|
|
مدينةُ الحسكةِ: التسميةُ والنشأةُ
اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.
(Ishak Alkomi)
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 22:13
المحور:
قضايا ثقافية
مقدمة موضوعُ نشأةِ المدنِ، وخاصّةً تلك التي تقعُ في الجزيرةِ السوريّةِ بحدودِها التي تحدّدت بموجبِ معاهدةِ رسمِ الحدودِ السوريّةِ–العراقيّةِ والسوريّةِ–التركيّةِ (سايكس–بيكو)، يصبحُ أكثرَ خلافًا، لكونِ المنطقةِ تشبهُ تلك المناطقِ المتنازَعِ عليها سياسيًّا ما بينَ قوميّتَينِ، إحداهُما تريدُ إثباتَ نفسِها وأقدميّتِها في الأرضِ، رغمَ أنّ المكتشفاتِ الأثريّةَ أثبتت، بشكلٍ غيرِ قابلٍ للتفسيرِ الخاطئِ، أنّ أرضَ الحسكةِ أرضٌ آشوريّةٌ – آراميّةٌ، تركها أهلُها وهربوا من ظلمِ الاجتياحِ المغوليِّ لهذه الأرضِ، إلّا أنّ الطبقاتِ الأركيولوجيّةَ تُثبتُ وجودَ حضاراتٍ تعاقبت عليها، وهذا ما يُقرّه المؤرّخُ الموضوعيُّ. وبعدُ، نعودُ إلى موضوعِ من كتبَ عن الحسكةِ كتابًا كاملًا؛ فلا يوجدُ من عاقلٍ إلّا ويُقرُّ لنا بتجربتِنا البحثيّةِ، وقد بدأنا ذلك منذُ منتصفِ ستينيّاتِ القرنِ العشرينَ الماضي، ونحنُ بالأصلِ ننتمي إليها (إن شاءَ من شاءَ وأبى من أبى). لكنَّ الحقيقةَ أنّنا كنّا قد نشرنا عن تاريخِ الحسكةِ كمسوّداتٍ في منتدانا، ولا يزالُ (مملكةُ الحبِّ والنهارِ)، وفي موقعِنا الإلكترونيِّ (اللوتسُ المهاجرُ)، وفي ويكيبيديا، ولا يزالُ النصُّ موجودًا، كما نشرنا في أكثرَ من عشرينَ موقعًا آخرَ. ويتذكّرُ من يتذكّرُ عندما نشرنا عامَ 2009م في موقعِ الأخِ الأستاذِ حسينِ حمدانَ العسّافِ، وكيف ثارت بوجهِنا ثوراتٌ بركانيّةٌ، لم تقم أغلبُها إلّا على العصبيّةِ والعاطفةِ وغليانٍ إيديولوجيٍّ لا غير. ولكنْ، لكونِنا نكتبُ تاريخًا ولا ندّعي فيه الكمالَ، اعتبرنا أغلبَ تلك المناكفاتِ والمناقشاتِ تُؤسّسُ في العلومِ التاريخيّةِ تاريخًا لمن هو أسبقُ من خاضَ غمارَ الكتابةِ عن مدينةِ الحسكةِ والجزيرةِ السوريّةِ بشكلٍ عامٍّ. أكتبُ هذه المقدّمةَ القصيرةَ لكوني أرى وأسمعُ وأقرأُ في السنواتِ الأخيرةِ، سواءٌ أكانوا ضمنَ من يكتبون في الفيسبوك أو في إذاعاتٍ وتلفزيوناتٍ محلّيّةٍ، يأتون على تسميةِ الحسكةِ ويذكرون أنّ اسمَها جاء من الحسكةِ أو نهرَينِ، ولكنّهم جميعًا لا يتقيّدون بالأمانةِ العلميّةِ. فنحنُ نقولُها، وبالخطِّ العريضِ، إنّها لغةُ التزويرِ والتهميشِ، لعدمِ ذكرِ المصدرِ ومن أينَ استقى هذه المعلومةَ. ومن حقّنا أن نقاضيَ هذا وذاكَ، لأنّه لا يوجدُ من المهتمّين بالتاريخِ إلّا وعلمَ بكتابتِنا عن تاريخِ مدينةِ الحسكةِ، وتواريخُ نشرِنا تؤكّدُ على ما نقولُ، فهي إثباتاتٌ مادّيّةٌ نستطيعُ تحديدَ الدقيقةِ التي نشرنا بها تلك المواضيعَ، التي أعودُ وأقولُ إنّها مسوّداتٌ وليست نهائيّةً. أمّا النهائيّةُ فقد طبعناها عندما توفّرَ لنا المالُ في ألمانيا، وتحتَ رقمٍ دوليٍّ. لهذا، وجدتُ أن أبدأَ بالنشرِ عن تاريخِ الحسكةِ، لعلّي أقدّمُ للقارئِ الكريمِ ما يُسعفُه في معرفةِ الجزءِ الكبيرِ من الحقيقةِ في النشأةِ، وليس تلك الأفكارَ التي تُجيرُ الحقيقةَ لصالحِها تحتَ ضغطٍ إيديولوجيٍّ وسياسيٍّ. كما لابد أن أشير إلى شهادة الدكتور منير أنطون اليوسف عضو الجمعية الجغرافية السورية بدمشق
وقبلَ أن نبدأَ بالتسميةِ: © حقوقُ الطبعِ والنشرِ والترجمةِ والنسخِ محفوظةٌ للمؤلّفِ كتاب: مِئةُ عامٍ مرّت على بناءِ مدينةِ الحسكةِ – الجزءُ الأوّلُ تأليف: اسحق قومي – ألمانيا – 1966م الطبعةُ الأولى: ألمانيا – مدينةُ بوركن – عامُ 2020م أرشفةُ الصور: الأخُ العارفةُ سعد أفنس حريث الملحم التنضيدُ الإلكترونيّ: المؤلّفُ اسحق قومي الإخراج: أ. علي عيد التصميم: الفنّان جان أستيفو الرقمُ الدوليّ: ISBN 978-3-9813028-8-2 المطبعة: Rehms Druck GMBH Landwehr 52 Borken – Westfalen 46325 www.rehmsdruck.de نتابع: الحسجة أو الحسكة – التسمية نهرين ومكريزي مدينةٌ تقعُ في أرضِ الجزيرةِ السوريّةِ، وعلى الشاطئِ الأيسرِ لنهرِ الخابورِ الذي يمرُّها من جنوبِها الغربيِّ حتّى جنوبِها الشرقيِّ، هذا قديمًا، أمّا اليومَ فيمرُّها في وسطِها. وهي مركزُ محافظةِ الحسكةِ البالغةِ مساحتُها 23 ألفًا و334 كيلومترًا مربّعًا. وتبعدُ الحسكةُ عن العاصمةِ دمشقَ 600 كيلومتر، وعن مدينةِ حلبَ 400 كيلومتر، وعن ديرِ الزورِ 179 كيلومترًا. مدينةُ الحسكةِ حديثةُ العهدِ في بنائِها الجديد، حيث بدأ مع مجيءِ السيّدِ الخواجا عمسي موسى وأُسرتِه وإخوته قادمين إليها من طابان، بعدما أمضَوا أكثرَ من ثلاثةِ أعوامٍ هناك، لكنّهم فضّلوا أن ينتقلوا، لأسبابٍ غيرِ معلومةٍ، إلى المكانِ هنا، وبنوا لهم بيتًا كان أشبهَ بقصرٍ محاطٍ بجدرانٍ (حيطانٍ) عاليةٍ وعريضةٍ، ولفناءِ الدارِ (الحوش) بابٌ كبيرٌ له ثلاثةُ مزاليجَ تُقفل، وبعدها نجدُ قفلًا كبيرًا قالوا إنّه كان قد جلبه معه من ماردين. الآراءُ التي تناولتِ التسمية فقد اختلفتِ الآراءُ حولَ التسميةِ، ومن أينَ جاءت؟! فمن التقينا بهم قبلَ أكثرَ من أربعينَ سنةً، هؤلاء الذين شكّلوا الجيلَ الأوّلَ والثانيَ من الأوائلِ الذين عمّروا قريةَ الحسجةِ، قال بعضُهم: سمعنا أهلَنا يقولون عن مجموعةِ بيوتٍ لا تتعدّى العشرةَ في هذا المكانِ، الذي كان يكثرُ به شوكٌ ينمو بشكلٍ غزيرٍ وكثيفٍ، ويُزعجُ البشرَ والحيواناتِ على حدٍّ سواءٍ، حيث يعلقُ بصوفِ الغنمِ وشعرِ الماعزِ، حتّى الحميرُ والبغالُ لم تكن لتسلمَ من أذيّته، بحيثُ لو علقَ بصوفِ الغنمِ لا يمكنُ نزعُه إلّا بقصِّ الصوفِ. واسمُ ذاك الشوكِ (الحسك)، والعربُ تلفظهُ الحَسَجْ، فقالوا الحسجةَ كمفردةٍ لشوكةِ الحسجِ. وقد أجمعوا على رأيٍ واحدٍ، وهو أنّها سُمّيت باسمِ الشوكِ. وقال بعضُ ممّن عملَ مع الفرنسيّين في عمليّةِ الطبوغرافيّا والمسحِ الأثريِّ، ومنهم السيّدُ بحدي عبد النور، قال: كان في مكانِ الجسرِ الحاليِّ نفسِه آثارُ جسرٍ رومانيٍّ قديمٍ، ورأوا أخشابًا متهالكةً تمتدُّ على أكثرَ من ركيزةٍ حجريّةٍ من الحجرِ الأسودِ. كما وجدوا وسيلةً للتنقّلِ من شمالِ النهرِ إلى جنوبِه وبالعكس، عبارةً مصنوعةً من أغصانِ الأشجارِ الكبيرةِ، كانوا يسمّونها حسكةً، ولم تكن واحدةً بل مجموعةَ حسكاتٍ لنقلِ العابرين، فالمكانُ مهمٌّ وقديمٌ جدًّا، يعودُ إلى العصورِ الحجريّةِ والسومريّةِ والأكّاديّةِ والآراميّةِ السريانيّةِ والآشوريّةِ واليونانيّةِ والرومانيّةِ والعربيّةِ الإسلاميّةِ. ومن هنا جاءتِ التسميةُ. وقال: سمعتُ من يُجيدون السريانيّةَ بأنّ كلمةَ حسكةٍ لفظةٌ سريانيّةٌ، مكوّنةٌ من كلمتَينِ، وتعني تنظيمَ جريانِ مياهِ النهرِ، لأنّ في المكانِ يُشكّلُ نهرُ الخابورِ حركةً متعرّجةً تشبهُ الشصَّ، خاصّةً عند شبهِ الجزيرةِ التي بُنيَ عليها فيما بعدُ جرداقُ متّى ولوقا. وحتّى جنوبِها نرى نهرَ الخابورِ كالشصِّ الذي يصطادون به السمكَ، ينحرفُ من الشمالِ إلى الجنوبِ الغربيِّ، ومن ثمّ يُتابعُ إلى الشرقِ. وأنّ أوّلَ ذكرٍ لكلمةِ الحسكِ نجدُه في أقدمِ كلامٍ في الوحيِ، حيث يقولُ اللهُ سبحانهُ وتعالى لآدمَ: (ملعونةٌ الأرضُ بسببِك، بالتعبِ تأكلُ منها أيّامَ حياتِك، وشوكًا وحسكًا تُنبتُ لك، وتأكلُ عشبَ الأرضِ). وحتّى سنبلةُ القمحِ تتكوّنُ من حبّاتِ الحنطةِ (القمحِ) وحسكٍ. وخلالَ بحثي منذُ منتصفِ الستينيّاتِ من القرنِ العشرينَ، وحتّى عامِ 1988م عندما هاجرتُ إلى أمريكا، لم أسمعْ من أحدٍ من أولئكَ الكبارِ في السنِّ من قال غيرَ ما ذُكِرَ بالنسبةِ للتسميةِ. وقد أجمعوا على تسميتِها بالحسكةِ نسبةً إلى شوكِ الحسكِ، بحسبِ اللفظِ القلعةِ مراوي، والميردلي، والمنصوراتي، والمديادي. وحين خالطَ العربُ الذين كانوا يعيشون في الخيامِ، على بُعدِ كيلومتراتٍ، أهلَ القريةِ (الحسجةِ) بغرضِ شراءِ حاجيّاتهم من دكاكينِ هؤلاء القلعةِ مراويةِ والميردليّةِ والمدياديّةِ، أصبحَ هؤلاء يُنادون المكانَ بالحسجةِ، وقد غلبَ اللفظُ العربيُّ البدويُّ للكلمةِ (الحسج) على تسميةِ المكانِ، حتّى إنّ الوثائقَ العثمانيّةَ كتبت كلمةَ الحسكةِ كما يلفظُها البدويُّ حينها (الحسجة). وقال السيّدُ حمود ياسين العليوي إنّ التسميةَ «نتيجةُ وجودِ الحسكِ بشكلٍ كثيفٍ، وقد تعوّدَ الناسُ على الاسمِ، وبحسبِ ما تداولَه الأوائلُ، ولهذا ترانا لم نُبدّلِ التسميةَ لكونِها واقعيّةً، وكان من الممكنِ على المكوّنِ العربيِّ أن يُبدّلَها، لكنّه حافظَ على ما تناقلتْه الألسنُ والموروثُ الشعبيُّ. وأمّا من يدّعي بغيرِ ما تقدّمَ فهو يهدفُ لغاياتٍ سياسيّةٍ، ويُجيرُ الحقيقةَ، ويُزوّرُ في التسمياتِ على هواه، بدليلِ أنّه لم يكن في سهولِ الجزيرةِ غيرُ قبائلِنا العربيّةِ المتناثرةِ هنا وهناك، حيث كان أغلبُهم، وما نسبتُه 97% منهم، يعيشون في الخيامِ، وأؤكّدُ لك أنّ الجميعَ كان يعيشُ في الخيامِ حتّى منتصفِ ونهايةِ الأربعينيّات». وعن هذا القولِ الحقيقيِّ نجدُ وثيقةً عثمانيّةً رقمُها وتاريخُها، فرقمُها 114NZ – 1316 ماليّة، و1318 هجريّة، الموافق لـ1900 ميلاديّة، جاء فيها أنّ البابَ العالي يطلبُ من وجهاءِ قبيلةِ الجبورِ الذين يتوزّعون على (الخابورِ الأوسط) أن يبدؤوا ببناءِ القرى بدلًا من سُكناهم في الخيامِ، أي أن يهجروا العيشَ نهائيًّا في الخيامِ، وعلى ألّا يعترضَ منهم أحدٌ في مخالفةِ هذا الأمرِ. وقولُنا إنّه لم يكن في المكانِ سوى القبائلِ العربيّةِ المتناثرةِ التي كانت تتنقّلُ طلبًا للماءِ والكلإ عبرَ سهولِ الجزيرةِ، يؤكّدُ أمرَينِ: وجودَهم وأسبقيّتَهم في أرضِ الجزيرةِ، وتنقّلَهم وعدمَ استقرارِهم أوّلًا، دون أن ننسى الوجودَ القلعةَ مراوي، والميردلي، والمنصوراتي، والمديادي، والقصوارني، والبنيبليّي في قريةِ الحسجةِ ثانيًا. ونؤكّدُ تسميةَ الحسجةِ كما وردَ ذكرُها سابقًا لثقتِنا بأنّ الأوائلَ من أهلِ الحسكةِ الذين أخذنا عنهم لم تكن لهم غاياتٌ سياسيّةٌ أصلًا، ولهذا فكلُّ كلامٍ غيرِ ما تقدّمَ يُعدُّ تغييرًا وتزويرًا للحقيقةِ. فلو أرادَ العربُ أن يفرضوا رأيَهم لقالوه يومَ كانوا أقوياءَ، إنّ الحسكةَ سمّاها فلانٌ أو أنّها سُمّيت لأمرٍ ما. وحتّى المسيحيّون الذين أسّسوا المدينةَ لم يُسمّوها باسمٍ خاصٍّ بهم، وهذا يدلُّ بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ على أنّ التسميةَ جاءت من الواقعِ، لكثرةِ الشوكِ فعلًا الذي كان ينبتُ غربيَّ الثكنةِ العثمانيّةِ، وينتشرُ غربًا حيثُ مبنى الهجّانةِ، وشرقًا حتّى حدودِ الحارةِ العسكريّةِ، وكان ينبتُ بشكلٍ منقطعِ النظيرِ، لكنّه تلاشى وجودُه مع العمرانِ وحركةِ البناءِ في المكانِ. وأميلُ إلى التأكيدِ على أنّ التسميةَ الحديثةَ للحسكةِ جاءت من كثرةِ وسيلةِ النقلِ القديمةِ التي نسمّيها عباراتٍ (حسكة)، والتي كانت تكثرُ على نهرِ الخابورِ إلى وقتٍ قريبٍ، قبلَ بناءِ الجسرِ الخشبيِّ، وجاء بعده الجسرُ الحديديُّ الذي بناه الفرنسيّون في السنةِ الأولى من مجيئِهم من ديرِ الزورِ، وانتهى العملُ به عامَ 1923م. وأؤكّدُ أنّ التسميةَ جاءت من تلك الوسيلةِ، وهي أقربُ إلى استنتاجاتي، على الرغمِ من أنّني أطلقتُ على التلِّ الذي تجثو تحتَ أنقاضِه مدينةٌ قديمةٌ اسمَ (نهرين). وكان ذلك في معرضِ حديثي مع عالمِ الآثارِ السيّدِ ديفيد أوتس وزوجتِه، الذي كان رئيسًا للبعثةِ البريطانيّةِ للآثارِ، والتي كانت تُنقّبُ في تلِّ باركتو (تلِّ براك)، في الربعِ الأوّلِ من ثمانينيّاتِ القرنِ العشرينَ، ولقاءاتي به تجاوزت ثلاثةَ لقاءاتٍ. وأمّا عن الاسمِ الذي أطلقتُه على المكانِ (نهرين)، فقد سألني يومَها عن السببِ الذي يدعوني لتسميتِها بنهرين. قلتُ له: ألا ترى بأنّ نهرَ الجغجغ (بغدون) يصبُّ في نهرِ الخابورِ إلى الجنوبِ الشرقيِّ من تلّها؟! فأعتقدُ أنّ التسميةَ مناسبةٌ، أليسَ كذلك؟! فوافقني الرأيَ، وهزَّ برأسِه، وقال لي: (سنتريّثُ قليلًا، على الرغمِ من إعجابي بك وباستنتاجاتِك، وأنتَ محقٌّ بهذه التسميةِ الواقعيّةِ، لكنّي أرى أن تبدأَ أعمالُ الحفريّاتِ والتنقيبِ عن الكنوزِ في هذا التلِّ، حيث من المؤكّدِ ستجلو الأبحاثُ الأثريّةُ عن الاسمِ الحقيقيِّ لهذه المدينةِ العريقةِ، والتي أتوقّعُ أنّها تعودُ إلى الألفِ الأوّلِ قبلَ الميلادِ.) هذا القولُ لعالِمِ الآثارِ البريطانيِّ ديفيد أوتس، وتحدّثنا عن توابعِ المدينةِ… القديمةُ، مثلُ القصرِ الملكيِّ الواقعِ تحتَ كنيسةِ العذراءِ للسريانِ الكاثوليك، الموجودِ إلى الشمالِ الغربيِّ قليلًا من كراجِ الانطلاقِ القديمِ (كراجِ بيتِ آدمو). وعن معبدِ شمشو المتوقَّعِ وجودُه تحتَ كنيسةِ الكلدانِ، كنيسةِ قلبِ الملكِ يسوع، أمّا مقبرةُ المدينةِ القديمةِ فكانت تقعُ تحتَ بناءِ البلديّةِ الحديثِ، وسوقِ الصاغةِ، حيث تمتدُّ جنوبًا إلى ما قبلَ سينما دمشقَ، التي هي ملكٌ لبيتِ لولي أبو نغم. وبعدَ فترةٍ ليست ببعيدةٍ عمّا كنّا نتحدّثُ ونتوقّعُ ونُفهرسُ المكانَ، جاءتِ التنقيباتُ الأثريّةُ في تلِّ مدينةِ الحسكةِ في نهايةِ القرنِ العشرينَ، وبيّنتِ العديدَ من تكهّناتي أوّلًا، وما كان يأملُه ديفيد أوتس ثانيًا، حيث بانَ النقابُ عن وجودِ كنيسةٍ تعودُ للقرنِ الرابعِ الميلاديِّ، وهذا يؤكّدُ أنّ الوجودَ المسيحيَّ، كما قلنا، في المنطقةِ ليس بجديدٍ، ولم يأتِ المسيحيّون لأرضٍ غيرِ أرضِ أجدادِهم، كما أكّدتْ كلُّ المكتشفاتِ للبعثةِ الوطنيّةِ السوريّةِ أنّ مدينةَ الحسكةِ التاريخيّةَ تعودُ إلى الألفِ الأوّلِ قبلَ الميلادِ. وبأنّها مدينةٌ آراميّةٌ كانت تُدعى (ماغاريشو)، وعندما احتلّها الآشوريّون دُعيت مكريزي، حيث كانت منتجعًا للملكِ الآشوريِّ تيكولتي نينورتا الأوّل، إذ كان يستريحُ بها عندما كان في مهمّاتٍ حربيّةٍ، وكانت ترتبطُ بوحدةِ المصيرِ لباقي الإمبراطوريّةِ الآشوريّةِ. وكانتِ البعثةُ الوطنيّةُ السوريّةُ بقيادةِ الدكتورِ عبدِ المسيحِ بغدو، التي نقّبتْ في تلِّ الحسكةِ. نهرين ومكريزي: بين الرأيّ الأوّليّ والحقيقةِ الأثريّة وأمّا الاسمُ الذي أطلقتُه على المدينةِ مع ديفيد أوتس في الربعِ الأوّلِ من ثمانينيّاتِ القرنِ العشرينَ، فكان عبارةً عن رأيٍ تحليليٍّ وموضوعيٍّ وواقعيٍّ، لكونِ التلِّ الأثريِّ يومَها يقعُ على مقربةٍ من التقاءِ نهري الخابورِ القادمِ من الغربِ، ونهرِ الجغجغِ القادمِ من الشمالِ. ولكن بعدَ الحفريّاتِ الأثريّةِ لا بدّ من أن نُغيّرَ التسميةَ من مدينةِ نهرين إلى مدينةِ مكريزي. وأمّا معنى مكريزي فلا نعلمُ ماذا تعني هذه الكلمةُ. وجاء ذكرُ الحسكةِ في كتابِ (طبوغرافيا التاريخ السوري) لرينيه دوسّو RENE DUSSAUD Topografie historique de la Syrie، ص 488، عن الحسكةِ بأنّها كانت تُدعى بشاديكني (شادي كاني). وكان الآشوريّون يعرفونها بهذا الاسمِ، الذي تحوّل إلى ساكان على عهدِ الرومانِ، واتّخذ هذا الاسمَ الأخيرَ العربُ في أوائلِ سيطرتِهم، محوّلينه إلى حسكة، ولفظهُ البدوُ حسيشه. آراءُ المؤرّخين حول التسمية أمّا المؤرّخُ دي فريز، فيقولُ في كتابِه (تاريخ الكنيسة الأنطاكيّة): إنّ كلمةَ الحسكةِ تعني القلاعَ، من حساكا، وهذه الكلمةُ تأتي من فعلِ حساك، وتُجمعُ حساكه، وأنّ الحسكةَ كانت عبارةً عن عدّةِ قلاعٍ واقعةٍ على ضفافِ نهرِ الخابورِ. وفي الحسكةِ أكامٌ وتلولٌ كثيرةٌ، لربّما كانت هذه الأكامُ والتلولُ قلاعًا في الزمانِ الغابرِ، وأنّ الكنيسةَ الجديدةَ واقعةٌ على رابيةٍ في وسطِ الحسكةِ، حسنةِ الموقعِ، مرتفعةٍ، يراها الجميعُ من بعيدٍ، وهي أوّلُ بناءٍ يقعُ عليه النظرُ عندما يُطلُّ الإنسانُ على بلدةِ الحسكةِ. وقد هُدمتْ هذه الكنيسةُ الجديدةُ وتُشادُ غيرُها. جاء هذا القولُ في موقعٍ في الفيسبوك، وهو: Facebok.com/biladassyrian إنّني أحترمُ جميعَ الآراءِ، خاصّةً تلك العلميّةَ منها، وأودُّ أن أقولَ إنّ كلمةَ حسكةٍ كلمةٌ آشوريّةٌ (أكادية)وليست سريانيّةً، لو أخذنا السياقاتِ التاريخيّةَ في نشأةِ اللغاتِ، هذا أوّلًا، على الرغمِ من أنّني لا أجدُ حرجًا علميًّا ولا تاريخيًّا في قولي إنّ اللغةَ السريانيّةَ، التي هي آراميّةٌ أصلًا وفصلًا، كانت نتاجَ لغاتٍ عدّةٍ، منها السينائيّةُ، واللبنانيّةُ، والفينيقيّةُ، والآكاديّةُ البابليّةُ، والآشوريّةُ. ولهذا فالتنقيباتُ الأثريّةُ الأخيرةُ أثبتتْ أنّ اسمَها مكريزي. أمّا بشأنِ كلمةِ شاديكني أو (شادي كاني)، فإنّي ألفتُ الانتباهَ بأنّه في حديثي مع الأستاذِ البرفسورِ ديفيد أوتس جئنا على أنّ غويرانَ مدينةٌ يلزمُ أن تُفصحَ عنها التنقيباتُ الأثريّةُ. قلتُ للسيّدِ ديفيد: لماذا لا يكونُ غويرانُ هو مدينةَ شادي كاني؟ فقال: «لا أعتقدُ أنّه مدينةُ شادي كاني، فشادي كاني هي تلالُ عجاجة». ولكنّنا اختلفنا حقيقةً حولَ أن تكونَ عجاجةُ (مكسين) هي شادي كاني. نقدُ المصادرِ الاستشراقيّة أمّا بالنسبةِ إلى ما جاء في كتابِ (طبوغرافيا التاريخ السوري) لرينيه دوسّو، المستشرقِ الفرنسيِّ المولودِ عامَ 1868م والمتوفّى عامَ 1958م، الذي دارتْ أبحاثُه حولَ سوريةَ، فإنّ قولَنا السابقَ يجعلُنا نشكُّ فيما توصّلَ إليه المستشرقُ الفرنسيُّ دوسّو بشأنِ تسميةِ شاديكني (شادي كاني). أمّا ما خلاصتُه بتحريفِ الاسمِ من العهدِ الرومانيِّ وحتّى مجيءِ العربِ، ففي القولِ وجهةُ نظرٍ. وأمّا الرأيُ الذي يقدّمه المؤرّخُ دي فريز في كتابِه (تاريخ الكنيسة الأنطاكيّة)، فلنا أن نأخذَ على قولِه عدّةَ مآخذَ، أوّلُها أنّ الحسكةَ «تعني عدّةَ قلاعٍ واقعةٍ على ضفافِ نهرِ الخابور»، وهذا يسمحُ لنا بالقولِ إنّه يقصدُ منطقةً كاملةً بعينِها، وليس مدينةً أو بلدةً صغيرةً في ذاك الزمانِ. ولهذا لا نأخذُ بكلِّ الأقوالِ على أنّها حقيقةٌ مطلقةٌ، ما لم تكن متوّجةً بالتنقيباتِ الأثريّةِ، ولكنّني أوافقُه الرأيَ بالنسبةِ للكنيسةِ، وكيف يقولُ عنها إنّها كانت تبدو للناظرِ من بعيدٍ. الوجودُ المسيحيُّ والعلاقةُ العربيّةُ كلُّ هذه الأقوالِ والإثباتاتِ تؤكّدُ لنا أنّ من يدّعي بأنّ الشعبَ المسيحيَّ، الذي هربَ من ظلمِ المذابحِ العثمانيّةِ وأعوانِهم عامَ 1915م، وقبلَ هذا، هم ليسوا غرباءَ ولا محتلّين ولا لاجئين ولا يطلبون الصدقةَ ممّن كانوا في المكانِ، على الرغمِ من أنّنا نؤكّدُ بصوتٍ عالٍ أنّ القبائلَ العربيّةَ أكّدتْ على أصالتِها ونخوتِها وإغاثتِها للملهوفين وحمايةِ الضعفاءِ، الذين وجدتْ هي الأخرى في هؤلاء القادمينَ المصلحةَ الحقيقيّةَ للعيشِ المشتركِ، الذي فيه العديدُ من الفوائدِ. ولكونِهم أصحابَ صناعاتٍ يدويّةٍ، وتُجّارًا، ومتعلّمين، والقبائلُ العربيّةُ آنذاك بحاجةٍ إلى من يُشاركُها العيشَ في أرضٍ واسعةِ الأرجاءِ، ويوفّرُ لها مستلزماتِها من طعامٍ وغذاءٍ وما تحتاجُ إليه، ويوفّرُ لها أن تذهبَ بقوافلَ إلى ماردينَ أو الموصلِ، وما كانت تلقاهُ من متاعبَ واعتداءاتٍ عليها أو دفعِ أتاواتٍ للحكوماتِ العثمانيّةِ أو لمن كانوا زعماءَ في تلك المناطقِ. ولهذا كانت العلاقةُ ما بينَ العربِ والقادمينَ علاقةَ تراحمٍ وحاجةٍ وجوديّةٍ وروحيّةٍ. ثمّ إنّ أغلبَ هؤلاء القادمينَ، وخاصّةً من ولايتَي ديارِ بكرَ وماردينَ، يُجيدون اللغةَ العربيّةَ، التي ساعدتْهم على الانسجامِ، كما يُجيدون التركيّةَ، وبعضُهم يُجيدُ الفرنسيّةَ والإنكليزيّةَ والسريانيّةَ أيضًا. فكلُّ هذه الأمورِ ساعدتْ ووفّرتْ عواملَ الوجودِ المسيحيِّ مع الوجودِ العربيِّ، الذي سيبقى أرحمَ من غيرِه من الأقوامِ.
