أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - مغنية الحيرة... حيرة الزمان والمكان في تطابق بين الاسم والتأويل















المزيد.....


مغنية الحيرة... حيرة الزمان والمكان في تطابق بين الاسم والتأويل


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 14:10
المحور: الادب والفن
    


عندما يكون للتاريخ هذا الالتباس الذي يحدو بالكاتب الروائي ما يجعله ينظر إليه من وجهين الأول شكه بصدق الروايات التي تروي حادثة واحدة، والآخر ما يبعث بالشك أيضا بأن ما دُوّن أصلا هو ما كُتب بتلازم وثيق مع التناقضات وقت الحادثة المروية عندها ستتسم جميع الاختبارات بما فيها التحقيقات بذات الوهم، بل النزوع إلى فردية محضة فتأخذ المروية شكلا محددا هو رأي الكاتب، فيجري الاختيار حسب تماشي مضمونها مع ما وصل كتاريخ في زمن الحكاية ذاتها. وعليه يواجهنا السؤال الحصيف: لماذا اذن يشغل الكاتب نفسه بكتابة نص يعرف حقا أنه سينظم بسهولة الى اقتباض الأصل وكأنه يعيد إنتاج نفسه بنفسه. وهل في ذلك من نفحة عطر جديد تتعطر بها الصفحات لتطعن خلايا رأس القارئ على نحو من الإبهار. ثم إلى أي مدى سيركن القارئ، كمحصلة، إلى صحة المعلومة وواقعيتها، حتى وان اطمأن الكاتب لفحصها على مدار عمر روايته لحين ولادتها. وحتى لو فعل في جانب بحثه وفحصه والتحقيق المضني فأن رأيا آخر لباحث أو كاتب آخر سيأخذ طريقه للظهور بعد حين. ثم هناك سؤال آخر: بماذا سيفيدنا هذا النوع من الأدب فهل له من إسقاطات لامعة لواقع تُحتم على الكاتب الانتباه لموضوعه كمعاصرة وعقدية مركبة تلح عليه؟

إن في السلسلة الإجرائية لكتابة روايات من هذ النوع تكمن مخاطر كبيرة علينا كنقاد رصدها لكي نعمل بالمساهمة الطيبة، ليست ككلمة منتخبة باسم (الحداثة)، مثلا، وما جاورها اصطلاحياً كاشتقاقات معاصرة، ولكن لنرى الموجبات الضرورية في طبيعة تفاعلها في المساحة التي اختارها الكاتب كسعة وفضاء لأفكاره. وطالما أنا شخصيا ضد هذه الفكرة أي (الفكرة/ الأفكار) أصلا لسبب اعتقد انه ليس من واجب الكاتب أن يشحن العمل الروائي بها، وهذا ما يخالفني عليه الكثيرون بأن عددا من المع الروائيين وضعوا أفكارهم حتى الفلسفية منها في نتاجاتهم القصصية. إذن أنا في ورطة أو فخ أضعه لنفسي فكيف سيستقيم ذلك؟
سأحاول الخروج منه سالما بقولي: إن كل ما كتب وما أتت به روايات كبار الأدباء، برغم صدمة ما نطلق عليه بالأفكار، فأنها لم تبحث أبدا أو تقترب من فكرة محددة لذاتها. حتى نرى في الكثير منها حجم المتناقضات التي تجعلنا نعتقد أن الكاتب يخالف نفسه بنفسه. ولكن ما أن نركن إلى مستوى القراءة التي أرادها الكاتب أن ينقلنا له كمستوى من المتطلب الضروري حتى نطمئن: إن الفكرة من رواء الفكرة ذاتها هي شروع الاحتمالات والتناقضات الضرورية لاستدامة النص وجديده. وإن شئنا أن نذكر بعض الأمثلة فسيظهر لنا لوح بأسماء عدد كبير من المصنفين كبارا على المستوى العالمي والعربي، وأعني بالعربي ما كتب أصلا بالعربية أو منقولا عنها كاشتغال ذهني. ولعل في عمل "أومبرتو إكو" (اسم الوردة) مثالا طيبا عن هذا بإسناده كتابة الرواية الى (آدزو) أحد أبطال الرواية.
ذلك أن المساحة التي سيختارها الكاتب هي ليست مساحتها التاريخية حصرا، فمهما حاول بعض الكتاب بما يطلق عليه كرواية بحثية تقترب من التوثيق والتحقيق، كما فعله الكاتب يوسف زيدان روايته (عزازيل) فأن اعتماده على الرقائق وتمسكه بمحتوها فأنه يؤكد بنفسه في مقدمته عن المؤلف الأصلي لـ “الراهب هيبا المصري” قوله: «لم أجد أي خبر عنه في المصادر التاريخية القديمة. ومن ثم خلت المراجع الحديثة من أي ذكر له». في النمط المشارك الآخر مثاله للتقريب الكاتب أمين معلوف فمعه تبذل الرواية اقصى امتداد لها كحكاية حتى على نحو خواتم كلاسيكية فيما يمزج بين الواقعة والمآل والتصور غير انها محسوبة الابعاد كهندسة تكعيبية لعنايتها بالتأثيرات والحفاظ على محتواها المشوق الداخلي الذي لم يتخلَ عنه في غالبية رواياته. أما مثالنا التالي فهو مثال ماتع للسيرة التخيلية المتعدية في عمل الكاتب محمد "حسن علوان" عن (محي الدين بن عربي) كسيرة تخيلية تنظم بيسر الى السيرة الأصلية، وهي كما غيرها، يشوبها الغموض والتضاد أحيانا.

