أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - زمن آخر للمكافأة -مجرد وقت وسيمضي- لشاكر الناصري















المزيد.....


زمن آخر للمكافأة -مجرد وقت وسيمضي- لشاكر الناصري


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 14:53
المحور: الادب والفن
    


بقدر ما أفرحني اتصاله ليتأكد من وجودي في مكان عملي، أربكني حضوره وهو يدخل باسما يحمل كتابا أعرف انه كاتبه وسيهديه لي. وهذا الارتباك مصدره أن ملحف أحزان آخر سيطبق على صدري لأسباب تتعلق جميعها بخسارة وفقدان عدد من الأحبة. لم تترشح لقوامها الكثيف فقفزت ولم أستطع الإمساك بها لأردها للزمن الذي أهداني إياها، خصوصا وانا ضيف من عدة شهور على المستشفيات التي يتوزع عليها جسد ابن أخي محمد المصاب بورم برأسه فاستأصلوه لكن حالته استعصت أن يعود إلى حالته، بل أصبح عاجزا بأكثر من إصابته الأولى. ومنذ شهور تجاوزت الحول بإثني عشر شهرا مرت على رحيل محيي الإشيقر وكوكب حمزة الصديقان اللائذان بصمتهما الآن ولم أعرف لحد الآن طريقا لهما لآنس وحدتهما عدا بضع كلمات أو ما يشبه الأشعار قلتها بمناسبات وداعهما، ولكن لم يكن لها ذلك الوقع شديد الاضطراب في أعمال محي النثرية ولا ما حملته طيور كوكب من حزن أثقل انطلاقها لأرض وطنه (الأم).