عمسي موسي والعلاقاتُ العشائريّة ولا يفوتُنا أنّ السيّدَ عمسي موسي كان له حانوتٌ في ماردينَ، وكان يعرفُ قبيلةَ الجبورِ كما قبيلةَ شمرٍ، ويستضيفُ كلًّا من مسلطٍ ومشعلِ الجربا في بيتِه، ويُساعدُهم في استكمالِ مستلزماتِ قبائلِهم. وهو من طالبَ أفرادًا من عشيرتِه القلعةِ مراويةِ أن يجمعوا 500 ليرةٍ ذهبيّةٍ ويدفعوها لمأمورِ سجنِ ديارِ بكرَ، لينقذوا الشيخَ الجبوريَّ مسلطًا قبلَ أن يُمنحَ مرتبةَ باشا، وهذا ما حصل. ولهذا، عندما قرّرَ عبدُ المسيحِ موسي (عمسي) أن يأتيَ إلى المكانِ، تراهُ جاء إلى طابانَ مع أسرتِه وأهلِه، وبعدها انتقلوا إلى المكانِ. وهذه جزئيّةٌ يجبُ أن يعلمَها كلُّ منّا. كما كان صديقًا للشيخِ الشمريِّ مشعلِ الجربا، الذي كان يعيشُ هو وبعضٌ من عشيرتِه قربَ جبلِ كوكبَ، والذي أهدى عمسي موسي فرسًا عربيّةً أصيلةً. إنّنا جئنا على هذه الأفكارِ، التي أخذناها ممّن التقيناهم، لنكشفَ عن مجموعةِ حقائقَ واقعيّةٍ في مجيءِ السيّدِ عمسي موسي إلى المكانِ. الأسماءُ التاريخيّةُ للمدينة وبعدَ هذا نقولُ: إنّ اسمَ مدينةِ الحسجةِ وردَ في رُقمٍ مسماريٍّ مكتشفٍ في تلِّ الشيخِ حمد باسمِ (مكريزي). وإنّ وثائقَ أخرى تُشيرُ إلى اسمٍ آخرَ للمدينةِ، فقد ذكرها كلٌّ من البرفسورِ تريفور برايس، المؤرّخِ الأستراليِّ، وفي كتابِ المؤرّخِ الدكتورِ طريفِ الخالدي، والبروفيسورِ آنتي لاتو في كتابِه (Antti Laato). فقد ذُكرَ بأنّ اسمَ المدينةِ الآراميَّ هو ماغاريشو، وجذرَ الكلمةِ (مغرش) يعني أرضَ المراعي، حيث ذُكرتِ المدينةُ لأوّلِ مرّةٍ في التاريخِ القديمِ عندما هاجمها الملكُ الآشوريُّ بل–كالا عامَ 3200 قبلَ الميلادِ، وبقيتْ عاصمةً لمملكةٍ آراميّةٍ (بيت ياحيري)، حتّى احتلّتْها الجيوشُ الآشوريّةُ على عهدِ الملكِ آشور ناصر بال الثاني عامَ 870 قبلَ الميلادِ (تقريبًا). دمارُ المدينةِ وعودتُها عبرَ العصور ثمّ تعرّضتِ المدينةُ للدمارِ في العهدِ البيزنطيِّ في القرنِ الرابعِ قبلَ الميلادِ، وعادتْ كالفينيقِ، وظلّتْ مسكونةً بشكلٍ متواصلٍ حتّى العهدِ العربيِّ. وفي القرنِ الخامسَ عشرَ هجرَها أهلُها للدمارِ والخرابِ والقتلِ، وكان أهلُها قد هربوا إلى الجبالِ الشماليّةِ، وعادوا في نهايةِ القرنِ التاسعَ عشرَ وبدايةِ القرنِ العشرينَ. ولكي نؤكّدَ أهميّةَ الاسمِ، فالكلامُ الذي أدلى به البرفسورُ تريفور برايس، وهو مؤرّخٌ ومحاضرٌ أستراليٌّ وُلدَ عامَ 1940م، ومعه علماءُ الآثارِ الذين عرّفوا الحسكةَ باسمِها القديمِ (ماغاريشو)، اعتمدوا على معطياتٍ وصفَ بها المكانَ القائدُ الآشوريُّ توكولتي نينورتا الثاني. ونجدُ هذا في كتابِ تريفور برايس، وهذا رابطُه والصفحةُ التي تتضمّنُ ما نقولُه: https://books.google.nl/books?id=AwwNS0diXP4C&pg=PA439 أمّا بشأنِ جذرِ الكلمةِ ماغاريشو الآراميّ، فقد وردَ في كتابٍ للدكتورِ طريفِ الخالدي، الصادرِ عن الجامعةِ الأمريكيّةِ في بيروت، الصفحةُ 5، وهو مؤرّخٌ وُلدَ في القدسِ عامَ 1938م. وهذا هو الرابط: https://books.google.nl/books?hl=nl&id=5SyFAAAAIAAJ وأمّا بشأنِ المعلومةِ التي تقولُ إنّ ماغاريشو، التي هي الحسكةُ الآن، كانت عاصمةَ بيتِ ياحيري الآراميّةِ، فهذا هو كلامُ البروفيسورِ آنتي لاتو في كتابِه (Antti Laato) في كتاب: A Star is Rising: The Historical Development of the Old Testament Royal Ideology and the Rise of the Jewish Messianic Expectation، الصفحةُ 107: https://books.google.nl/books?hl=nl&id=HLTYAAAAMAAJ&focus=searchwithinvolume&q=magarisu+bit-yahiri نستنتجُ من هذا وذاكَ أنّ اسمَ المكانِ (المدينةِ) تغيّرَ عبرَ الأزمنةِ، لكنّها كلّها تجتمعُ على أنّ هذا التلَّ هو مدينةٌ قديمةٌ سُمّيتْ بمكريزي، وماغاريشو، والحسجة (الحسكة). وقد أُطلقَتْ عليها عدّةُ تسمياتٍ، منها: مدينةُ حزقيال، والسُّكر، وغيرها من الأسماءِ. الحسجةُ في الوثائقِ العثمانيّة وقد جاء ذكرُ (قريةِ) الحسجةِ في الوثائقِ العثمانيّةِ، إذ ذكرَ المؤرّخُ الفرنسيُّ جان أنوابيه، بحسبِ ما أخذَ من مصادرَ من المنطقةِ الشرقيّةِ، ومنهم المؤرّخُ المحامي عبد الكريم فتيح، أنّ الدولةَ العثمانيّةَ قامتْ بفتحِ طريقٍ جديدٍ على نهرِ الخابورِ عامَ 1913م، يبدأُ انطلاقُه من جسرِ الدوّاياتِ في الديرِ، الذي كان يوجدُ قبلَ الجسرِ المعلّقِ في موقعِه الحاليِّ بمدينةِ ديرِ الزورِ، ويمتدُّ الطريقُ على نهرِ الخابورِ إلى أن يصلَ مرفأً لربطِ السفنِ، حيث توجدُ هناك قريةٌ جديدةٌ اسمُها الحسجه. وكلمةُ «مرفأٌ صغيرٌ لربطِ السفنِ» هذه إشارةٌ أخرى تؤكّدُ قولَ من قالوا إنّه كان بالخابورِ بقايا جسرٍ رومانيٍّ وأخشابٌ متهالكةٌ وحسكاتٌ (عباراتٌ صغيرةٌ مصنوعةٌ، كما قلنا، من أغصانِ الأشجارِ). وقد جاء في تلك الوثيقةِ أنّ أسرًا ديريّةً تسكنُ في قريةِ الحسجةِ. وحسبَ ترتيبِ أنوابيه وفتيح، ذكرتِ الوثيقةُ الأسرَ التاليةَ: 1 ـ عليوي السليمان 2 ـ المشرف 3 ـ المطرود ولم يُذكرْ بيتُ مرادٍ أو غيرُهم من الديريّين، لو كانوا موجودينَ في هذا التاريخِ، كما لا نجدُ ذكرًا لغيرِهم. أجل، يومًا بعدَ يومٍ يأتي التأكيدُ على ما جئنا عليه في حديثِنا مع السيّدِ حمود ياسين العليوي (أبو راتب)، الذي كان يؤكّدُ أنّ وجودَهم كان بعدَ بناءِ الثكنةِ العثمانيّةِ، التي بُنيتْ على أنقاضِ الثكنةِ الرومانيّةِ والمدينةِ الرومانيّةِ. وكان يُشكّكُ فيمن كان يطرحُ موضوعَ أنّ مجيئَهم إلى أرضِ الحسجةِ كان مع نهايةِ القرنِ التاسعَ عشرَ، بل كان يقولُ: نحنُ جئنا، وأعتقدُ بعدَ عامِ 1900م. الثكنةُ العسكريّةُ: الرومانيّةُ والعثمانيّة وأمّا بشأنِ ثكنةِ البغّالةِ، فقد ذكرنا سابقًا بأنّها بُنيتْ في عهدِ السلطانِ عبد الحميدِ الثاني عامَ 1907م. لكنّ الباحثَ جون هوغ كان قد ذكرَ بأنّه مرَّ من الحسجةِ وشاهدَ القشلةَ (الثكنةَ)، وكان ذلك عامَ 1903م. وبالتأكيدِ، هو شاهدَ بقايا ثكنةٍ رومانيّةٍ. وهكذا جاء التأكيدُ من المستشرقِ الألمانيِّ ماكس فون أوبنهايم، حيث رأى الثكنةَ وصوّرَها، وكان ذلك عامَ 1899م. وما صوّره ماكس فون أوبنهايم هو بقايا الثكنةِ الرومانيّةِ. وبهذا فإنّ هذه الحقائقِ تجعلُنا نُعيدُ القولَ بأنّ موضوعَ مدينةِ الحسكةِ موضوعٌ جديدٌ وبِكرٌ، ولهذا قد تكونُ هناك العديدُ من الأفكارِ التي لم تمرَّنا لأسبابٍ مختلفةٍ. وبهذا فإنّ تاريخَ بناءِ الثكنةِ الذي جاء في مجلّةِ العمران، العددَينِ 41 و42 لعامِ 1972م، الخاصّ بمحافظةِ الحسكةِ، لم يكن إلّا تقديرًا ممّن التقاهم من رتبَ لموضوعِ تاريخيّةِ مدينةِ الحسكةِ. أمّا الكبارُ الذين التقيناهم في مدينتِنا منذُ عامِ 1966م وما بعدَه، فإنّهم قالوا: رأينا القشلةَ (الثكنةَ) منذُ أن وجدنا، بمعنى أنّ وجودَ الثكنةِ يسبقُ الكثيرَ من الأسرِ التي سكنتْ أرضَ الحسجةِ، وقد يكونُ القولُ عن الثكنةِ الرومانيّةِ وبقاياها، وليس عن الثكنةِ العثمانيّةِ، وفي هذا القولِ أيضًا ما يُجبرُنا على قولٍ آخرَ. هناك من ماتَ قبلَ أن نلتقيَه، وكانت لديه معلوماتٌ عن الموضوعِ لم ينقلْها للذين كانوا أصغرَ منه، ولهذا يمكنُ أن يكونَ وجودُ الثكنةِ قبلَ هذا التاريخِ. ولهذا سعيتُ مع الأخِ الباحثِ أحمد سلامة، الموجودِ في إسطنبول، أن يُساعدني في الرجوعِ إلى الأرشيفِ العثمانيِّ الخاصِّ ببناءِ الثكنةِ، وعدني، ولكنّه لم يتمكّنْ من الحصولِ، كما قال لي، على أيّةِ معلومةٍ تفيدُنا. وكذلك طلبتُ من الأخِ الإعلاميِّ مضر حمّاد الأسعد، فلم يُحقّقْ ما وعدني به. لكنّنا قطعنا الشكَّ باليقينِ بالنسبةِ لتاريخِ بناءِ الثكنةِ، وبالمقارنةِ مع الثكنةِ العثمانيّةِ التي بنوها في الأرضِ التي ستُبنى عليها بلدةُ الدرباسيّةِ فيما بعدُ، وكان ذلك عامَ 1908م. ويبدو أنّ ثكنةَ البغّالةِ على تلِّ الحسجةِ كانت قبلَ عامٍ من تاريخِ بناءِ ثكنةِ الدرباسيّةِ، وأنّ ما صوّره أوبنهايم أو غيرُه للثكنةِ على تلِّ الحسجةِ كان للثكنةِ الرومانيّةِ المهدّمةِ، واستخدامُ الحجارةِ دليلٌ على ما نقولُه. كوكب سي وجبلُ كوكب وقد سُمّيتِ الحسكةُ، في البدءِ، بكوكب سي، نسبةً إلى جبلِ كوكب، لأنّ الأتراكَ كانوا قد أطلقوا عليها هذا الاسمَ. وكوكبُ جبلٌ بركانيٌّ يقعُ إلى الشرقِ من مدينةِ الحسكةِ. صعدتُ إليه أنا وفريقي (السهمُ المنطلق)، وفريقٌ لكرةِ القدمِ من تلِّ حجر، حيث لعبنا غربَه في سهلٍ واسعٍ مباراةً ربحنا بها على تلِّ حجر. وصعدنا فوقَه إلى القمّةِ، وهو مكوّنٌ من تناثرِ حجارةٍ بركانيّةٍ سوداءَ. كما زرنا ابنتَه، أو ما يُسمّى بابنةِ كوكب، وتقعُ إلى الجنوبِ منه منطقةٌ صخريّةٌ بازلتيّةٌ. المصادر السادة: 1 ـ عبدو ويعقوب وجرجس حبو، حمود ياسين العليوي، أفرام دولماية، بحدي عبد النور، وكرمو كتو، الذي التقيتُ به أثناءَ عملِه في حديقةِ البلديّةِ الواقعةِ إلى الشرقِ من دارِنا، حيث كان يعملُ هو وأبي حنّا وناصر المعماري، وكنتُ أستغلُّ أوقاتَ أخذِ الشاي لهم بأسئلةٍ أوجّهُها للعمِّ كرمو كتو، الذي كان يرتدي بنطالًا كالبنيبليّةِ على الطريقةِ الحلبيّةِ والحماويّةِ. 2 ـ دوسّو (دسّو).3 ـ جان أنوابيه.4 ـ عبد الكريم فتيح.5 ـ تريفور برايس (Trevor R. Bryce). 6 ـ طريف الخالدي. المصدر: صفحةُ عبدِ العزيزِ الأحمد بك وتأكّدَ لنا بالدليلِ البحثيِّ، ومن خلالِ ما أرسله لنا الأخُ الباحثُ الأستاذُ أحمد السلامة القيسي، صاحبُ كتابِ لواءِ ديرِ الزور (الجزء الثاني)، تبيّنَ لنا العديدُ من الأمورِ عن مدينةِ الحسكةِ التي كنتُ قد كتبتُه عنها منذُ عشراتِ السنين، ولا بدّ أنّه عثرَ عليها بطريقةِ البحثِ عندما أرادَ أن يكتبَ عن الحسجةِ، وهذا أمرٌ مؤكّدٌ؛ فمن سمّى مدينةَ الحسكةِ بـ(نهرين)؟!!! غيري؟!! منذُ الثمانينيّاتِ وأنا أتحدّثُ مع البرفسورِ ديفيد أوتس، رئيسِ البعثةِ الأثريّةِ البريطانيّةِ إلى تلِّ براك. كلُّ هذا جاء في سياقِ كتابتي عن المدينةِ القديمةِ. لكن ما يلفتُ انتباهي هو أنّ الأستاذَ أحمد السلامة قدّمَ لي وثيقةً رقم SD.2214.41.6، وتعودُ إلى عامِ 1876 ميلاديّة، الموافقِ لعامِ 1293 هجريّة، ويذكرُ فيها قائمَ مقامِ قضاءِ كوكب مع أعضاءِ المجلسِ الملّي ووجهاءِ الأهالي، ولم أعثرْ على ذكرِ أيٍّ من المسؤولين في قبيلةِ شمرٍ ولا الجبور. وكذلك هناك وثيقةٌ موافقةٌ للتاريخِ الميلاديِّ 1872م للتعجيلِ بقراراتٍ تخصُّ الإعمارَ في قضاءِ كوكب. وفي العامِ نفسِه هناك وثيقةٌ تخصُّ إنشاءَ المبنى الحكوميِّ لقضاءِ كوكب، ولكنّه لم يُحدِّدْ أين سيكونُ البناءُ، ويذكرُ في صفحةٍ أخرى مديري وقائمقامي قضاءِ كوكب: 1 ـ عمر فائق قائمُ مقامٍ، عام 1872م. 2 ـ سلمان سالم قائمُ مقامٍ، عام 1872م. 3 ـ بكر بن مصطفى الدبّاغ قائمُ مقامٍ، عام 1875م. 4 ـ إبراهيم أدهم مديرٌ عام، 1896م. 5 ـ معروف علي أصفر مديرٌ عام، 1907م. 6 ـ ناظم أفندي مديرٌ، عام 1908م. وإنّه من الضرورةِ بمكانٍ أن نقولَ إنّ قضاءَ الخابورِ كان قد تشكّلَ عامَ 1006 هجريّة، الموافقِ لعامِ 1598 ميلاديّة، وهناك وثيقةٌ تحملُ الرقم A.DVN.MHNd.2، تاريخُها 963 هجريّة، الموافقُ 1555 ميلاديّة. لواءُ الخابورِ كان يشملُ جميعَ مدنِ الخابور، وهي: (الدير، الرحبة، ورأس العين، ونصيبين)، وكلُّها كانت تتبعُ لواءَ الخابور. بكلِّ وضوحٍ في هذه الوثائقِ، حتّى التي تعودُ إلى عامِ 1908م، لم نعثرْ على اسمٍ لأيِّ قبيلةٍ ذُكرتْ في مكانِ الحسجةِ وبالاسمِ. اختيارُ موقعِ قريةِ الحسجة: سببَانِ هامّانِ وأمّا اختيارُ الموقعِ الجغرافيِّ لبناءِ وتأسيسِ قريةِ الحسجةِ من قِبلِ السيّدِ عمسي موسي وأخوته، بعد أن رحلوا عن طابان، فقد تمَّ من خلالِ أمرينِ هامّين: الأوّل: تاريخيٌّ، حيث إنّ مدينةً قديمةً موغلةً في القدمِ تجثمُ تحتَ التلِّ، وكذلك أماكنُ عديدةٌ في المكانِ، منها التلّةُ التي تقعُ اليومَ تحتَ كنيسةِ العذراءِ للسريانِ الكاثوليك، والتلّةُ التي تقعُ تحتَ كنيسةِ الكلدان؛ حيثُ إنّ الموقعَ الأوّلَ يُشكّلُ مكانًا للقصرِ الملكيِّ، والموقعَ الثاني يُشكّلُ مكانَ معبدِ شمشو (الشمس). أمّا السببُ الثاني، والمرتبطُ بالأوّلِ التاريخيِّ: فيتمثّلُ بموقعِ المدينةِ الأوّلِ في منطقةِ التقاءِ نهري الخابورِ والجغجغ، والماءُ كما هو معلومٌ من عناصرِ الحياة. وقد ذكرنا في مكانٍ آخرَ لماذا تمَّ اختيارُ المكان؟!. دخولُ الفرنسيّين وبناءُ الثكنةِ والسكانُ وعند دخولِ الجيشِ الفرنسيِّ في شهرِ أيّار سنةَ 1922م، حيث نشرَ الكولونيل بيغوغراندوت جيشَه في ربوعِ الجزيرةِ، كانت مدينةُ الحسكةِ بلدةً صغيرةً. ثمّ قام الفرنسيّون ببناءِ الثكنةِ الحاليّةِ على أنقاضِ الثكنةِ العثمانيّة، ولكن واسعةً جدًّا، وتحتلُّ قسمًا كبيرًا من التلِّ وبشكلٍ منظّم. في هذا الوقتِ كان سكّانُ الحسكةِ مسيحيّين عدا بيت براك المحشوش، وبعضٍ من الديريّين والبوكماليين. ونقصدُ هنا المركزَ، فأهلُها من المسيحيّين بنسبة 97%. وقد جاء في كتابِ ديرِ السيّدةِ العذراء (دير الورديّات)، وفي الصفحة رقم 33، لمؤلّفِه كميل سهدو، والمطبوعِ عامَ 1997م، يقول: إنّ عمسي موسي، هكذا يكتبُه هو، من القلعةِ مراوية، ويُنادونه خواجا عمسي. يذكرُ الكتابُ رحلةَ القاصدِ الرسوليِّ المطرانِ إلياس قورو، فيقول: في الحسكةِ في 30 من أيلول عامَ 1923م كان بها حوالي خمسين أسرةٍ سريانيّةٍ (عدا السريانِ الكاثوليك والبروتستنت والأرمن والأرمن كاثوليك والكلدان). ويقول: ويومَ السبتِ حضرَ لزيارتِنا ونحن في بيتِ الخواجا عمسيح موسي القلعةِ مراوي مسلط باشا شيخُ عشيرةِ الجبور، وبعده علي السلطان ومحشوش، وبعضُ بكواتِ الشيشان، وأشرافُ البلدة.... ملكيّةُ الأراضي وأقوالُ الدكتورِ محمد المحشوش وأمّا الدكتورُ محمد المحشوش قال: إنَّ أرضَ الحسكةِ ومحيطَها هو ملكٌ توارثناه أبًا عن جدٍّ، فالأرضُ كانت للشيخِ براك المحشوش، وأنّ أرضَ داؤد موري كانت لعلي السلمان الملحم، وهو ابنُ عمِّ الشيخِ المحشوش، وقد باعَها لبيتِ داؤود موري. وأنّ أرضَ حيِّ الليليّةِ كان ملكًا لباهي البراك الملحم، شقيقِ الشيخِ محشوش، وقد باعَها لبيتِ إيليا الدرويش، ولهذا سمّيناها الليليّة. وأنّ أرضَ الشيخِ سلمان العبّاس، والدِ متعب العبّاس، وهو من الملحم، التي تقعُ شمالَ المدينةِ بـ 3 كم، ولهم حتّى حدودِ صفيا كلُّ من تلِّ طويل المحشوش، وأرضِ أبو حجر (يقصدُ أم حجيرة)، ومهدِ الرجلة (خربة الياس) على ما نعتقدُ أنّه يقصدُه لأنّ هناك تمرَ رجلةٍ عويجٍ قادمةً من قربِ ماردين. وكانت للشيخِ محشوش أرضُ الزويّة، والنشوة، والقولُ للدكتورِ محمد البراك المحشوش ردًّا على مقالتِنا نشأةِ الحسكةِ. وفودُ الجبور إلى الخابور: دلائلُ وبحثٌ وعندما تأكّدنا للمرةِ ربما المئة متى وفدَ الجبورُ إلى شطآنِ الخابور، تبيّنَ لنا من خلالِ البحثِ فيما قاله جارُنا الشيخُ محمد الأحمد، وفي موقعِ القبيلة، أنّهم جاؤوا من اليمنِ وانتقلوا حتّى وصولِهم إلى أرضِ ديرِ الزور. وهناك تعارضتِ الحياةُ الرعويّةُ مع قبيلةِ العقيدات، فانتقل الجبورُ إلى شمالِ ضفّةِ نهرِ الفرات، وما لبثتِ الحياةُ في تزاحمٍ حتّى انتقلوا إلى شواطئ الخابور، وسكنوا ضفّتَيه ما بينَ عامَي 1848 وعامِ 1867م. وهذا ما تأكّدَ لنا من مصادرَ مختلفةٍ. فوجودُ الجبورِ في الجزيرةِ يعودُ إلى الفارسِ الشيخِ محمد أمين وإخوته حريث ووكّاع، يسكنون طابان منذُ ما قبلَ عامِ 1850م، بدليلِ أنّ الشيخَ محمد أمين يتبادلُ الهدايا مع المستشرقِ الإنكليزيِّ لايارد عامَ 1848م، في مكانٍ بين عجاجة وطابان. أمّا ما يقولُه الدكتورُ محمد المحشوش إنّ أرضَ الحسكةِ كانت ملكًا لهم، وذلك بحسبِ الأعرافِ السائدةِ آنذاك، حيث كانت أرضًا لرعي أغنامِهم وإبلِهم، فليس لديهم الإثباتُ من السلطاتِ العثمانيّة «قوجانات» (سندات تمليك) كانوا قد دفعوا ثمنَها، ولا حتّى سنداتٍ فرنسيّة، وإنّما الأعرافُ كانت تحكمُ ملكيّتَهم لها، وقد تمّ الاستيلاءُ عليها بفرضِ الأمرِ الواقعِ. خلاصةُ القولِ في التسمية خلاصةُ قولِنا بالنسبةِ للتسميةِ، فهناك أكثرُ من رأيٍ؛ بعضُ تلك الآراء يعتمدُ على التفسيرِ الشعبيِّ، كما موضوعُ الحسك (الشوك)، وبعضُها يعتمدُ المنهجَ العلميَّ، ونستطيعُ أن نُجملَها معًا. بعضُهم قال بالحسكة، وبعضُهم قال بوسيلةِ النقلِ التي كانت بالقربِ من بقايا الجسرِ الرومانيِّ على نهرِ الخابور، وبعضُهم قال إنّ مدينةَ الحسكةِ كانت تُدعى بشاديكني (شادي كاني)، وكان الآشوريّون يعرفونها بهذا الاسمِ الذي تحوّل إلى ساكان على عهدِ الرومان، واتّخذ هذا الاسمَ الأخيرَ العربُ في أوائلِ سيطرتِهم محوّلينه إلى حسكة، ولفظهُ البدوُ حسيشة. أمّا المؤرّخُ دي فريز فيقولُ في كتابِه (تاريخ الكنيسة الأنطاكيّة) إنّ كلمةَ الحسكةِ تعني القلاعَ.