وفيما نمرّ في مقالنا على هذه الأمثلة وليس ببالنا إلا أن نُقدم على معاينة محاولة كتابية روائية حملتنا على فحصها ذلك أن جديدها أكثر من تكرارها ونجاحها يكمن حسب رأينا بوضوحها وعدم ادعائها السيرة حتى وأن ظن البعض أنها تنتمي لهذا النوع من الأدب.
هذه المقدمة التي لابد منها ستعيننا في دخولنا عالم الكاتب حسين السكاف لحكاية استطاع أن يجعل منها رواية ناجحة، صدرت عن دار اكورا 2025 وسنأتي على اسباب نجاحها تباعا

اعتمد الكاتب بكتابة روايته (مغنية الحيرة) على عدد من الثوابت التاريخية وربما غير المؤطر بتاريخ محدد وحتى تباعدها. وهذا ما وفر له مساحة من الحرية الكتابية وتفعيل المخيلة لتستسلم خيوط حكايته الأصلية لنسيج جديدها بنفس الأبعاد والمقاسات، لا بل بذات الزخرف والألوان البهيجة، وبكل الأحول هي طريقة رشيقة ومسترسلة وباحثة بنفس الوقت عن نهاية لنفسها قبل قارئها.
جعل السكاف لروايته مستهلاً نابضا من أولى الكلمات ما يوضح أمرا مهما أن ما التقطه أو وضعه بنفسه ومخياله لكتابة هذه الرواية هو اشتغال عن فرص الحب وضياعه، وهو المشهد الأول الذي يجمع بين حبيبين سينتمي بعد عدد من الصفحات إلى حاضر وماض يتجاوران، فيما ستعرب الأحداث تباعا عن سير مشابهة مع التفاتة، لم يذكرها الكاتب بنفسه، وانما وضعها كتحفيز ذهني مفادها: إن الحب له ذات الفعل؛ ألقه وفصامه بغض النظر عن مكان نموه في قَطرِ عيشٍ وإمساكٍ أم في قصر منيب، أو أي رخاء آخر لمجد ومآل. فاتخذ من فرصة لقاء عاشقين ما يلغي زمنية الأحداث بين حاضر وماضي وكأن الأحداث تشق لنفسها أوناً خاصا برغم بعض الإرشادات الزمنية الكافية للتأطير خشية الالتباس.