وها هو شاكر يدخل اليّ ومعه علبة أحزان أخرى يقايضها بابتسامة مرحبة مني ولا أعرف نوعها حينما رسمتها على وجهي، لكنني اُجزم أنها كانت بلهاء وساذجة أيضا. حتى ترحيبي به جاء مربكاً بكلمات عرفت فيما بعد أنها كانت عبارات ركيكة ومتقطعة في وقت فاق برابط جأشه بما لا يقاس على تماسكي أمامه، وكأنه يواسيني ويشد من ازري! حتى الإهداء الذي وضعته له على كتابي الأخير عن صديقنا سهيل سامي نادر (قطوف التجربة) وهي تجربة مُرة من نوع آخر، جاء مهزوزا كعبارة طفل لا يفقه فك حروف الكلمات فاعتذرت له بعبارة ركيكة هي الأخرى: (آسف شاكر فأنا لا أجيد كتابة إهداء).
لم يصمت؛ بل قال مبتسما: أعرف ذلك يا هاشم! فعرفت شدة اضطرابي وقلقي حتى ودعني على أمل لقاء آخر. تركت كتابه ليومين لم اقرأ غير عنوانه وإهدائه الطويل، وكأنني اُهيء نفسي لمعركة لا امتلك لها لوجستيا غير حماستي لمؤازرة أعرف أن لونها ليس أحمر، بل فاقع بصفاره. ثم عن أي مؤازرة أتحدث؟ فكانت انطلاقتي كما الكثير منكم جاءت من عنونته الرهيبة، أقول رهيبة لما سيأتي لاحقا، فقد طعن بها شاكر كل فنون الكتابة ليسمي كتابه (مجرد وقت وسيمضي). وهي عبارة أسداها على مسار نصه وتمدده بتكرارها وكأنه يمنح لنزيل آخر معه في المستشفى حق السبق بها. عبارة تموضعت بعدد آخر من صفحات نصه الذي لم أوصفه لحد الآن، على سياقات مختلفة ليجترحها بنفسه حينا أو يرددها ابنه طيف أو ابنته ديار، وفي حالات اليأس يكون لمحمولها وقعا آخر بأن كل شيء سينتهي إلى هباء. وبهذا الاشتباك العنيف عليّ أن اقرأ زمن آخر لروايته، أقول رواية لأنها رواية بكل ثقة وكناقد أدبي أصنفها كذلك، وسأعرج على تصنيفها لاحقا. هذا الزمن هو زمن آخر يختلف عما سطرته أحزانه وآماله بالشفاء، زمن المكافئة اللئيمة للحظ، فتذكرت كتاب سهيل سامي نادر (سوء حظ) ثم لحقه بآخر (المريض العراقي) فاستعير الأخير لأقول: شاكر المريض العراقي في سياق غير ما ورد من جهد سهيل، إن شاكر هو ضحية وطنه وهل أكثر من هذا كسبب أن تكون ابنا لبلاد تتنكر لك لتصاب بالسرطان؟ أمراض وأوصاب أخرى لم يجاهر أصحابها بانها تسكن أجسادهم كنزيل من خمسة نجوم؟
ولكن بعد مضي عدد لا بأس به من صفحات كتاب شاكر هجس إليّ صوت عنوان كتاب آخر كنت انتهيت من قراءته قبل أيام بعنوان (بذلة الغوص والفراشة) رواية لكاتبها "جون دومينيك بوبي" وهو صحفي فرنسي لم نسمع عنه كثيرا، ولعلي أنا حصرا لا أعرفه. واختصارا قبل أن تبحثوا عن روايته في عالم الأنترنت، فهي متاحة للتحميل، إنها تتحدث عن واقع صاحبها المصاب بإصابة نادرة، بعد تعرضه لجلطة قلبية، تشل كامل أجزاء جسمه عدا عينه اليسرى التي تتيح له التواصل مع الآخرين كلغة عجيبة استطاع من خلال رمشها أن يكتب روايته ويصف معاناته الرهيبة من حالته، بعد أن طور بنفسه نظاما يشير إلى حروف اللغة ويتعرف عليها، فلا يسعك إلا أن تتخيل حجم معاناة مضافة إلى حالته. وعلى أي حال عمل أوصي بقراءته حقا. ولكن عمل شاكر وكما وعدت إنني سأقرأ ما وضعه كمرآة بين السطور سيتلخص إلى غير معانته من عدد العلاجات وجلسات الكيمياوي الرهيبة، ولاستئصال معدته. وبرغم كل العلاجات يعود له السرطان مهددا ووعدا صاحبه كما بلد شاكر ان لا مكان لأي أصيل على هذه الأرض! وبهذا هي معركة بين جبار غامض واعزل يراوغه حسب. أو، وهذه صورة أخرى ذكرني فيها فلم المصارع المطعون بحربة سامة ولم يستسلم حتى رمقه الأخير منتشٍ بسمه لكنه أردى خصمه وتفوق عليه ببسالة.
تلك صورة غير دقيقة على وجه التحديد، فقد مات شاكر، في حياته عدة مرات وانتصر أكثر من مرة في رحيله وترحاله. ولكن خصمه منافسه على الحياة المقترة، التي منحه الحظ فيها أن يكون من بين الأحياء لأسباب غامضة، كان يخاتله كجبان تنقصه المواجهة وبلثام يخفي وجهه، بل طاقية إخفاء تموه حضوره لا يعرف شاكر ولا معالجوه مكان اختفائه. فراح سم الكيمياوي الرهيب يتوزع كامل جسده الرياضي ليحيله خيطاً كنسيج العنكبوت فملأ السم، تحسبا، أي مكان متوقع وسليم أيضا. أقول نسيج عنكبوت وليس أرجل أخطبوط لأننا نعرفها ثمانية، وسننتهي منها تباعا حتى وأن التفت ظافرة، على أقل تقدير، على رقاب زوجة وابنين لزمن غير قليل. وهم من أهدى لهم كتابه: (إلى ابتهال وديار وطيف)، لكن الخلاص بظنهم ليس مستحيلا عندما يقررون جميعا مواجهتها. ولكن كيف سيكون الأمر عليه مع هذا النسيج العنكبوتي المخادع الذي يتراءى لناظره سهل الاختراق لكنه ليس من اليسر أن يدرك الأطباء جبروته ولم يتعرفوا حتى على نوع السلاح الذي سيكون لمضائه سحرا في أية مرحلة من مراحل تطوره وانتشاره المتوقع، ويمتثل لخطتهم العلاجية. وحتى على سبيل المواجه كصرخة الزوجة التي فزت من فراشها دفعة واحدة بزي عسكري وصرخة مقاتل: سنحارب! فأنها لن تعرف لمواجهته سبيلاً ولا سلاح. فعلى أغلب الظن أن حماسة صباها مع شاكر، تلك التي تداخلت روايتها ضمنيا في قصته وهو ينثرها كنوع من الاطمئنان، إن لا شيء مستحيل في حياة من نذر صاحبها نفسه لشيء أو مقام أسمى حتى من نفسه وروحه لتمتثل إليه قوى الطبيعة الغامضة وتفك له قوانينها وستعمل لصالحه كنوع من المصادفات.

