|
التَّعايُشُ في الشَّرقِ الأوسَطِ مُستحيلٌ دراسةٌ واقعيَّةٌ تحليليَّةٌ
اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.
(Ishak Alkomi)
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 13:43
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
المُقَدِّمَةُ يُعَدُّ مَفهومُ التَّعايُشِ من أكثرِ المفاهيمِ الإنسانيَّةِ نُبلًا واتِّساعًا في الفكرِ الإنسانيِّ الحديثِ، إذ يَرتكزُ على مَبادِئَ العدلِ والمُساواةِ والاحترامِ المُتبادَلِ وقَبولِ الآخَرِ كما هو، دون تَغليبٍ لِلأكثريَّةِ أو إقصاءِ للأقليَّةِ. غيرَ أنَّ الواقعَ المَشرقيَّ، بما يَحملهُ من إرثٍ تاريخيٍّ مُثقلٍ بالصِّراعاتِ العِرقيَّةِ والدِّينيَّةِ والمذهبيَّةِ، يَفرِضُ على هذا المَفهومِ تحدِّيًا وجوديًّا، يجعلُهُ أقربَ إلى المِثالِ النَّظريِّ البعيدِ عن التَّحقُّقِ. لقد نشأَت في بُلدانِ الشَّرقِ الأوسَطِ، عبرَ قرونٍ طويلةٍ، تَركيبةٌ اجتماعيَّةٌ مُعقَّدةٌ من الأُممِ والطَّوائفِ والمِللِ والنِّحلِ، تُجاوِرُ بَعضُها بَعضًا في المكانِ، ولكنَّها مُتبايِنَةٌ في الرُّؤى والقِيمِ والمَرجعيَّاتِ الفكريَّةِ والعقائديَّةِ. فكانَ الظَّاهِرُ تَعايُشًا، غيرَ أنَّ الباطنَ كانَ حافِلًا بالشُّكوكِ، والاصطداماتِ الخفيَّةِ، والصِّراعاتِ الكامنةِ الَّتي ما تَلبَثُ أن تَطفو على السَّطحِ عندَ أوَّلِ اهتزازٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ. لقد غادَرَت تلك المَجتمعاتُ ماضِيَها الَّذي سَمَحَ بشيءٍ من السَّلامِ الاجتماعيِّ القائمِ على التَّقليدِ والعُرفِ والرَّهبةِ، ودخَلَت عَصرًا جديدًا تُحرِّكُهُ المَصالحُ، وتُؤثِّرُ فيه التَّحوُّلاتُ الاقتصاديَّةُ والإيديولوجيَّةُ والتِّقنيَّةُ، فَتَراجَعَت القِيمُ الجمعيَّةُ القديمةُ دونَ أن يَحلَّ مَحلَّها نِظامٌ مدنيٌّ حديثٌ يُوازِنُ بينَ الفُرادى والمجموعِ. وهُنا تَبرزُ المُعضِلةُ الكُبرى: كيفَ يُمكِنُ أن نَتَحدَّثَ عن تَعايُشٍ حقيقيٍّ في بُنيةٍ اجتماعيَّةٍ لا تَزالُ تَستمدُّ قُدسيَّتَها من الانتماءِ الدِّينيِّ أو المذهبيِّ أو القَبليِّ؟ إنَّ ما نَشهَدُهُ اليومَ في الشَّرقِ الأوسَطِ، من حُروبٍ أهليَّةٍ، وتَناحُرٍ مذهبيٍّ، وتَهجيرٍ قَسريٍّ، وتَمييزٍ طائفيٍّ أو عِرقيٍّ، يُؤكِّدُ بما لا يَدَعُ مَجالًا للشَّكِّ أنَّ مفهومَ التَّعايُشِ في هذه المَنطِقةِ قد أُصيبَ في صَميمِه، وأنَّ كُلَّ ما يُقالُ عنِ التَّنوُّعِ والاحتِواءِ والمواطَنَةِ ليسَ إلَّا صُوَرًا خُطابيَّةً تُخفي وراءَها واقعًا مُغايرًا قاسيًا. لقد تَجَلَّت في سوريَّةَ، والعِراقِ، ولبنانَ، ومِصرَ، وإيرانَ، وسائرِ المَنطقةِ، مظاهرُ فَشلِ هذا التَّعايُشِ، لا بفعلِ الصُّدَفِ أو المُؤامراتِ الخارجيَّةِ فَقط، بل بفعلِ العُيوبِ البنيويَّةِ المُتجذِّرَةِ في الوعيِ الجمعيِّ، وفي التَّراثِ الثَّقافيِّ والاجتماعيِّ الَّذي لا يَقبَلُ بالآخَرِ المختلفِ إلَّا كغَيرٍ هامشيٍّ أو تابعٍ. من هُنا، جاءت هذهِ الدِّراسةُ لتُعيدَ النَّظرَ في مَفهومِ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ، ولتَدرُسَ، من واقعِ التَّجرِبةِ المَعيشةِ، الأسبابَ المُوجِبَةَ الَّتي تَجعَلُهُ – في الظُّروفِ الراهنةِ – أمرًا مُستحيلًا إلَّا في الإطارِ النَّظريِّ. وهي دراسةٌ لا تَنطلِقُ من حُكمٍ مُسبَقٍ أو مِن بُغضٍ أو انحيازٍ، وإنَّما مِن واقعٍ نَعيشُهُ نحنُ أبناءَ هذهِ المَنطقةِ، ونَشهَدُ عليهِ يومًا بعدَ يومٍ. وتَهدِفُ هذهِ الدِّراسةُ إلى تَحليلِ العوامِلِ البنيويَّةِ والتَّاريخيَّةِ والاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ الَّتي أفرزَت هذا العَجزَ المُزمِنَ عن تَحقيقِ تَعايُشٍ حقيقيٍّ بينَ مكوِّناتِ المَجتمعاتِ المشرقيَّةِ، كما تسعى إلى اقتراحِ مَساراتٍ بديلةٍ للفَهمِ، تُساعِدُ على إدراكِ طبيعةِ الأزمةِ لا لإنكارِها، بل لِوَضعِها في سياقِها الواقعيِّ الصَّريحِ. أمَّا المَنهجُ المُتَّبَعُ في هذهِ الدِّراسةِ، فهو مَنهجٌ وَصفيٌّ تَحليليٌّ، يَعتمدُ على المُلاحظةِ المَيدانيَّةِ والتَّجربةِ الشَّخصيَّةِ والتَّاريخِ المُوثَّقِ، دونَ استِعانَةٍ بالمَصادِرِ النَّظريَّةِ الغربيَّةِ إلَّا في حدودِ المُقارنةِ المَوضوعيَّةِ. فمَوضوعُ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ لا يُمكنُ فَهمُهُ إلَّا من داخِلِه، وبعينِ مَن عاشَهُ، لا مَن تَأمَّلَهُ مِن خارِجه. مشكلةُ الدِّراسةِ، أهدافُها، وغايَاتُها أوَّلًا: مشكلةُ الدِّراسةِ يُواجِهُ مَفهومُ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ إشكاليَّةً جَوهريَّةً تَكمنُ في غِيابِ الأُسُسِ النَّظريَّةِ والواقعيَّةِ الَّتي تُمكِّنُ المكوِّناتِ الاجتماعيَّةَ من العَيشِ في إطارٍ مُواطَنٍ واحِدٍ. فَحينَ نَتَأمَّلُ في تَركيبةِ المُجتمعاتِ المشرقيَّةِ، نُدرِكُ أنَّها لا تَقومُ على مبدأِ التَّكافُؤِ بينَ الأفرادِ، وإنَّما على مَراتِبَ دينيَّةٍ ومذهبيَّةٍ وعِرقيَّةٍ تُحدِّدُ مَكانةَ الإنسانِ في نِظامِ القِيمِ الجمعيَّةِ. وتَتجلَّى هذهِ الإشكاليَّةُ في كَونِ "التَّعايُشِ" في الوعيِ العامِّ ليسَ مَفهومًا قانونيًّا أو اجتماعيًّا راسخًا، وإنَّما مُجرَّدُ تَسامُحٍ هشٍّ تُفرِضُهُ مَوازينُ القُوَّةِ، أو مَرحلةٌ من مَراحِلِ التَّهدِئةِ المؤقَّتَةِ بينَ طَرفَينِ يَنتظرُ كُلٌّ مِنهُما الفرصَةَ لِفَرضِ نَفسِه. وهذا ما يُؤدِّي في النِّهايةِ إلى انهيارِ التَّوازُنِ كُلَّما غابَ الرَّادِعُ أو تَراجَعَت سُلطَةُ الحاكِمِ. فمُشكلةُ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ لا تَكمنُ في غِيابِ الرَّغبةِ النَّظريَّةِ فيه فَقط، بل في غِيابِ الأُطُرِ البنيويَّةِ الَّتي تَحميه وتُؤسِّسُ لهُ. إذ لا يُمكنُ أن يَتحقَّقَ التَّعايُشُ في مَناخٍ يُقصي الآخَرَ، أو في بُنيةٍ اجتماعيَّةٍ تُقَدِّسُ الاختِلافَ السُّلاليَّ والدِّينيَّ على حِسابِ المَواطَنَةِ المتساوِيةِ. وما نَشهَدُهُ في الدُّوَلِ المشرقيَّةِ من انقِسامٍ طائفيٍّ ومذهبيٍّ، وتَسييسٍ للهُويَّاتِ، ونُشوءِ جماعاتٍ تَحتكِرُ الحَقَّ الإلهيَّ أو التَّاريخيَّ، إنَّما يُؤكِّدُ أنَّ "التَّعايُشَ" – بوَصفِه قيمةً اجتماعيَّةً مُستقلَّةً – لم يُزرَعْ بعدُ في البُنى العقليَّةِ والنَّفسيَّةِ للمُواطنِ الشَّرقيِّ. فالمُواطنُ لا يَزالُ يَنتمي إلى طائِفَتِه قبلَ وَطنِه، ويُوالِي زعيمَهُ قبلَ دَولتِه، ويُحاكِمُ الآخَرَ بمعيارِ الإيمانِ لا بمعيارِ الإنسانيَّةِ. من هنا تُطرَحُ مُشكلةُ الدِّراسةِ على النَّحوِ الآتي: "هل يُمكنُ – في ضوءِ التَّحوُّلاتِ الاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ والثَّقافيَّةِ – أن يتحقَّقَ تَعايُشٌ حقيقيٌّ ودائمٌ في الشَّرقِ الأوسَطِ؟ وإذا كانَ الجوابُ بالنَّفي، فما العوامِلُ البنيويَّةُ الَّتي جَعَلَت هذا المَطلبَ الإنسانيَّ مُستحيلًا؟" ثانيًا: أهدافُ الدِّراسةِ تَهدِفُ هذهِ الدِّراسةُ إلى ما يأتي: 1. تَشخيصُ الواقعِ الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ في المَنطِقةِ المشرقيَّةِ، وتحليلُ البُنى التَّاريخيَّةِ الَّتي أدَّت إلى تَفشِّي الانقِسامِ المذهبيِّ والطَّائفيِّ. 