دخل السكاف إلى عالم روايته بروح شفيفة لعاشقة اسمها "هند بنت عفزر" تحدث حبيبها عن حكاية روتها لها جدتها «ماريا» عن جدتها «عندلة» صاحبة حانة في الحيرة في زمن «النعمان بن أمرؤ القيس» لتبدأ معها أول حكاية حب، كما يطلق علية من أول نظرة، عندما دخل حانتها، وهي تغني تتأبط (بربط) وهو آلة العود، ثلاثة رجال اثنان منهم تعرفهما من حاشية الملك بصحبة غريب عرفت بعد قليل «انه المهندس المسؤول عن بناء قصره الجديد. يقول الكاتب عن تلك اللحظة، لحظة التقاء نظريتهما: «اخترقت روحها مخلفة لسعة ساخنة سرعان ما تحولت إلى فراشات مختلفة الألوان».
نلاحظ هنا الكثافة الواقعية للمحمول الذهني الذي يرسم للحب صورته قبل حصوله، ووقوع حامله، كأذى، ما أن يعثر على نقيضه، بين سالب وموجب، حتى يتم الجذب الفجائي. نقول أذى لأن العاشق يحمل وزره من دون مقابل مادي وإنما على نحو مناجاة أشبه بالصوفية كحالة يغذيها الهيام الغائب لحبيب غائب. وانطلاقا من لحظة التعارف هذه يلغي الكاتب مساحة الانتظار لسبب أنها حصلت وما زالت قائمة حتى لحظة حضورها. وبهذا الغاء زمني حققه الكاتب بكفاءة جعلت من قصتين، تفصلهما أجيال عديدة، قصة واحدة أو مشابهة ولها ذات الدوافع الروحية، إنما الاختلاف في واقع ظرفيتهما. فمثلما أحبت عندلة سنّمار كذلك أحبت هند مرامر الذي كان يستمع لغنائها المتسلل من بيتها المجاور إلى ورشة أبيه فعشق صوتها وصاحبته دون أن يراها. ومرامر هو اسم أشهر خطاط في زمنه أطلقه تاجر تحف ونوادر على (عبد يسوع) محبوب هند لشدة إعجابه بفنه ونقوشه وهو يمارس فنه في مشغل أبيه النجار.
لم يكتفِ السكاف بالإشارات المكثفة والوصفية لعلاقة مرامر بهند وإنما أخذ بمعالجة نموها بمراحلها المختلفة، وهذا ما أعانه على تقديم صورة عن حياة لم يدّعِ انها صورة مثالية لزمن بعيد، وإنما جعل منها دلالات ضامنة لتطور النص في عالم غير منفصل عن زمنه آنذاك، بل خادما حكائيا ليتمكن من خلاله توسيع رقعة عمله بمناخ متخيل لحالة زمنية أظن انه تاه مرارا في احيازها لأجل وصل ماضيها بزمن توظيفها المعاصر. فهنا للكاتب مساحته بالأخذ والتشذيب والابتكار. وفي نصوص من هذا النوع تكمن خطورة كبيرة في تقبل القارئ لسبب أنه لن يتوخى من النص تأريخا كتأصيل، وإنما سيعنى بالقدرة التوظيفية للحكاية كسلوك. بحيث لا تمتنع المطابقات على عصيان غابر الحكاية وماضيها مثلما يكون لآنيتها سلاسة بيئية تدفع بالكاتب إلى نوع من المقاربة، لاختلاف الأصل كمقارنة لا يمكن الركون لها بأي حال من الأحول. وإن حصلت فسيتم تعطيل القدرة الكتابية ودرجة ابتكارها للجديد، وكأننا أمام حكاية لا تنتج إلا نفسها برتابة. عكسها سنكون أمام منجز يتخذ من فكرة بسيطة سببا لولادة نص معاصر له خصائصه المميزة.
وإذ يقوم السكاف بهذا الواجب الذي أنتبه له باكرا، بعذوبة واسترسال، ليطوي مساحة زمنية تعاقبت فيها أجيال بحيث تبدو لقارئها أنها نص واحد موصول لرحم واحد. للحد الذي يجعلنا غير مهتمين إذا ما كانت بعض أسماء الحارات كـ(حارة العبادين وحارة أرمايا) والكثير مما شابها هي أسماء أصيلة أم مبتكرة لكنه أبقى على جرسها القديم. وهذا ما وفر له مساحة أخرى من جانب آخر جعلته يحرر نصه من التباس عائدية زمنية محضة. تقول الكاتبة فاطمة المحسن في أحد منشوراتها (نهاية عصر النظريات ) ما يأتي: «واليوم تمضي الثقافة حثيثا نحو إحلال المخيلة بديلا لهيمنة الواقع، بيد أنها تنطلق في مخيلتها من حاجة الواقع الإنساني إلى تخفيف غلواء الثوابت في حياة الناس». وبهذا تأشير واضح للتاريخ الذي هو الآخر تجزأ الى مواضٍ، وهذا برأيي لا يعاب عليه، ففي كتابته هناك دائما ما يستدعي تغييره على نحو ما، فكثيرا ما يعترض قراءتنا لنصوص قديمة جدا سيرا مختلفة وحتى نهايات لا تشبه بعضها فشاعت نسخا حتى في الأفلام التاريخية ما وفرته الاختلافات لدى صانعي الأفلام وكاتبي سيناريوهاتها وحتى المسرح. وهذا ما قلل الهوة بين الحقيقة والمتخيل، وهو أمر ما عاد مهما في سردية القراءة المحدثة. بل يمكننا القول إنه أمر ضروري للغاية: أن نستدعي المخيلة ذاتها إلى تجريبية ومغامرة ضروريتين للإفلات من الواقع ووخزه بأماكن عصبية أو حتى خلايا سرَطانية لتفعل فعلها بدل أن تبقى على سباتها، ولسبب أيضا أن المرهم لا يسبق الجرح كتخفيف الم أو كعلاج ماض.