التحدي والتجربة
وضع شاكر كل ذلك في باب التحدي، بل الفرصة التي صنعها لنفسه، فسلم من شباك نيران الحرب مع الجارة إيران وعدد من المعتقلات التي لا يعرفها إلا من دخلها، ونجى من حقول الألغام، وتقيحت رجلاه من الصخور النابتة ورحلات لا يعرف لها وجهة ولا عاقبة عندما تنتهي. شعوب ولهجات، ظنها بائدة، كانت تتقاطع ثم تتوازى مع خط مسيره فهو ليس الخاسر ولا الناجي الوحيد لكنه سيعرف مراوغة السهام بظهره وعدو خلفه قال عنه «...كنت أخشى رصاصه وقذائفه، واحتمال أن ينهي حياتي في أية لحظة». ولكن مع ذلك كان هناك أمل يراوده، إذا ما حالفه الحظ في تلك الدروب، فسيؤول كل ذلك للنسيان. ولكن لحظة استدراك عنيفة استوقفته وهو يكتب عن ماضيه فقال عن عدوه الآن: « قد اصبح في جسدي».

لم يكتب شاكر عن نفسه ولو كان كذلك لاختصر كتابه بمقال أو مساهمات متفرقة ترافق تصور حالته، لكنه آثر أن يدمج مصابه مع حالة أشمل، فلا الآلام التي رافقته ولا إصابته المتكررة كانت السبب في الكتابة، بل لم يترك لنا شاكر فرصة للتكهن أو التأويل، فقد قالها مرات ومنذ البداية إن كتابه (تجربة شخصية) ولكن أي تجربة؟ هذا ما كان لشاكر بمثابة ساعة بمؤشر تنقله بين حاضر وماضي، زمن وآخر، مصاب وخلاص مؤقت، ثم سرطان أكيد قال عنه سيجعله يفكر «بالموت الذي سيخيم على حياته»! ولكن أي حياة؟ إنها حياتهم كأسرة واصدقاء وحتى بلده: «أعتقد جازما، أن السرطان لا يصيب الإنسان بمفرده، بل يصيب عائلته وأصدقائه، وينشر ظلاله المخيفة على المجتمع». فاذا ما تعلق الأمر بالموت فالكل سيموت، وهو ليس موجود أصلاً كما الولادة حسب (بختين) لسبب بسيط هو غياب الوعي. ولكن ماذا وأنك تعي كل شيء! إن وعي المصاب أكثر رهبة حتى من الموت نفسه، فأنك سترى حياة الآخرين وذلهم فتشفق عليهم قبل نفسك. فالذي يحدث ليس مصاب شخص محدد قطعا، انه سرطان الجميع سرطان الوقت والسرطان الذي يفتك بالبلدان، وحتى نسيج الحياة التي تمنحنا الدفء والجمال. وهل سيكون جمال الأشياء كما كان؟ أقول: لا! على أقل تقدير ما حصل ويحصل معي، فأين سأضع الذكريات: الأغاني التي سمعناها، الطرقات التي مشيناها، الخصومات التي ابتدعناها والأكثر الرضا الأليف بالمشاركة، مشاركة الصمت والوحدة وحتى الصخب حول جرائد قديمة تتموضع عليها أكواب عتيقة للخمرة وكتب نجتهد بأننا وصلناها قبل غيرنا… فأين سنضع ذلك كله في وقت الغياب، ثم الى ماذا سيؤول له المستقبل، هذا إن تفاءلنا على اقل تقدير.
كتب شاكر عن كل هذا ليس على غرار الرواية التي كتبها "جون دومينيك بوبي (بذلة الغوص والفراشة)، وإنما بسعير قلبٍ ما زال ينبض بالحنين لجلسة طيبة مع العائلة، مع الأصدقاء، مع وحدته حتى أمام بحيرة تؤنس وحدته، وبرغم ذلك استكثرها عليه قدر المغتربين، بعد أن أقسى الزمن عليهم بلطم وجوههم فأصبحت ندبا تميزهم. علامة استدال طريفة بعض الأحيان، فالتندر له حقه بين الأصدقاء، فراح يفتك بأعمارهم ويضع لكل سُمه، وهذا السُم جعل شاكر أن يصفه بدقة متناهية ويتتبع أثره بناقل محمول على سليقته، ولم يكن له سبيلا لمراضاته. ومع ذلك توسله كثيرا أن يكون أكثر رحمة، أو الأصح، أقل فتكا. ومهما تنازل شاكر عن سقف حيازته أعضاء سليمة كالمعدة والأمعاء فلا أذناً تصغي لهذه الحكمة الفريدة فتشمل شخصا آخر يفقد ذراعا أو رجلا تصاب بغنغرينا، وامرأة تفقد أجمل ما بأنوثتها، وآخر نسمع عن مغادرته فجأة بعد أن كان معنا في أمسية قبل أيام ولم يعلن عن إصابته بسرطان قاتل! أما شاكر فيقول: الكتابة بالنسبة لي (تعني التعبير عن مواجع لم تهدأ ولن تنتهي» وهو محق فلن تنتهي الآلام بمجرد مغادرة وبصمت.

رعب
صنف شكر بكتابه أنواع الرعب: وربما كان رعب الاحتمالات أهم مجترح كتابي في كتاب شاكر. إنه منطوق رواية بحد ذاته، لكنه تعامل معه وصفيا كحقيقة وليس كحقل للاحتمالات كما يراها (كونديرا). فعلى عكس البحث الوجودي عن الخفة والثقل، وهو بحث له أهميته الخاصة على نحو أكيد كشكل جرى تطويعه على نحو رواية، فأن شاكر وضع عددا كبيرا من احتمالات الموت والحياة بما فيها أسباب وجود الآخرين لديه، بذات السهولة التي تدفع الأسئلة نفسها بنفسها ليرى الفسح الظلامية والمشمسة كذلك، حال تعرضها للمجهر النفسي المضاء. فنرى اهتزاز الضوء الموشى، أو لنقل المهتز برعب ما. وهو بهذا الإتقان ينقل نصه من مستوى إلى آخر حسب حالته وغثيانه الذي وصفه مرارا بالهذيان. أما الهذيان ذاته فهو الركن المهمل من الحياة الذي لا ينتظر مؤازرة من أحد، فلم يكن ليخطر على بال من لا يعايش آلامه وحتى فصامه ليصبح كالمستجير بسعيره وهو نفسه شاكر الذي لم يشتك لغير نفسه. بل من المثير أن لا ملامة يوجهها لا كإطلاق عام عن الحياة ولا ما اسدته اقدار بلاده من جحيم على الجميع. سعى شاكر منذ البداية أن يكتب ما سماه (يوميات السرطان) فجعله مكملا لعنوان رئيسي ذكرناه ولم نتحدث عنه كعبارة مستعارة حينا ومجترحة حينا آخر، وأيا يكون فان الغوص ببدلة غوص (جون) تفسر معناها ودرجة كآبة صاحبها الذي يشله نسيج العنكبوت. هذا التواطؤ لا يمكن تفسيره بالكلمة ومعناها، إنه القيمة الاجرائية العنيفة التي تشعرك بموتك وأنت على قيد التنفس فيا ليته يأتي.