التسمية: بين مكريزي وماغاريشو وحْسيغو وفي مكانٍ آخرَ يردُ اسمُ مدينةِ الحسكةِ في رُقمٍ مسماريٍّ مكتشفٍ في تلِّ الشيخِ حمد باسمِ (مكريزي). إنّ وثائقَ أخرى تشي عن اسمٍ آخرَ للمدينةِ قد ورد اسمُها، فقد ذكرها كلٌّ من البرفسورِ تريفور برايس، المؤرّخِ الأستراليِّ، وفي كتابِ المؤرّخِ الدكتورِ طريفِ الخالدي، والبروفيسورِ آنتي لاتو في كتابِه (Antti Laato). فقد ذُكرَ بأنّ اسمَ المدينةِ الآراميَّ هو ماغاريشو، وجذرَ الكلمةِ (مغرش) يعني أرضَ المراعي، حيث ذُكرتِ المدينةُ لأوّلِ مرّةٍ في التاريخِ القديمِ عندما هاجمها الملكُ الآشوريُّ بل ـ كالا عامَ 3200 قبلَ الميلادِ، وبقيتْ عاصمةً لمملكةٍ آراميّةٍ (بيت ياحيري) حتّى احتلّتْها الجيوشُ الآشوريّةُ على عهدِ الملكِ آشور ناصر بال الثاني عامَ 870 قبلَ الميلادِ (تقريبًا). ثمّ تعرّضتِ المدينةُ للدمارِ في العهدِ البيزنطيِّ في القرنِ الرابعِ قبلَ الميلادِ. وبعضُهم قال: سمعتُ من يُجيدون السريانيّةَ بأنّ كلمةَ حسكة: لفظةٌ سريانيّةٌ، مكوّنةٌ من كلمتَينِ: (حْساخ، حْسيخو)، والمقطعُ الثاني (ايغو، وهو شدّةُ سيلانِ ماءِ النهرِ)، وبهذا يكونُ اسمُ المدينةِ بالسريانيّة (حْسيغو)، أي تنظيمُ جريانِ مياهِ النهرِ. لأنّ في المكانِ يُشكّلُ نهرُ الخابورِ حركةً متعرّجةً تشبهُ الشصَّ، خاصّةً عند شبهِ الجزيرةِ التي بُنيَ عليها جرداقُ متّى ولوقا، حتّى جنوبَها نرى نهرَ الخابورِ كالشصِّ الذي يصطادون به السمكَ، ينحرفُ من الشمالِ للجنوبِ. سُمّيتْ أيضًا بمكريزي وماغريشو والحسجة (الحسكة)، وقد أُطلقَ عليها عدّةُ تسمياتٍ منها مدينةُ حزقيال، والسُّكر، وغيرها من الأسماءِ. إنّنا ننتهي من موضوعِ التسميةِ إلى الاسمِ الذي ظهرَ من خلالِ التنقيباتِ الأثريّةِ، وهو مكريزي، وفي بقيّةِ الأقوالِ وجهةُ نظرٍ ريثما يتأكّدَ ذلك بالطرقِ العلميّةِ، على الرغمِ من أنّني أميلُ أيضًا إلى أنّها جاءت من خلالِ العباراتِ التي كانت على نهرِ الخابور، وسنبقى نجمعُ ما بينَ الآراءِ كافّة.
لمحةٌ تاريخيّةٌ عن أرضِ مدينةِ الحسكة يمرُّها نهرُ الخابورِ، يأتيها من الجهةِ الغربيّةِ، متعرّجًا كأنّه حيّةٌ وديعةٌ. والخابورُ باللغةِ الآراميّة (الأكّاديّة) معناه رفيقُ الأرضِ: (خا. رفيق. بور. الأرضُ التي لم تُفلَح). والخابورُ فاعولٌ من أرضٍ خبرةٍ وخبراء، وهو القاعُ الذي ينبتُ السدرَ، أو من الخبار، وهو الأرضُ الرخوةُ ذاتُ الحجارةِ. وقيل: فاعولٌ من خبراتِ الأرضِ إذا حرثتَها. وفي المؤلّفاتِ البابليّةِ والآشوريّة (شابوراس). منابعهُ من بلدةِ راش عينا. وقد أكّدَ الرحّالةُ والمؤرّخون العربُ أنّه يوجدُ برأسِ العينِ ثلاثمئةِ عينِ ماءٍ. ورأسُ العينِ تبعدُ عن الحسكةِ إلى الغربِ الشماليِّ حوالي 84 كم. والخابورُ أهمُّ وأكبرُ أنهارِ بلادِ ما بينَ النهرين، بعدَ نهرَي الفراتِ ودجلةَ. ومن بينِ فيضاناتِه المدمّرةِ فيضانُ عامِ 1952م، وفيضانُ 1969م، حيث ارتفعت نسبةُ المياهِ فيه إلى 346 سم، وكان صباحَ يومِ الجمعةِ في 24 كانونَ الأوّلِ من عامِ 1969م. ثمّ يأتي الحسكةَ من الشمالِ نهرُ الجغجغ، وسمّتْه الكتبُ القديمةُ (ميكدونيوس)، وسُمّي كذلك بغدون أو مغدون أو الهرماس. منابعهُ قربَ بلدةِ نصيبين، التي كانت أكبرَ الأكاديميّاتِ السريانيّة، ومنها شاعرُ السريان (مار أفرام النصيبيني..). وتقعُ شمالَ مدينةِ القامشلي، ويجري إلى الجنوبِ حيث يمرُّ من وسطِ مدينةِ القامشلي، يسيرُ باتّجاهِ قرىً عديدةٍ، منها تلُّ الحمدي حيث يمرُّ من شمالِه وغربِه، ثمّ يسيرُ حتّى جنوبَ تلِّ براك حيث ترفدُه أنهارٌ موسميّةٌ مثل (السلاخ، والجراحي، والرد). ويمرُّ من شمالِ قريةِ السيباط، وبعدها قرى، ومنها تلُّ أسود، ثمّ قريةُ صفيا شمالَ الحسكةِ بـ12 كم تقريبًا، ثم خربةُ الياس، وهنا ترفدُه الرجلة (رجلةُ عويج القادمةُ من ماردين، وهي موسميّةٌ ذكرها الشاعرُ عبدُ اللهِ الفاضل في أشعارِه). وقريةُ تلِّ طويلٍ محشوش، ثم أم حجيرة، وتلُّ طويلٍ لبيتِ الياس بحيِّ الدرويش، ثمّ من شرقِ بيوتِ متعب العبّاس، ويكادُ التلُّ الذي يقعُ هناك هو آخرَ التلولِ التي تقعُ على طرفَي وادي نهرِ الجغجغ. ثمّ يمرُّ في غربِ أراضي بيتِ ياسين العليوي، ومن بعدِهم بيتُ عطا الله الميخي، ثمّ غربَ أراضي عبدِ المسيح نانو، ومن غربِ هذه الأرضِ وغربِ النهرِ يقعُ تلُّ حجرٍ لبيتِ بولص اسحق السرياني. ثمّ يسيرُ نحو شمالِ وشرقِ مدينةِ الحسكةِ القديمة، وهناك جسرٌ عليه يؤدي إلى منطقةِ العزيزيّة (عزيز ماري، حجّار)، ويصبُّ في الخابورِ جنوبَ شرقيِّ الحسكةِ القديمة، في المكانِ الذي يُسمّى بالمخلط، بعدَ أن يكونَ قد قطع 124 كم. أمّا الدراساتُ الأثريّةُ والجيولوجيّةُ فتُثبتُ وجودَ مدينةٍ قديمةٍ جاثمةٍ تحتَ التراب، مدينةٌ تعودُ بتاريخِها إلى العهدِ الأكّاديِّ، والبابليِّ، والآشوريِّ، والآراميِّ، وقد سمّيناها (نهرين). أتمنّى أن تأتيَ على إثباتِ كلِّ ذلك الحفريّاتُ التي من المفترضِ أن تُجرى تحتَ الثكنة، أي في تلِّ الحسكةِ (وقد دلّتِ الحفريّاتُ مؤخّرًا على وجودِ كنيسةٍ مسيحيّةٍ، وهذا ما كنتُ أتداوله مع عالمِ الآثارِ البريطانيِّ ديفيد أوتس). وفي سفرِ حزقيال بالتوراة وردَ في الإصحاحِ الأوّل يقول: «وأنا بينَ المسبيين عند نهرِ خابورَ في أرضِ الكلدانيّين». هذا ما جاء في الإصحاحِ الثالثِ الآيةِ 15، وفي الإصحاحِ العاشرِ الآيةِ 16، هناك عند نهرِ خابور، يرى كيف يسيرُ الكروبيم، سارتِ البكراتُ بجانبِها، وسُمّي المكانُ (أبو بكر)، وهو تلٌّ شرقيٌّ جنوبَ الحسكةِ، وهو ملكٌ لبيتِ السيّدِ آسيا البنيبلي، والدِ الصديقِ منير آسيا. إذن، أثناءَ رؤيةِ حزقيالَ للرؤيا كانت أرضُ الخابورِ للكلدانيّين. وفي عامِ 1984م حضرتُ في المركزِ الثقافيِّ بالحسكةِ، مع من حضروا، إلى أحدِ علماءِ الآثار، وكان بريطانيًّا: ديفيد أوتس، أستاذَ علمِ الآثارِ في جامعةِ لندن، ورئيسَ البعثةِ للتنقيبِ عن الآثارِ في الجزيرةِ السوريّة، حيث ألقى محاضرةً عن موقعِ تلِّ براك. وعندما تحدّثتُ إليه قال، في سياقِ سؤالي عن مدينةِ الحسكةِ (التلُّ تحتَ الثكنةِ وموقعُ البلديّة، ومكانُ بناءِ كنيسةِ السريانِ الكاثوليك (مريم العذراء) التي تقعُ على تلّةٍ مرتفعةٍ، وتقعُ إلى الشمالِ من كراجِ النجمة، أوّلِ كراجٍ في وسطِ الحسكة، وهو ملكٌ لبيتِ آدمو، وكنيسةِ الكلدان (يسوع الملك): «تحتَ هذه المدينةِ توجدُ مدينةٌ، ونعتقدُ بأنّها تعودُ للفترةِ الآشوريّةِ والآراميّة، وتسميتُكَ لها بمدينةِ نهرين سليمٌ من حيثُ التشخيصُ الخارجيُّ، وذلك لالتقاءِ نهرِ الخابورِ بالهرماس (الجغجغ). وتناوبتْ عليها النوائبُ، ولكنّها كانت في حالةِ استمرارٍ من العمرانِ والسكنِ حتّى القرنِ السابعَ عشرَ الميلاديَّ، على ما نعتقدُه». وقد حدّد مكانَها فقال: تقعُ تحتَ الثكنةِ العسكريّةِ التي بُنيتْ في عهدِ السلطانِ عبد الحميد. أمّا هيكلُ الإلهِ شمشو أو شمش، فيقعُ تحتَ بناءِ كنيسةِ الكلدانِ الحاليّة، وقد عاينتُها، فهي مبنيّةٌ من حجارةٍ بيضاء تميلُ للصفرة. وأمّا قصرُ الملكِ ميسيليم فيقعُ تحتَ بناءِ كنيسةِ العذراءِ للسريانِ الكاثوليك، شمالَ كراجِ النجمةِ للسفريّات. ومقبرةُ المدينةِ كانت موجودةً إلى الغربِ من مركزِ البريدِ بالحسكة، أي مكانَ بنايةِ الأوقاف، وغربَها مبنى البلديّةِ حاليًّا. وقال: نعتقدُ أنّ أهاليَ المدينةِ كانوا يهرولون بلباسِهم الأبيض، كلَّ صباحٍ وقبلَ طلوعِ الشمس، إلى حيثُ هيكلُ الإلهِ شمش، تحتَ كنيسةِ الكلدان، وهذا يؤكّدُ عبادةَ الشمس، حيث يفصلُه عن المدينةِ وادٍ قليلُ العمق. وقال: إيلو التانو، وهو من القلعةِ مراوية، ورجلٌ بلغَ الآن ما يقربُ إلى تسعينَ عامًا، إنَّ المدينةَ القديمةَ مدينةُ حزقيال، وعند تلِّ أبو بكر (البكرات) رأى الرؤيا. وأكدَ لي والدُ صديقي الأستاذُ ذياب عبد النور، وهو من القلعةِ مراوية، اسمُه بحدي، قال: في معرضِ حديثِه عن الحسكةِ عندما رحتُ في السبعينيّاتِ أجمعُ مادّةَ كتابي الجزيرةَ أو بلادَ ما بينَ النهرين: (فقال: عندما كنتُ في العسكرِ الفرنسيِّ عامَ 1922م، وكنتُ قد فُرزتُ مع لجنةِ التنقيبِ عن الآثار، وجدنا ونحنُ ننقّبُ شرقيَّ خانِ بهنو، أي في حوشٍ للسيّدِ عبدو حبو (يقعُ جنوبَ كنيسةِ السريانِ الأرثوذكس بحوالي 75 مترًا)، وجدنا ثلاثَ معاصرَ للزيتون، وقبرَ امرأةٍ لا يزالُ شعرُها وعظامُها وقلائدُها على حالةٍ جيّدةٍ. قال عالمُ الآثارِ الفرنسيُّ يومَها إنّ هذا المكانَ هو لمدينةٍ كبيرةٍ، وكان يشيرُ بيدِه إلى مكانِ مبنى الثكنة. وكنّا نفهمُه لأنّني كنتُ أُجيدُ الفرنسيّة. وما أتذكّرُه هو قولُه: كان الناسُ في المدينةِ يذهبون منها إلى مكانِ مبنى هيكلِ الإلهِ شمشو (شمش) وهم يرتدون اللباسَ الأبيض، والهيكلُ كان موجودًا هناك تحتَ مبنى كنيسةِ الكلدان، التي تقعُ شمالَ المدينةِ القديمة وعلى سويةٍ من شارعِ كنيسةِ السريانِ الأرثوذكس (مار جرجس)). وفي جنوبِ الخابورِ هناك تلٌّ قال: كان مدينةً تقابلُ مدينةَ نهرين. وكلمةُ غويران ليس اسمًا للمدينةِ التي تجثمُ تحتَ ذاك التلّ، بل يُعتقدُ أنّ تسميةَ غويران جاءت من خلالِ كثرةِ المغائرِ فيه، فطبيعةُ الأرضِ هناك كلسيّة. وكان حتّى عامِ 1954م عددُ بيوتِه تُعدُّ على أصابعِ كفِّ اليدِ الواحدة. وقد مررتُ بتلك الأرضِ مع أختي الأكبرَ منّي نورة، وأخي الأصغرَ منّي الياس، وكان يرافقُنا كلبُ الصيد (طازيّة، سلوكيّة). فكانت رحلتُنا قد بدأتْ من بيتِنا الذي بنيناه في أيلول عامَ 1953م، ويقعُ إلى شمالِ مقبرةِ السريانِ الأرثوذكس، وشمالي محطةِ الوقود (محطّةِ الدكتورِ بكري قباقيبي) التي كانت ملكًا للديريّ محمد مارديني أبو زهير، لنسيرَ باتّجاهِ البلدة، حيث جسرُ الخابورِ القديم الذي بناه الفرنسيّون، ونمرُّ من فوقِه لننتقلَ إلى جنوبِ النهر. وأوّلُ البيوتِ في غويران للمختارِ العليوي بن عبد العزيز، وأولادِه ياسين ومن أعقبَهم. ومن شرقيِّ غويران أرضٌ لبيتِ عبو البنيبلي، والدِ الدكتورِ فؤاد عبو، ولبيتِ نعوم (ويُلقّبون ببيت ششو أو بيت فرحة)، بيتِ سعيد وأخيه بشير، وهم من عشيرةِ القصوارنة. وإذا ما اتّجهنا باتّجاهِ الغرب، فكلُّ المكانِ أرضٌ كلسيّةٌ، ومكانٌ للجمالِ والماشيةِ والبعرور (بقايا الأغنامِ والجمال) تتكاثرُ في تلك الأرض. نمرُّ مكانَ السجنِ المركزيِّ اليوم، ونعبرُ الليليّة (وهي لبيتِ إيليا الدرويش) إلى قريةِ الطوق (طوقِ الملح)، حيث أخوالُنا (إخوةُ والدتِنا: حنّا وإبراهيم وعيسى وكرمو)، يسمّونهم ببيتِ البهيّات، وأقصوارنة، يعملون كفلاّحينَ في تلك القريةِ وقريةِ المسياح. وخلالَ هذه الرحلةِ لم نواجهْ أحدًا يعترضُنا رغم صغرِنا. فالدنيا كانت أمانًا، ليته يعود. أوردتُ هذه الحادثةَ التي ما زلتُ أذكرُها لنؤكّدَ أنّ غويرانَ كانت بيوتُها تُعدُّ على أصابعِ الكفِّ الواحد يومَها، كما أنّ المكانَ حتّى عامِ 1956م لم تتجاوز بيوتُ غويران العشرينَ بيتًا. مررتُ مع أخوالي ونحنُ نركبُ حافلةً صغيرةً نسميها بيك آب شفرليه، لونُه أخضر، يقودُه خالي الكبير حنّا أبو جورج، ومعه أخوالي وأمّي، ونحنُ نركبُ من خلف، وكان البيك آب دونَ سياج. وحين كنّا على جسرِ الخابور، ولضيقِ الجسر، وكان هناك حوّاج (بائعًا متجوّلًا) لديه حماران، فقد اصطدم البيك آب بأحدِ الحمير، وأوقفوا البيك آب مقابلَ بيتِ عليوي حتّى فكّوا أسرَنا بعدما دفعَ خالي لصاحبِ الحمار ما قيمتَه عشرةَ حميرٍ يومَها. وكنّا نتوجّهُ للذهابِ إلى قريةِ المسياح، التي تقعُ على الجهةِ الجنوبيّةِ لنهرِ الخابور، حيث ولدتْ امرأةُ الخالِ جميل بكرها تركيًّا، الذي يُسمّى الآن ببسّام أبو جيمي، في 19 ديسمبر عامَ 1956م. غويران: تأكيداتٌ وشهاداتٌ ووثائق أجل، هذا تأكيدٌ ثانٍ لمعرفتِنا بالمكانِ الذي يسمّونه غويران. ولا بدّ من ذكرِ أنّ الطريقَ الآتي من ديرِ الزورِ، إسفلتيٌّ، يمرُّ من شرقيِّ تلِّ غويران. وبيتُ العليوي عبد العزيز سكنوا أوّلًا، كالعادة، في خيامٍ، ثمّ بنوا بيتًا لهم على قمّةٍ من مكانٍ شرقيِّ الطريق، يُعتقدُ أنّه مكانٌ أثريٌّ. وبيتُ العليوي يرتقي وجودُهم في غويران إلى مطلعِ القرنِ العشرين، هذا ما أكّده السيّدُ مختارُ الديريّين حمود العليوي (أبو راتب)، المتوفّى عامَ 1983م بالحسكة. وكان يؤكّدُ ذلك أثناءَ لقائي به بالحسكة في الربعِ الأوّلِ من سبعينيّاتِ القرنِ العشرين، فكان يقول: قال سمعتُ من والدي يقول إنّ وجودَنا بالحسجة يعودُ إلى نهايةِ عامِ 1905 وربّما ما بعدَ عامِ 1908م، أو 1912م. وربّما كان الرأيُ الأرجحُ هو أنّنا جئنا بعدما كانت ثكنةُ البغّالة قد بُنيت قبلَ مجيئِنا بزمنٍ طويل، وهذا ما أكّده لنا من التقينا بهم. وقالوا إنّ مختاريّةَ الديريّين بقيتْ في آلِ العليوي، وأوّلُهم المختارُ عليوي عبد العزيز، وجاء من بعدِه ابنُه ياسين، وكان مختارًا للديريّين وغويران، وأعقبه ابنُه حمود أبو راتب، ليعقبه ابنُه راتب العليوي المتوفّى عامَ 2016م. واتصف آلُ العليوي بسجايا وخصالٍ حميدةٍ، وكانت ولا تزال علاقتُهم بجميعِ مكوّناتِ الحسكة يسودُها الاحترامُ والتقدير. ونوّه إلى أنّ آلَ عليوي ليسوا ديريّين، بل صاهروا الديريّين. وجودُ الديريّين وأوائلُ القادمين ومن خلالِ البحثِ فإنّ وجودَ الديريّين في الحسكة يرتقي إلى ما قبلَ عامِ 1917م. ولكن أسرةَ الشبلي يقولون إنّ وجودَهم جاء بعدَ آلِ عليوي. ومنهم من يقول إنّ بيتَ مراد هم بعدَ العليوي، وفدوا إلى الحسكة عامَ 1916م. ولا بدّ من أن نذكرَ أنّ حسين الجبين هو أوّلُ قاضٍ شرعيٍّ جاء الحسكةَ عامَ 1924م، عندما نفاه الفرنسيّون من ديرِ الزور، لكونِه كان أحدَ مؤسّسي الكتلةِ الوطنيّةِ بديرِ الزور، مع العرفي والفراتي وغيرهم. وعند وصولِه للحسكةِ اجتمعَ مع الشيخِ جميلِ مسلط باشا الجبوري، ومع مطرانِ السريانِ الأرثوذكس يومَها، ومع الشيخِ دهّام الهادي، الذي كان يتنقّلُ ما بينَ العراقِ وسورية. واجتماعُه كان لغرضِ تقديمِ وجهةِ نظرِه عن الاستعمارِ الفرنسيِّ. وأوّلُ قائمِ مقامٍ في الجزيرةِ الفراتيّةِ في العهدِ العثماني هو السيّدُ عمر بك العبد العزيز العبد المحسن البْشَاْرْ (أبو علي)، وهو أوّلُ قائمِ مقامٍ لكلٍّ من القامشلي 1928م وكوكب. ومن الجيلِ الثاني في تأسيسِ مدينةِ الحسكة، ومن أوائلِ الديريّين الساكنين بالحسكة: آلُ رشيد (الشيف)، وآلُ المشرف، ومنهم بيج المشرف، وآلُ مطرود، وآلُ الحسيني، وآلُ ضويحي، وآلُ حنتوش، وآلُ عاروض، وآلُ النحاس، وآلُ ناصح، وآلُ الظلي، وآلُ اللجي، وآلُ فراس. ومنهم نائبُ لواءِ الجزيرةِ بالحسكة، الشيخُ محمد بن محسن الفراس، من 28/11/1931م وحتّى شباط من عامِ 1933م. ومن آلِ فراس نذكر منصورَ الفراس، الذي رشّح نفسَه عدّةَ مرّاتٍ للمجلسِ النيابيِّ السوري، وتركيَّ المحمود، الذي كان حاصلًا على وسامٍ من العثمانيّين، وكان عضوَ المبعوثان العثماني (مجلسِ الشعب). ومزاحمَ فراس، أحدَ أبطالِ تشرين، وناهيةَ فراس كانت عضوَ فرعِ حزبِ البعث بالحسكة في نهايةِ السبعينيّات وبدايةِ الثمانينيّات. وهنا لا بدّ من الإشارةِ إلى أنّ هذه الأسرةَ لها في ديرِ الزور من العوائل أكثرُ من الحسكة. من بينِ الأسرِ في ديرِ الزور أسرةُ عبد الوهاب الفراس، ومنهم ابنُه الدكتورُ محمد عبد الوهاب الفراس، الذي أرسلَ لنا هذه الوثيقةَ الهامّة (...) عن جدّه الشيخِ محمد محسن الفراس من ديرِ الزور. وثيقةُ 1913م: الأسرُ المذكورةُ والأسئلةُ المشروعة وأمّا بالنسبةِ للأسرِ الديريّةِ في مدينةِ الحسكة، فقد وردَ في وثيقةٍ عثمانيّةٍ اعتمدَها المؤرّخُ الفرنسيُّ جان أنوابيه، والمحامي الباحثُ عبد الكريم فتيح، حيث قالا: (إنّ الدولةَ العثمانيّة افتتحتْ طريقًا عامَ 1913م من ديرِ الزورِ إلى مرفأٍ تُربطُ فيه السفنُ على الخابور عند قريةِ الحسكة). وذكرا بأنّ العوائلَ الديريّةَ الموجودةَ آنذاك عامَ 1913م هي: 1-أسرةُ عليوي السّلمان. 2-أسرةُ المشرف (الراضي). 3-أسرةُ المطرود. ولم تُذكر سوى هذه الأسرِ في قريةِ الحسكةِ حتّى عامَ 1913م. سؤالٌ مشروعٌ: لماذا لم يُذكرْ محشوش أو براك المحشوش، أو أحدٌ من الجبور، في هذه الوثيقة؟ لماذا اقتصرَتْ على هذه الأسر؟!! كما لم تذكرِ الوثيقةُ أيَّ أسرةٍ مسيحيّةٍ في مدينةِ الحسجة، ولم تذكرْ من كان يُديرُ السفنَ الصغيرة (العبارات) يومَها. كلُّها أسئلةٌ مشروعةٌ في البحثِ. علمًا بأنّ أحدَ أبناءِ أوسي هو من كان مسؤولًا عن إدارةِ تلك السفنِ أو الزوارقِ لنقلِ الناسِ ما بينَ ضفّتَي نهرِ الخابور قبلَ هذا التاريخِ بزمنٍ. والسؤالُ يطرحُ نفسَه: هل كان الكاتبُ من ديرِ الزور؟ وهذا ما نتوقّعه، ولكن لو كان هناك أسرٌ ديريّةٌ أو بوكماليّةٌ في المكانِ لكان قد ذكرَها. إنّ ما أتوقّعُه وأستنتجُه من هذه الوثيقةِ هو أنّه لم يذكرْ سوى الأسرِ المسلمةِ في قريةِ الحسجة أو على أطرافِها، دون التطرّقِ للأسرِ التي تكوّنُ قريةَ الحسجة ذاتَها من المسيحيّين، وهذا أقربُ إلى الحقيقة 97%. فإذا كان فعلًا هكذا، فإنّنا نستنتجُ لا وجودَ لأسرٍ مسلمةٍ في قريةِ الحسجة حتّى عامَ 1913م سوى 3 أسر، وكلُّ ادّعاءٍ بوجودِ غيرِهم يُصبحُ موضعَ شكٍّ يستلزمُ إثباتًا لذلك. قد يقولُ قائلٌ: وما هو إثباتُك على وجودِ أسرٍ مسيحيّة؟ أقولُ له: ما قامَ به مأمورُ السجلِّ العقاريِّ العثمانيِّ في عامِ 1912م ـ 1913م. قدمَ إليهم مأمورُ السجلِّ العقاريِّ العثماني ياسين أفندي طوبال، واجتمعَ بهم، وأعطاهم أرضًا قربَ بيوتِ عمسي موسي وإخوته، وكانوا أكثرَ من سبعةِ بيوتٍ. وهذا الحدثُ يسبقُ افتتاحَ طريقٍ بين ديرِ الزورِ وقريةِ الحسجةِ الذي حدثَ عامَ 1913م، وبين تدوينِ هذا الذي جاء بشأنِ الأسرِ الديريّةِ والمسلمةِ في الحسجة. وهكذا نعودُ إلى شمالِ نهرِ الخابور، ونستنتجُ عن موقعِ المدينةِ القديمة مكريزي (الحسجة فيما بعد) يقعُ تحتَ الثكنةِ الحاليّة قربَ الخابور، وشرقيَّ سوقِ الهالِ الجديد. المصدر: المؤرّخُ الفرنسيُّ جان أنوابيه، والمحامي الباحثُ عبد الكريم فتيح.
