بل اصبح رفيقه الأليف تداعبه ريح الربيع.
لم يتبق لخليل من سروره إلا لُمماً * تكاد تقتات عليها روحه اللائبة، حتى لم يعد ربع العرق كافياً لتصبيرها. في واقع الحال لم يعد هناك ما يحتاج إلى صبر، فقد ذهب المنديل وصاحبته واختفى في عتمةٍ لم يعد بمقدور عينيه رؤيته، بل أوعز وجوده أصلا إلى ضرب من ضروب الخيال في قصيدة سيكتبها ويطلقها في الأثير ولا يعرف لمن!. سيكتبها حتماً لعاشق آخر، في زمن آخر.
- لدي موعد يا أمي.. رعش قلبه لكلمة (موعد)! لفحته ريح ربيعية فتذكر على الفور المنديل وصاحبته.
لكنها هزت برأسها، ابتسمت وأمالت جيدها لتخفي ابتسامتها، فخليل كان بأجمل صورته، أنيق الملبس وجميلًا بما يكفي ليكون عريساً في ذلك اليوم. دعت له بسرها غير أنها لم تقو على ستر كلمات الدعاء، فابتسم هو الآخر واحتضنها ليشم رائحة المسك من فوطتها بدبوسها الذهبي القديم الذي ورثته عن والدتها عندما داهمها الحيض بوقت مبكر قبل سنين كثيرة. كثيرة جدا.
- لماذا كل هذا يا خليل؟ ردد تساؤله بأداة أخرى.
عشرات، مئات، آلاف من رفاقه يعتقلون، يعذبون، يهجرون مقاعد دراستهم، أعمالهم، بيوتهم، بعض منهم يحالفه الحظ فيغادر البلاد.
- إلى أين؟ أداة أخرى تقفز إلى صدره! يلمّون آخر مقتنياتهم من أفكار وآمال متكسرة، يحذوهم الأمل بالعودة تحت وابل أدعية أمهات تُثكل وأخريات تُفطر قلوبهن لفراق أبدي.
بنات، أخوة لهن يختفون فجأة، آباء وأمهات يُنكبون ببناتهم، فلا حتى من خيط يوصل ذويهن إليهن.
«نعم»؛ قارعة طريق أحياناً تفترشها جثثهن. أما الغالبية منهن بلا أثر، فشرف النظام يأبى إلا أن يكون أبا (للماجدات)... آخرون يعدمون!. ها أنا ذا اخلف ما وعد به، عذراً.
في تلك اللحظة، لحظة تنشق عن زمنها فتبقيه موارباً من بين جفونه الرطبة همّ بسؤال يسأله لصديقه الغائب (ملك الطاولي) كما يحلو له أن يلقب نفسه في المقهى، يشمّر ساعديه ويحمر وجهه وكأنه في قتال حقيقي، «ما احلى وجنتيك السمينتين يا كامل» قال خليل وأكمل:
- هل أنت شيوعي يا حاج كامل؟ واردف «أنت عسكري ماذا فعلت بنفسك» قالها لنفسه في الحافلة؟.
- لا والله استاد خليل، تسرحت من الخدمة، وخرجت من المعسكر بكيس صغير حتى لا اعلم ما فيه، صدقني!، ثم انني نصف أمّي. تابعت طريقي مشياً حتى لم أوقف سيارة تقلني إلى أول مدينة. كان الهواء منعشاً فمشيت، مشيت كثيراً حتى وقعت بهواكم استاد خليل... يضحك!... أخي مصطفى كان يغني وهو اقل موهبةً مني في الغناء فدخلت السرب أغنى، هذا كل ما في الأمر. شيء آخر: عشرة أعوام لم أر إلا الوجوه الملح فاكتحلت عيناي بصبايا وفرسان وجمال يسير بيسرٍ نحو أفق مفتوح، أو قل هكذا كنا نراه.