من الملاحظ أن جو الحكاية لدى السكاف اكتنفته حرية، قد لا نحظى بها في يومنا هذا، كأن تنمو علاقة شابان برعاية، بل مداهنة الأهل ومداراة المجتمع. من جانبه، وفر له أباه تلقائية اللقاء بهند، وأباها الذي لم يتأخر على الرد لطلب ابنته باصطحاب حبيبها مرامر لسفرة إلى البحر فهتف أمام جلاسه «بأن ابنته بحاجة إلى رفيق بعمرها، تحادثه ويفهمها...». كذلك جرى تسهيل لقاءاتهما ونزهاتهما للنهر القريب، حتى سعى الوالدان لبناء بيتا فوق الورشة ملاصقا لبيت "عفزر" والد هند، وسيكون نابضا بحياة جديدة يتيح لـ"مرامر" أن يعيش فيه لصقا إلى بيت "هند"، فيروي مرامر على لسانه: حتى أن والدها «لا يغادر صوب عمله إلاّ حين تكون ابنته في دارنا».
هذا ما سيعيد القارئ إلى زمن رخاء شخصي مر به توصّفت به سنين السبعينات وحتى الثمانينيات في العراق والعالم العربي من القرن الفائت. وهذا ملفت حقا أن نرى بالرغم من التقدم الزمني فأن تراجعا صارخا يحدث في بنية الحرية والأفكار، وهو مؤشر كافي لتدهور المدنية ومادتها الإنسان المتحضر. ومع حيازة السكاف على هذا المفتاح كحرية تنعش نصه وتحركه كان يوفر لنفسه قناعات خصوصا التعاقدية منها بواجب الحب، فنرى شاخصه الأمثل هو الحياة النابضة به وليس المرفقات كمآلات مختومة كنهايات لإمبراطوريات وممالك هالكة، وبالعكس منها منتصرة ومنتشية بهمجيتها. هذا فيما أخذنا واقع الحكاية تاريخيا بنظر الاعتبار وهو أمر ضروري، فعليه تستند الحكاية كأحد أعمدتها بغض النظر عن ركوننا الى تحقيقها من عدمه كما اسلفنا.
وعلى هامش الوقوع بالحب بين مرامر وهند وفر السكاف قناعة كافية أن يسعى المحبوب إلى إرضاء حبيبه ليفعل ما يستحسنه ويحبه معشوقه، فوظف لذلك حركتان لـبطله مرامر، الأولى صناعة آلات موسيقية في مشغل أبيه النجار فصنع رقا وضع فيه موهبته في النقش إضافة إلى رنين صوته وجودته، والثانية إتقانه الغناء والعزف حتى أصبح يصاحبها العزف في الحانة كل مساء. ومع هذا الانفتاح الذي أصاب حبكته جميع القصص التي استمتعنا بها ووفرته كظلال لغصون شجرة وارفة تظل السرد بتنقلاته، أصبحت مرافقة النص أكثر ليونة ومطاوعة لأي فعل يختاره الكاتب بإسم باسم أبطاله، ومنها ما كان يظهر كأصداء كما في رحلة عندلة وسنّمار الى القسطنطينية وعودتهما بصحبة فتاة سيكون لها شأن في حانة عندلة.