كيف بُنِيَتِ المدينةُ الجديدةُ؟! ذكرنا سابقًا، في بحرِ حديثِنا عمّا قدّمناه، وقلنا بالنسبةِ لمجيءِ الخواجا عمسي موسي وإخوته للمكانِ الذي سيُسمّى بالحسكة، بعدما كانت له علاقاتٌ وثيقةٌ مع قبيلةِ الجبور في قريةِ طابان ـــ التي هي ملكٌ لبيتِ المسلط (وكانت في قديمِ الزمان أكاديميةً سريانيّةً استمرّتْ حتّى نهايةِ القرنِ السابعَ عشر ــــ) ـــ حيث كان عمسي موسي وإخوته قد سكنوا طابان عندما نزلوا من ماردين وقلعة مرا، وكانوا يبيعون ويشترون في طابان، ثمّ رحلوا شمالًا حيث التلُّ الذي يقعُ إلى شمالِ وشمالِ شرقيِّ نهرِ الخابور، الموجودِ إلى الشرقِ من مكانِ العباراتِ التي تنقلُ من يريدُ الانتقالَ من الشمالِ للجنوبِ وبالعكس. وبعدَ ذلك بفترةٍ قرّروا أن يبنوا لهم بيتًا من اللبن، واسعَ الأرجاءِ، محاطًا بجدرانٍ عاليةٍ، وله إيوانٌ يتّسعُ لضيوفٍ كُثر. كان ذلك مع مطلعِ نهايةِ القرنِ التاسعَ عشر وبدايةِ القرنِ العشرين، وبقي ذاك البيتُ عامرًا حتّى الأربعينيّاتِ من القرنِ العشرين. وكان عمسي موسي يمتهنُ التجارةَ؛ يشتري السمنَ والصوفَ والجلودَ والخِرافَ من القبائلِ العربيّةِ التي كانت تنتشرُ في محيطِ المكان، وأهمُّها الجبور وأفخاذُها، وقبيلةُ شمرٍ في محيطِ جبلِ كوكب، ويأخذُها إلى ماردين. وما بينَ عامَي 1912 و1913م بنى عمسي موسي دكاكينَ لأهلِه الذين كانوا يأتون في أيّامِ الربيع ويعودون في تشرينات، لكنّهم استقرّوا بالحسجةِ كليًّا. وكلَّ هذا القول ذكره لي والدُ الصديقِ ذياب عبد النور، واسمُه بحدي، وكذلك إيلو التانو، وسلو دنحو مراد (الدَبِسْ)، وعبدو حبو، بما يتّفقُ مع قولِ السيّدةِ ورداني امرأةِ الخالِ حنّا بنتِ كرمو كتو، التي قالت: إنّ والدَها كرمو كتو ــ الذي رأيتُه أنا عندما كان يعملُ في الأرضِ الزراعيّةِ التي تقعُ إلى الشرقِ من دارِنا بالحسكة ـــ ـ وبعضُ هؤلاء جاءوا بعدَ المذبحةِ العظيمةِ التي حدثتْ بتركيا عامَ 1915م، حيث أكّدوا مجيءَ قفلاتٍ (قوافلَ من الهاربين)، وبعضُهم يسكنُ المكانَ (الحسجة)، والبعضُ الآخر يتوجّهُ إلى طابان والبصيرة والصور وديرِ الزور. كان يذكرُ لهم بأنّ أوّلَ بُناةِ الحسكة هو عمسي موسي وإخوته: حنّا وجرجس وبحو، وتلاهم بيت أوسي، ومنهم إسكندر أوسي، ويامين أوسي، ودمّو أوسي، وبيت حبو الأسيور (عبدو وإخوته سليم ويعقوب وجرجس حبو أبو داؤود)، وبيت كرمو كتو أبو يعقوب، وبيت إيلو التانو وأخيه عبد الكريم تانو. ولو نظرنا قبلَ بناءِ بيت عمسي موسي وإخوته، فلا يوجدُ في المكانِ من جهةِ الشرقِ حتّى كوكب إلّا خيامُ قبيلةِ شمرٍ، وشيخُهم مشعلُ الجربا يتنقّلون مع مواشيهم. وشمالَ نواةِ قريةِ الحسجة بأكثرَ من 3 كيلومترات لا يوجدُ إلّا خيامُ الشيخِ سلمان العبّاس، والدِ متعب العبّاس، سكن الخيام حتّى الخمسينيّاتِ من القرنِ العشرين الماضي، حيث بنى له بيتًا من اللبن، وتمّ تجديدُه ببيتٍ من الإسمنت عامَ 1980م. وهذا القول أكّده برنامجًا من إعدادٍ وتقديمِ مروان عبد الله، وهو بعنوان «صوتُ الحياة (حكايةُ الريف)»، جاء فيه عن الشيخِ متعب العبّاس، وكان في 27 من أغسطس لعام 2021م، أكّدوا على ما قلناه قبلَهم من أنّ بيتَ متعب العبّاس بُنيّ في عامِ 1950م. وكانوا قد بنوا على نهرِ الجغجغ، شرقيَّ التلِّ القريبِ من بيت متعب العبّاس، سدًّا كانوا يسمّونه سدَّ السلمان (سلمان الأغوات). وفي الجنوبِ الغربيِّ على نهرِ الخابور، من الجهةِ الشماليّةِ للنهر، سنجدُ بيوتَ المحشوش، وهم من الجبور، لهم أرضٌ زراعيّةٌ يُسمّيها أهلُ الحسكة الزويّة. يُعتقدُ أنّ وجودَهم في المكان يرتقي إلى عامِ 1896م بحسبِ بعضِ آراءِ من التقينا بهم، لأنّ بعضَهم يقول كان المحشوش حتّى عامِ 1923م يعيشُ في الخيام على الأرضِ التي تُسمّى أرضَ المجدل أو تلَّ مجدل جنوبيَّ الخابور، شرقيَّ تلِّ هرمز (فيما بعد)، ويُثبتون ذلك بالأدلّة والحادثةِ التي وقعت للمحشوش مع الفرنسيّين هناك. وآخرون قالوا: إنّه كان في هذا التاريخ 1923م بأرضِ المجدل مع ماشيتِه وأهلِ بيتِه في الخيام، لكونِه حتّى ذاك التاريخ كان يأبى أن يسكنَ في بيتٍ له بابٌ ومبنيٌّ من لبن، لأنّه عاش الحرّيّةَ والكرم، وكان يعتبرُ من يسكنُ في بيوتٍ يتنكّرُ لعروبتِه وحياتِه وتراثِه. ولكن بعضَهم يقول إنّ براكَ المحشوش هو من أوائلِ أهلِ الحسكة، وإنّ أرضَ براك المحشوش تمتدُّ إلى الحدودِ الغربيّةِ لجسرِ الخابور الذي بناه الفرنسيّون وأكملوه في نهايةِ عامِ 1923م، وكان جسرًا حربيًّا يؤلّفُ الحديدُ سداه ولحمتُه، حيث يقعُ شرقي...
ملاحظةٌ بالنسبةِ لمجيءِ عمسي وأُسرتِه إلى المكان، بعضُهم يرى أنّه جاء لمكانٍ موحشٍ وفيه الكثيرُ من المخاطر. أكّدَ لنا أكثرُ من شخصٍ كنّا قد التقيناهم بالحسكة بين الأعوام 1966 و1988م أنّ الحالةَ كانت جدًّا طبيعيّةً، ولأنّ حركةَ القبائلِ العربيّة غيرِ المستقرّةِ التي كانت تجوبُ المكانَ وتأتي وتتبضّعُ منه. ثمّ ذكروا لي في ذلك الوقت كان يوجدُ ديرٌ للرهبان في تلِّ كوكب، وكان فيه لا يقلُّ عن عشرةِ رهبانٍ كانوا يزورون عمسي موسي هم أيضًا، لكنّهم تخلّفوا مدّةً ولم يأته منهم أحد، فترك زوجتَه وأُسرتَه وأهلَه ونحر (ذهب) صوبَ جبلِ كوكب البركاني، وماذا يجد؟!! إنّهم عظامٌ، فقد قتلوهم طمعًا في مقتنياتِهم أو كرهًا بهم.. والله أعلم. وبالنسبةِ لتاريخِ بناءِ البيت نتحفّظُ على تاريخِ عامِ 1890م. أراضي المحشوش والحدود والعمران مبنى المحافظة، وقال بعضُهم كان لبيتِ المحشوش قصرٌ تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ الدولة، وحوّلوه إلى سجنِ الحسكةِ القديم، شمالَ السراي. ولا أظنُّ بأنّ القصرَ مكوّنٌ من غرفٍ تمتدُّ على جانبي فسحةٍ من الفضاء، تبدأ من الشرقِ إلى الغربِ بعرضٍ يتجاوزُ الثلاثينَ مترًا، وكانت غرفُه مصمّمةً على أساسِ سجنٍ، فعددُ الغرف يتجاوزُ الثلاثينَ غرفةً. وقد كنتُ من الطلابِ الذين اشتركوا في تهديمِ ذاك السجنِ في صيفِ عامِ 1968م، عندما كنّا نعملُ في الصيفِ في نافعةِ الحسكة، وكان معلّمُنا رجلًا من ديرِ الزور يسمّونه أبا جوزيف؛ هذا كان رجلًا يُحبُّ بلدَه ويعملُ بجدٍّ ونشاطٍ. وذكرَ لي أحدُهم فقال: كانت أرضُ المحشوش تمتدُّ شمالَ ذاك السجن لتصلَ إلى شارعِ الجامعِ الكبير، الذي انتهى البناءُ منه في نهايةِ السنةِ الأولى بعد الخمسين 1951م، وتصلُ أرضُهم غربًا حتّى مبنى الهجّانة قديمًا، الذي كان من قبلُ للفرنسيّين، ومكانَ القصرِ العدلي اليوم، كان هنكارًا للطائراتِ الفرنسيّة، وأرضَ الملعبِ البلديِّ القديم التابعَ لمدرسةِ التجهيز، والتي تحوّلت إلى الثانويّةِ الصناعيّةِ بالحسكة، ثمّ فرعِ الشبيبة، ومكانَ مواصلاتِ الحسكة والنقل. كلُّ هذه الأرضِ كانت لبيتِ المحشوش. ولهم ناعورةٌ على نهرِ الخابور بنوها في مكانٍ وجدوا سدًّا من الحجارةِ في مجرى النهر يعودُ إلى حقبٍ تاريخيّةٍ قديمةٍ كالرومانيّة والآشوريّة، وكانوا كلَّ عامٍ يقومون بترميمِ تلك الحجارة ويُعيدون بناءَ ذاك السدّ. وقد بناها لهم أحدُ الأرمن بعد أن استقدمَه براكُ المحشوش ليبني لهم بيدِه ناعورةً من الأشجارِ الموجودة، أو من خشبٍ يأتون به من ديرِ الزور. ومن بينِ من كان يجلبُ لهم حاجتَهم من الحجارة دنحو مراد وأخوه سلو دنحو مراد، الملقّبان بالدبس، وكميون (الشفرليه) كان لدنحو وشريكِه بيت يوسف إيليا صبّاغ. فدنحو مراد كان عملُه نقلَ الحجارةِ لأهلِ الحسكة، وكان عندهم شفيرية (سائقون): أحدُهم من الأرمن وكان اسمُه كريكور، يلبسُ طاقيّةً سوداء، والآخرُ آشوريٌّ لم يُذكرْ اسمُه. ابنُهم داؤد بن سلو دنحو مراد. وكانوا يجلبون الملحَ لأهلِ الحسكة من نواحي الهول. وهذا لم يكن قبلَ عامِ 1923م، وأكّدَ لنا أبناؤه مجيءَ والدِهم للحسكة في نهايةِ (1921)م، ومن بعدِ مجيئِه بمدّةٍ انخرطَ بالعسكرِ الفرنسيِّ الذي كان يُسمّى (جيش الشرق). ومن خلالِ الشهادةِ الممنوحةِ للسيّد سلو دنحو مراد من الفوجِ الثامنِ لجيشِ الشرقِ الفرنسي عامَ 1926م، يتبيّنُ أنّ مواليدَه مثبتةٌ عامَ 1907م. وقال إنّ أُسرتَنا كانت مكوّنةً من أبي وأخيه وأُسرتَيهما، وكان يعيشُ في بيتِنا رجلٌ لم يكن له أحدٌ اسمُه دنحو وامرأتُه كانا من مخلفاتِ سفر برلك، وكانا يعيشان وكأنّهما جدُّنا وجدّتُنا. علمًا بأنّ جدّي دنحو بقي بعد عودتِه من الإسكندريّة في زحلة، وعندما استقرّ أولادُه في الجيشِ الفرنسيِّ بالحسكة جاء الحسكةَ وتوفّي في نهايةِ عامِ 1944م، ودُفن في مقبرةِ السريانِ القديمةِ التي تقعُ جنوبَ كازية (محطّةِ الوقود) التي كانت للديريّ أبي زهير وكنيتِه المارديني، وبعدها باعَها للدكتورِ الشاميِّ بكري قباقيبي. شهادةُ الرحّالة الألماني: ساشو أو ساكاو وعن خلوِّ المنطقةِ من البناءِ والتجمّعاتِ البشريّةِ، فقد روى الرحّالةُ الألمانيُّ ساشو، الذي مرَّ منطقةَ الخابور عامَ 1899م، فيقول: إنّه لم يشاهدْ أيَّ وجودٍ بشريٍّ أو ضياعٍ أو مزارع، وأنّ منطقةَ الخابور خاليةٌ كليًّا من السكن كدور، بحسبِ كتابِ «الجزيرة السوريّة بين الماضي والحاضر» لمؤلّفِه إسكندر داؤد، والمطبوعِ بدمشق عامَ 1958م. بينما نجدُ الباحثَ محمد جمال باروت، في كتابِه «التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السوريّة»، يُسمّي ذاك الرحّالة باسم ساكاو. وقد بحثتُ عنه في الباحث فلم أجدْ له وجودًا. لكنّنا نشكُّ في قولِه، وقد يكون مرَّ على الخابور من الجنوب بدءًا من طابان والأراضي التي ستكون لقريةِ تلِّ هرمز حتّى ما بعد تلِّ التمر، حيث رأسُ العين ومنابعُ الخابور. نؤكّدُ أنّه لم يمرَّ بمحاذاةِ النهر من الجنوب، بل قطعَ إلى تلِّ مجدل، وبعدها شمالَ غربيِّ نهرِ الخابور بدءًا من منطقةِ السبعةِ والأربعين، حيث نجدُ الطريقَ الرومانيَّ القديم الذي اتّخذه الفرنسيّون طريقًا لهم للوصولِ إلى الدير (الزور). يبدأ من شمالِ ديرِ الزور، ويتّجه شمالًا حتّى منطقةِ السبعةِ والأربعين. لهذا نرجّحُ بأنّ الرحّالةَ الألماني ساشو أو (ساكاو) لم يمرَّ على الطريقِ الذي سيرى فيه بشرًا، وهذا أيضًا يُثبتُ لنا بأنّ القبائلَ العربيّةَ المتناثرةَ في المكان لم تكن موجودةً، وبالكثافةِ التي يتصوّرُها أبناءُ هذا الزمان. كما لم يذكرْ لنا أيَّ وسيلةٍ كان ساشو قد استخدمها لتنقّلِه ما بينَ ديرِ الزور ورأسِ العين. أراضي بيت حبو الأسيور وحدودُها نعودُ إلى أرضِ مدينةِ الحسكة، حيث نجدُ إلى الغربِ من بيتِ الشيخِ براك المحشوش، وعلى شاطئِ الخابور شمالًا، هناك تقعُ أرضُ بيتِ الحبوات (عبدو وسليم وجرجس ويعقوب)، ويسمّون ببيت حبو الأسيور. واسمُها الحقيقيُّ حبو سعيد الصيّاد. وتقدَّرُ أرضُهم بألفِ دونم، تمتدُّ من شرقيِّ المشتلِ الزراعيّ، وأراضي بيت طعيمات، حتّى مبنى أمنِ الدولة الحاليّ، وإلى الشرقِ حتّى الثانويّةِ التجاريّة، والصفِّ الخاص الذي كان مكانُه التجارةَ سابقًا، والحديقةِ التي اقتطعتْها البلديّةُ من أرضِهم. وتتّجه جنوبًا على حدودِ بيت المحشوش حتّى الخابور، وتلك الأرضُ هي لبيت حبو. وبيتُ حبو من أوائلِ من سكنَ الحسكة بعدَ عمسي موسي، وبيت أوسي إخوان، وآل تانو، وآل كتو. وفي غربِهم إلى الشمالِ قليلًا، وعلى بُعدٍ من مركزِ المدينة بحوالي ثلاثة كيلومتراتٍ غربيَّ المدينة، يوجدُ بيتُ الطُّعيمات، وهم من المعامرة، في مكانٍ يُسمّى تلَّ غَرّة. وتلُّ غَرّة يقعُ التلُّ شماليَّ نهرِ الخابور، وكان في أراضي بيتِ الحبو، وقد رأيتُه وجلستُ تحتَ أشجارِ التوتِ التي كان بيتُ الحبو قد زرعوها. وقد اندثر ذاك التلُّ لكونِ سكّةِ القطار مرّتْ من فوقِه تمامًا، وكانوا يسمّونه (خربةَ كريط)، ولا أدري لماذا سُمّي بخربةِ كريط. وأمّا في جنوبِ النهرِ، باتّجاهِ الجنوبِ الغربيِّ من بيتِ حبو، وعلى محاذاةِ أرضِهم في غربِها وجنوبِ نهرِ الخابور، يوجدُ تلٌّ (اندثرتْ معالمُه الآن بسببِ سكّةِ الحديد). كان لبيتِ الحاج حمزة الآغوات، وهم عربٌ من الجبور. وقد عاصرتُ ذاك التلَّ وبضعةَ بيوتٍ عندما كانت أرضُ السيّدِ جرجس حبو، والتي كنّا قد زرعناها خضراواتٍ صيفيّة، تقعُ شمالَ النهار ومقابلَ تلك البيوت. ونتابع شمالَ نهرِ الخابور، وبعدَ الطُّعيمات إلى الغربيِّ لا نجدُ أيَّ خيمةٍ أو سكنٍ، إلّا إذا عدنا نتابعُ مجرى نهرِ الخابور باتّجاهِ الغرب، فهناك خيامٌ متناثرةٌ بعدَ قريةِ المجرجع، التي هي ملكٌ لبيتِ الحبوات. وأمّا في الجنوبِ الشرقيِّ على شاطئِ الخابور، فلا نجدُ أيَّ أثرٍ بشريٍّ إلّا تلَّ أبو بكر، الذي سيكون بعدَ سنواتٍ أن يأتيه بيتُ آسيا البنيبلي. طابان والقبائلُ والمهاجرون الفارّون من المجازر أمّا في طابان، التي كانت عامرةً ببيتِ المسلط، وهم من قبيلةِ الجبور، لا بل أشرافِها. وطابان، التي كانت حتّى في نهايةِ القرنِ السابعَ عشرَ أكاديميةً سريانيّةً كما تُثبت كتبُ التاريخ. وفي جنوبِ طابان، حيث توجدُ قرى مثل عجاجة والشدّادي ومركدة والشيخ حمد على الجهةِ الشرقيّةِ لنهرِ الخابور، والشيخ حمد هو أكبرُ مدينةٍ عسكريّةٍ آشوريّة. ونرى بعدَ مجيءِ المسيحيّين الفارّين من المجازر ما بينَ عامَي 1895 وعامِ 1915م، والذين وجدوا في محيطِهم القبائلَ العربيّة، سواءٌ أكانت تلك القبائلُ التي تعملُ بالزراعة وحياتُها مستقرةٌ وتعيشُ في قرى، أم تلك القبائلُ التي كانت تتنقّلُ طلبًا للماءِ والكلأ، فنجدُها لا تستقرُّ في مكانٍ، وإن كان لكلِّ قبيلةٍ مراعٍ خاصّةٌ بها. لهذا قلنا: وجد الشعبُ الذي هربَ من المجازر أمامه العربَ والعروبةَ والتسامحَ والأخلاقَ ونصرةَ المظلوم. وبالوقتِ نفسِه فقد شعرتِ القبائلُ العربيّةُ المتناثرةُ بمجيءِ هؤلاء ما يوفّرُ لهم حاجيّاتهم الضروريّةَ، والتي يمكن أن يحصلوا عليها دون الجهدِ الذي كانت تبذله سابقًا من جلبِها، سواءٌ من الموصل أم ماردين. ولهذه المعاملةِ السمحةِ نجدُ قوافلَ من السريان والآشوريّين والكلدان والأرمن تتوافدُ إلى أراضي المنطقةِ التي ستُعرفُ فيما بعد باسم الحسكة، والقامشلي، وديريك، وقبور البيض (القحطانيّة)، والدرباسيّة، وتلِّ براك (وهذه كلُّها بُنيتْ من الهاربين عدا عامودة الجديدة، وليست عامودة التي اندثرت كبقيّة حواضرِ الجزيرةِ السوريّة في نهايةِ القرنِ السابعَ عشرَ ومنتصفِ القرنِ الثامنَ عشر... بل عامودة التي بناها القلعةُ مراوية والمنصوراتية منذُ ما قبلَ عامِ 1895م)، ورأسُ العينِ التي كانت موجودةً أصلًا. التخطيطُ الأوّلُ لبلدة الحسجة وأوّلُ مخطّطٍ تنظيميٍّ لبلدةِ الحسجة خطّطه وقامَ به اليوتنان ببلو الفرنسي، ومعه مهندسون فرنسيّون، ومن بين المشاركين المعلّم إبراهيم كبسو (يونان). يوسف دلالكي والسيارةُ الأولى والراديو والكهرباء ويُعدُّ السيّدُ يوسف دلالكي، القادمُ من الموصلِ إلى الحسكة عامَ 1923م، من الأوائلِ الذين امتلكوا سيارةَ نقلٍ (شاحنة) بالحسكة، وماركتُها انتر ناسيونال، والذي تغيّر اسمُه بعدَ إحصاءِ عامِ 1965م إلى يوسف جورج جورج. وكان ابنُ عمّه جورج يقودُها إلى حلبَ عبرَ ديرِ الزور أو عبرَ تلِّ أبيض. وأوّلُ من امتلكَ بيتًا بالحسكة سطحُه إسمنت، والواجهةُ من حجرٍ أبيضَ وأسودَ منحوت، وهو من الأوائلِ الذين اشتروا جهازَ راديو بالحسكة، وذاك الجهاز موجودٌ الآن لدى الدكتور زهير. ماركتُه ويكا ألماني، ويُعدُّ من الأوائلِ الذين أدخلوا الكهرباءَ لمنازلِهم. منزلُه يقعُ في شارعِ بغداد، شرقيَّ شارعِ الموصل الذي يقعُ شرقيَّ شارعِ فردوسة بالحارةِ العسكريّة، وقد اعتبر ذاك المنزل من قبلِ الفنّان زيرين ملكي، والمصوّر الضوئي يوسف لوقا، من التراثِ الحسكاوي. بقي أن نقولَ إنّ السيّدَ يوسف دلالكي هو من آزخ الصامدة، وكان يُجيدُ اللغةَ الإنكليزيّة والفرنسيّة والآشوريّة والسريانيّة والكرشونيّة، وكان شمّاسًا إنجيليًّا. وقد امتلكَ العديدَ من الأراضي والمحالِّ التجاريّة، وقطعانًا من الأغنام. أجل:وهو والدُ الدكتورِ الجرّاح زهير جورج، والمدرّسِ والشاعرِ نبيل جورج (دلالكي).