أما ما تبقى من الاحتمالات كاسترجاع مخفف لعامل بناء وتنظيم سري ضد السلطة الديكتاتورية وصدمته من صعقة أمنية/مخابراتية «أنهت وجود التنظيم وأعدمت كوادره» فكان السؤال لنفسه: «هل فكرت بمسار آخر لحياتي»؟ وجواب، أكثر ضمانا للانزياح الأدبي، من حرفين لا غير يشكلان، بالتفافهما على بعض كلمة (لا). سر احتمال مضنٍ يفسران امراً واحدا: ان شاكر لم يفكر بنفسه، بل يجعلها دائما كمراقب ومحذر لصاحبها أن يستكمل رحلته في حقل الألغام ولا ضير أن ينفجر به في اي لحظة. ولكن لم يخطر بباله أن لغما منها كان مزروعا. بأحشائه. مخلوق غامض حمل كل أحقاده عليه منذ ولادته لعائلة متوجسة من أسباب وجودها في قرية وصف أقرانه فيها ومن هم أكبر منه سنا «يعيشون في أكواخ قرية فرحان برؤوس محلوقة على الصفر دائما».

حروب وغزة
فما الذي أودى يا ترى بشاكر لهذا الاستذكار المضني ثم يتلوه ويعشقه «بست سنوات عجاف، عشت فيها كل ويلات الحرب ودمارها، ورعب الجبهات وعفن الملاجئ...». وفي مكان آخر من روايته تجثم صورة اصحابه العسكريين وهم «يخوضون حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل» لينتهي بلا أسباب، ولكن بسؤال: «هل نجوت حقا من الحروب»؟ والأكثر أنه عاش مع جثث أصدقائه لينتهي الى طوابير الجنود يقفون «أمام الحلاقين لحلاقة رؤوسنا نمرة صفر». ليس تحاشيا للقمل والاغتسال كما حال الأولاد في قريته، ولكنه «من أجل إذلال الجندي المستجد، ومنعهم من الهرب». وما زالت قريته تشخص أمام ناظريه، بل زحفت به الى قرية أخرى مع شحيح العيش وضنكه ولم يعرف له سببا حتى صباه، وربما لهذه اللحظة. حتى تفاجأ هو ذاته من سيل المقاتل التي أجبرته على قول عبارة أثيرة: «ترى ما الذي فعلته بحياتي حتى أعيش هذه اللحظة الصادمة»! فهل هي يا ترى انها لحظة الصدفة، أم القدر، أم انها نتيجة حتمية لعدم الرضا؟ أظنها الأخيرة، النفس الأبية الفاقدة للرضا. فكيف سيرضى ويرتضي وهو يشهد بأم عينه السلاح الكيمياوي للنظام يلتهم القرى الكردية بمن فيها، لكنه ارتضى أن يضعه كمقاربة أولية كعلاج. وهذا ما يذكرنا باكتشاف الديناميت وانشطار الذرة لأسباب علمية لخدمة البشرية فيما توجه استخدامه كسلاح لفنائها، ويصبح هاجسه حديث البشر حتى على موائد غذائهم. وكيف سيلجم نفسه حسب طلب معالجوه أن «يبتعد عن التوتر والشد العصبي..» ومشاهد غزة بكل عنفها وهمجيتها تتفوق على مصابه، فأفرد لها فصلا بعنونة مثيرة (فلسطين ومجازر عزة وسرطان الاحتلال).
ثلاثة محاور يربطها الاحتلال الذي شبهه بخلايا السرطان. ليس تشبيها، بل لم أجد في قاموسي اللغوي كلمة تعبر عما أراده الكاتب لهذه المقاربة. ولكن ما أن تقرأ ما كتبه شاكر حتى تصاب بالرعب وكأن الحرب في غزة وفلسطين تجري بعروقك، وأنك لست مشاهد تلفاز أو مناصر باسل لشعب يندثر حيا تحت الأنقاض، إنما تتعرف عل السرطان الحقيقي يجري بجسدك ويصيب خلاياك فيتهدم جسدك كما بيوت غزة كلعبة مكعبات (الليغوLEGO) لتي لم يقو لصقها العشوائي على الصمود حتى لمجرد دوي القنابل والغارات، وصمت كوني لو قال كلمة حق لأصاب جوهر وجوده الرأسمالي المتوحش. وحينما تطلب الإغاثة لم تسمع سوى صمت جسمك المستغيث برشقات الكيمياوي المهلكة وهو يهوي ويأخذ كل شيء حولك كذلك إلى الزوال، «بل تتعداه إلى الشعور بلحظة الاقتراب من الموت».
بهذا الانزياح الأدبي كتب شاكر فصله فما كان ليشعرك أنك تسعى لشربة ماء من نهر قريب حتى تفاجئك البراري بقحلها وصمتَ ما بعد الحياة. نقل شاكر تلك الصورة لمراسل باسل بين ذاته المصابة وجسده الغزّي الشجاع وبين ما يفعله السلاح على الأرض، ومع ذلك ثمة أمل. فـ «هل سأفرح وأشعر بنشوة الانتصار على السرطان لأنني سأخرج من هذا الكابوس بعضو ناقص من جسدي، بمعدة مزالة..» وسؤال عن «حياة أخرى خالية من رعب الاحتمالات...».