التطبيق
وضع السكاف لحالتي العشق وما يقابلهما، في قصة قديمة بين عندلة وحبيبها سنّمار وبين هند وحبيبها مرامر كقصة محايثة، ما يؤشر الى قوة الجذب: على أن المعادل الدلالي الذي نطلق عليه مسمى الحب لن يتأثر بالزمن، فليس هناك ما نسميه حبا قديما وحبا حاضراً وإنما هناك حبا أزليا واحدا فلا نعرف حقا سر انجذاب العيون ونزوعها إلى شباكه، التي أرخاها السكاف وخفض سقفها فلن تبدو على نحو من العقد المضنية والسوداء أو المجاهرة بمأساتها كاشتباك عنيف بين المُراد وبين الحياة كمجريات صادمة، انما جعلنا ننتظر اللقاءات بنوع من المشاركة والألفة النادرة، بل جعل فيها ما يغذيها بقصص مماثلة كوقوع «عفزر» والد هند بحب «سيريانا» صاحبة الحانة المسماة على اسمها.
وظف السكاف لذلك الكثير من المنمنمات والإكسسوارات والأزياء وحتى الوشم والأطياب والأطايب والانبهار من ظهور بهيج، وحتى الأحلام بين غفوة ويقظة مفاجئة تشي بافتقاد المحبوب كما حصل لعندلة في غفوتها فهبت فزعة وكأنها فوتت موعدها بحبيبها يوما بأكمله.
وبرغم اختلاف زمني الحكايتين فلن نجد البناء الوصفي قد تغير سوى باسم مكانه. فما كان مرافقا في الحانة القديمة له ما يشبهه في حانة اليوم. وحتى الاشعار المنتخبة التي اختارها بعناية لتنشدها عندلة في زمنها وهند بعد أجيال جاءت متناغمة، وكثير منها جاء بتدخل وتحوير من قبل المغنيتين العاشقتين لتحمل أسباب حضورها الرقيق والمؤثر والتأشير أيضا الى خصوصيتها كمرافقة وانسجام. فنضيف هذا التأطير إلى واجب الأسباب التي استدعت السكاف أن يتحمل مشقة نحت نصه بذات العناية لينتج مرامر قطعة مزخرفة باهظة الجمال أعجب بها الملك النعمان ذاته ليدخل قصره المنيب وينحت لها أختا مشابهة، ثم يتعرف هو وهند على هند أخرى هي ابنة الملك التي هامت بقصة حب لم يقف بوجهه سلطان المُلك ولا سطوة الحكم، بل هجرت بسببها قصرها ورفاهيتها إلى دير لم يكتمل بناؤه اعتراضا على سجن أبيها لـ«شاعرها المفضل» عدي بن زيد العبادي، الذي تناولت سيرته المخطوطات بأنه كان يعشق هند، فيما آثر السكاف أن يغير بمسير الأحداث بأن هند كانت على علاقة بـ «المهندس شليما المسؤول عن بناء الدير» الذي هدد الملك بقتله إن «لم تعد الى القصر». ومع هذا الاختلاف في واقع السيرة، وهي ليست أكيدة على كل حال، وسع السكاف من رقعة اختياراته لغاية الانسجام والمعنى، وربما كان لذلك أصول تاريخية أخرى فاختارها ليؤكد مآل العاشق بحيث تتراجع تراتبية الأحداث الى موقع متأخر ليفتح عوالم العشق برؤيته الخاصة خصوصا مع شيوع خبر مقتل أو انتحار «ابن زيد العبادي داخل السجن» الخبر الذي صدم الأميرة هند بأن والدها الملك النعمان قد نكث بوعده لها أن يطلق سراحه بعد عودتها للقصر. ومن جانب آخر تهديد الملك الفارسي (كسرى) لملك أبيها، ومن ثم مقتله على يده في زيارته له. ومع ذلك سيكون للسكاف رؤيته المعشقة بالحدث التاريخي، كما سنرى بعد قليل، غير أنه لم يتنازل عن سقف روايته عن مآل العشق والعاشقين التي تقدمت على التاريخي والمتناقض منه.