شهاداتٌ لشهودِ عيانٍ في نشأةِ الحسكة كبارٌ في أعمارِهم، لا يعرفون الغشَّ. سألناهم فأعطونا معلوماتٍ عن النشأةِ الأولى لمدينةِ الحسجة.. وقبلَ البدءِ في تنفيذِ آليّةِ فهرسِنا لهذا الكتاب، نودُّ أن نسبقَه بما جمعناه من أفواهِ رجالٍ كبارٍ في السنّ، وكان يُشكّلُ أغلبُهم الجيلَ الثانيَ والثالثَ لنشأةِ المدينةِ الحديثة. وتلك الأقوالُ والآراءُ والأفكارُ تُشكّلُ بالنسبةِ لنا المداميكَ الأولى في بناءِ مشروعِ كتابِنا، الذي يُعالجُ نشأةَ مدينةِ الحسكة. وهذي بعضُ الأقوالِ التي أخذناها عن شهودِ عيانٍ، أو ممّن عاش في مدينةِ الحسكةِ منذُ النشأةِ الأولى، بدايةَ تكوينِها ــ علمًا بأنّ أكثرَ كتاباتِنا عن الحسكةِ، وغيرها، والتي كنّا قد كتبناها في سورية، ضاع منها الكثيرُ مع تنقّلي وترحالي ما بينَ الحسكةِ وأمريكا وألمانيا. فقد كنتُ قد أودعتُ عند بيتِ أختي ليلى أم هويدا وزوجِها أصلان أصلاني حقيبةً فيها كتاباتي حين التحقتُ بأسرتي في ألمانيا في نهايةِ عامِ 1991م، على أملٍ أن يتمَّ إرسالُها لي. وقد يقولُ قائلٌ: لماذا لم تجلبْها معك؟ الحقيقةُ أنّني أتيتُ زائرًا إلى هولندا، وعلى أساسِ أن سفري بعدَ يومَينِ إلى سورية، لهذا كانت الحقيبةُ التي معي صغيرةً. ولكن مع الأسف، لقد فُقدتْ تلك الحقيبةُ التي بقيتْ في بيتِ أختي إلى الأبد، كما فقدتُ العديدَ من القصائدِ والأشعارِ والكتاباتِ المتنوّعة. كانت تحتوي على لقاءاتِنا مع رجالاتٍ من مدينتِنا ومواضيعَ شتّى. وكانت تلك الكتاباتُ ملحقاتٍ لأبحاثٍ تاريخيّةٍ لو بقيتْ لشكّلتْ اليوم كتابًا كاملًا في التاريخ، هذا عدا القصائدِ والكتاباتِ النثريّة. مع كلِّ أسفٍ أقولُها: ضاعتْ للأبد. وللتذكير، فعندما بدأتُ أتلمّسُ طريقي إلى البحثِ التاريخيِّ مع منتصفِ الستينيّاتِ، مع السيّد يعقوب حبو والسيّد جرجس حبو عامَ 1966م، تكتملُ رغبتي وإرادتي لهذا الفعلِ الإنساني مع نهاياتِ ستينيّاتِ القرنِ العشرين، والدوافعُ عديدةٌ، حيث تكوّنتْ من خلالِ حقائقَ استقرّتْ في أعماقي وشغلتْ حيّزًا هامًّا من مشاعري ووجداني. فقصصُ المآسي ومذابحُ أجدادِنا في تركيا، التي كنتُ أسمع رهبتَها من خلالِ الكبار، تلك القصصُ التي هزّتْ وجداني، وتلاها ما كان يُحدِثُه في روحي نشيدُ (امتن سرييتو، أمتن حبيبتو، أمتن بيث نهرين) (الأمّةُ السريانيّة، الأمّةُ الحبيبة، أمّةُ بيتِ نهرين)، الذي كنّا ننشده في الربعِ الأوّلِ من الستينيّاتِ القرنِ العشرين، بمدرسةِ السريانِ الأرثوذكس بالحسكة (البحتري). وكذلك أثرُ المأساةِ الفلسطينيّةِ التي تحسّستُها وكتبتُ عنها شعرًا ونثرًا من خلالِ قراءاتي عن الفلسطينيّين، دفعتني كلُّ هذه المآسي إلى أمورٍ لم تكن واضحةً بالنسبةِ لي في البداية، لكنّها حفرتْ في وجداني أخاديد. ولكوني أحبُّ التاريخَ ومولعٌ بكلِّ ما يمتُّ للتاريخِ بصلة، وأحبُّ القصصَ التي تحكي عن حياةِ جماعاتٍ بشريّةٍ لم نعد نجدُها اليوم، وكنتُ دومًا، وقبلَ أن أقرأَ الفلسفةَ وعلمَ النفس، كنتُ أعلمُ بالفطرةِ أنّ الكبارَ هم كتبٌ لو فتحناه وقرأنا فيها لوجدنا أكثرَ من منبعٍ ومعين، وأكثرَ من معلومةٍ تفيدُنا وتفيدُ الأجيال. ولأنّي مؤمنٌ بأنّ الذي لا يُدوَّن من الأحداث ينتهي مع انتهاءِ جيلِه أو الذي يعرفُه، لهذا وجدتُني في نهايةِ الستينيّاتِ من القرنِ العشرين أعتمدُ في تحقيقِ طموحي على الكبار، وكنتُ أحاولُ أن أبني علاقةَ صداقةٍ واحترامٍ معهم، ولهذا حُظيتُ بالعديدِ منهم: أوّلهم: إيلو التانو القلعة مراوي أبو يعقوب، بحدي عبد النور القلعة مراوي أبو ذياب، جرجس حبو القلعة مراوي أبو داؤد، يعقوب حبو القلعة مراوي أبو إبراهيم، وعبدو حبو أبو موسى، وحمود ياسين العليوي الظفيري أبو راتب، سليم دولماية الميردلي أبو ميشيل، جرجسات جلو (الأعمى أبو اسحق القصوراني)، العم سعيد يوسف القصوراني أبو يوسف، عثمان علي أبو فتح الله الكردي، الشيخ الجبوري محمد الأحمد أبو حسين، عبد العزيز طعيمة المعماري أبو فيصل، الخال حنّا كرمو جرجس أصلاني أبو جورج، الأثري البريطاني ديفيد أوتس، الأب أفرام شهرستان، المعلّم داؤود دبس (مراد) المدياتي، المهندس جورج مراد المدياتي، الدكتور عبود آلو المدياتي، السيّد جرجس قريو أبو إبراهيم، المدرّس جميل رزقو (فرحة) البريهميوي، إبراهيم وعبد الأحد عدواني، ويوسف سعيد يوسف، ومارين حنا ججي قومي، وهرمز اسحق أبو نينوس، وحنّا شاهينو أبو محجوب، وجورج استنبولي وريمون برو قدسو، وأخي كيفارا حنّا قومي، فؤاد إبراهيم كرمو جرجس أصلاني، إبراهيم يوسف سعيد قومي، داؤود يوسف سعيد قومي، ووالدتي خاتون كرمو جرجس أصلاني، ووالدي حنّا ججي قومي. وهناك العشراتُ من الشخصيّات تشملُ جميعَ المكوّنات عدا اليهود في القامشلي. ولا نأتي على جميعِهم بشأنِ مشروعِ كتابِنا عن الحسجة، لكون بعضَهم أخذنا عنه معلوماتٍ تخصُّ مواضيعَ مختلفةً، بشأنِ كتابِنا (قبائل وعشائر الجزيرة السوريّة)، أو بشأنِ كتاب (القصور والقصوارنة عبرَ التاريخ)، الذي كان هو والقبائل منفصلين، ثمّ جمعناهما معًا، ثم وجدنا الاستقلاليّة تخدمُ الموضوعَين. لهذا سنقتصرُ عمّن سألناهم عن الحسكةِ في نشأتِها، ونبدأُ مع أوّلهم: إيلو التانو: شهادةُ رجلٍ من أوائلِ الساكنين فأوّلُ الرجالِ الكبارِ الذين كنتُ معجبًا بقدرتِه على الإقناع، هو إيلو التانو: وهو والدُ امرأةِ عمّي خليل، واسمُها روزة. كان رقمُ منزلِه (خانتِه) تحملُ الرقمَ 9. وهذا يدلُّ على أنّ والدَه من أوائلِ من سكنَ وبنى بالحسكة. وكان هذا الرجلُ بائعًا جوّالًا يبيعُ أغراضًا للعربِ المتناثرين في محيطِ قريةِ الحسجة، ثم البلدةِ الصغيرة. وكان يحفظُ الكلامَ بسرعة. كان أبو يعقوب القلعة مراوي يأتي لبيتِ ابنتِه زوجةِ عمّي خليل، وكنتُ أستغلُّ وجودَه ومعرفتَه التي كان قد جمعَها هو الآخر من خلالِ مواقفَ وسجالاتٍ وليالٍ طويلة. وأزعمُ وأدّعي بأنّي أفضلُ من روى لهم معرفتَه، لكي أخلّدَ اسمَه هنا هو ومن أخذتُ عنهم. وعندما كنتُ أوجّهُ له الأسئلةَ عن الحسكة، كان يؤكّدُ أنّ اسمَها القديم كانت تُسمّى بمدينةِ حزقيال، ويعتمدُ على ما جاء في الكتابِ المقدّس، سفرِ دانيال. وكان يُشيرُ إلى قريةِ أبو بكر الحاليّة، التي تقعُ على ضفافِ نهرِ الخابور، وهي لبيتِ آسيا البنيبلي، والدِ الصديق منير آسيا. وكان يقول إيلو التانو إنّ أبو بكر سُمّيتْ لأنّ البكرات كانت تنزلُ في تلك الأرض، والبكرات ـ ويقصدُ بها الصحونَ الطائرة. وأمّا عن مدينةِ الحسكة، فكان يُركّزُ على أنّ من بناها هم القلعة مراوية، وهو بالأصل قلعة مراوي، وكان يقول ـ ويُقسم: والله لم يكن في الحسكة بعد الاستقلال إلّا بضعةُ بيوتٍ من الديريّين، وعدّةُ بيوتٍ من البيرتيويين، هذا لو استثنينا موظّفي الدولةِ السوريّة. أمّا الأيّامُ التي سبقتْ مجيءَ الفرنسيّين إلى الحسجة في ربيعِ عامِ 1922م، بقيادةِ اليوتنان تيريه، الذي تلقّى الأمرَ من الكولونيل أندريا، وكان هذا مقرّه في ديرِ الزور، ووصل تيريه بجيشِه حتّى منطقةِ عين ديوار (كانوا يسمّونها منقارَ البطة). وقد شهدتُ الأحداثَ التي وقعت بالحسكة منذُ طفولتي وحتّى هذا العهد ـ والكلامُ لأيلو التانو. لكنّه كان يتحدّثُ عن ظلمٍ وقع على التجّار القلعة مراوية، الذين كانت قوافلُهم تتّجهُ إلى ماردين عن طريقِ عامودة. وكان يقول: في عامودة لا يوجدُ بها غرباء، كلُّهم من أهلِنا سوى بضعةِ بيوتٍ من الأكراد. أو حين تتّجهُ قوافلُنا إلى رأسِ العين عن طريقِ نهرِ الخابور، أو إلى طابان والبصيرة، خاصّةً في فصلِ الصيف. وكم من مرّةٍ كانت قوافلُنا تُنهبُ من قبلِ قُطّاعِ طرقٍ كانوا يستغلّون غربتَنا ويطمعون في ما نملك، وهؤلاء كانوا ممّن يعيشون على خطِّ مسيرِ قوافلِنا؟!! لكن أخيرًا شكّلنا حمايةً لتلك القوافل، وكانت الحمايةُ مزوّدةً ببنادقَ آليّةٍ أم الطلقةِ الواحدة. كما ذكرَ لي بأنّ في محيطِ الحسجة كانت تكثرُ الحيواناتُ المفترسةُ في الليل، حيث تجوبُ شاطئَي نهرِ الجغجغ ونهرِ الخابور. وكانت تكثرُ الواويّة، ومفردُها (حصيني)، والثعالب، وحتّى الوحوشُ والدببةُ في محيطِ القريةِ الصغيرة ثم البلدة فالمدينة. وكانت أصواتُ الواويّات تُسمعُ ليلًا على شاطئِ نهرِ الجغجغ حتّى نهايةِ سبعينيّاتِ القرنِ الماضي، وكنتُ أنا الكاتب اسحق قومي أسمعُها كما يسمعُها كلُّ من كان يسهرُ الليلَ على أسطحتِ المنازلِ التي كنّا ننامُ عليها أيّامَ الصيف. وكم ذكرَ لي بأنّ الليلَ في الحسكة كان موحشًا، مخيفًا، حيث يكثرُ قُطّاعُ الطرق، خاصّةً لو أنّ الواحدَ منّا جرّب أن يخرجَ إلى أرضِ مقبرةِ السريانِ الأرثوذكس، فكان الأمرُ محفوفًا بالمخاطر، وقد تُكلّفُ حياةَ من يُغامر ويخرجُ إلى هناك. فقطّاعُ الطرق يتربّصون بنا، حتّى إنّهم يطمعون في لباسِنا وما نملكُ من مالٍ نحملُه معنا… شهادةُ إيلو التانو: الأمنُ والبناءُ والتحوّلاتُ ولا يَتورّعون عن قتلِنا حتّى الموتِ لو كلّفهم الأمرُ وافتضحَ أمرُهم. وتحدّث عن البناءِ في مدينةِ الحسكة، فقال: كان البناءُ من اللبن، كما طريقةُ أجدادِنا في تركيا، واستمرَّ حتّى منتصفِ الثلاثينيّاتِ من القرنِ العشرين. ولكن أهلُ المدينة يستحدثون طريقةً جديدةً في البناء، وهي الجِصّ، الذي كنّا نستخرجه من حيِّ غويران، حيث نشوي الأرضَ التي هي كلسيّة، ومن حجارةٍ رخوةٍ، حيث نضعُ عليها زبلَ وروثَ الدوابِّ المُجفَّفَ منه، ونُشعلُ به النيران، وتبقى حتّى تستويَ الحجارةُ وتتفتّتَ. وبعدها نقومُ بتنظيفِ رمادِ الروث، ونقتطعُ الحجارةَ الرخوةَ بالفؤوس، ونجمعُها، حيث نحملُها على البغال بخُرُوج صنعناها من شعرِ الماعز وصوفِ الغنم. وكان الجِصُّ يُمزَجُ بالماء ويُجبَل ويُستخدمُ في البناءِ الذي بدأ بالحجارةِ البيضاء أوّلًا، وبعدها النَّحيد، ويقصدُ بالنحيدِ الحجارةَ البيضاءَ القويّة. وبعدَه، في منتصفِ الأربعينيّات، نجد أهلَ الحسكة، وخاصّةً الأغنياء، استفادوا من وجودِ الفرنسيّين واستخداماتِهم للإسمنت، فراحوا يبنون بيوتَهم من الإسمنتِ والحجارة. وتطوّرَ البناءُ مع نهايةِ الستينيّاتِ من القرنِ العشرين، نجد الناسَ تهدمُ القديمَ وتبني بناءً حديثًا من عدّةِ طوابقَ على حسابِ الحوش (الفناءِ للدارِ الذي كانت تزيّنه شُجيراتُ النعناعِ والورودِ والرياحين، والذي كانت تحلو به السهراتُ في الليالي، وخاصّةً الصيفيّة منها). وكان يأسفُ كلّما سألته عن أهلِنا البنّاةِ الأوائل، حيث يقول: الكاع محظورة. وهذا من أهمِّ الأمثالِ التي نستخدمها عندنا بالجزيرةِ السوريّة، إن كنّا نخافُ من قولِ الحقيقة، فنقول بما يعني قولَنا: إنّ هناك من سيشي بنا للسلطات أو للمكوّنات التي لا تقبلُ الحقيقةَ في أغلبِ الأحيان، إلّا وأوجدتْ لها تبريرًا لا يمتُّ للواقعيّة بشيءٍ. لكنّه كان يقول: والله يا بن قرايبي إنّ الحسجة كانت 90% من أهلِنا حتّى منتصفِ الثلاثينيّات، وهذا ما كنّا نراه ونعيشه. إنّما بيتُ الشيخِ عبد العزيز العليوي ومن أعقبَهم، أمثالُ ياسين العليوي، وهم عربٌ كانوا يسكنون غويران قبلَ مجيءِ بيتِنا نحن، أقصد والدي إلى هذا المكان، وأقدّرُ بأنّهم تواجدوا منذُ بدايةِ القرنِ العشرين، وبالتحديد عامَ 1908م، وهم أصحابُ واجبٍ وكرم. ولم يكن سوى بيتٍ لعليوي بجانبِ تلِّ غويران، وكانوا في البداية في خيم، ثم بنوا لهم بيتًا من اللبن. ولم ألحظْ أيَّ بناءٍ سواهم في محيطِ الحسكة، بل كانت القبائلُ العربيّةُ لا تزال تسكنُ الخيامَ السوداء المصنوعةَ من شعرِ الماعز وصوفِ الغنم، وكانت قطعانُهم وجمالُهم وخيلُهم تسرحُ في أراضٍ واسعةِ الأرجاءِ. وحين كنتُ أبيعُهم السكرَ والشايَ والملحَ والإبرَ والخيطان والصابون والخضارَ أيّامَ الربيعِ والصيف، كانوا في خيامِهم، وأزعمُ أنّي عشتُ معهم، وكانوا خيرَ من ساعدَنا على العيش، إنّما كانت مصلحتُهم تفرضُ عليهم من يوفّرُ لهم الأغراضَ والمأكولات، وحتّى الحبالَ والعمد (الأخشاب) وغيرَ ذلك. المظالمُ والتوتّراتُ ومخاوفُ المجازر وتحدّث عن المظالمِ التي كانت تقعُ للمسيحيّين من قبلِ من كانوا يسمّون أنفسَهم بالوطنيّين، خاصّةً بعدَ تشكيلِ الكتلةِ الوطنيّة، فكان يقول: كانت حاراتُنا (العسكريّة) أيّامًا معدودات لا نستطيعُ أن نخرجَ للشوارع، فقد كانت هناك مجموعاتٌ شريرةٌ تريدُ بنا شرًّا، وكم نهبوا وسلبوا أموالَنا؟! وكُنّا غالبًا ما نُسايرُ الزمن، ولكن والله ليس جبنًا منّا، فكان لدينا أبطالٌ يأكلون رأسَ الحيّة، كما يُقال، لكنّنا كنّا نخافُ حدوثَ مجازر، كما حدثتْ لنا في تركيا العثمانيّة. ولكن أخصُّ حادثين اثنين هما: عند قيامِ دولتِنا (دولة مرشو وقريو)، فقد تآمرتْ علينا، وعلى مشروعِنا، كلُّ القبائل والعشائر، وحتّى البطريركُ في حمص، والمطرانُ قرياقس تنورجي، الذي كان له يدٌ هو وبعضُ الوجهاءِ من جماعتِنا. وقد استمرّتْ دولةُ السريان من عينِ ديوار إلى رأسِ العين، وجنوبًا حتّى الحدود مع ديرِ الزور، مدّةً تجاوزتِ العام، حيث عُقدت اجتماعاتٌ بين العرب والأكراد ضدَّ مشروعِ دولتِنا. وأهمُّ من أحدثَ أثرًا هامًّا في زعزعتِها الأكراد، حيث وصل وفدٌ منهم إلى حلبَ ودمشق، والتقوا بالكتلةِ الوطنيّة، واستنكروا ببرقيّاتٍ إلى الحكومةِ الفرنسيّة. وهكذا فعل الديريون من أبناءِ مدينةِ الحسكة. وكان ذلك عامَ 1937م. وفي الوقتِ نفسِه تآمروا علينا، وعلى أهلِنا في عامودا، لكي يُهجرونا منها، حيث نحن غالبيّةٌ هناك. فأحدثوا ما يُسمّى بطقّة عامودا، (وكلمةُ الطقّة يعنون بها الفرمان أو المذبحة، أو مشروعَ قتلٍ وتصفياتٍ جماعيّة)، وكانت غايتُهم أن يفرَّ أغلبُنا، وهذا ما جرى. حيث قتلوا من أبناءِ شعبِنا أكثرَ من ثلاثينَ شخصًا، وهربَ من هربَ إلى القامشليّة والحسجة، وبعدها تدخّل أصحابُ الجاهات وعاد بعضُ أهلِنا. ولكن بعدَ أن نهبوا دكاكينَنا وأسواقَنا بالكامل، وأهانوا مقدّساتِنا، وأرادوها فرمانًا علينا لولا تدخّلُ الفرنسيّين. وأعتقدُ أنّ هؤلاء الفرنسيّين استغلّوا النعراتِ الدينيّةَ في المنطقةِ برمّتِها. الكنائسُ الأولى وبداياتُ العبادة وعندما سألته عن الكنائس فقال: الناسُ في البداية كانوا يُصلّون في البيوت، وخاصّةً بيتَ زعيمِنا وأوّلِنا وكبيرِنا الخواجا عمسي موسي، الذي كانت له (ربعة) إيوانٌ كبير، هناك كانت تُقامُ الصلواتُ حتّى نهايةِ عامِ 1920م. وكان السريانُ الأرثوذكس أكثرَ من أيِّ مكوّنٍ مسيحيٍّ آخر، لكن مع مجيءِ الفرنسي للحسكة فقد اهتمّوا بالسريانِ كاثوليك، وهمّشونا، وكانوا يضغطون علينا لنصبحَ كاثوليك. في هذه الأجواءِ نشأتِ الكنائس: واحدةٌ للسريانِ الأرثوذكس (مار جرجس، القدّيس جرجس)، وكانت مبنيّةً من لبنٍ في البداية، وكبيرة، ترتكزُ على مربّعاتٍ من البناء عددُهم 6، ويمكن أنّك رأيتَها أنت ودخلتَها، أليس كذلك؟!! فأجبتُه: أجل ونعم. وكانت مبنيّةً مكانَ المطرانيّةِ حاليًّا. كما بنوا كنيسةً للسريانِ كاثوليك (العذراء)، وكنيسةً للكلدان (يسوع الملك). ونشأتْ حركةُ بناءِ جامعٍ صغيرٍ كان من اللبن في البداية، وكان يقعُ مكانَ بنايةِ أوقافِ الحسكة التي تقعُ شرقيَّ بناءِ البلديّة الحالي. ثم نقلوه إلى بيتٍ جنوبَ بيت حدوب. ثمّ في نهايةِ الأربعينيّات تمّ تحديدُ أرضٍ لجامعٍ كبيرٍ بُني في بدايةِ الخمسينيّات، وانتهى العملُ به في عامِ 1952م. وما إن جاء عامُ 1925م حتّى بدأتْ حركةُ بناءِ كنائسَ عديدةٍ، ومن الحجارة (النحيدِ الأبيضِ والمائلِ إلى الترابي، كما كنيسةِ الكلدان). ومع مجيءِ الفرنسيّين للحسجة في أيّار من عامِ 1922م كانت الحسجةُ قريةً، بلغ عددُ سكّانِها يومَها، كما سمعتُ من المترجم ميشيل دوم عامَ 1924م، 2500 نسمة، وربّما زادَ عن هذا الرقم، لكونِ القادمين يأتون من دون أن ينتبهَ أهالي الحسكة والمسؤولون فيها إلى القادمينَ الجدد. الجسورُ والتخطيطُ والإدارةُ الفرنسيّة وفي عامِ 1923م، مع نهايتِها، تمَّ الانتهاءُ من بناءِ جسرٍ حربيٍّ على نهرِ الخابور، بدلًا من العباراتِ التي كانت وسيلةَ العبورِ من شمالِ النهرِ إلى الجنوب. وكان هناك آثارٌ لجسرٍ خشبيٍّ متهالك، رأيتُ بقاياه بأمِّ عيني. وبعضُهم ذكرَ بوجودِ حجارةٍ كانت تدلُّ على وجودِ آثارٍ لجسرٍ رومانيٍّ قديم. وفي العامِ نفسِه بنى الفرنسيّون جسرًا على نهري الخابور ونهرِ الجغجغ، لكي يصلَ الناسُ إلى جنوبِ الحسكة وإلى المرتفعاتِ التي تُحيطُ بها من الشرق. والفرنسيّون أحدثوا مع مجيئهم نهضةً عمرانيّةً وإداريّةً، حيث وزّعوا الأراضي على الأهالي، وقسّموا المدينة وخطّطوها. ومن بينِ من كان يُخطّطُها مع اليوتنان ببلو الفرنسي، والمهندسين الفرنسيّين، المعلّم إبراهيم كبسو أبو طربوش؛ فهم من نظّمَ وقسّمَ الأرضَ إلى شوارعَ ومقاسم. لهذا ترى شارعَ فلسطين (لم يكن اسمُه شارعَ فلسطين) يبدأُ شرقًا من الوادي (الحارةِ العسكريّة التي كانت أرضَ آجدان مراد شمعون)، وينتهي غربًا حتّى الطريقِ الذي كان يؤدّي إلى تلِّ غَرّة. وهناك دربٌ صغيرٌ يؤدّي إلى بيتِ الحبوات والمشتلِ الزراعي فيما بعد. كما شكّلوا مجلسًا بلديًّا في عامِ 1924م، وشكّلوا حكومةً يرأسُها علي صائب بك، وتمّ تعيينُه قائمَ مقام الحسجة. وسألتُ: لماذا عيّنوا علي صائب سلام، ولم يعيّنوا أحدَ أبناءِ المدينة، على الرغمِ من أنّ نسبةَ المسيحيّين كانت تبلغ 96%؟ فكانت أجوبةُ الكبار: (الفرنساويّين لم تكن تهمُّهم إلّا مصالحُهم..). كما أسّسوا النافعة (للمواصلات)، وماليّةً للحسكة، ومركزَ بريد. وكانت الرسائلُ تكادُ تكون مقتصرةً على الفرنسيّين وحدَهم، والمسؤولين الذين عيّنوهم. كما أحدثوا محكمةً. وكان للفرنسيّين طريقةٌ وهدفٌ: هو تطويرُ الأرضِ والمكان، لكنّه وجدَ من شكّك في نيّاتِهم رغمَ وضوحِها. ولهذا حدثتْ في الحسجةِ عدّةُ قلاقلَ ما بينَ الفرنسيّين، والذين كانوا يسمّون أنفسَهم بالوطنيّين، جماعةِ الكتلةِ الوطنيّة… نظرةُ الآخرين إلينا وخروجُ الفرنسيّين أمّا نحن فكانوا يسمّون أغلبَنا بالمتآمرين والانفصاليّين، وفي أحسنِ الألقاب كانوا يُنادوننا بعملاءِ فرنسا. وأثناءَ خروجِ الفرنسيّين من الحسجة فقد نهبوا وضربوا وحطّموا العديدَ من دكاكينِ المسيحيّين، لولا الخيرون أوقفوا المشاغباتِ والفورة. ومع بدءِ انسحابِ الجيشِ الفرنسي فقد آثرَ أغلبُ المتطوّعين من السريانِ والأرمن الذين كانوا قد غيّروا مذهبَهم ليقبلوهم في الجيشِ الفرنسي، ومعهم الكلدان والآشوريّون، الذين شكّلوا هم والسريان العمودَ الفقريَّ لجيشِ الشرق في الجزيرةِ السوريّة ـ بيت نهرين ـ والتي كانت حتّى منتصفِ الأربعينيّات ذاتَ غالبيّةٍ مسيحيّةٍ بامتياز. فالأعدادُ التي يطرحُها بعضُهم من وجودِ جماعتِهم في أرضِ الجزيرة، أؤكّدُ لك أنّ القبائلَ العربيّة كانت قبائلَ رُحَّلٍ غيرَ مستقرةٍ، إلّا الشرّابيين في رأسِ العين، والجبور في طابان، التي كانت لأهلِنا، وكان فيها جامعةٌ كما تقول اليوم، وكانت سريانيّة. وكانوا ينتشرون على ضفافِ نهرَي الخابور والجغجغ حتّى الحمدي. وكان الأخ الشيخ براك المحشوش حتّى عامَ 1923م في مكانٍ يقعُ على الأرضِ التي كانت تاريخيّة، وأعني بها (تلُّ مجدل) الذي يقعُ إلى الشرقِ من قريةِ تلِّ هرمز الآشوريّة، وعلى الجهةِ الجنوبيّة لنهرِ الخابور، حيث كانوا يسكنون الخيامَ هناك مع مواشيهم. وكان هو وأولادُ عمومتِه من الملحم، وهؤلاء كانوا يعتبرون أرضَ الليليّة وما جاورها، وشمالَ النهر الزويّة، وحتّى المخلط (التقاء الجغجغ بالخابور) أرضَهم بحكمِ العادات، كونَهم كانوا يرعون فيها مواشيهم. وقد اشتراها جماعتُنا منهم بليراتٍ ذهبيّة، والله، وببواريد (بنادقَ آليّة ذات الرصاصةِ الواحدة: دك..). ولكن مرّتْ أيّامٌ وسنواتٌ كانت كلُّ جماعةٍ تحسبُ حسابَ الجماعاتِ الأخرى. فنشأتْ علاقاتٌ وديّةٌ بين المكوّنات منذُ ما قبلَ وجودِ المطران قرياقس تنورجي، ولكن بوجودِه تتعزّزُ تلك العلاقات. ولكن علاقتُنا بقبيلةِ الجبور وبيتِ المسلط بالذات معنا نحن القلعة مراوية علاقاتٌ متميّزة، وخاصّةً مسلط باشا الذي فكّكنا أسرَه من سجونِ ماردين نحن القلعة مراوية، ودفعنا رشوةً لنُخرجه قيمتُها آنذاك 500 خمسمئة ليرة رشاديّة ذهبيّة. فردَّ لنا أولادُ عمومتِنا الجبور تلك المعاملةَ بأفضلَ منها، وبهم رفعةُ رأس، فقد كانوا لنا عونًا على التغرّب، رغم أنّ بعضًا من أبناءِ أفخاذِهم كانوا يخرجون على قوافلِنا ليلًا وينهبونَها. كما وأحبُّ أن أُعطيكَ معلومةً بأنّ العلاقةَ مع اليزيديّين اتّسمتْ بالاحترامِ والتقدير، وهؤلاء حطّهم على يمينِك، فإن أقسموا أوفوا كعمامِنا العرب. والشيشان والشركس كانوا يزورون رجالاتِ دينِنا حين يوافُون الحسجة. وأمّا الأكراد البيرتيويون، فهؤلاء جماعةٌ يتّسمون بالمعشرِ الحسن، وإن كنّا نحسُّ بأنّ لهم سرَّهم، فهم يكتمون مثلَنا أوجاعَهم. أمّا العلاقةُ مع آل حاجو، فهو أحدُ وجهاءِ الحسكة منذُ بدايةِ الثلاثينيّات، وحتّى موتِه في الربعِ الأوّلِ من الأربعينيّات. لكن ابنَه أكرم حاجو، والله وعشرة نعم منه، له