2. الكشفُ عن مَظاهرِ فَشلِ التَّعايُشِ من خلالِ دِراسةِ العوامِلِ النَّفسيَّةِ والدِّينيَّةِ والاقتصاديَّةِ الَّتي تَحولُ دونَ تحقُّقِه. 3. تَحديدُ المَعوِّقاتِ البنيويَّةِ للتَّكاملِ الوطنيِّ، ولا سيَّما غِيابُ الدَّولةِ المدنيَّةِ ومفهومُ المَواطَنَةِ المُتكافِئةِ. 4. تَقديمُ قراءةٍ واقعيَّةٍ في ضوءِ التَّجرِبةِ التَّاريخيَّةِ للشُّعوبِ المشرقيَّةِ، بعيدًا عن التَّنظيرِ الغَربيِّ أو الإيديولوجيِّ. 5. تَسليطُ الضَّوءِ على المسؤوليَّةِ الجَمعيَّةِ لأبناءِ هذهِ المَنطِقةِ في إعادةِ بناءِ ثقافةٍ تُؤمِنُ بالآخَرِ، وتُعيدُ الاعتبارَ لِلقِيمِ الإنسانيَّةِ الجامعةِ. ثالثًا: غاياتُ الدِّراسةِ لا تَنحصرُ غايَةُ هذهِ الدِّراسةِ في إثباتِ أنَّ التَّعايُشَ مُستحيلٌ فَقط، وإنَّما في تَحديدِ أسبابهِ المُوجِبَةِ، ووَضعِ القارئِ أمامَ مَرايا الواقعِ المَعيشِ دونَ تَجميلٍ أو تَبريرٍ. فالغايَةُ العُظمى هي فَهمُ الاستِحالةِ قبلَ السَّعيِ إلى تَخطِّيها، إذ لا يُمكنُ مُعالجةُ العِلَّةِ ما لَم تُشخَّصْ كما هي. كما تَسعى الدِّراسةُ إلى تَعريةِ الخطابِ السِّياسيِّ والإعلاميِّ الَّذي يُروِّجُ لصُوَرٍ مُزَيَّفَةٍ من "الوَحدةِ الوطنيَّةِ" و"العيشِ المُشتَركِ"، في حينِ أنَّ الواقعَ يَسيرُ في الاتِّجاهِ المُعاكِسِ. وهي تُؤكِّدُ أنَّ الصِّدقَ في التَّشخيصِ هو الخطوَةُ الأُولى في أيِّ مُراجَعةٍ حقيقيَّةٍ. ومن غاياتِها أيضًا إعادةُ بناءِ الفَهمِ لِمعنى التَّعايُشِ، لا كَحالةٍ سياسيَّةٍ فَرضيَّةٍ، بل كقِيمةٍ أخلاقيَّةٍ وحَضاريَّةٍ لا تَقومُ إلَّا في بيئةٍ يُحترَمُ فيها التَّنوُّعُ ويُصانُ الاختِلافُ. المَنهجُ المُتَّبَعُ في الدِّراسةِ ومَصادِرُها أوَّلًا: المَنهجُ اعتمدَتُ في هذهِ الدِّراسةُ على المَنهجِ الوَصفيِّ التَّحليليِّ النَّقديِّ، الَّذي يُمكِّننا من رَصْدِ الظَّواهِرِ الاجتماعيَّةِ والتَّاريخيَّةِ والسِّياسيَّةِ كما هي، ثمَّ تَحليلِها في ضوءِ الوقائِعِ المَلموسةِ، لا في ضوءِ النَّظريَّاتِ الجاهزةِ أو المُقولاتِ المُستورَدةِ. فالتَّعايُشُ في الشَّرقِ الأوسَطِ ليسَ مَوضوعًا قابلًا للقياسِ الإحصائيِّ أو للاختِبارِ المخبريِّ، وإنَّما هو ظاهرةٌ إنسانيَّةٌ مركَّبةٌ تَتداخلُ فيها الأبعادُ النَّفسيَّةُ والعقائديَّةُ والثَّقافيَّةُ والاقتصاديَّةُ والسِّياسيَّةُ. ولذلكَ، فقد قَسَّمَتُ المَنهجَ إلى مَساراتٍ تَكامُليَّةٍ، هي: 1-المَسارُ التَّاريخيُّ: ويَعتمدُ على رَصْدِ التَّحوُّلاتِ الاجتماعيَّةِ في المَنطقةِ منذُ أواخِرِ العَهدِ العُثمانيِّ، مرورًا