- اعرف ذلك، سألتك لأنك شقي يا كامل! بالمناسبة لماذا يصفوك بالحجي وأنت لم تر البيت الحرام ولست متديناً؟
- الأمر وما فيه كنا ثلاثة كوامل.. يضحك! اثنان تشابه اسميهما الأول واللقب، تصور عوقبت بالسجن لخمسة أيام لفعل ارتكبه صاحبي فأطلق علي الآمر اسم الحجي للتفريق فتلبسني الاسم رغما عني. ابتسم خليل بمرارة فصديقه كامل غادره بضربة نرد غفل عنها نجمه الحافظ، حافظه لحد الموت.
كانا قبل حين في إحدى سفرات اتحاد الشبيبة الذي أصبح كامل عضوا فيه بعد أن تسرح من الخدمة ولم يكن في يوم من الأيام شيوعياً، قرأ خليل بعضاً من أشعاره وغنى كامل، هذا ما تذكره خليل في الحافلة إلى بغداد. لـ كامل صوت جميل كصوت أخيه الشيوعي مصطفى الذي يلحن القصائد والأشعار ويصدح بصوته العذب (غد الأممية يوحد البشر) في السفرات وجلسات الأصدقاء. نافسه كامل وقلد أغانيه بعدما كان يغني لـ عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.
اغلق كامل عينيه وهو يغني متأثراً بلحن «أمانة يا دنيا أمانة...تاخذينا للفرح أمانة» ولم يفتحها إلا تحت عيون الجلاد، فلكامل تنظيم سري وقتما كان عسكرياً، هذه تهمته، وبصحبته عدد آخر لا يعرف أحدا منهم، لكنهم قالوا جميعاً: «نعرف بعضنا بعضاً» تحت التعذيب، وبكل الأحوال كانوا محظوظين، بل محظوظين جداً بلباس عسكري خرمه رصاص الجلادين، ولم تحشى اجسادهم في أكياس قمامة كباقي السجناء المعدومين المدنيين تترك أشلاءهم عند أبواب منازلهم أو بعيدا عنها تنهشها وحوش البراري ويغيبون.
- الجبهة أمان لا داعي للتَطيّر يا رفيق.
- عن أي تَطيّر تتحدث يا رفيق؟!
- أنت منشق، أنت على علاقة فردية رفيق من الآن. قالها المسؤول الحزبي بنفاد صبر وعصبية لا تليق بمسؤول.
- أو حتى من دونها (رفيييق). مطّ خليل كلمته الأخيرة وغادر الاجتماع.
كان خليل يفيض برغبته للثأر! «أي ثأر»؟. نعم بقصيدة! قالها بصوت غير هامسٍ، وأكمل:
«أواجههم». ضحك فهو لا يملك إلا جسما ذاو وكلمات أكثرها عن عشقٍ واختلاقٍ وجنون! ضحك مرة أخرى «أي عشق وأي جنون يا خليل». اغلق باب شطحه الموارب من بين جفنيه وقال «سأثأر على كل حال»!
لمن ستثأر يا خليل بقصيدتك؟
لرفاق لم يسعهم الوقت ليقبّلوا وجوه أحبّتِهم، وحبيبات أدركهن الوقت فلا من قبلة أو حتى همس وداع.. لأشواق تتناثر أحرفها في برد الزنزانات.. أم أجساد نضرة اغتصبت يقطّعها طقس سادي في ليل موحش، أو ممن أودعها مفرمة القصر.. لشباب اشتاقت رَحَلات دراستهم لدفاترهم، أم من قُلعت أظافرهم، وفُقئت أعينهم، أم أجساد ذابت في أحواض التيزاب.. أم اللائي هُجرّن ونُكبن بأبناء أودعوا حقل تجارب أسلحة جرثومية، أم أجساد تلوذ بألم نهش كلاب الابن الأكبر تحت عيون الجلاد، يتلذذ لآخر آهٍ يسمعها.. لقرى تسوّى بالأرض بمن فيها، أم أخرى يختصرها سلاح كيماوي كقرية أشباح.. أم آلاف يهجّرون إلى بلد يجهلوه قيل لهم انه بلدهم الأم.