احتمالات
أن تقبل بحل الكيمياوي كعلاج عليك أن تتقبل مئات الاحتمالات فوضع شاكر على رأسها عائلته وصداقاته وكررها في نصه ليس كاجترار وسأم، ولكن ما كان يحفر فيه، في كل جلسة من العلاج، ذلك العطب الحاصل في سوية الحياة معهم. فهل سيرجع لهم مبتسما كعادته وسعيدا بهم؟ ذلك ما كان يخشاه لينقل معناه ودرجة حضوره ووقعه عليه على مدار نصه. أستطيع أن أقول: إنها حالة رصد لما يحدث وان كررها سوف لن يفي بوصف الحالة التي تسلمه من كآبة لأخرى ثم ليأس قاتل، ونفس معذبة لا يطيق معها حتى ذاته. تلك الوحدة التي ألفها واختارها أودت به ألا يسمع واحد منهم، فيما ينتقل إلى محارة ذاته بصمتها وطنينها فعبر عنها كهروب من «شعور مفاجئ باليأس تحت غمامة العزلة التي يفرضها العلاج الكيمياوي». نقل شاكر ذلك بأمانة المصاب بصروف ورزايا شتى بين طفولة وصبا وحرب وهجرة ثم إصابة بسرطان، ودوّنها وكأنها لشخص آخر يسكن روحه وجسده، وهذا ما منح نصه صدق التعبير، لمن لم يحسنوا التعبير عن حالتهم، فكانت تلك مشاركة إنسانية باهظة المعنى، ثم منطوق رسالة لمن يقرأ كتابه: أن لا شيء يستحق في الحياة غير ابتسامة تدوم وقبول أشد تقتيرا لفرصة عيش سانحة، فيذكرنا بمقولة لـ تي اس اليوت (أين هي الحياة التي أضعناها بالعيش) فهل أكثر ضياعاً من ذلك؟

ما بثه شاكر في روايته هو نفحة حياة تحمل نقائضها بين رفض وقبول، بين إصرار وعجز، بين أمل وضمور والأكثر بين إصغاء وإعراض. ربما هناك من يقول: إنها ليست رواية! أقول إنها كذلك لأنها تنفتح على عوالم لا حدود لها بالمعنى الظاهر والبيني وكم الاستحقاق الناجز للألم وفرصة مشاهدة الحياة من زوايا مختلفة. أما أبطالها فهم عشرات بعددهم لكنهم ملايين البشر الذي يستحقون الحياة ويسعون إليها كفاعلي خير فتهرب منهم بأقرب فرصة مخاتلة ينقصها الكثير من العفة والصدق ورد الجميل ناهيك عن الأسئلة التي ستبقى تدور برأس من يقرأ عمله الإنساني الكبير.