هنا نلفت الانتباه إلى ما نطلق عليه بالصناعة التي تبعد النص عن تلقائيته وولادته المتتابعة؛ هنا، تكمن صعوبة الانتقالات لدى الكاتب بحيث تبدو لدى بعض الكتاب غريبة وأحيانا تائهة وينقصها الترابط الأسلوبي والتركيبي. وكأجراء تطبيقي علينا أن نلاحظ في أسلوبية السكاف حالة من عدم الاكتفاء والانتشاء من سلامة الوحدات الكلامية، بمعنى أن تنتهي وتفقد طاقتها بالاستمرار وتعجز عن التأثير على التالي. ولكي تكون عكس ذلك فعليها أن تمتلك خصائص المتانة والقوة والاستدامة أيضا لتسير بطواعية لتغذية كامل النص. ومع هذا السعي الحثيث للنص، بغض النظر عن ميزته كجمل بسيطة أو مركبة، يكون النص ذاته قد امتلك أهم عناصره بالنمو، ذلك أن ما نطلق عليه بالدلالة النصية فـ «...لا يمكن أن تتمظهر على مستوى الجملة، بل تتعدّاها إلى النص كلّه، وأنّ هذه الدلالة هي نتاج الترابط النصي بين الدلالات الجزئية التي تنتج عن ترابط اللغة الإبداعية من أصغر وحداتها إلى أكبرها». (1)

وعلى هذا النحو التطبيقي أيضا والذي كان يستوجب حسية مفرطة لكي تكون الانتقالات سلسة وموصولة وبإيقاع مشابه جعل السكاف يضم القصص تباعا كما شهدناه في سفرة عندلة الى القسطنطينية بصحبة حبيبها المهندس سنّمار والعودة للحيرة مجددا بمركب خاص وما رافق رحلتهما من جديد انظم بهدوء الى متن النص، نذكر منهما (النظراء) الصبية التي سيكون لها دورا مميزا في الحانة، وشاؤول التاجر الصديق الجديد ليفتح متجره الذي «سيكون أكبر محل صياغة في الحيرة». وآخرون رسم أدوارهم بعناية يعينون النص على الحفاظ على تألقه.

بداية جديدة
غير أن نص السكاف لم يخلُ من مفاجآت صادمة جعلت منه يتحصل على بدايات جديدة. والجديد هنا يوم قرار عندلة باعلان حملها من حبيبها سنّمار والذي تزامن في يوم الاعلان عن الاحتفال باستكمال قصر الخورنق وما صاحب ذلك من تراجيديا تاريخية مؤثرة بأن رُمـي مهندسه الرومي من أعلى اسواره بعد أن «وضع الملك كفه في ظهر "سنّمار" وألقاه من فوق السور». دفنت عندلة جثمان حبيبها في باحة دارها، مع أدعية أن ينزل «غضب السماء على الملك النعمان ابن أمرؤ القيس». وفي خامس يوم جهزت عربتها بصحبة عربتين من المؤن يقود إحداهما خادمها الوفي أرجيز وانطلقت شمالاً صوب القسطنطينية مع عبارة يتيمة «لن الد طفلي إلّا بين أهل أبيه، فهم أولى برعايته وتربيته» ولعلها كانت متوجسة من أن يُقتل هو الآخر بموقف غامض كأبيه.