لمن سيثأر خليل وهل ستكفيه حياته، أو أن الوقت سيسعفه، ومن أين سيبدأ؟
«لبعقوبة الآن برتقالة هكذا شاء نهر المدينة». فبالأمس فقط كان كامل يجالسه، أو حتى عن بعد في وحشة زنزانته، يحتسي معه آخر ما تبقى من طلقة رحمة من عَرقٍ أسمر، ويشاركه تعب روحه وشكواه، «في الطريق إلى الحب أوقفني الجلنار فأعطيتهم قطعة من جبيني ونمت على طلقة في الظنون..».
نام خليل (على طلقة في الظنون) فكان جل ثأره! اختفى خليل؛ لا أحد يدري إن كان في طريقه إلى بغداد أو عائدا منها أو مختفيا مع رفيق قديم. أم انه كان لا يزال متكئاً على سياج قنطرة النهر الأليف، يلوي ظهره ويشد يديه على خصرين نحيلين، فآلام كليتيه تؤذيه منذ أول (زيارة) له لجلاديه، وخيال حبيبته ومنديلها ما زال يلهيه عن آلام كبده المنخور بالعرق المغشوش، وما زالت أنفاسه تتقاطر كسرب حمام تحمله الريح ويدور على بيت أمه في حي شعبي يسكنه معها، ومعهما له أختين وأخ أصغر يهوى هو الآخر كتابة الشعر كأخيه الأكبر، لكن أخاه كان يحلم أيضاً أن يتخرج كباقي أقرانه من إحدى الكليات. خليل المغرم بشجرة ليمون ونخلة بين نهري المدينة، يقتّر بمصروفه الشخصي، ويدخن سكائر رديئة تنخب رئتيه، لأن أهله يحتاجون المصروف اليومي وإيجار البيت المتداعِ. يستيقظ فجراً ويحشر نفسه ببنطالٍ أبيض ويستقل (الفورد) بدرهم واحد، ليُعلّم جيلاً في قرية نائية لغةً أجنبية*.. يصل مدينته عصرا بصحبة دفتر أشعاره، يتلو قسماً منها على أصحابه في المقهى أو في النادي مساءً. كان يتمتم أحياناً بأغانٍ لزمن آخر أو يقرأ كتابا عن أسرار الكون أو أنواع الورود، حتى أنه لا يحضر اجتماعات حزبه فهو منشق، كما قلنا، فاصبح النعت نقشا فيروزياً على جبهته كطير منبوذ يغني خارج سربه، فبأي شيء أخاف الجلادين، وبأية جريرة أطفأوا شمعاته الـ 37؟.
خليل يشتاق لصحبة رفاقه، ففي الأيام التي يعود فيها باكراً من مدرسته في القرية وأيام الجُمع والأعياد، كان يلهو معهم بلعبة (الدومينو أو الطاولي) التي يفضلها على الأخريات من الألعاب. حقيقة أنه ماهر في النرد وخصوصاً المحبوسة و31، وله في الشطرنج مهارات لكنه لا يتقنها مثل أصحابه، فمنهم من كان يزاولها كمحترفٍ ماهر. لكن ما كان يجمع كل الألعاب، أن ينشق الأصحاب إلى فريقين والدنيا تقوم ولا تقعد لحركة حصان أو موت (الدوشيش)، أو ما زال الـ (يَكْ) عصياً فتعلو الأصوات، او: أن الأبواب الستة للنرد ستغلق بـ(جهار) الزهر!.
- تلزم زار حجي هاااا..
- لا بالقرعان استاد خليل.
أما الكش مات، فكان يطلق شهوتهم بصراخ مفاجئ كأن هناك ملكاً حقيقياً مات. صبية/راشدون يجدون بتجمعهم، أحاديثهم وألعابهم ما يعوضهم عن طفولة لم تحضرهم، أو غايات أخرى يحتبس ألقها في حناجرهم، كما لو أنهم يعوضون أفراحا تغيب برمشة عين. خليل، لا تقوى حنجرته على النطق بطبقة أعلى، يعبّر بحشرجة صوته على التشجيع أو تأليب فريق ضد فريق أو لاعب ضد صديق آخر، فاللعبة لا تستكمل متعتها إلا بتشويق يلهب أعصابهم. تنتهي اللعبة، لكن الأصوات التي تحمل التعليقات وتعاود احتمالات لا آخر لها لا يقطعها إلا رأي أو إشارة لأسم كتاب من أحدهم، فيطبقون بصمتهم وكأن المعلم قد دخل الصف للتو.