متى ضحك شاكر؟
وهل سيضحك مصاب مثله؟ تلك دهشة اُخرى لا أعرف لها جوابا. لكن شاكر بما رآه في شهامة ورقة قلوب معالجيه الغرباء جعله يستغرب ويسخر من حالة التعالي والاستصغار التي تسلم المريض في بلده الأم إلى سخرية وكيس مال يخضع للابتزاز. ومع هذه الملاحظة يجنح بنا النص إلى آلاف المفارقات العجيبة بمستوياتها الرائجة اجتماعيا ومهنيا وسياسيا فاجزم أن كل قارئ لنصه ستنفتح أمامه عتمة البلاد بكوميديا سوداء وهي أشد ما يجعلنا نثق تماما أن بلادا سلمت كل ما لديها إلى الفساد، فساد الأفكار والمهنة، فساد العقل، والفساد المشبع بالضغينة والاحتيال لن تقوم لها قائمة بعد الآن. ضحك معه كل من سمع منه موعد عمليته الجراحية لاستئصال معدته في الثامن من شباط! «يوم المجزرة التي نفذتها قوى الحرس القومي الفاشية بحق الشيوعيين واليساريين...» مع فارق لا يمكن مقارنته بنقيضه: يوم يسلب الحياة ويوم آخر يهبها الروح ويحييها. فهل نقول (شر البلية ما يضحك)؟

كان شاكر يتنقل كأيل جبلي وهو يروي بعض المفارقات والحكايات ليؤكد حصافة نصه وشذراته المنتمية لهذا المفصل، صور التراجيديا المضحكة، وأظنه كان يبتسم لها بسخرية في كل مرة يرويها أو يتذكرها لوحده. طلب من مرافقيه وهو يجري في بلده عملية بواسير: «ألا يبقى ممرض أو ممرضة في الغرفة التي أنام فيها، حتى لا يسمعوا الكلام الذي أهذي به عن صدام والتنظيم الحزبي والمنشورات»، فيما تحثه ممرضته في الدنمارك أن يتحدث مجرد حديث للتنفيس فيواصل: «اقترحت عليها ان تسمع قصة حياتي» فشرع يتحدث باللغة العربية. على الأرجح أن أغلب ما رواه شاكر هو عن حياتنا التي سنحتاج في روايتها الى هوامش تسوّد اوراقها واسهم بليغة تربك اتجاهاتها، بل ترجع خائبة لتطعن أصحابها! وستحتاج الى توضيح أكثر من الرواية ذاتها. فلا نعرف من أين نبدأ والى ماذا سننتهي، هذا إن كان لمصاب العراقيين من نهاية! وهكذا نجد ابتسامة سخرية بلهاء مرسومة، بل ثابتة، على وجوه المغتربين العراقيين، أكثرهم، حتى مع المواقف التي تتطلب تشغيل عضلات اُخرى للوجه، أو ردة فعل أكثر انسجاما. إنها قصصهم التي لا يعرفون لها طريقاً لصياغة تعابيرها فمن أين سيبدأ شاكر والى أين سينتهي؟ ومع ذلك حكاها.