نلاحظ هنا السبك الدقيق للمعلومة التاريخية وتوظيفها للحس الإبداعي لدى السكاف، وكأنه يوصل التاريخ بما فاته من تدوين. وإن تعدد الرواة فأن لدى السكاف روايته القادحة والحافلة بالمفاجآت وجديد السرد وتبادله بين حاضر يحصل وماض يعيد انعاشه لينطق بمخيلة الراوي الحديث. ففي موقع آخر من الرواية يعود السكاف ليبرئ الملك من فعلته بقتل سنّمار بعد أن دعى مرامر ليكرمه في قصره قوله: «لا يمكن لملك يعشق الفن وتطرب روحه لجمال الطبيعة، ويتذوق الشعر ويغدق على الشعراء بكرم أن يكون قاسيا جباراً عديم الرأفة قاسي القلب... فلم أسمع من قبل رغم حداثة سني، أنه ظلم أحدا. ومن حيث التدوين يخبرنا السكاف عن همّ الملك ذاته بانتقاء الاشعار تلك «التي يراها مهمة وجمعها بكتب عديدة» خصوصا النصوص التي «تمجده وتشيد بكرمه وعظيم نسبه» وضعها الكاتب على لسان والد مرامر. حتى اصبح كتاب اشعار الملك الكتاب الوحيد ليختارا منه هند ومرامر ما سيغنياه في الحانة.
هنا ما يعنى به التاريخ هو غير ما يدور في رأس الراوي له، علاوة على إعادة إنتاجه في ذهنية الكاتب المعاصر كمخيلة متحررة من زمنها. وعلى ما يبدو أن الرواية التاريخية تجتمع على البدايات فيما تختلف في النهايات، أما بينية الأحداث فلا شيء يذكر تقريبا. وهنا يكمن حقل الاشتغال الذكي للكاتب. وكنهاية وضعها السكاف كحبكة سريعة ولا اقول متسرعة ذلك أنها استوفت شروطها واستنفذت طاقتها، فقد هجر الملك سلطانه هائما بالبراري ولم يعرف له آثرا، فيما اختفت اخبار عندلة وارجيز بعد مغادرتهم الى القسطنطينية. غير أن السكاف أعاد الحكاية بعكس الاتجاه أي من القسطنطينية إلى الحيرة بعودة يوليوس ابن عندلة وسنّمار بصحبة طفلة يبحث عن قبر أبيه بعد زمن طويل، أما الطفلة فهي ماريا جدة هند. كان ذلك لسبب واحد على ما أظن هو الحاح مخيلته على وضع النهايات التي يبحث عنها القارئ، ولكن بتفعيل درامي مختلف طالما وجدناه لدى "باموق" و"الين شفاك" علاوة على السرد الميسّر للكلاسيكيات. وعلى ذكر التسارع فقد انتبه السكاف إلى حالة نسميها انجراف النص إلى تشعبات غير ضرورية، بل الميل اليها قد يؤدي الى جنوح الرواية ويضعف البنية السردية، فاستعاض عنها بقليل من الصفحات الضامنة للمآلات والمصائر. وهذا ما وفر عليه استطرادات لا أهمية لها فيما جنب القارئ الدخول في قصص جديدة ربما تفقد الكاتب سيطرته على السرد المناسب للاحداث التي أراد لها بنية اجرائية متوازنة، بل تحمل انحيازها لذاتها تحديدا. ومن جانب آخر آثر أن يستكمل نهايات ابطاله الآخرين مثل عفزر والد هند الذي هجرته زوجته والدة هند قبل زمن، فتتزوج من سيريانا صاحبة الحانة المسماة على اسمها كما ذكرنا، فاختفت هي الآخرى بظروف غامضة، واختفى هو أيضا في بحثه عنها. ولعل الغياب الأكبر هو غياب هند بنت عفزر واختفاؤها وهو الغياب الذي ختم به السكاف كتابه كأشارة الى تنوع المصائر والنهايات المروية والمتخيلة للكاتب، فالملك النعمان مات مرتان واحدة في الصحراء واخرى في غدر الملك الفارسي، كذلك الدلائل الملتبسة عن مقتل ومصير "شليما" مهندس الدير الذي احبته الأميرة هند. ومع هذا التنوع جعل السكاف لروايته مناخها المتخيل وبرغم اختلافه فأنه لم يدمغ نصه أو يسجنه في تاريخ محدد، ولم يقاضيه كمآل يركن اليه بالمطلق. والمثير إننا لم نلحظ في السياق السردي حالة من عدم الانسجام والتضارب وهذا يشير إلى دراية الكاتب بالتقنيات المناسبة للسرد وتعمده في ابقاء المصائر مفتوحة على تنوعها هي أيضا خصوصا اختفاء بطلته هند. بمعنى إن النص أو الحكايات لن تنتهي على نحو من الجزم والاغلاق. وبهذا يكون السكاف قد قدم نصا موازيا للتاريخ ومفتوحا على التأويل. كذلك تتوجب الاشارة إلى الاسقاطات الكثيرة التي اتسمت بها احداث الرواية كما حالة العبث والجريمة والفوضى بعد موت الملك النعمان.