خليل يشتاق لعامل المقهى الذي يرتاده، فكثيراً ما يمازحه لسمنته، ويوصيه أن يغسل له قدح الماء عدة مرات.
- والله غسلته استاد
- مرة لخ الله يخليك
فاجأه فلاح في إحدى المرات بقدح مكتوب عليه بصبغ البويه (استاد خليل)، ضحك هو ومن كان بصحبته ولم يسأله بعدها أن يغسل له قدح الماء. ويشتاق أيضاً لركنه في المقهى ومعه جريدته أو كتابه، وهو يرفع عينيه من وقت لآخر على صوت ضجيج، أو صوت المذياع يعلو فجأة، أو رد تحية لصديق. فاجأه آخر:
- ستاد خليل تعرف شصار؟
همس له عن قرب، لم يجبه أو يسأله خليل، فلسانه تعلّق بلهاته وعيناه كانتا في محجرين ثابتتين تترقبان
- مات الحاج كامل
ترك خليل (طريق الشعب) تنسل من بين أصابعه وغاب مع آخر صورة لـ كامل. فتح خليل صندوق النرد أمامه، دسّ رأسه فيه وبكاه بكاءً مراً. كامل كان الوحيد الذي يغلبه فيها وتذكر آخر مرة يخسر كامل أمامه فقال: «حجي مو كتلك تعلم لعب وتعال». تعلم كامل كيف يموت لكنه لم يأت للعب مع خليل بعد الآن.
لا يختلف مقهاه كثيراً عن غيره في أماكن أو مدن أخرى، تغفو وتصحو وتضج بروادها وتأنس بالحكايات على رنين (استكانات) الشاي. تشاغل روادها شمس تميل، تظلل مقاعدها سواتر من خوص أو قطعة جادر عتيق ومازالت بانتظار رواد أول المساء، أو حصان يجر عربة لنقل الثلج يقطع شارعاً أمامها، أو سائل ينتصف الشارع يسأل عن شيء ما فيجفل على صوت منبه سيارة أجرة يستقلها سبعة أشخاص، يبتسم لهم باسل شرطي المرور ويتركهم بسلام شاهراً سبابته متوعداً سائقها ببضعة كلمات الا يكررها في المرة القادمة. أما رواد المقهى من الشبان فكانوا يختارون أماكن أكثر قرباً من الشارع ليطلوا من خلف نظاراتهم الملونة على سيقان الفتيات القادمات والغاديات، أو من كان على موعد مع حبيبته فتكفيه نصف نظرة ليستأذن رفاقه بضع دقائق ليقول لحبيبته كلمتي حب في أول زقاق هادئ.

في تلك الأيام التي كانت ساعاتها بارودا تغشي رائحته كل مظهر أنيق للحياة، وتلتف على خاصرتها أرجل أخطبوط أبله، باتت عيون رفاق خليل تتحسس مصادر الخطر من حولها. قلوب دافئة سُلبت منها يومياتها وتفاصيلها البسيطة أن تكون أيامهم أفضل، هذا كل ما في الأمر. ولكن كل شيء استحال بعيون السلطة ومخبريها جريمة، الغناء في البساتين، ورائحة الزهور في المنتزهات الأنيقة، وأحاديث العشاق، الكتب والأشعار، حتى الخطوات التي كان المخبرون يحصونها لهم، أصبحت مربكة وأكثر ثقلاً، وبمرور الوقت لا هدى يهديها إلى أي مكان، تدور كرحىً تطحن كلماتهم وأسئلتهم. أما الكتاب الذي أحضره خالد العائد لتوه من مغتربه في الخارج، (ضرورة الفن) لكاتبه أرنست فيشر، بنسخة يعود زمن طباعتها للعهد الملكي في مصر (طبعة بولاق) لم يعد يتقاتل الرفاق لتداولها، بل صادرها الأمن وكان خالد ضحيتها.
- أنت تعقد اجتماعات في المقهى وتقرأ في كتاب.
- نعم سيد.. وابتلع خالد حرف الـ (ي) عمداً، أنا أقرأ في كتاب، بماذا تريدني أن أقرأ؟ أجابه وكأنه هو أمام محقق من البلد الذي قدم منه.