بتَشكُّلِ الدُّوَلِ القُطريَّةِ في القرنِ العشرينَ، وانتهاءً بالمَرحلةِ الرَّاهنةِ. فَفَهمُ جذورِ المَشكلةِ هو مِفتاحُ إدراكِ استِمراريَّتِها. 2-المَسارُ السِّياسيُّ–الاجتماعيُّ: إذ لا يُمكِنُ فَصلُ التَّعايُشِ عنِ البُنى السِّياسيَّةِ الَّتي تُنتِجُه أو تَمنَعُه. فالدَّولةُ في الشَّرقِ الأوسَطِ، غالبًا، لَم تَكُن مَشروعًا وطنيًّا شامِلًا، وإنَّما تَجسيدًا لِهُويَّةٍ أحاديَّةٍ أو لِسُلطةِ طائفةٍ أو زُعامةٍ. 3-المَسارُ الثَّقافيُّ والفِكريُّ: ويَعتمدُ على تَتبُّعِ الصُّوَرِ الذِّهنيَّةِ والرَّموزِ التُّراثيَّةِ الَّتي صاغَت مَفهومَ "الآخَرِ" في الوعيِ الجمعيِّ المشرقيِّ، وكيفَ ساهَمَت في تَثبيتِ الثُّنائيَّةِ (نحن/هُم) في كُلِّ مَجالٍ حياتيٍّ. 4-المَسارُ الواقِعيُّ التَّجريبيُّ: إذ أنطَلِقُ من مَوقعِ المُشاهِدِ والمُعايِشِ للواقعِ المَيدانيِّ، لا مِن مَوقعِ النَّظَرِيِّ أو المُراقِبِ البَعيدِ. فأنا أنقلُ تَجربة ومُلاحظاتِ من مَجتمعاتٍ عاشت فيها، وتَعامَلَت مع مكوِّناتِها المُختَلِفةِ، وشاهَدت تَحوُّلاتِهاولا أزال رغم هجرتي. ويُضافُ إلى ما سَبقَ أنَّ هذهِ الدِّراسةَ تَتبنَّى مَنهجًا تَفكيكيًّا تحليليًّا يَسعى إلى فَهمِ الظَّواهِرِ لا لإدانَتِها، بل لتَفسيرِ آليَّاتِ اشتِغالِها في الذِّهنِ الجمعيِّ للمُجتمعِ المشرقيِّ. فالفَشلُ في التَّعايُشِ ليسَ نتيجةً طارئةً، وإنَّما هو مَحصلةُ تاريخٍ طويلٍ من التَّراكماتِ الذِّهنيَّةِ والسِّياسيَّةِ. ثانيًا: مَصادِرُ الدِّراسةِ بِما أنَّ هذهِ الدِّراسةَ تَنبُعُ مِن تَجرِبةٍ مَعيشةٍ وتَرصُدُ الواقعَ من داخِلِه، فإنَّ المَصادِرَ الأساسيَّةَ الَّتي اعتمدتُ عليها تُقسَمُ إلى نوعَينِ: 1-مَصادِرُ واقِعيَّةٌ مَيدانيَّةٌ: وتشملُ التَّجربةَ الشَّخصيَّةَ لي في المَجتمعِ السُّوريِّ والمشرقيِّ، ومُتابعتَهُ الميدانيَّةَ للأحداثِ السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والثَّقافيَّةِ خلالَ أكثرَ مِن أربعةِ عُقودٍ. وهذهِ المَصادِرُ تُعتَبَرُ عَمودَ الفَهمِ الواقعيِّ للمَوضوعِ، إذ تُتيحُ النَّظرَ من داخِلِ التَّحوُّلاتِ لا من خارِجِها. 2-مَصادِرُ تاريخيَّةٌ وتَوثيقيَّةٌ: تَشملُ الكُتبَ التَّاريخيَّةَ الَّتي أرَّخَت للعَلاقاتِ الطَّائفيَّةِ والعِرقيَّةِ في المَشرقِ، والتَّقاريرَ الأُمَميَّةَ والإقليميَّةَ الَّتي رَصَدَت نِزاعاتِ الهُويَّةِ، بالإضافةِ إلى