مواقفُ رجل، وأنا أحترمُ الرجال. وفي البداية ذكر والدي والكبار بأنّ في البداية لم يكن في الحسكة قسّ، وكُنّا ننتظرُ مجيءَ أيِّ كاهنٍ من ديرِ الزعفران لكي يُعمّدَ الأولادَ الصغار الذين كانوا يبلغون بالعشرات. كما الأعراسُ كُنّا ننتظرُ مجيءَ العابرين من الشمّامسة أو القسّان، أو أيَّ راهبٍ عابر. ولكن بعدَ عامِ 1917م وجدنا حضورًا للكهنة لكلِّ الطوائفِ المسيحيّةِ المتواجدةِ بالحسجة. ولإيلو التانو أكثرُ من حديثٍ حول نشأةِ مدينةِ الحسجة. فقد توفّي في شهرِ آبٍ من عامِ 1999م. المعلّم داؤود مراد (دَبِس): الحارةُ العسكريّة وشوارعُها وجسورُها وأمّا الشخصيّةُ الثانيةُ التي تأتي في سياقاتِ الحديث فكان: المعلّم داؤود مراد (دَبِس). هذا الرجلُ أعطانا الكثيرَ الكثيرَ عمّا يختزنُه في ذاكرته عن الحسكة عبرَ سنواتِها الطوال، وستكونُ له مشاركاتٌ عدّة، ليس هنا وحسب. لكن استكمالًا للحديثِ عن الفترةِ الفرنسيّة فقد تحدّث عن ملعبِ الفرنسيّين لكرة القدم، فقال: كانت أرضُ الحارةِ العسكريّة، التي كانت للسيّد مراد شمعون، الذي أصبح آجدان مراد، حيث قسّموها فيما بعد إلى شوارع، منها شارع فردوسة، وهو على اسمِ امرأةٍ من الحسكة كانت تخدمُ الفرنسيّين وتقدّمُ لهم الطعامَ والشرابَ، وحتّى غسلَ لباسِهم. وشارعُ الموصل إلى الشرق منه، وشارعُ بغداد، ومن الشرق شارعُ القدس. وكلُّ الشوارعِ الموازية لشارع فردوسة، الذي يصلُ إلى الشمال حتّى الشارعِ المؤدّي إلى جسرِ الجغجغ. أهلُ هذه الحارةِ العسكريّة بالكامل كانوا من السريان الذين نقول عنهم نحن أهل الحسكة طوارنة (نسبةً إلى جبالِ طورعبدين). وكانوا منخرطين أغلبُهم في جيشِ الشرق الفرنسي. وكان الفرنسيّون قد وزّعوا على هؤلاء الجنود أرضَ ملعبِهم لكرة القدم، وأعطوا كلَّ جنديٍّ 360 مترًا مربّعًا بنوا عليها بيوتَهم. وفي شرقِ شارع بغداد كان يمرُّ وادٍ تكوَّن من خلالِ فيضاناتِ نهرِ الجغجغ. وكان مبدأ ذلك الوادي القادم من الشمال، وكان يوجدُ جسرٌ قديمٌ وصغيرٌ يمرُّ من تحته مجرى الوادي. وهناك كان بيتٌ وحيدٌ لأحدِ العربِ الديريّين اسمَهم بيت (البري). ونستطيعُ أن نقول: كان وجودُ ذلك الجسر في الجهةِ الجنوبيّة للصناعة اليوم، وشمالَ بيت المصوّر كبرو. أمّا الجسرُ الثاني فكان إلى الجنوبِ الشرقيِّ من المقبرةِ الفرنسيّة، التي كانت تقعُ تحت بناءٍ للشرطة الآن، وقد سُمّي على اسمِ رجلٍ مسيحيٍّ اسمُه أبو أنطون (عطا الله). وكان يسمّيه الفرنسيّون بالتسميةِ التركيّة (اللفردي). وكان رجلًا قصيرًا. ومكانُ ذلك الجسر عمَّر رجلٌ درزيٌّ اسمُه أبو جمال، بيتَه باعه فيما بعد لبيتِ الياس حشيشو القادمين من حوالي ديرِ الزور. وكان في الحارةِ العسكريّة مركزٌ للراهبات ومدرسةُ البيطريّة. أجل، كانت مدرسةً كبيرةً مبنيّةً من حجارةٍ بيضاء وكلس، وهي من أولى المدارسِ بالحسكة. كما أكّد، مع قولِ إيلو التانو، أنّ الأسرَ الأولى التي كوَّنت الحسجة وهم من بناها بيت: (عمسي موسي وإخوته وأهلِه، وبيت أوسو (أوسي) إخوان، وبيت موساكي إخوان، وأسرةُ عمسي أبو حنّا شفير الباص، وبيت عبدلكي). وقال: كانوا منذُ زمنٍ طويلٍ في الحسجة. وقال لي الكبار إنّهم هم وبيت العليوي جاؤوا الحسكةَ في العامِ نفسِه. أجل، بيتُ عبدلكي قُدامى. بحدي عبد النور: الآثارُ والمعيشةُ وضروراتُ الحياة أمّا الشخصيّةُ الثالثة، وهي أقدمُ من الشخصيّةِ الثانية المعلّم داؤود مراد، فكانت بحدي عبد النور، والدُ الزميل المدرّس ذياب عبد النور: كان عملُه ناسجَ ثيابٍ وبُسُط، وكان عنده نول، والنول آلةٌ لنسجِ البُسُط والثياب. لقد التقيتُه بحكمِ تجوالي بين الكبار في مدينةِ الحسكة، أفتّش عمّن يُعطيني أجوبةً عن أسئلتي. ومرّةً قال لي إيلو التانو إنّ بحدي عبد النور متعلّمٌ، ويفهمُ بالتاريخ وخاصّةً عن الحسكة. لهذا تجدني أتقربُ منه، سيّما وأنّ امرأةَ خالي حنّا أصلاني، ورداني بنت كرمو كتو القلعة مراوي، تكون أختَ زوجتِه شمسه. لهذا دخلتُ إلى عالمِ هذا الرجل العارف بالأمور. وحين جالستُه حكى لي عن أمورٍ كثيرة، منها: عندما جاء الفرنسي في أيّار عامَ 1922م، بقيادةِ الملازم تريه وبإيعازٍ من الكولونيل بيغوغراندوف، تغيّرت معالمُنا نحن أبناءَ المجازر، وحاولنا أن نتأقلمَ مع الواقع، هذا ما قاله لي. وكان يُجيدُ الفرنسيّةَ بشكلٍ يُرضي السامع والعارف. فقد رافق هذا الرجلُ خبراءَ الآثارِ الذين نقّبوا في كلِّ المدينة وفي التلالِ المجاورة. وقد حدّثني عمّا وجدوه من مقابر وآثارِ معاصرَ للزيتون. وكان يؤكّدُ أنّ خان بهنو، وإلى الشرقِ من شارع الحلاقيين، في هذا المكان، هناك ثروةٌ استكشافيّة. هذا ما كان يقوله لهم خبيرُ الآثارِ الفرنسي في عامِ 1925م. وأكّد أنّ بيت عبدو حبو في المدينة كان قد بُني بيتُه على مقبرةٍ ومعاصرَ للزيتون. وأمّا حديثُه عن معاناةِ أهلِ الحسجة الأوائل فكان يتحدّث ولا يريدُ أن يتوقّف، لصعوبةِ الحياة، وقال: وسائلُ النقلِ القديمة: الحمارُ والبغلُ والحصانُ في أفضلِ الأحوال. وكان الناسُ يشربون الماءَ من نهرِ الخابور بشكلٍ مباشر، حيث تذهبُ الفتياتُ والنسوةُ لملءِ جرارِهنّ بالماءِ. وقال: كنّا نستغلُّ أيّامَ الشتاءِ حيث نضعُ تحتَ المزاريب أوعيةً لجمعِ الماء. ولم يكن بعدُ قد تمّ تمديدُ مجاري الصرفِ الصحّي، حيث كانت في كلِّ بيتٍ غرفةٌ وتحتها حفرةٌ عميقةٌ وكبيرة، وهي عبارةٌ عن كبينه نسميها (ججما). والجيم هنا تُلفظُ كالجيمِ المصريّة. ويُسمّيها الفرنسيّون كبين. وهي مكانٌ لقضاءِ الحاجة، عندما نحتاجُ إلى الخلاء. ونتجَ عن هذا الأمر وجودُ رجالٍ امتهنوا حفرَ تلك الحفر لتجهيزِها كبيتِ الأدب (الكبينة). وهم يقومون بتجهيزِها، ومنهم من ينظّفها لو امتلأت أو حدثَ لها حادث، وكانت تُشكّلُ قضيّةً في الصيف حيث الروائحُ الكريهة تملأُ الأزقّةَ والبيوت. بالنسبةِ للحمّام، فكان هناك يومُ السبت يومًا للحمّامِ وغسلِ الثياب ونشرِها حتّى تجفّ. لم يكن كهرباء، وكُنّا أيّامَ الصيف نستخدمُ الطبقيّات المصنوعةَ من سوقِ الحنطة لكي تكون بمثابةِ مروحة، حيث نعلّقُها في السقف، ونربطُها بالجهةِ المقابلة بحبلٍ، ويتمّ تكليفُ الصغار بالدور لتحريكِها يمينًا وشمالًا. أمّا ليالي الصيف فكانت مزعجةً، وذلك لكثرةِ البقّ (الناموس)، حيث يكثرُ في المكان، والأطفالُ والكبار لا ينامون إلّا عند الفجر، حيث تهبُّ نسائمُ غربيّةٌ فتطردُ البقّ. وذكر أنّ أهلَ القريةِ الصغيرة ثم البلدة كانوا يعملون بالمهنِ التي توفّرُ لهم السلع أوّلًا، وتوفّرُ حاجيّاتِ القبائلِ العربيّة وغيرِهم. سلو دنحو مراد الدبس: العودةُ من طرابلس وبداياتُ الاغتراب وأمّا الشخصيّةُ الرابعة فقد شاركنا السيّد سلو دنحو مراد الدبس، والدُ المعلّم داؤود، في الحديث عن عودةِ الجنودِ السريان والآشوريّين والكلدان للحسكة وغيرها، بعدما رافقوا الفرنسيّين إلى لبنان للذهاب إلى فرنسا هم وأُسرُهم. ونعود قليلًا للوراءِ: فعندما أراد الجيشُ الفرنسي الانسحابَ من مدينةِ الحسكة عامَ 1946م قامت القوى التي كانت تُسمي نفسها بالوطنيّة بالاعتداء عليه، وعلى جميعِ أُسرِ المتطوّعين معه. وحدث في الحسكة فوضى واعتداءات، خاصّةً على أُسرِ الجنود من السريان والآشوريّين والكلدان. لهذا اقتنعتْ أكثرُ من مئةِ أُسرةٍ بالذهابِ مع الفرنسيّين. ووصلوا إلى لبنان ـ طرابلس ـ حيث بنوا لهم (مخيّمًا) هناك على أطرافِ نهرِ البداوي. ومن بين تلك الأُسر أُسرة الراوي سلو دنحو مراد الدبس. لكن أغلبَهم عاد عندما لاحقهم مطرانُ الجزيرةِ والفرات ـ مطران قرياقس تنورجي ـ وللعلم كانت بطرَكيّة السريان الأرثوذكس يومها في مدينةِ حمص، التي هي أقربُ المدن إلى طرابلس لبنان، ما ساعد المطران قرياقس بالنجاح في مهمّتِه، حيث إنّ من أرسلهم كانوا من قرى حمص، وأقنعوا هؤلاء بالعودةِ إلى الجزيرة. ولكون المطران قرياقس كان أحدَ عناصرِ الكتلةِ الوطنيّة بالجزيرة، فكان له مكانةٌ خاصّةٌ للوعودِ التي قطعها للموجودين في طرابلس لبنان من المهاجرين. ومن بين الذين أقنعهم وعادوا توما يلدا وحوالي ثمانين أُسرة، من بين تلك الأُسر أُسرة المجنّد سلو دنحو مراد الدبس. وأمّا عددُ الأُسر التي أكملت الطريقَ إلى مرسيليا بفرنسا فقد تجاوز عددُها العشرين أُسرة، من بينها أُسرة عمسيح أبو شفة، الذي كان بالأساس من بلدة مدياث، والذي كان منخرطًا في الجيش الفرنسي بالحسكة. وكانت له أرضُ قرية المرات يتقاسمها يومها مع بيت كرمو الرزقو القصوارنة، وهناك ربعُها غيرُ مفلوحٍ وكان بورًا. وبقي عمسيح أبو شفة في فرنسا، وعاد في نهايةِ سبعينيّاتِ القرنِ العشرين ليزورَ الحسكة، وهو من أقربائه بيت ميخائيل بيطار. وقد رأيتُه عند بيت جارنا الحاج حمدان العساف المشهداني، فقد دعاه على غداء. وللعلم فقد أهدى حصّتَه التي كانت تُشكّل ربعَ قريةِ المرات الواقعة إلى الجنوب الشرقي من قريةِ تل جميلو، كهديةٍ لحمدان العساف حين هاجر إلى فرنسا. واسمُ القرية قديمًا (المرّات) والآن اسمُها مشيرفة حمدان. ونعود لنتحدّث عن الأُسرِ العائدة من طرابلس لبنان: فقد وجدوا بأن بيوتَهم قد استولى عليها بعضُ الناس، ولكنّهم يستردّونها عن طريقِ جهود المطران قرياقس ووجهاء مدينة الحسكة. وقد عاشوا زمنًا وهم يعانون التعذيبَ النفسيَّ من الآخرين؛ لأنّهم كانوا ينادون لهم: يا فرنساويّين، وغير ذلك من الكلماتِ القاسية. وعاشوا الكثيرَ من القهرِ والاضطهاد، ولم يكن بيدهم حيلةٌ للردِّ على هؤلاء الذين كانوا يدّعون بأنّهم من الوطنيّين. وممّن كانوا في الفرقةِ النحاسيّة والكشفيّة بالجيش الفرنسي من السريان السيّد: 1- بطرس السوس. 2- سلو مراد (الدبس). 3- وحنّا حيمو السرجان. 4- وعيسى ملكي الملقّب بموتور، والد المغنّي جورج موتور. هجراتٌ أقدم: مرسين، الإسكندرية، مصر، بيروت ويُذكر أنّ سريانَ تركيا، أو سريانَ طور عبدين، كان قسمٌ منهم قد توجّه إلى مدينة أضنة ومرسين في الغرب من تركيا قبلَ عامِ 1893م. ومن هناك رحلوا في قوافل بالبواخر من مرسين إلى أمريكا، في الدفعةِ الأولى وصلتْ إلى أمريكا. أمّا الدفعةُ الثانيةُ والثالثة فقد سافروا على باخرتين أبحرتا من ميناءِ مرسين، وهما تُقلّان مئاتِ الأُسر، ومنهم أُسرٌ سريانيّة، ولكن توقّفتا في ميناءِ الإسكندرية. وعندما رأى الأقباطُ أنّ إخوتَهم السريان بدؤوا يهاجرون إلى أمريكا أوقفوهم وأنزلوهم بعدَ الإقناع أن الهجرةَ مُضرّة. وأغلبُ الأُسر لم ترجع إلى سورية، بل بقيتْ في الإسكندرية، ومنها من سكنتْ في القاهرة. لهذا نجد أكثرَ من 60 أُسرةٍ سريانيّة تعيش في مصر. ومنهم من عاد إلى بيروت عن طريق سيناء، وبقي في بيروت أو زحلة. من بين هؤلاء والدُ سلو مراد الدبس، الذي جاء هو وأُسرته إلى بيروت، ومعه أختُه كاترين التي تزوّجتْ لأحد الأشخاص من بيت الحداد. ويَتبيّن أنّ القرنَ الثامنَ عشرَ والتاسعَ عشرَ وحتى الأربعينيّاتِ من القرنِ العشرين كان تنقّلُ الجماعاتِ البشريّة أمرًا طبيعيًّا لأسبابٍ مختلفة، منها المذابحُ والتصفياتُ العرقيّة والجوعُ والفقرُ والغلاء. تطوّرُ البناء في الحسكة: اللبنُ ثمّ الجِصّ فالإسمنت كما ونريد أن نؤكّدَ أنّ البناءَ في الحسكة بدأ بمادّةِ الطين المعجونِ بالتبن وتقطيعِه إلى مستطيلاتٍ يسمّونها (اللَّبنة)، ويتمُّ تيبيسُها أيّامَ الصيف على حرِّ الشمس. وبعد البناء يوضعُ السقفُ الذي استخدموا فيه أعمدةً خشبيّة من الأشجار، وهناك أغصانٌ أرفعُ موضوعةٌ على الأغصانِ الأكبرِ التي تتحمّل، ومن ثم وضعوا شُجيراتِ الشفلع وغيره، حتّى وضعوا الأعشاب، وفوقها تأتي طبقةٌ من التراب، ثم اللسياع (وهو ترابٌ مجبولٌ بالماء والتبنِ الناعم، وكان بعضُهم يُضيفُ إليه الملح). ويصنعون لكلِّ سطحٍ مزاريبَ ليكون سهلًا على مياهِ الأمطار. وكانت أبوابُ البيوت تتّجه غالبًا إلى الجنوب على اتجاهِ الشمس. وكانت الأسطحة (السطوح) مائلةً قليلًا حتّى لا يقفَ عليها الماءُ فيكِفّ (والوكف) هو نزولُ الماء إلى داخل الغرفة. وبعدها تطوّرت وسائلُ السطح فاستخدموا الأعمدةَ المستوردة مع خشبٍ يسمّونه دَفًّا، وهو عريضٌ لحدود 30سم وسماكتُه بحدود 3 سم. وبعد منتصفِ العشرينيات استخدموا الجِسَّ والحجارة، وبدأ مع الفرنسيّين يعرفون الإسمنت. وأن أحياءَ المدينةِ كلَّها في البداية كانت مبنيّةً من اللبن وعلى هذه الشاكلة. هذه لمحةٌ سريعةٌ عن العديدِ من النقاطِ التي رغبنا في إثارتها. جرجس حبو ويعقوب حبو: التعليمُ والمدارسُ والفيضانُ والاضطرابات أمّا الشخصيتان الخامسةُ والسادسةُ: فكانتا السيّد جرجس حبو، وأخيه السيّد يعقوب حبو. وهما توأمٌ وُلدا في ماردين عامَ 1905م. تعرّفتُ إليهما في آذار عامَ 1966م عندما اصطحبني والدي كي يسألهم عن عملِ الفلاحةِ لديهم، وعملنا كفلاحين عند العم جرجس موسى عبد الأحد حبو أبو داؤد، خلال الربيع والصيف وحتى انتهاء القطن والخضار الصيفيّة. كانت أسئلتي لهما ربما تُشكّل أكبرَ الإزعاج، حيث هم في أمور القطن وركشه وسقايته، لكنّني كنتُ أسألهما عن البدايات وكيف كانت الحسجة منذ نشأتِها، لكونهم من الأُسر الأولى التي شكّلت نواةَ قرية الحسجة. وكان يُجيبان عن أسئلتي، حيث كانا يتعلّمان منذ عام 1928م بمدرسة السريان الأرثوذكس التي كانت تقع إلى الشرق من مبنى كنيسة القدّيس مارجرجس، التي كانت مبنيّةً من اللبن. وقد درستُ الحضانةَ في تلك المدرسة عام 1955 و1956م، وعدتُ إليها من قريتِنا وأنا في الصفِّ الثاني، حيث كان المدير المعلّم (الملفان) اسحق ساكا، المطران فيما بعد، وكان شاعرًا. فكانا يذكران بأنّ الأرضَ التي نفلحها هذه كانت بعيدةً عن مركزِ المدينة، وكانت تُعتبر قريةً تابعةً لمدينة الحسكة. وكانا يؤكّدان أنّ البنّاةَ الأوائل كانوا قلعة مراوية، وأوّلهم عمسي موسي وإخوته جرجس وحنّا وبحو. وكانا يؤكّدان أنّ الحسكة عرفت العديدَ من الفيضانات في الشتاء، والعديدَ من القلاقل والاضطرابات، خاصّةً عندما وجدَ العرب والأكراد وغيرُهم أنّنا مقبلون على إعلان دولةٍ لنا عام 1936 و1937م، وكانت يومها سورية مقسّمةً إلى دويلات. وغيرُنا كان يُطالب بالمطالبِ نفسها، لكن الأمر تمّ القضاء عليه بعدَ عامٍ وشهر، وبعدها بدأنا نأكلُ نتائجَ طموحاتِنا. وعندما كنتُ أسألهم عن التعليم، لكونهما علّما في مدرسة السريان الأرثوذكس بالحسكة، أكّدا أنّ التعليمَ وجد مع وجودِ المسيحيّين في الحسجة. وقالا إنّ المدارسَ للطوائفِ المسيحيّة قبلتْ تلاميذَ من كلِّ الديانات والأقوام بعدما تكاثرتِ الأقوامُ في المدينة، خاصّةً بعدَ منتصفِ الثلاثينيّات. وكانت تلك المدارسُ مشاعلَ نورٍ حتّى منتصفِ الثلاثينيّات، وجدنا ما يُسمّى بمدارسِ المعارف تابعةً للدولة، بعدما كان الإخوةُ الإسلام قد افتتحوا ما يشبه مدارسَنا، ولكن كانت عبارةً عن غرفةٍ يجتمع فيها الصبية ويُعطيهم الملا دروسًا في تحفيظ القرآن ليس إلّا. يسمّونها بـ(كتاتيب). حتّى جاءت تلك المدارسُ التي نقول عنها بالمعارف، فهي تابعةٌ لمديريةِ معارف الحسجة. وأوّلُ مدرسةٍ تمّ افتتاحُها كانت مدرسةَ العشائر، حيث كانت القبائلُ العربيّة ترسل أولادَها إلى تلك المدرسة. وكانت عبارةً عن مدرسةٍ وغرفٍ للنوم ومطبخٍ خاصٍّ بإطعام التلاميذ. وكانت أوّل مدرسة عشائر تلك التي تقع على طريقِنا إلى المدينة، ويقصدان مدرسة التطبيقات المسلكيّة التي تقع إلى الغرب من ثانوية أبي ذر الغفاري، وكان جنوبُها يقع حي الهجانا، وكانت بيوتهم من توتياء. وقالا: إنّ طائفةَ السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك، وتبعتهما طائفةُ الأرمن، وبعدهم الأرمنُ الكاثوليك والكلدان والبروتستنت، جميعُهم افتتحوا لهم مدارس، وتخرّجتْ أجيالٌ من تلك الدور التي كانت في زمنِها مشاعلَ نورٍ ومعرفة. ـــــ وقد توفّي السيّد يعقوب حبو عام 8/7/1997م، بينما توفّي توأمُه أخوه السيّد جرجس حبو في 2 تمّوز من عام 2009م. ــ في حين أغلبُ أبناءِ المكوّنات الأخرى كانوا ينزعون للعمل الرعوي، والقليلُ منهم تعلّم الزراعةَ المرويّة والعَذيّ (غير المسقيّة التي تعتمد على الأمطار)، بينما نحن كنّا أكثرَ تنظيمًا، فكان أن تقاسمنا الحياة: بعضُنا يعمل في مختلف الصناعات اليدويّة، وحتّى الستينيّات لم يكن يوجدُ سوى أبناءِ شعبِنا وملّتِنا، فـ97% كلُّ الصناعات والدكاكين والباعة والقصّابين والخياطين والحلّاقين والخبّازين ومحلات بيع الحبوب وغيرها كانت لأبناءِ شعبِنا ـ وهنا يعنون بكلمة شعب: المسيحيّين ـ لكن لو تحدّثا عن الوجود الديري والبوكمالي والبصيري في الحسكة، فكانا يؤكّدان أنّ الحسجة أصبحت محطَّ أنظار وادي الفرات وباقي الأماكن. وتحدّثا عن مبنى السراي الذي بُني في عهد الرئيس تاج الدين الحسيني المراكشي الأصل، وكانت عبارةً عن مكاتب للمحافظ وجميع المحاكم. وفيها كانت تتم مؤامراتٌ على أبناءِ شعبِنا ونجاحاتهم في كلِّ المجالات. لكن أبناءَ شعبِنا كانوا يردّون الصاعَ بسلوكيّتهم وأخلاقهم وتفانيهم وصدقهم ومحبتهم لوطنهم سورية. وتحدّثا عن الفلاحة والزراعة، فقالا: نحن من علَّمَ الجميع الفلاحة والزراعة. وجاء في منتصفِ الثلاثينيّات فلاحون من حلب، وكانوا مشهورين بمعرفتهم بالقطن وزراعتِه. وهكذا كان البنيبليون منذ عام 1917م وقبلها أصحابَ مهنةِ الفلاحة في زرعِ الخضار الصيفيّة والشتويّة. وكانت المدينةُ كلُّها تعتمد على البنيبليّة وبعض الأُسر القصورانيّة في تلك الزراعة، وهم وحدُهم من اشتهر فيها، فكانوا فلاحين عندنا نحن بيت الحبوات (عبدو حبو وإخوته سليم وجرجس ويعقوب)، وبيت الطعيمات، وفي أراضي بيت الحمزات، وعند المحشوش وأبو بكر وغيرها. وأمّا عندما تحدّثنا عن فترةِ الانتدابِ الفرنسي على سورية، وخاصّةً في الجزيرة، فكانا يتأسّفان على كلِّ أفكار الآخرين تجاه ذاك الانتداب، وقالا: كان الفرنسيّون أصحابَ حضارةٍ ومعرفة، ولكنّنا نحن لم نقبلْهم ليس لأيِّ شيء، بل لكونهم ينتمون إلى أوروبا، وهم من الذين يُدينون بالمسيحيّة. بالعكس، علّمونا كلَّ شيء، وحين خرجوا أذاقونا الأمرَّين جماعةَ الكتلةِ الوطنيّة ومن لفَّ لفّهم. ولابدّ أن نذكر موقفَ أبو موسى الأخ الأكبر لنا عبدو (حبو)، حيث كان من الوطنيّين هو وزوجته، وساعدا الثوّار مدّةً طويلة، وضحّيا بالغالي والنفيس من أجل الثوّار. نكتفي بهذا القدر من أقوالهم، التي لو كتبناها لتجاوزتِ المئةَ صفحة، لكن أتذكّر وللتاريخ أكتب قولَهما: الهكوة (الأمل) في القبائل العربيّة وأوّلهم الجبور، وأمّا الآخرون يتمسكنون حتّى يتمكّنوا، ونعتقدُ بأنّ هناك من يحفرُ لنا في هذه الجزيرة وغيرها من مكان. انتهى قولُ السيّدين جرجس ويعقوب حبو، اللذين هما من مواليد عام 1905م. عبدو حبو: شهادةٌ عن النشأة والدولة والانتداب والجسر أمّا الشخصيّةُ السابعة: فكان السيّد عبدو حبو، الأخ الأكبر لكلٍّ من يعقوب وجرجس، والذي كنتُ ألتقي به بعد السبعينيّات. فكان رجلًا قاربَ على السبعينيّات؛ فهو من مواليد قريةِ قلعة مرا عامَ 1898م. وكان قد نزل مع أمّه حبو وإخوته سليم وجرجس ويعقوب إلى الحسكة عامَ 1916م، بعدما قتل العثمانيّون أخاه الأكبر عبد الأحد ووالدَهم. حدّثني عن النشأة، وأكّد ما قاله كلٌّ من إيلو التانو وبحدي عبد النور وجرجس ويعقوب. وكان يقول: لو لم يخنّا الآخرون في مشروعنا لكانت الآن الجزيرة جنّةَ الله على أرضه، لكنّهم دفعوا أموالًا وعملوا المستحيلَ على إسقاط دولتِنا، التي بقيتْ سنةً وشهرًا تقريبًا. وقال: ونحن جماعتُنا أيضًا وقفوا ضدَّ المشروع، حتّى البطريرك السرياني لم يقبل المشروع. ولكن أؤكّدُ لك أنّ البيك الياس مرشو والبيك بحدي قريو لو نجحا في مشروعِهم لكان جميعُ الناس في غيرِ ما نحن عليه. ولكن جماعتَنا حسبوا حسابًا آخر، وهو أنّنا سنعيشُ هنا؛ لهذا علينا أن نتأقلمَ مع الواقع. وأعتقدُ بأنّ الجزيرة لن تكون يومًا ما للدولةِ السوريّة، فهناك ـ على ما أسمع وأحسّ من خلال جلوسي مع العديد من الجماعات ـ بأنّ مشروعًا يشبه مشروع مرشو وقريو يُحضَّرُ للمنطقة. ولكن كان يؤكّدُ أنّه كان مع الوطنيّة السوريّة. وكان يُساعد هو وزوجته الثوّارَ السوريّين، ويُسكنهم ويقدّم لهم كلَّ مستلزماتِهم. وكانا يغامران هو وزوجته بأن يُدخلاهم إلى دارِهم الكبيرة ويُخبّئا الثوّارَ من الفرنسيّين، ويتحمّلا كلَّ التبعات. وكان يقول: أنا لا أدّعي بأنّني كنتُ من الوطنيّين الأوائل، لكن كان يقول: أقسم لقد ضحّيتُ بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن الجزيرة، وتعرف نحن لا نخون الخبزَ والماء. حتّى في موضوع دولتِنا كانت موجةً في سورية يومها، حيث كانت مقسّمةً إلى عدّةِ دويلات. ومن بين الأمور التي تحدّث عنها هو الظلمُ الذي عانته محافظةُ الحسكة من قبل القادمين من موظّفين وشرطة ومخابرات، وخاصّةً على عهد الانقلابيين وفي عهد الوحدة بين سورية ومصر. وفي حديثه عن البناء الأوّلي قال: الشيءُ الذي يجب أن يذكره تاريخُ هذه المدينة هو إصرارُ القلعة مراوية والبنيبلي الأوّل على التمسّك ببيوتِهم رغم القلاقل والمصائب التي مرّت عليهم، وقد استمدّوا صبرَهم من أنّ لا مكانَ أفضلَ من هذا المكان، فكلُّ الأماكن فيها المتوحّشون، والذين لا يقبلون بوجودِنا أصلًا. تبقى القبائلُ العربيّة أكثرَ رحمةً من غيرِهم، وهذه حقيقةٌ لابدّ من قولها، ورغم أنّ بعضَ أبناءِ تلك القبائل كانوا يظهرون علينا وعلى قوافلِنا ونحن نعرفُهم، إلّا أنّنا كنّا نسوّي الأمور بيننا. وأكد لي أكثرَ من مرّة بوجود جسرٍ خشبيٍّ مبنيٍّ على الخابور باتجاهِ المنطقةِ التي كانوا يسمّونها بغويران. وقال: لا يوجد أحدٌ يعرف متى بُنيَّ ذاك الجسر، إلّا أنّه كانت البغالُ تعبرُ من عليه والناس، وكان أهلُ الخير يُصلحونه عندما كان يتهالك. لكن مع مجيءِ الفرنسيّين إلى المنطقة فقد ابتنوا جسرًا حربيًّا في البداية، ثم بنوا الجسرَ الذي رأيتَه أنت، وكان من الحديد ومبنيًّا على قائمتين من الحجارةِ السوداء. شاركنا نحن الفرنسيّين في بنائه واعتبرنا الأمر فائدةً لنا. أمّا الحقيقةُ الثانية فهي أنّ الفترةَ الجوهريّة والذهبيّة كانت قصيرةَ الزمان، فما إن نستقرّ حتّى يأتي من يُعكّر صفوَ عيشِنا. وعلى الرغم من أنّ الحسكة والجزيرة السوريّة هي أرضُ الأجدادِ الأوائل ـ بلادُ ما بينَ النهرين كما تعرف ـ وحقّنا فيها، لكن هناك من ينظرُ إلينا نظرةَ تعالٍ وازدراء. ــ وهنا ننتهي من حديثِ السيّد عبدو موسى عبد الأحد حبو، وننتقلُ إلى الحديث عن… الشخصيّةُ الثامنة: الشيخُ الحاجّ مختارُ الديريّين السيّد حمود ياسين العليوي (أبو راتب) فكان الشيخُ الحاجّ مختارُ الديريّين السيّد حمود ياسين العليوي، أبو راتب، الذي ينتمي إلى قبيلة الظفير البوعويص. كان قد تسلّم المختاريّة والمشيخة بعد وفاة والده ياسين عام 1957م. وكان يتميّز بحسنِ سجاياه، وصلاته مع كلِّ مكوّنات مدينة الحسكة، على اختلاف قومياتها، وأديانها، ومذاهبها. وكنتُ قد التقيته الربع الأوّل من سبعينيّات القرن العشرين، كان ذلك قرب مقهى البلّور، حيث طلبتُ منه أن يُجيب عن أسئلتي عن الحسكة، فقال: تعالَ يا بن أخي، تعال، خيرُ البرِّ عاجله، هل أنتَ مخبرجي؟ فضحكتُ وقلتُ له: يا عمّي، والله لستُ كذلك، بل أنا أسعى لكتابة تاريخٍ عن مدينتنا. وعندما ذكرتُ له حادثةً كنتُ قد رافقتُ والدي إلى داره بحي غويران قبل عشرة أعوام، تذكّر والدي، وقال: ما دمتَ ابن حني الججي والله تعال نشرب كاسة شاي وسوف أجيب عن أسئلتك. وجلسنا، وبين الحين والآخر يمرُّ أناسٌ هم بحاجةٍ إلى خاتم المختار، فكان يضع خاتمه على عرائضهم، ومن دون أن يأخذ منهم دراهم كما يفعل أغلب المخاتير. سألتُه عن قبيلته فقال: نحن من الظفير، ولها أساسٌ في السعوديّة، جئنا غويران مع مطلع القرن العشرين. وأذكر الخلاف بين والدي وبعض أهلنا، لم أعد أتذكّرهم لكوني كنتُ حدثًا. فوالدي كان يقول إننا نزلنا المكان بعدما وجدنا عسكر عصملي كانوا موجودين فوق تلٍّ شمالي نهر الخابور، وكانت هناك دورٌ وناسٌ من جماعتنا المسيحيّين، ونحن جئنا فوجدناهم شمالنا بيوتًا عامرة، وكانت الأرض خالية إلّا من هؤلاء آل عمسي موسي وجماعته القلعة مراوية والميردليّة، وكُنّا لا نزال في الخيام. وهذا يؤكّد لي دون شكٍّ بأننا وجدنا بعد بناء ثكنة البغالة التي ابتناها السلطان العثماني، ما عاد أتذكّر متى. أنتَ عليك أن تفتّش متى بناها. أمّا من جهة عربنا فوالله وأقسم لم يكن قد بنى قبلنا بيتًا منهم، بل كانوا يجوبون المنطقة بحثًا عن المراعي، ولم يكن منهم أحدٌ قد بنى غير أهلنا الجبور في طابان بعض البيوت، والذين على طول نهر الجغجغ فكانوا في الخيام، لكن لا أعرف متى بدأ الناس بالبناء. أمّا نحن فقد اخترنا غويران كونه مكانًا يسهل علينا الذهاب إلى دير الزور، في أيِّ وقتٍ نشاء. ومن ثم وضع جدّي يده على تلك الأرض التي كان لأحد الشرّابيين، ولا أدري فيما إذا كان قد أعطاه مالًا أو غنمًا أم لا؟!! ولم يكن يا بن أخي على الخابور من معبرٍ سوى عبارةٍ صغيرة، كانت تُسرق من مكانها كلّما مرّها الغرباء والحرامية. وكُنّا نحتاج إلى السباحة أيّام الصيف لنقطع من الجنوب إلى شمال نهر الخابور. وكُنّا نرى في المكان بقايا جسرٍ كانوا يقولون الأوّلون كانوا قد بنوه. وكانت القبائل العربيّة المنتشرة جنوب نهر الخابور وشمال الخابور يتزوّدون بحاجيّاتهم من الدكانجي الكبير والتاجر الماهر والعادل هذا القلعة مراوي، وكانوا يسمّونه خواجا عمسي موسي. وردًّا على سؤالنا: هل شعرتم أنتم في غويران بمجيء قلعة مراوية بعد بناء الثكنة العثمانيّة؟ كان يؤكّد أنّهم أخبروه بأنّ شبابًا من آل عليوي في الصيف يأتون إلى مقابل الجزيرة الصغيرة التي بُنيّ عليها جرداق لوقا فيما بعد، وكانوا يتحدّثون مع من هو موجودٌ من هؤلاء القلعة مراوية الذين كانوا قد بنوا لهم دورًا ودكاكين قرب بيت عمسي موسي. وغالبًا الرجال يذهبون على بغالهم أو حميرهم يبيعون، وتبقى النساء، وكانت ألفاظهن في البداية تختلف عن العربيّة بحيث هناك ألفاظ لم يكن يعرفها جماعتنا. ألم يكن لكم قبل عام 1908م وجودٌ بقرية الحسجة؟!! فكان يؤكّد أنّهم بهذا التاريخ ما كانوا بأرض غويران غيرنا. والحسكة الحقيقيّة تكوّنت وكبرت بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث كانت في شمالي النهر كلّ يوم يبنون دارًا جديدة وأكثر، وفي الصيف تكثر العمارات، وبدأت الحسجة القرية تكبر شيئًا فشيئًا. وما إن جاء عام 1918م حتّى كبرت القرية، وأصبحت بلدةً صغيرة فيها ما يتجاوز الـ120 دارًا، وأقدّر عدد سكانها آنذاك تجاوز الـ2500 نسمة وأكثر. ومع مجيء الفرنسي عام 1922م كان الأمر أسهل عندما بنوا لنا جسرًا من حديد، وقد كان حدثًا غريبًا، لا بل عجيبًا بالنسبة للجميع. وكان أهلنا يتحدّثون عن ذاك الجسر، وكم مررتُ من عليه. وحين سألته عن رأيه بالفرنسيّين قال: والله الموت مُرّ، والأمانة تقتضي أن أجيبك: هم أفضل من كثير من الأزمنة الوطنيّة، لكن يبقون مستعمرين. وكان يسكت هنا. وحين كنتُ أسأله عمّا يقوله بحقّ المسيحيّين الذين عمّروا هذه المدينة، قال: عندما عمّروا في الحسجة دورًا من لبن، وبعدهم بعشرات السنين نحن قلّدناهم في البناء ولم نخرج عن أنموذجهم، حتّى دارُ أهلي كانت على أنموذج دار الخواجا عمسي موسي. أهلنا المسيحيّون هم عماد الحسجة. هم الصناع والتجّار والمتعلّمون والأطبّاء، وكلّ شيء. لا أريد أن أختصر: لولاهم أصلًا ما كانت توجد الحسجة، ولا كانت بقيّة القبائل العربيّة تجوب المكان ترعى في الربيع العشب، وأيّام الجدب تعود تبحث عن مراعٍ للكلأ. برأيي إنّ المسيحيّين الذين جاؤوا وعمّروا المكان أفادونا نحن، كما تلقّوا معاملةً حسنة، لولا بعض الذين تعرفهم تجّار السياسة. لكون آل عليوي والله ما ميّزوا بين الديانات ولا المذاهب، وعلاقتنا مع الجميع علاقة ودّ واحترام. أمّا عندما كان يضيق بي ذرعًا لكثرة أسئلتي كان يقول: أعدك سنلتقي فنتواعد في المكان نفسه. وكم من مرّة التقيته، ولكثرة الذين يبحثون عنه من أجل ختم المختاريّة؟! كنتُ أخجل فأرحل مودّعًا إيّاه على أمل أن ألتقيه. وآخر مرّة رأيته وجلستُ بجانبه فهمس لي قائلًا: أنتَ بعملك هذا تخلّد ناسًا، ولكن أعتقد أغلبنا لا يريد الحقيقة وينزعج منها الحمقى. تابع ما أنتَ فيه، وأعتقد جازمًا بأنّك تؤرّخ لحياتنا جميعًا، وفّقك الله. بكلماتٍ مختصرة أوجز العقليّة لأغلب أهل الحسكة. رحمةُ الله عليك أيّها الرجل الذي ستبقى في الذاكرة الحسكاويّة، والذي رحلتَ عن هذه الدنيا الفناء عام 1983م. الشخصيّةُ التاسعة: السيّد سليم دولماية شيخ الفرانين بالحسكة في الربع الأوّل من ستينيّات القرن العشرين: معلّمي في الفرن، حيث كنتُ قد عملتُ عندهم في فرنهم الذي يقع جنوب كنيسة السريان الأرثوذكس وفي شارع النجارين، ومن غربه يقع دكانٌ لملك. كان ذلك في العطلة الصيفيّة قبل أن أنتقل إلى عملي في منشرة حنّا وأخيه فكتور، اللذين كان لكلٍّ منهما دكانٌ للنجارة. وقد تعلّمتُ صناعة الأبواب والشبابيك العربيّة، وكنتُ أعمل بجدّ، حيث أبدأ من الخشب حتّى صباغة الباب والشباك بعدما آخذ القياس من المعلّم حنّا أبو عبد، وحتّى فكتور أبو عبد. آخذ القياس، وكم ردفة (درّابة)، وأقوم بقطع الأخشاب، وأصقلها وأنظّفها على آلةٍ نسميها الرابوب. وبعدها أقيس وأقطع الخشب، وبعده أبدأ بالإطار أوّلًا، ثم بالدرفة الأولى فالثانية، وأفتح بالمثقب مكانًا للقفل والمفتاح، وأضع (الفرنكيات) قطعًا حديديّة لكلّ ردفة نضع لها اثنتين حتّى تتحرّك فتحة الباب بسهولة. وأمّا في الفرن فقد تعلّمتُ من عجن الطحين إلى الرقّ على آلة، ومن ثم وضع العجين على خشبات، وتلك الخشبات على أطرافها إطاراتٌ من خشبٍ من أجل وضعها على بعضها. وعندما تصبح معنا حوالي خمس خشباتٍ مليئة بالعجين المرقوق نقدّمه للرجل الذي يعمل على بيت النار، وكانوا يسمّون مكان إدخال العجين ـ بيت النار ـ. وهكذا تعلّمتُ معايير وضع الملح والخميرة والعجن على عجانة تعمل بقوّة الكهرباء. وأمّا أسئلتي حول مدينة الحسكة والنشأة، لم تكن في تلك الأيّام، بل عدتُ إليه في الربع الأوّل في سبعينيّات القرن العشرين ألتمس عنده إجابات، لكنّه كان قد غدا رجلًا كبيرًا. وقد كانت إجاباته تشبه لحدٍّ كبير ما تلقّيته من أترابه وأبناء جلدته. لهذا لن أُعيد الإجابات، مع التحفّظ على أمورٍ قالها بشأن سلوكيّة أغلب الموظّفين القادمين من الداخل. وهذه بعض ما قاله بهذا الشأن، حيث روى لي: كانوا يعتبروننا وكأنّنا لا نفهم (حمير ومتخلّفين، على الرغم من أنّهم هم أغلبهم همجيّون لا أخلاق لهم، ولمجرّد أنّه يفكّ الخط وظّفوه)... ومفروضٌ علينا أن نقدّم لهم خبزَهم مجّانًا. قالها والدموع في عينيه: والله يا ابني اسحق كانوا يظلمون كلّ صاحبِ صنعةٍ ومهنة. كانوا قد استعمرونا، وكُنّا نُسايرهم، ونضحك في وجوههم ونحن في غاية وقمّة الحزن. كما لو أحكي لك: كم من امرأةٍ ما خلصتْ من شرورهم، وكم من فتاةٍ من جماعتنا غرّروا بها. وكان يُنهي لقاءاتنا بالقهر والدموع، ولم أره مرّةً واحدةً في حالة سعادة إلّا حين كان يقول: أي نعم، جئنا من تركيا القاتلة إلى مكانٍ أرحم، والعرب كانوا أرحم من الأتراك الأجلاف القتلة. إنّما هؤلاء القادمون من الداخل كانوا يظلمون جماعتنا، فخبزُهم لا يدفعون حقّه، ولحمتُهم وجبنُهم وسكاكرُهم، وحتّى أقمشةٌ لنسائهم. وماذا أُحدثك ونحن نصمت فقط حتّى نبقى أحياء. كما كان يشتكي من ظلم المخابرات في عهد الوحدة بين مصر وسورية، وكم من حديثٍ أورده، لكنّنا كما غيره لم نكتب كلَّ ما قاله هذا الراوي أو ذاك، لكنّنا نُشير إلى ظلمٍ رهيب كان يقع على أهل البلدة والمدينة فيما بعد. وحتّى منتصف الستينيّات كانت الحسكة الاقتصاديّة للمسيحيّين. أمّا بشأن هذه الأسماء وممّن أخذنا عنهم فقد ذكرناهم في كتابنا: (قبائل وعشائر الجزيرة السوريّة) منهم: جرجسات جلو (الأعمى أبو اسحق القصوراني)، هذا كان موسوعةً قياسًا على بقيّة الرواة، وقد رافقه العم سعيد يوسف القصوراني مدّةً طويلة. وكان العم سعيد هو أيضًا قارئًا للإنجيل ومفسّره، وكان قد تعلّم في ماردين (بدار الأيتام) الشيءَ الكثير، لكنّه لا يعرف عن نشأة الحسكة كمعرفة جرجسات الأعمى، لكون الأخير كان قد نزل هو وأُسرته وأخيه بحدي أبو زهرة للعمل في المزروعات الشتويّة والصيفيّة المرويّة منذ عام 1926م. السيّد عثمان علي أبو فتح الله الكردي، هذا الرجل كان متعلّمًا، وكان يكتب عرائض حتّى الثمانينيّات من القرن العشرين. وكان ابنه فتح الله وابنته نجاة زملاء لي في ثانوية أبي ذر الغفاري بالحسكة، ولكن تتطوّر العلاقة حتّى أصبحنا أصدقاء. وكنتُ أزور بيتهم ونتحدّث عن الأقوام والقوميّات والديانات والعادات والتقاليد في الجزيرة السوريّة. ومنهم وعنه أخذتُ العديد بشأن الشيشان والشركس والأكراد، وحتّى عن الحسكة التي قال: على الرغم من حداثتي فيها لكوني كنتُ أعيش في عامودا من قبل، لكنّني كنتُ أسمع في إيوان الآغا أكرم حاجو بأنّ المسيحيّين هم من أسّس هذه المدينة، ومن بناها، وكانوا عماد تطوّرها ونشأتها، وحتّى اليوم فهم من علّم الجميع كلَّ فنون الصنعات والمهن. ولكون أمّه كانت أرمنيّة فقد كان يروي المشهدَ المؤلم لعذابات الأرمن والمسيحيّين في تركيا.
يمكن أن تصد الشخصيّةُ العاشرة: جارُنا الشيخُ الجبوريُّ محمدُ الأحمد (أبو حسين) فكان جارُنا الشيخُ الجبوريُّ محمدُ الأحمد أبو حسين، فبيتُه لا يبعد عن بيتِنا أكثرَ من 20 مترًا. تعرّفتُ إليه بحكم الجيرةِ والسلام، وكنتُ أدرس دومًا بجانب بيتِهم إلى الجنوب حيث بناء محطة الوقود. وقد تطوّرت العلاقةُ بشكلٍ مضطردٍ عندما أخبرتُه أنّني بصددِ الكتابة عن القبائل والعشائر الجزريّة، فكان خيرَ معينٍ لي، حتّى أنّه أعطاني كتابًا للفون أوبنهايم الألماني الذي ألّفه عن البدو والقبائل العربيّة، وكان أحدَ المراجع الهامّة لي. فقد حكى لي الشيخُ أبو حسين كيف بدأت رحلةُ الجبور من السعوديّة، وكيف وصلوا إلى جبرين قرب حلب، وقصّة الناقة التي عادت لتخبر البقيّة عن أهلِها، وكيف جاؤوا إلى نواحي دير الزور وتعارضت المعيشةُ مع العكيدات، وعندها كان لا بدّ أن ينحروا الشمال، واستقرّ بهم الوضع أوّلًا في طابان، ثم انتشروا على طول شاطئ نهر الخابور والجغجغ. وكُنّا نجلس في إيوانه، وكم من سهرةٍ يعدد لي أفخاذ القبيلة وأماكن تواجدهم. وما المعلوماتُ التي جاءت من خلال كتابي قبائل وعشائر الجزيرة السوريّة ـ قبيلة الجبور، فأغلبُ المعلومات قدّمها لي شفهيًّا، ومن ثم ما أخذته عن كتاب البدو لأوبنهايم، العالم الأثري الألماني. ومن صفات هذا الرجل: الوداعة، والفراسة، والذكاء، ودماثة الأخلاق، وعزّة النفس ورفعتها وشموخها. لا يقول عفوًا أبدًا، لكونه لا يتحدّث بسرعة، ولا يأتي بكلامٍ إلّا في سياقاته، وإذا ما أراد أن يتحقّق من رأيٍ يقوله يصمت قليلًا ثم يتحدّث. أجل، رجلٌ تاريخيّ، لكنّني كنتُ أشعر أنّه في حالةٍ غير راضٍ عمّا يجري من حولنا في كلِّ النواحي والمناحي. رحمةُ الله على روح الشيخ أبي حسين. الشخصيّةُ الحادية عشرة: أخي وابنُ جارِنا المدرّسُ الكاتبُ حسينُ حمدان العسّاف المشهداني فقد رافقني أحيانًا وأنا أحمل كاميرتي المستطيلة الشكل التي كنّا قد اشتريناها أنا وأخي الياس مع أفلامٍ من حلب عندما نجحنا في الشهادة الإعداديّة. أرسلنا والدي إلى حلب، وهناك اشترينا كاميرا وراديو ترانسستر. وكنتُ أتجوّل على أسواق مدينة الحسكة، وأصوّر الدكاكين وخان بهنو، والصناعات المختلفة وأماكن بيع الأخشاب. وكُنّا نعود بعدما نأكل مشبّكًا من دكّان كان لأحد الحلبيّين مشهور بصناعة المشبّك، يقع جنوب باب خان بهنو. الشخصيّةُ الثانية عشرة: الأستاذُ عبدُ العزيز طعيمة المعماري فقد أخذتُ عنه وأعطيته، وكان لبقًا ورائعًا وخلوقًا، وكان شاعرًا. وقد أخذتُ عنه وجودهم في المكان، فكان يؤكّد روايتين: الأولى كان يقول أنا أنفيها، حيث قالوا إنهم سكنوا المكان منذ عام 1909م. وأمّا هو فكان يؤكّد الرواية القائلة: بعدما كانت تأتي قبيلة الجبور من طابان وترعى في المكان ومحيطه، فقد تعرّفنا إليه، والأرض يومها ليس هناك من يستطيع الادّعاء بأنه صاحبها. وكان يُضيف قائلًا: نحن لولا البنيبليون والقصوارنة منذ الربع الأوّل من عشرينيات هذا القرن (وكان يقصد القرن العشرين) لم نكن لنزرع أو نتعلّم طرق زراعة الخضار الصيفيّة والشتويّة. وكان يؤكّد أهميّة الوجود للعشائر المسيحيّة التي كانت صناعيّة ومهنيّة، كلّهم لا يوجد منهم من يجلس في بيته، فالكلّ يعمل ليعيش، ومنهم المتعلّم ومدير الدائرة وغير ذلك. وكانت علاقتي به علاقة شاعرٍ بصاحب تجربة شعريّة حول تلك المسألة، كنّا نركّز أكثر. الشخصيّةُ الثالثة عشرة: الأثريُّ البريطانيُّ ديفيدُ أوتس الكلّ أخذنا عنهم، لكن الأكثر أهميّة هم: ديفيد أوتس أعطيناه وأخذنا منه، والثاني هو داؤود الدبس أو مراد، هذا المعلّم الذي علّمنا في مدرسة السّريان اللغة السريانيّة، والذي درس في القدس، ولكنّه أعطاني عن مدينة الحسكة الشيء الكثير. واللقاء به كان متأخّرًا، حيث تعرّفتُ إليه في هولندا مع بداية التسعينيّات، وكان كريمًا لم يبخل عليّ بكلّ ما يعرفه عن الحسكة والجزيرة. إنّه موسوعيّ المعرفة متشعّبها، ويتقن حفظ الأسماء والتواريخ. أجل، يُعدّ من أوّل وأكثر من أخذت عنهم عن الحسكة. وهكذا الدكتور عبود أفرام ألّو، الذي أخذتُ عنه عن رسم أسماء بيوت وأسر مدينة الحسكة وأوائل المخاتير في الحسكة. الشخصيّةُ الرابعة عشرة وعن مدرّسي جميل رزقو أخذتُ عن البريهميويّة، وعن أهل جميلو أخذت ما يخصّ بحثي عن تاريخ قريتنا تل جميلو. وهكذا أخذتُ عن أمّي وأبي وأخوالي، ولكن عن يوسف سعيد قومي أبو إبراهيم أخذت أمورًا كثيرة بشأن القرى القصورانيّة، وعن بدايات التعامل مع الآلات الزراعيّة، فكان خير معينٍ لي لكونه كان يعمل سائقًا على التركتورات والحصّادات عند أصحابها من القصوارنة. وأخذتُ عن أختي مارين الشيء الكثير، وعن إبراهيم ابنها وداؤود ابنها، وعن هاكوب إبراهيم إيليا وغيرهم. الشخصيّةُ الخامسة عشرة: السيّدُ جرجساتُ جلّو وممّن أخذنا عنهم هو السيّد جرجسات جلّو، وهذا الرجل كان ضريرًا لكون الجدري كان قد أصابه وهو شابّ. كان طويل القامة عريض المنكبين، وكان يملك ذاكرةً قويّة ويحفظ القصصَ والتواريخ. فقصص الزير أبو ليلى المهلهل حفظنا بعضها على لسانه. وكان يحيط ليس بالتاريخ والعلوم والسير الشخصيّة لرجالات سجّلوا أسماءهم. ولحسن حظّي فقد أضحى صديقًا لي هو وعمّي سعيد يوسف قومي الملقّب بالقصير، حيث كانا لا يفوتا صلاة الأحد في كنيسة مار جرجس للسريان بالحسكة. وكانا يقطعان الطريق من حي الناصرة إلى المدينة، بحيث عمّي سعيد يسير به وهو يمسك بعمّي. ولكن بعد انتهاء الكنيسة كانا يمران علينا، وهنا تكون عطلة مدرستنا، لكوننا تعلّمنا في مدرسة البحتري للسريان. وكنتُ أجادلهما في الإنجيل لأن كليهما كان يحب القصص والحديث الروحي. ولكن في جانب التاريخ فجرجسات الأعمى أبو اسحق ممّن وفد إلى مدينة الحسكة في نهاية عام 1920م، وكانوا هو وأخوه بحدي يزرعان القطن والخضار الصيفيّة والشتويّة. وأهم القرى التي عملا بها هي قرية (أبو خويط) على الخابور في الضفّة الجنوبيّة غربي مدينة الحسكة، وقرية (المسياح) وقرية (الطوك). وعندما كنتُ أسأله عن بدايات مدينة الحسكة لم يكن ليبخل عليّ، فقد قال أكثر من مرّة إنّ (مدينة الحسكة عرفتها وهي لا تتجاوز 550 بيتًا، وكان أغلب سكانها من المسيحيّين، وموظفوها من أبناء هؤلاء مع استثناءات للحكومات السوريّة التي تعاقبت على حكم هذه المدينة). وكان يقول: عندما كنّا نأتي بعربانات النقل ذات الأربعة دواليب والمصنوعة من خشب، لم يكن إلّا القلعة مراويّة والميردليّة وبعض المنصوراتية والمدياديّة، وربّما وجدنا بعد الأربعينيّات بعضًا لباعة ديريّين وبوكماليّين. حتّى المعامرة الذين أعزّهم (والقول لجرجسات) لم يكن وجودهم سوى بيت المعيدي والطعيمات. وكان في المكان إبراهيم الذي تزوّج أخت حمدان العساف، وبيت الحمزات، وفي غويران بيت العليوي وبيت عاشور، وفي أطراف الحسكة من الجنوب الغربي بعض بيوت البوكماليّين والديريّين. وأذكر بيت أكرم حاجو وبيت بريجان. أمّا أنتم في ذلك الوقت لم يكن والدك قد نزل إلى الحسكة، وهذا الكلام أقوله قبل الخمسينيّات. ثم لم يكن من أحد يستطيع أن يخرج ليلًا إلى عند مقبرة السريان الأرثوذكس، لكثرة قطاع الطرق والحرامية. وكانت أصوات الواويات تملأ المكان، خاصّة في الصيف. والحسكة حتّى الستينيّات لم يكن من صانعٍ أو بائع قماشٍ أو حذاءٍ أو فرانٍ أو نجّارٍ غير جماعتنا. أذكر: كان بعد منتصف الستينيّات بائعًا كرديًّا يُقابل بيت الحنتوش إلى الشرق من كراج بيت أدمو (كراج النجمة). وكان أحد الديريّين لديه مطعم، وواحد يصلّح البسكليتات، وهذا جاء في النصف الثاني من الستينيّات. وكان من القصوارنة أثناء وفودنا للحسكة بيت مسعودي، ومنهم يعقوب مسعودي وكرمو مسعودي. وكُنّا لو مررنا بمدينة الحسكة كأنّك تمرّ بقرية كبيرة، هادئة، سيارات لم تكن فيها إلّا ما ندر، ولا تسمع لها صوتًا كما الآن. ثم كان الناس في المدينة يستقبلون الزوّار، وكانت العلاقات الاجتماعيّة يسودها المحبّة والإخلاص. والكلام سند، لا يخلف الوعد غير ابن الحرام، هكذا كانوا يقولون. لم أسمع عن علاقات غير أصيلة إلّا أثناء الدولة السريانيّة (دولة مرشو وقريو)، حيث قاسى بعض المسيحيّين الأمرين ممّن كانوا يسمّون أنفسهم بالوطنيّين، وأثناء رحيل الفرنساوي كذلك قسوا علينا. وعندما كنتُ أسأله عن العلاقات العامّة بين الناس كان يؤكّد أنّ الناس لم يكن غالبيتهم قد أفسدتهم الأحزاب والنعرات. ورغم هذا كان يسود بينهم الحسد والغيرة. وآخر الكلمات قالها لي: سيأتي اليوم الذي سيرحل فيه أهل الحسكة عن مدينتهم، وأغلبهم سيشكرون الله أنّهم نفذوا بجلدهم. وحين كنتُ أسأله لماذا كان يقول لي: صبّ لي كأسًا من الشاي، ولكن سيأتي اليوم الذي تفهم ما أقوله لك الآن.