ماذا ايضا؟ نعم؛ امتاز نص السكاف ببعض الوصفيات كالحارات والبيوت والطبيعة والألوان والطلاء الأبيض (النورة) على وجه الخصوص، علاوة على ملابس النساء والعطور والفساتين كأن يوصف فستان الأميرة الفيروزي بأن له «لمعان صدر الحمام الزاجل»، اضافة للحلي والجواهر والكثير ما يضمن للنص واقعية مدنيته وخصوصياتها حتى بانواع المأكولات والمشاريب وطرائق تقديمها ليُشعر القارئ أنه في بيئة منتقاة تناسبَ فيها واقع الحال مع الوصف الرشيق. ومع هذه الموازنة والكثير غيرها ما جئنا عليه في رواية السكاف لم نشعر بصناعة نصية مقحمة، بل جاء العمل الروائي كذلك مسترسلا وناعما بمحتواه، ويشي أيضا ببحث وعناية عن الأمكنة والأسماء والشعر المنسوب لشعراء بينهم من سمعنا بهم. وكضمانة كان غالبا ما يضع حواشٍ لخصوصية حادثة أو اسم محدد ومكان، وبرغم أن هذا ليس مهما باعتقادي لكنه من جانب آخر حقق للرواية مشروعيتها الزمنية ولا اقول التاريخية، تحاشيا للبس، بجوانبها المؤكدة. وفي النهاية فأن رواية السكاف، مغنية الحيرة ستحمل اسمها كحيرة للزمان والمكان في تطابق بين الاسم والتأويل لتشذيب وصياغة مرامٍ أخرى للنصوص التاريخية باستقدام التاريخ الى الحاضر وتشريحه، وإعادة الحياة لما غاب عن وعي الحكاية/الحكايات اللائذة بالمتع والمآسي والذي اخفاه واقعها آنذاك لأي سبب. وبهذا استحقت رواية السكاف على انها كاشف غير مشروط بواقعها وبتفعيل ذهني معامل بالقدرة الكتابية التخيلية، وكمغامرة استطاعت التسلل ليومنا برشاقة وتوئدة.
-----------------------------------
1- الدكتور حسين تروش باحث أكاديمي بكلية اداب واللغات جامعة محمد لمين دباغين، سطيف 2، الجزائر. مقال رقمي: 
https://asjp.cerist.dz/en/article/47063#:~:text



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زمن آخر للمكافأة -مجرد وقت وسيمضي- لشاكر الناصري
- سمير الأذى وطير السعد - حياة بين ضفتين
- ما الذي يلح على الكاتب أن يكتب؟ - العيش على الصراط- رواية لل ...
- -أموات في متحف الأحياء-.. ضياع -أثيكا- أم ضياع الإنسان
- - اليوم بالذات لسنا بحاجة لنيرانك- / الأثيري والأرضي في مجمو ...
- العتابي وتحولات المكان -هل الفُل عراقي-؟ نعم (الحزن) عراقي و ...
- خليل - خالد * -وأمانه يا دنيا أمانه تاخذينه للفرح أمانه..-
- عتاق يوم آخر
- - الهند أم العجائب- في عيد الحب
- كيف اكتب بعد غياب!
- بصرة - اورشليم
- -من ذاكرة الصور- صبا مطر بين حربين
- اشتقاقات الغياب - قراءة شعرية في نصوص محدثة
- كوپه-ديناري
- حبيبا الساحةِ
- -قافل-
- -شو بدي بالبلاد الله يخلي لأولاد-
- لنْ نخذلكَ في الخامسِ والعشرين
- سنغنيكَ لأنك غيرتَ العالمَ! حبيبي...
- وشمٌ على خصرِكَ أيلول - الى وليد وإبراهيم وكلِّهم


المزيد.....




- سرديات العنف والذاكرة في التاريخ المفروض
- سينما الجرأة.. أفلام غيّرت التاريخ قبل أن يكتبه السياسيون
- الذائقة الفنية للجيل -زد-: الصداقة تتفوق على الرومانسية.. ور ...
- الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة
- توبا بيوكوستن تتألق بالأسود من جورج حبيقة في إطلاق فيلم -الس ...
- رنا رئيس في مهرجان -الجونة السينمائي- بعد تجاوز أزمتها الصحي ...
- افتتاح معرض -قصائد عبر الحدود- في كتارا لتعزيز التفاهم الثقا ...
- مشاركة 1255 دار نشر من 49 دولة في الصالون الدولي للكتاب بالج ...
- بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون ...
- فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - مغنية الحيرة... حيرة الزمان والمكان في تطابق بين الاسم والتأويل