مشاركة
ما قاله شاكر عن نفسه وعضده بقراءاته عن مرضه، وخصوصا ما قرأه عن الذين أصيبوا به وكتبوا عن تجربتهم وجميعهم محاربون ينقصهم العتاد. بين أمل وأمل هناك يأس، وبين يأس ويأس هناك أمل يبعث على الخيبة. كان هناك أيضا رغبة ما: أن يحضر الإنسان يوم قيامته فيتمسك حتى بأوجاعه ويتوسلها ألا تكون قاتلة، خلافا أن ينهي حياته على نحو جندي يائس. تلك بسالة من نوع آخر، فلا نعرف حقا لماذا ينهي الإنسان وجوده بنفسه. ولكن مع رحلة شاكر مع السرطان تظهر العلاقة كنوع من الارتباط ليس بسبب السرطان وعلاجه الكيمياوي والمضني، ولكن الفشل مع كل محاولة لمعرفة سبب بسيط أن يكون الأعزل دائما ضحية أقدار قال عنها: «تصفية حساب تقوم بها قوة غاشمة لا تريد أن تودع ضحاياها بهدوء...». قوة لو نطقت لقالت: إنني أخشى ذوي البأس الصابرين أمثالكم فأنكم الأجدر بتغيير بوصلة الأحقاد على أرض جُبل طينها بجثث الجنود وطعم النيران السخية، فرائس الأوبئة والمناوئين والمنبوذين ونزلاء السجون المعتمة وضحايا الحبال والمشانق والنصال البيض ورصاص الجبابرة المعتوهين... إنكم وحدكم من يستحق الجائزة. وخلافا لما قاله: «ما الذي سيجنيه من يقرأ هذا الهذيان » فجائزتك يا شاكر انك قلته بنفسك أيضا: «أنت لا تحتاج إلى وقت طويل لتدرك جمال الحياة» وما وضعته في صفحات كتابك الأخيرة كسؤال لازمك «هل بإمكان الأمل أن يصمد أمام الاجتياح الكيمياوي...» أجبت عليه بعد عدة سطور بصوت لا يقبل المهادنة: «الأمل والعجز لا يلتقيان»
ستكتب يا شاكر روايات أخرى عن الصداقة والحب عن الحرية، عن لون الأرض المطعونة بأول شعاع شمس لبكور صباح جديد. ويعود، كما تمنيت، بأكثر من موقع في كتابك المذهل، مقولة لمظفر، (إن لي امنيه أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزينا).



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سمير الأذى وطير السعد - حياة بين ضفتين
- ما الذي يلح على الكاتب أن يكتب؟ - العيش على الصراط- رواية لل ...
- -أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان
- - اليوم بالذات لسنا بحاجة لنيرانك- / الأثيري والأرضي في مجمو ...
- العتابي وتحولات المكان -هل الفُل عراقي-؟ نعم (الحزن) عراقي و ...
- خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-
- عتاق يوم آخر
- - الهند أم العجائب- في عيد الحب
- كيف اكتب بعد غياب!
- بصرة - اورشليم
- -من ذاكرة الصور- صبا مطر بين حربين
- اشتقاقات الغياب - قراءة شعرية في نصوص محدثة
- كوپه-ديناري
- حبيبا الساحةِ
- -قافل-
- -شو بدي بالبلاد الله يخلي لأولاد-
- لنْ نخذلكَ في الخامسِ والعشرين
- سنغنيكَ لأنك غيرتَ العالمَ! حبيبي...
- وشمٌ على خصرِكَ أيلول - الى وليد وإبراهيم وكلِّهم
- هوية / سبع دقائق قبل الموت


المزيد.....




- رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي، ...
- بسبب شعارات مؤيدة لفلسطين خلال مهرجان -غلاستونبري-.. الشرطة ...
- العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مد ...
- الجيوبولتكس: من نظريات -قلب الأرض- إلى مبادرات -الحزام والطر ...
- فيديو.. الفنانة الشهيرة بيونسيه تتعرض لموقف مرعب في الهواء
- بالأسم ورقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأول ...
- “استعلم عبر بوابة التعليم الفني” نتيجة الدبلومات الفنية برقم ...
- “صناعي – تجاري – زراعي – فندقي” رابط نتيجة الدبلومات الفنية ...
- إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقاف ...
- بوابة التعليم الفني.. موعد إعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - زمن آخر للمكافأة -مجرد وقت وسيمضي- لشاكر الناصري