الشخصيّةُ السادسة عشرة: الفنانُ التشكيليُّ العالميُّ جوزيفُ حنّا مختار (المقيمُ في كندا) لقد أجاب عن أسئلتي التي وجّهتها له عبر المسنجر حين سألناه عن بدايات الحسكة. (ملاحظة هنا قمنا بصياغة تقريبًا جديدة لمضمون المكاتبة). قال: نحن من أبناء مدينة الحسجة، وهنا لم يذكر تاريخ مجيء والده إليها، لكنّني أعلم من خلال معرفتي بأنهم من أوائل من سكن مدينة الحسكة. وأردف قائلًا ردًّا على سؤالي: ما هي الممتلكات وأعمال والدكم في البداية؟ فقال: كان أبي يمتلك طاحونة، وكانت الطاحونة تقع على شارع كنيسة الكلدان، ومن شمالها بمسافة قريبة كانت تقع مقبرة السريان الكاثوليك القديمة، والتي تقع إلى الشرق والشمال الشرقي من محطة وقود مرشو. وكانت أرض الطاحونة تُقارب الثلاثة آلاف متر مربع، بناها والدي حنا مختار وشريكه اللبناني من أصل يوناني لطفي ملاطيوس. وكان يأتي إليها الناس من كلّ التجمعات المحيطة بالحسكة، وحتى العرب الرحّل التي كانت قريبة من بلدة الحسجة. وتلك الطاحونة تم نقلها إلى قرية الوردية بعد الحرب الكونية الثانية، وأقدّر في نهايات الأربعينيّات من القرن العشرين. ولكن بعد أن باع والدي حنا مختار ولطفي ملاطيوس نصف حصتهما إلى عائلة المطرود الديرية تم نقلها. وسألته عن الكهرباء في مدينة الحسكة، فقد ذكر لي قائلًا: لم يكن في الحسكة كهرباء، إنّما كان يوجد فانوس يعمل على الكاز معلّق على عمود يشعله شخص كلّ يوم مساء ويطفئه في الصباح (في مركز السوق فقط). ولاحقًا تأسست شركة للبلدية ودفعت ما كان قد دفعه الشعب. وفي الحسكة لم يكن محطة وقود للمحروقات قبل محطة (كازية) بيت مرشو. وكان والدي حنا مختار أوّل من أدخل مادة المحروقات إلى بلدة الحسجة، وذلك ضمن تنك، كلّ تنكة 18 لترًا (التنكة صحيفة)، وكل تنكتين داخل صندوق من الخشب. كان يشتري حمولة سيارة نقل كبيرة (كميون) كامل من الكاز وقليل من البنزين، لأنه لم يكن في الحسكة إلّا بعض السيارات. وكان قد استأجر بيتًا قرب جسر نهر الجغجغ يضع فيه هذه المحروقات، ويضع بعضها في محله (مخزنه بالسوق). وكنتُ قد سألته عن العلاقة ما بين أهل مدينة أو بلدة الحسجة وبين القبائل العربية؟ فقال: كانت القبائل العربية تجلب الجبن والسمن والصوف والخروف إلى أصحاب الدكاكين، وكانوا يبيعونها ويشترون بدلًا من أسعارها السكر والشاي، والبرغل والسميد، وأغراضهم وحتى الأبواب والشبابيك والقماش. وحين سألته: من كان يأتي بالبضائع ومن أين؟!! قال: كان أصحاب المحلات في الحسكة يجلبون بضائعهم من حلب بواسطة سيارات نقل كبيرة نوعًا ما يسمونها كميونات (سيارات نقل كبيرة). وكانت البضائع توزّع على المحلات بحسب طلب كلّ محل، وتجمع النقود من أصحاب المحال. وسمعتُ من والدي بأن البضائع كانت تأتي قبل وجود الكميونات، كان هناك عربات تجرها الخيول والبغال. وكانت الدكاكين موزعة هنا وهناك، لم يكن يوجد سوق إلّا بعد أن توسعت المدينة وكثر الطلب على أصحاب الدكاكين. ومع ارتفاع أسعار الأجرة لتلك الدكاكين من قبل أصحابها، تم الاتفاق على أن ينقلوا السوق إلى مكان آخر. حيث جمع أهل تلك الدكاكين الدراهم وبنوا سوقًا جديدة، وكانت تقع أمام كنيسة الأرمن الكاثوليك في الزاوية التي فيها بوست (بريد) الكهرباء. وكانت سوقًا طويلة، والدكاكين أمام بعضهم أكبر من الأولى وعالية. ولكن لتعود الزبائن العرب على الدكاكين الأولى فقد عاد أصحاب الدكاكين إلى محلاتهم السابقة. وأمّا بالنسبة لشركة الكهرباء فقد كانت لوالدي حنا مختار حصة فيها، وعندما استولت بلدية الحسجة في عام 1959 على الشركة لم تدفع لأصحابها إلّا قيمة رمزية. وأتذكر عام 1944م أصبح عدد سكان الحسجة أكثر من أربعة آلاف نسمة، وكانت شوارعها ترابية، ولم تُعبد إلّا بعد عام 1960م. وأسسوا في تلك الشوارع مجاري لمياه الصرف الصحي، وكانت مقتصرة على حارتين. وأمّا من الذكريات التي تسألني عنها فإني أتذكر بأن تل حجر كانت وكأنها في بلد آخر، حيث كنا نذهب لجمع الحلحليا والبابونج ولسان العصفور والحميضا والحرشف. كانت الدنيا بخيرها، أمّا اليوم لا نجد سوى الحصى. ومن المتاعب التي مرّت على بلدة الحسجة كانت عندما سقطت حكومة فيشي الفرنسية، انسحب الفرنسيون من الحسكة، ولم يبق حماية للبلد، وعمّت الفوضى ونهبت منازل الفرنسيين، وارتفع الحريق في براميل البنزين في المطار. جمعوا أهل البلد ممن يقدر على الدفع، وكلفوا أصحاب العربات أن يجلبوا الحجر من تل كوكب، وأغلقوا الشوارع التي تشرف على البلد بحيطان، وفرضوا على كلّ منزل (مارتينه)، وكلفوا الشباب بحراسه الحيطان التي بنوها... حتى دخل الجيش الإنكليزي البلدة عن طريق جسر الجغجغ من العراق. كان الإنكليز يشغلون العمال؟ يعطونهم أشياء حتى يقوموا بفرزها عن بعضها، وفي اليوم التالي يخلطونها ليشغلوهم ثانية (نوع من الدعاية). وسألته عن الصناعات القديمة فقال: أذكر لك اسم امرأة صاحبة التنور كان اسمها (بككي) تصغيرًا لاسم فكتوريا، وهي عمة المغنية فيروز المعروفة. وكان التنور في غرب العرصة القديمة (سوق الهال القديم الذي هُدم في بداية الثمانينيات وبني محله مصرف التسليف الشعبي). وكان لعمة المطربة فيروز تنور يخبز خبزًا يشبه خبز الصاج رقيق. وكان الفرن الثاني يقع أمام جنوب كنيسة السريان الكاثوليك التي اسمها كنيسة العذراء، وكان ذلك الفرن فرن بيت لاوو... كما نجد هناك فرنًا آخر يقع في الشارع الذي يمتد من أمام باب كنيسة السريان كاثوليك لبيت ماتوسيان، أصحاب محلات نوفوته ماتوسيان. ومن الأفكار الهامة التي أخبرنا عنها السيد الفنان التشكيلي جوزيف حنا مختار أنّ الفرنسيين كانوا قد اتفقوا مع الأتراك حين بدؤوا يؤسسون الجيش في الجزيرة السورية على ألّا يكون من بين من ينخرط في ذاك الجيش أرمنيًّا. وجميع من التحق بهذا الجيش من الأرمن غيّروا طائفتهم إلى السريانية أو الكلدان. وعندما أردنا أن يبوح لنا عن طفولته قال: ماذا أتحدث عن طفولة تمتد وفيها مواقف كثيرة، لكن لي ذكريات بقيت في ذاكرتي لكونها أثرت عليّ كثيرًا، كما أطفال المدن التي بيوتها مصنوعة من اللبن. فقال: من الذكريات التي أتذكرها أيام الشتاء وحين تدلف البيوت التي كانت أسطحتها مصنوعة من الطين، وكانت مياه الوكف بنية. عندها نضع الصواني تحت الماء، ونفتش على زاوية لا يوجد بها وكف، وهناك ننحشر. وعندما تنتهي الأمطار يصعد في الصباح من يمندر السطح بواسطة مندرونة. والمندرونة تكون من الحجر مدوّرة تُربط بخشب نسميه (القيز). هذه كانت بداياتنا. وتحدّث الفنان جوزيف حنا مختار عن المسيحيين بشكل عام فقال: لم نكن عنصريين رغم الأحداث التي واجهتنا عبر سنوات طوال، وكنا نجد اضطهادًا واضحًا واعتداءات على أملاكنا من قبل من كانوا يخرجون علينا ليلًا، ولكننا كنا نعتبر ذلك أسهل من القتل الذي أبادنا في تركيا. وكنا نحاول أن نندمج مع الواقع والبيئة السكانية رغم كثرتنا وقلة الآخرين حتّى الخمسينيّات من القرن العشرين. وأسس أهلنا علاقات صداقة وثيقة وصادقة مع القبائل العربية والأكراد والشيشان وجميع الموظفين الذين كانوا يأتون الحسجة من الداخل. فقد خدمنا مجتمعنا وبلدتنا ومحيطها، وجلبنا للقبائل العربية كلّ ما نقدر أن نجلبه، وحاولنا أن تكون لغتنا قريبة لهم، ولبسنا العقال والزبون، وأعطينا أولادنا أسماء يفهمونها، مثل أسامه ولؤي وسهيل، رغم تسميتنا لأسماء أجدادنا. وقد حاولنا أن نكون أولاد هذه الأرض. ساعدناهم بفلح الأراضي وحفر الآبار. كنا نقرضهم حتّى يحصلوا على موسمهم، من سمن وجبن وصوف وخراف. تعاونا معهم وكانوا هم أمناء. كلمتهم كلمة، لا يخلفون قسمهم. وحين يقسمون يقسمون، والكلام بيننا وبينهم سند. وذكر لي عن ألعاب البنات وألعاب الصبية لكلّ فصل من فصول السنة، خاصة قبل أن تكون هناك مدارس التي بدأت كما قال بعد عام 1918م. وكان يذكر من الألعاب الربيعية التوش (حجر) والدولمة، والبرنجي للبنات ولعبها الشباب أيضًا، والكلل، ولعبة الخمس حجرات وغيرها من ألعاب جاءت في حديثنا عن ألعاب الفتيات والشباب في قرية القصور. وكان من المفترض أن يجيبني عن أسئلة تتعلق بالمخاتير الأوائل والفن التشكيلي والغناء، لكن مشاغله يبدو منعته من الكتابة إليّ. وأريد أن أسجل هنا معلومة هامة: فقد نشرتُ عدة مرات في مواقع الإلكترونية وطلبتُ تقديم معلومات، كلّ فيما يعرفه، وبعضهم كتبتُ لهم بشكل شخصي. لكن مع الأسف تبين أن أغلبهم مكبل بالغيرة والحسد وبعضهم بالحقد والشوفينية، وقصص حدثت معي يشيب لها الرضيع، بحيث أحدهم وانضمت إليه إحداهن بأنه لا يعطيني معلومات لكوني أنا المستفيد، على الرغم من أنني أتقيد بالأمانة التوثيقية، أعني وضع اسم المصدر ليكون مسؤولًا عما أعطاني تاريخيًا. ويظن هؤلاء وأمثالهم بأنهم سيتمكنون من تحقيق أحقادهم، فتبًّا لمجتمع يحوي أمثال هؤلاء. الشخصيّةُ السابعة عشرة: السيّد عثمان علي أبو فتح الله والد الصديق فتح الله وأخته نجاة اللذين تعرفتُ إليهما من خلال ثانوية أبي ذر الغفاري بالحسكة مطلع السبعينيات من القرن العشرين. وكنتُ ألتقي به في بيته، وكم التقينا؟ فكانت نجاة تطلب مني زيارتهم، وهكذا فتح الله. ونشأت بيني وبينهم علاقة صداقة حيث أصبحتُ صديقًا للعائلة كلها. وكانوا كرماء ولطفاء هو وزوجته الشيشانية الأصل. وكان العم عثمان قبل مجيئه للحسكة يعيش في قرى عامودا، ولكنه كان جليسًا دائمًا لإيوان السيد أكرم حاجو، وممّن يهتمون بالتاريخ، وخاصة الكردي منه. فكان يؤكد أن الأحاديث كلّها تؤكد أن مؤسسي الجزيرة الأوائل بلا منازع هم من المسيحيين، من قبل مذابح سفر برلك، وجاءت مذابح سفر برلك التي حدثت أيام العثمانيين لتزيد من وتيرة نزولهم للجزيرة السورية. وأنا أُمي أرمنية تصور وأبي كردي، فأنا أشهد على بكاء والدتي على المظالم التي وقعت عليكم. كما وأن أساس المدن في الجزيرة وأغلب القرى كانت نتاج بناء أخوتنا المسيحيين، ثم جاء العربي واستبدل الخيمة بالبناء. وهذا كان حتى الربع الأول من الثلاثينيات تجد الناس يسكنون بالخيام، وكذلك القبائل والعشائر الكردية التي كانت تنزل لرعي أغنامها ومواشيها إلى أرض الجزيرة. وقد تم تمليك أرض خالية من خلال عدة أمور وفرمانات. أولها العثمانيون، حيث منحوا أراضي واسعة، شاسعة لرجالات أقوياء ويتبعهم رجال كثر يحملون السلاح. هؤلاء تسلطوا على الأراضي وبدؤوا يبيعونها للقادمين من المسيحيين طمعًا بالليرات الذهبية العصملية التي كان يملكها هؤلاء. وأقول وأشهد الله على ما سمعته في مجلس الآغا حاجو وابنه: إن الحسكة لولا القلعة مراوية، والمسيحيون ما كانت لتوجد أصلًا. وأنهم أساس المدينة، وقد تعلمنا منهم كل أسس الحياة غير التي كنا نعرفها من أهلنا. ولكنه رحمة الله عليه كان محبًا لقوميته الكردية ويغار عليها، لكنه كان يؤكد الحق. وكان يقول: سكان المدن في الجزيرة حتى نهاية الخمسينيات 88% من المسيحيين والبقية عرب وأكراد. والمسيحي صنائعي ومعلم ومثقف، ويعمل بكل قلبه وهو صادق، لهذا أنا جلست بينهم وعايشتهم.
قصيدة بعنوان: مئةُ عامٍ مرّت على بناءِ مدينةِ الحسكة شعر/ اسحق قومي. أيُّ عَهْدٍ بعدَها تلكَ العُهُودُ فارقَتْنا (لَيْلَى) والدُّنْيا جُحُودُ؟ وسَرَتْ فِي الغَيْثِ آيَاتُ سَنَاهَا لَوْ تَرَاهَا فِي اللَّيَالِي كَمْ تَجُودُ؟ وانْضَوَى التَّارِيخُ مَزْهُوًّا بِمَجْدٍ وتَلَتْهَا العَادِيَاتُ والرُّعُودُ يَا لَيَالٍ كُنَّا كَالْأَطْفَالِ نَلْهُو ورِحَابُ المَاضِي والمَاضِي التَّلِيدُ إِنْ ذَكَرْتَ شَاطِئَ الخَابُورِ فَهِيَ العَرُوسُ قَدْ تَجَلَّتْ والنَّشِيدُ كَمْ سَهِرْنَا، لَيْلُهَا حُلْوٌ جَمِيلٌ وصَبَايَا كَاعِبَاتٌ ووُفُودُ؟ (شَارِعِ المِشْوَارِ) كَمْ حَنَّتْ إِلَيْكَ عَاشِقَاتٌ رَاحَتِ الوَعْدَ تَعُودُ تَيَّمَتْنِي فِي هَوَاهَا ثُمَّ قَالَتْ أَيْنَ ذَاكَ الأَمْسُ واللَّيْلُ العُهُودُ؟ وسَقَتْنِي مِنْ جِرَارِ الخَمْرِ طِيبًا هَلْ سَقَاكَ الرَّوْضُ أَحْلَاهَا العَنُودُ؟!! يَا نُعَيْمَى الحُبِّ إِنْ جَاءَ المَسَاءُ أَسْكَرَتْنِي فِي الصَّبَاحَاتِ الوُرُودُ حَسْبُهَا قَدْ كَانَتِ الوَحْيَّ تَمَنٍّ وجَمِيلُ الحُبِّ لَوْ تَدْرِي الشُّهُودُ أَيْنَ مِنْكِ الشَّوْقُ لِلْخَابُورِ يَهْفُو ورَبِيعٌ فِي لَيَالِيكِ شَهِيدُ؟ أَنْتِ مِنْ عُمُرِّ اللَّيَالِي كَأْسُ خَمْرٍ وحَنِينُ العِشْقِ آيَاتٌ، خُلُودُ كَتَبُوكِ لِلزَّمَانِ أَحْلَى عِشْقٍ وتَبَاهَتْ فِي التَّرَاتِيلِ البُنُودُ قَالَ عَنْكِ القُدَامَى مِنْ زَمَانٍ (حَسْكَةُ) الخَابُورِ أَيَّامٌ وُجُودُ وجَثَوْتِ عِنْدَ تَلٍّ مِنْ دُهُورٍ كصَبَا يَا البَدْوِ تَحْلُمْنَّ، تَرُودُ هَا هِيَ المِئَةُ لِلأَعْتَابِ جَاءَتْ والبِنَاءُ القَدِيمُ هَلْ يَعُودُ؟!! جَدَّدَتْ أَجْيَالُكِ حُسْنَ المَبَانِي وتَفَانَتْ فِي هَوَاكِ الوُعُودُ هِيَ لِلسُّرْيَانِ وَاحَاتُ نَعِيمٍ قَدْ بَنَوْهَا القَلْعَةُ المَرْأَ جُنُودُ سَبْعُ (بِيَعَاتٍ) بَنَوْهَا مُنْذُ دَهْرٍ ودُمُوعُ العَيْنِ أَنْهَارٌ سُدُودُ عَمْسِي مُوسَى جَاءَهَا ثُمَّ ابْتَنَاهَا وتَنَادَتْ فِي أَرَاضِيهَا الحُشُودُ هَا هُمُ الأُوسِي وتَانُو وابْنُ دُولِي آلُ صَبَّاغٍ وحِيدُو، والسَّعِيدُ هَذَا مَحْشُوشٌ وحَمْزَةْ وابْنُ بَاهِي والجُبُورُ بِالأَسَاسِ فَهِيَ جُودُ مُتْعِبُ العَبَّاسِ فِي أَقْصَى الشَّمَالِ وابْنُ (جَرْبَا) حَوْلَ (كَوْكَب) ، والوَلِيدُ والعَلِيوِي إِنْ ذَكَرْتَ (إغْوِيرَان) هَا هُوَ السَّلْمَانُ والرَّاتِبُ، حَفِيدُ أَكْرَمُ الكُرْدِ إِذَا حَاجُو أَتَاهَا وابْنُهُ لِلْعَهْدِ مَا زَالَ يَشِيدُ مَرْشُو والقِرْيُو إِذَا ذُكِرَ الزَّمَانُ هَلَّتِ البَيْدَاءُ والحَبُّو شُهُودُ هَا هُمُ طُعَيْمَاتٌ لِلْخَابُورِ شَدُّوا والمَعَامِرَةُ والمُشَاهَدَةُ إِذْ تَسُودُ سَالِمُ الأَدْرِيسِ إِنْ ذُكِرَ البِنَاءُ والزَّمَانُ يَرْوِي مَا جَادَ الجُدُودُ اسْأَلِ الرُّشْدُونِي والأَرْمَنَ لِقَالَتْ كِلْدُو والأَشُورُ والعَهْدُ يَعُودُ ومُرَادٌ وبَرِيجَانُ عَنْ يَمِينِي آلُ مَطْرُودٍ وآغَا والرَّشِيدُ مَاذَا أَذْكُرْ، كَيْفَ أَنْسَى مَنْ بَنِيهَا كُلُّهُمْ وَاللَّهِ فِي الحُبِّ، يَجُودُ حَسَكْتِي تَبْقِينَ حُبِّي ودِيَارِي عَاشِقٌ قَدْ مَرَّ والرَّوْضُ، القَصِيدُ اسحق قومي شتاتلون، ألمانيا في 6/6/2007م القصيدة على وزن بحر الرمل التام
ملاحظة: سننشر عن مدينة الحسكة تباعا أهم المواضيع التي جاءت في كتابنا( مئة عام مرت على بناء مدينة الحسكة) .لمؤلفه اسحق قومي 1966 – 2020م
#اسحق_قومي (هاشتاغ)
Ishak_Alkomi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوَثِيقَةُ التَّأْسِيسِيَّةُ لِـ (مَدْرَسَةِ الوِلادَةِ الإ
...
-
تَارِيخُ الْمَنْهَجِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَآف
...
-
إِعَادَةِ قِرَاءَةِ فَلْسَفَةِ اِبْنِ رُشْدٍ فِي ضَوْءِ مَدْ
...
-
دراسة تحليليّة–نقديّة–تقييميّة لِبَحْثِ «الْجَهْلِ الْمُقَدّ
...
-
الـمُفَكِّرُ الرَّصِينُ
-
دِّرَاسَةُ تَّحْلِيلِيَّةُ وَنَّقْدِيَّةُ وَتَّقْوِيمِيَّةُ
...
-
الوعيُ القوميُّ وإشكاليّاتُ بناءِ الهويّةِ لدى السُّريانِ–ال
...
-
اِسْتَيْقِظُوا أَيُّهَا الْغَرْبِيُّونَ فَإِنَّ الطُّوفَانَ
...
-
رِسَالَةٌ سِرِّيَّةٌ تُفْتَحُ بِالذَّاتِ
-
المسيحية السورية في التقييم السياسي والإنساني والحقوقي في ال
...
-
دِراسَةٌ تَحلِيلِيَّةٌ وَنَقدِيَّةٌ وَتَقيِيمِيَّةٌ عَن بَحث
...
-
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ في الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَ
...
-
التَّعايُشُ في الشَّرقِ الأوسَطِ مُستحيلٌ دراسةٌ واقعيَّةٌ ت
...
-
قصيدة بعنوان :((فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا))
-
قصيدة بعنوان: (فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا)
-
رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل
-
المثيولوجيا عند الآشوريين والآراميين والفينيقيين
-
التَّارِيخُ السُّورِيُّ وَالمَسْؤُولِيَّةُ الوَطَنِيَّةُ لِح
...
-
المعرفة بين الفكر الفلسفي والواقع من دفتر قراءات فلسفية
-
مَدينَةُ القامِشْلِيِّ كَما جاءَتْ في كِتابِنا الموسومِ قَبا
...
المزيد.....
-
هل ستصادر أمريكا المزيد من أصول النفط الفنزويلية؟.. ترامب ير
...
-
بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل
...
-
ظهور ترامب وكلينتون وغيتس في مجموعة جديدة من صور إبستين
-
مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال ع
...
-
أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
-
عون: تطور العلاقات مع سوريا -بطيء-.. وجاهزون لترسيم الحدود
-
اليمن.. القوات المسلحة الجنوبية تطلق -عملية الحسم- في أبين
-
ترامب: غزو أوكرانيا -يشبه- فوز أمريكا في مباراة الهوكي -معجز
...
-
ماذا قال ترامب عن ظهوره في صور جيفري إبستين؟
-
إسرائيل تواصل خنق غزة بمنع المساعدات
المزيد.....
-
علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة
/ منذر خدام
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|