- ابن القحبة تسخر مني.
- إنه كتاب عن الفن سيد(ي) ابتلعه مجددا، عن عقلية الإنسان باكتشاف نفسه عبر التأريخ..
- ابن الكلب وتشرحه لي أيضا.. وهذه الرسالة؟
دفع محققه الرسالة أمامه – وأمره:
- اقرأ!
يقرأ خالد
............
- اقرأ بصوت عال
كانت الرسالة على النحو التالي:
«حبيبتي مايا.. لا أخفيك بأن أمر الڤيزا مستحيل لأسباب أمنية، فهنا قوانين تحضر الاتصال بالأجانب دون موافقة الدولة، أما الزواج من امرأة أجنبية فهو ممنوع أصلاً. فلم يبق أمامي إلا العودة لكنني تفاجأت بأنني ممنوع من السفر....».
توقف خالد فهو يدرك الآن خطورة موقفه.
- اكمل ولا تتوقف.
«.. بلادي ليست تلك البلاد التي تركتها منذ أعوام لا شيء يبعث على السلام. سأحاول السفر عن طريق البر، أرجو ان تفهمي ذلك، وسأصل إليكم عن طريق إحدى السفارات..»
- كفى كلب، خائن حقير...لا... أكمل. يأمره ضابط التحقيق مرة أخرى.
«...يؤسفني أن أقول لك إنني لا أحس هنا بأي أمان برغم وجودي بين أهلي وأصدقائي، فاذا ما عدت فسأعود بحبي لكم وإن لم أعد، فأعتني برولا واعتني بنفسك. أحبك. خالد».
كانت رسالة منه إلى حبيبته مايا في ألمانيا، يبدو أن خالدا كتبها وأرسلها دون أن ينتبه لخطورتها، فلم يخطر بباله أن كل شيء هنا تحت المراقبة، إلى الحد الذي ترجمت فيه الرسالة بهذه الدقة عن الألمانية. لحظات، دفع المحقق بنسخة مصورة من رسالة أخرى من مايا، تعاتبه فيها، أرسلتها على عنوان المقهى، ليس لسبب مقصود وإنما عنوان بيته كان يتطلب شرحاً مطولاً بالعربية التي تجهلها، فهو يسكن في بيت قديم، يتكئ بشناشيله على بيت يقابله في محلة السراي بزقاق قديم يتصدره مقهى قرب البريد القديم. أما عنوان المقهى فلا يتعدى اسم المقهى والمدينة واسمه شخصيا. احتجزت أجهزة الأمن الرسالة لفترة قبل أن تدفع بها على نفس العنوان في وقت لاحق. كانت الرسالة لا تتعدى بضعة سطور لأشواق حبيبة وعلى النحو التالي:
"حبيبي خالد.. الخريف بدأ مبكراً هنا في المدينة وأشجار الروم التي تحبها في حديقة البيت شحبت أوراقها وتساقطت، أراقب نحولها كل يوم، فهي تذكرني بك. أجلس بمكانك المفضل وأدخن نفس سكائرك وأكتب بأوراق من تلك التي ترغب بالكتابة عليها دون خطوط. رولا، ابنتنا، هي الأخرى تشتاق إليك وتريد سماع صوتك وتسأل عن عودتك. لماذا لم تكتب منذ زمن؟ لم يصلني أي إشعار من سفارتكم عن طلب الڤيزا التي وعدت بها. أتمنى أن أكون حاضرة بذاكرتك. حاول أن تتصل سريعاً. سأنتظر بعض الوقت قبل أن أُبلغ السلطات هنا لتسهيل اتصالي بك. أُحبك. قبلاتي وقبلات رولا. حبيبتك مايا".
استشعرت مايا بقلب الحبيبة خطراً أو مكروهاً، لكنها طمأنت نفسها «ربما الأمر هو هكذا في بلدان الشرق»، احتضنت رولا طويلاً وشخصت بناظرها صوب شجرة الروم وبكت.
كانت مايا على حق، فحياة الشرق تظهر وتختفي فصولها برمشة عين، ولا تطيل النظر لتحولاتها، تسهو وتنسى مواعيدها مع الفصول. تُفرغ حمولتها من تعبها بدموع وانكسارات بلا عودة لأسبابها، وبانتظار موحش لشيء ما يظهر فجأة. أسرارها، مفاتيح تضيع عن قصد، وبلهفة تصنع أقفالاً أخرى لبذار متوقع أكثر سوءا.
في وقت لاحق أصيبت مايا بمرض صعب، بعد أن عرفت بمصير خالد عن طريق بعض الأصدقاء. ماتت مع وصية أن تدفن معها صورته وآخر رسالة منه وصلتها في وقت متأخر جداً بعد مماته، ولا تعرف سبباً لذلك، غير أن أحدهم فسّر تأخرها، بأنها قعدت تحت الرقابة طيلة تلك الفترة.
مات خالد بعد أسبوعين من إطلاقه فقد كان ينزف دماً من رئتيه وتورمت رجلاه. تشجعَ من قرأ كتابه آنذاك فأقاموا له مجلساً للعزاء في المقهى التي كان يرتاده. أغلق المقهى بعد ساعة واعتقل الباقون. كتبت جريدة الحزب في اليوم التالي مقالأ لأحد قياديه عن (تجربة الجبهة الوطنية وآفاق تطورها في العراق!).

مع كل نَفس رئة يخبو وصوت يختفي وصورة لرفيق لا يأتي، كان رفاق خليل يُسائلون الخطوب عينها، عن براعم يئدها بردٌ وقت ربيعها، أسئلة لا تجيرها أجوبة. أعتقل خالد مات خالد، أعتقل الحاج كامل، مات كامل، هُجّر الفيليون، مات الفيليون، أُبيدت القرى، هلكت قرى الأكراد، غادر الرفاق، مات الرفاق، اختفى خليل، مات خليل! فلا أحد يعرف على وجه الدقة أين خليل، فربما كان لدعاء أمه وهي تودعه آخر مرة تحقق أن يلتقي بصاحبة المنديل ويغادر، لكنها لم يخطر لها ببال بأن بلاد خليل وخالد تحيا الأول من نيسان في كل الأيام وعلى مدار الأزمان.. ومازال كامل يغني «... وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..».
------------------------------
*النص: شاعري بين الواقع والخيال، فاقتضى التنويه.
*خليل هو الشاعر خليل المعاضيدي، خريج ادب انكليزي، يرجح مقتله في 17 نيسان 1984، وخالد هو القاص خالد الخشالي درس في المانيا الديمقراطية آنذاك.
* اللمم: استخدمت هذا اللفظ على نحو ما جاء في تفسير ابن كثير مُزادا من قبلي على نحو تخيلي وهو القُبْلة، والغمزة، والنظرة والإشارة، والمباشرة، ولطائف أخرى، فوجدتها مفردة جامعة فاستخدمتها.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عتاق يوم آخر
- - الهند أم العجائب- في عيد الحب
- كيف اكتب بعد غياب!
- بصرة - اورشليم
- -من ذاكرة الصور- صبا مطر بين حربين
- اشتقاقات الغياب - قراءة شعرية في نصوص محدثة
- كوپه-ديناري
- حبيبا الساحةِ
- -قافل-
- -شو بدي بالبلاد الله يخلي لأولاد-
- لنْ نخذلكَ في الخامسِ والعشرين
- سنغنيكَ لأنك غيرتَ العالمَ! حبيبي...
- وشمٌ على خصرِكَ أيلول - الى وليد وإبراهيم وكلِّهم
- هوية / سبع دقائق قبل الموت
- بطنها المأوى / دنى غالي: التركيب الخاص والسلوك الظاهر
- عادل مراد/ موقف انساني باسل «شيء يشبه الحكايات»
- عبد الحليم المدني، سيرة في سيرة السيد عبد الكريم المدني
- تحولات أسئلة النص في رواية -عشاق وفونوغراف وأزمنة- للكاتبة ل ...
- القلادة: حداثة النص بين الإسقاط والتناص والتأويل
- جنان جاسم حلاوي وغابة النخيل الإنسانية


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-