مَراجِعَ فِكريَّةٍ تَحلِّلُ تَحوُّلاتِ المُواطَنَةِ والهُويَّةِ في المَجتمعاتِ النَّاميةِ. غيرَ أنَّ الاستِعانَةَ بهذهِ المَصادِرِ لم تَكُن للتَّقليدِ، وإنَّما للمُقارنةِ ولِضَبطِ الحُجَّةِ بالواقِعِ. وتَبقَى المَرجِعيَّةُ الأَولى في هذهِ الدِّراسةِ هي الواقِعُ المَعاش بما يَحمِلُه من تَناقُضاتٍ ومَآسٍ وصُوَرٍ صريحةٍ عنِ الفَشلِ في بُلوغِ تَعايُشٍ حقيقيٍّ، إذ لَم تَعُدِ النَّظريَّاتُ الغَربيَّةُ حولَ "التَّعدُّديَّةِ الثَّقافيَّةِ" قادرةً على تفسيرِ حالِ المَشرقِ ما دامَت بُنياهُ الاجتماعيَّةُ لم تُغادِرْ بعدُ مَرحلةَ التَّديينِ القَبليِّ للهُويَّةِ. الفصلُ الرَّابعُ: الجُذورُ التَّاريخيَّةُ لِفَشَلِ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ تمهيدٌ يَستحيلُ فَهمُ أزمةِ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ ما لَم نَتتبَّعْ خُيوطَها التاريخيَّةَ المُتجذِّرَةَ في الماضِي البعيدِ. فَما نَراهُ اليومَ مِن صِداماتٍ مذهبيَّةٍ وعِرقيَّةٍ ليسَ نِتاجَ الحاضِرِ فَقط، بل هو تَراكمٌ لِقرونٍ من الصِّراعاتِ السِّياسيَّةِ والفِكريَّةِ الَّتي ساهَمَت في شَطرِ المجتمعاتِ المشرقيَّةِ إلى جُزُرٍ منفصلةٍ متقابلةٍ. إنَّ المَشرقَ العربيَّ منذُ انحِسارِ العَصرِ العبَّاسيِّ الثَّاني وما تلاهُ من دُويلاتٍ سُلجوقيَّةٍ وفاطميَّةٍ ومَملوكيَّةٍ وعُثمانيَّةٍ، لَم يَعرِفِ الوحدةَ المدنيَّةَ بمعناها الحديثِ. إذ تَحوَّلت الهُويَّةُ من كونِها إطارًا جامعًا إلى أداةٍ للفرزِ والتَّمييزِ. وبِسقوطِ الحُكمِ العثمانيِّ ودُخولِ الدُّوَلِ الاستعماريَّةِ، انتَقَلَت الطَّائفيَّةُ من حالَةٍ دينيَّةٍ داخليَّةٍ إلى أداةٍ سِياسيَّةٍ تَستَعملُها القوى الخارجيَّةُ والإقليميَّةُ لإدارةِ المَناطقِ وتَقسيمِها. أولًا: العهدُ العثمانيُّ ومُعضلةُ "الملل" اعتمدَت الإمبراطوريَّةُ العثمانيَّةُ نظامَ "المِللِ" الدِّينيَّةِ، الَّذي يَمنحُ كُلَّ طائفةٍ قَدْرًا من الحُكمِ الذَّاتيِّ في شُؤونِها الشَّخصيَّةِ والتَّربويَّةِ والدِّينيَّةِ. ورغمَ أنَّ هذا النِّظامَ وفَّرَ في ظاهِرِه نوعًا من "التَّعايُشِ الإداريِّ"، فإنَّه في الحقيقةِ كرَّسَ الفَصلَ بينَ المكوِّناتِ، وأرسى سُورًا خَفيًّا بينَ الأفرادِ. فَتَعَلَّمَ النَّاسُ أنَّهم رعايا طوائفَ قبلَ أن يكونوا رعايا دولةٍ. لقد كانَ المسيحيُّ، والمُسلمُ، واليهوديُّ، والإيزيديُّ والصابئي (المندائي)والتركماني والشيشاني والشركسي يعيشونَ في المدينةِ الواحدةِ، لكنَّهم لا يَتزاوَجونَ، ولا يتبادَلونَ السُّلطةَ، ولا يُساهِمونَ في مشروعٍ عامٍّ يَجمعُهم، فَظَلَّ التَّعدُّدُ مجرَّدَ "تجاوُرٍ"، لا "تَفاعُلٍ". وحينَ سَقَطَ العثمانيُّونَ وورِثَهم الاستِعمارُ، وَجَدَ الأخيرُ في هذا الانقِسامِ بيئةً خصبةً لإعادةِ إنتاجِه. ثانيًا: الانتدابُ والاستِعمارُ – صِناعةُ الهُويَّاتِ القُطريَّةِ حينَ وَقعَ المشرقُ تحتَ الانتدابِ الفرنسيِّ والبريطانيِّ في مطلعِ القرنِ العشرينَ، بدأت مَرحلةٌ جديدةٌ من الشَّطرِ الاجتماعيِّ. فَسوريَّةُ والعِراقُ ولبنانُ والأُردنُ ومِصرُ وبلادُ فلسطينَ لم تُقسَّمْ على أُسُسٍ إثنيَّةٍ محضَةٍ، بل على مَوازينِ قُوَّةٍ تَحمي مَصالحَ القوى الكُبرى. وهكذا، أُقيمَت دولٌ قُطريَّةٌ هشَّةٌ لم تَستطِعْ بناءَ هُويَّةٍ وطنيَّةٍ جامعةٍ، بل زادَت من حِدَّةِ الولاءاتِ الطائفيَّةِ. في لبنانَ، مثلًا، جُعِلَ التَّوازُنُ الطائفيُّ قاعدةً للدُّستورِ، فصارَ الحُكمُ تقاسُمًا بينَ المذاهِبِ. وفي العِراقِ، وُضِعَ السُّنَّةُ في المَقدِّمةِ لِحُكمِ أغلبيَّةٍ شِيعيَّةٍ وكُرديَّةٍ. مَعَ تَهْمِيشٍ وَاضِحٍ لِاضْطِهَادِ أَبْنَاءِ الأَرْضِ الحَقِيقِيِّينَ مِنْ آشُورِيِّينَ وَسُرْيَانٍ وَكَلْدَانٍ وَمَعَهُمُ الأَرْمَنُ. وفي سوريَّةَ، ظَلَّت السُّلطةُ مَحصورةً في نُخبٍ محدودةٍ حتَّى وُلدَت ثوراتُ العَسكرِ. كُلُّ هذا أدَّى إلى تَكريسِ ما يُسمِّيه الباحثونَ "الهُويَّةَ الجَماعيَّةَ القَلِقةَ"، الَّتي لا تَثقُ بالآخَرِ، ولا تَقبلُ المساواةَ. ثالثًا: الدُّوَلُ الوطنيَّةُ بعدَ الاستِقلالِ – فِشلُ الاندِماجِ معَ نَيلِ الدُّوَلِ المشرقيَّةِ استقلالَها الشَّكليَّ في مُنتصفِ القرنِ العشرينَ، رُفِعَ شِعارُ "الوَحدةِ الوطنيَّةِ" وبناءِ الدَّولةِ الحديثةِ. غيرَ أنَّ هذهِ الوَحدةَ بَقِيَت سِياقًا خطابيًّا أكثرَ مِمَّا كانت مَسارًا واقعيًّا. فَحُكوماتُ ما بَعدَ الاستِقلالِ استَندَت إلى الجيشِ أو الحِزبِ أو الزَّعيمِ، لا إلى العَقدِ الاجتماعيِّ. وبَدَلَ أن تَحتَوي الدَّولةُ تنوُّعَها، جَعلَت مِنهُ تهديدًا، فَسَعَت إلى صَهرِ الجميعِ في هُويَّةٍ واحدةٍ قَسريَّةٍ. في هذا السِّياقِ، خَسِرَت الأقليَّاتُ ثِقَتَها، وشَعَرَت الأكثريَّاتُ بالخَوفِ من الانقِسامِ، فَسَادَ الشَّكُّ، وتَراجَعَت القِيمُ المدنيَّةُ. ثمَّ جاءت الانقِلاباتُ العسكريَّةُ لِتُرسِّخَ نَمطًا جديدًا من الوَحدةِ القَسريَّةِ، تُدارُ فيها البلادُ بعقيدةِ الأمنِ لا بعقيدةِ الحُرِّيَّةِ، وبالقَمعِ لا بالمُواطَنَةِ. رابعًا: الحُروبُ الإقليميَّةُ وصُعودُ الأيديولوجيَّاتِ منذُ خِمسينيَّاتِ القرنِ الماضي، أدَّت الصِّراعاتُ العربيَّةُ–الإسرائيليَّةُ، والحُروبُ البارِدةُ، والنِّزاعاتُ الإقليميَّةُ، إلى تَكريسِ ثقافةِ "الاستِقطابِ الدَّائمِ". فأُعيدَ إنتاجُ الخَوفِ مِن الآخَرِ على مَستويَينِ: داخِليٍّ بينَ المذاهِبِ، وخارِجيٍّ بينَ القوميَّاتِ. تَحوَّلَ التَّعايُشُ إلى شِعارٍ تُلوِّحُ به الأنظِمةُ لتَجميلِ صُورتِها الخارجيَّةِ، في حينِ كانَت على أرضِ الواقِعِ تَغذِّي الانقِسامَ وتَستعمِلُهُ وسيلةً للبَقاءِ. ولَم يَكُن غريبًا أن تَندَلِعَ الحُروبُ الأهليَّةُ في لبنانَ والعِراقِ وسوريَّةَ واليمنِ، لأنَّ الأرضيَّةَ كانت جاهِزةً منذُ قرونٍ، والعقولُ ما زالت تَحكُمُها الثُّنائيَّةُ الطائفيَّةُ ذاتُها. خامسًا: الانفِجارُ الكبيرُ – ربيعٌ لم يُزهِر حينَ اندَلَعَت أحداثُ ما سُمِّيَ بـ"الرَّبيعِ العربيِّ"، ظَنَّ كثيرونَ أنَّ الشَّرقَ الأوسَطَ على عَتَبَةِ تَحوُّلٍ تَاريخيٍّ يُعيدُ للمُواطنِ كرامتَهُ وحقَّهُ في المَشاركةِ. لكنَّ الوقائِعَ أظهَرَت أنَّ السُّقوطَ لم يَكُن في السُّلطةِ فَقط، بل في البِنيةِ الثَّقافيَّةِ الَّتي تَحكُمُ العُقولَ. فَبِمُجرَّدِ أن فَقَدَت الأنظِمةُ سَيطرتَها، انفَجَرَ الكَبتُ الطائفيُّ والدِّينيُّ، وظهَرَت المَذابِحُ والهُجراتُ والتَّنظيماتُ المُتطرِّفَةُ، وكأنَّ "الآخرَ" كانَ ينتظرُ لحظتَهُ لينتقِمَ من كُلِّ مَن يَختَلِفُ عنهُ. وهكذا أثبَتَت التجربةُ أنَّ التَّعايُشَ في الشَّرقِ الأوسَطِ ليسَ مَنهجًا اجتماعيًّا مُتجذِّرًا، بل فَترةَ هُدنةٍ يَفرِضُها الخَوفُ أو المَصلحةُ. ومتى انتَفى الرَّادِعُ، عادت الفِتنةُ لتُحطِّمَ ما بُنيَ على الهَشيمِ. الفصلُ الخامسُ: الأبعادُ الاجتماعيَّةُ والنَّفسيَّةُ لفَشلِ التَّعايُشِ تُظهِرُ الملاحَظةُ المَيدانيَّةُ أنَّ الإنسانَ المشرقيَّ، على تَعدُّدِ انتماءاتِه، يَحمِلُ في داخِلِه "هاجسَ الانتماءِ الضَّيِّقِ"، ويُعاني مِن انقِسامٍ نَفسيٍّ بينَ ما يُعلِنُهُ من قيمٍ وما يُمارِسُهُ في الواقعِ. فَهُو يُمجِّدُ الحُبَّ والسَّلامَ والوَحدةَ في خِطابِه، لكنَّه يَرفُضُ الزواجَ من طائفةٍ أُخرى، ويَخشَى أن يُشارِكَه الآخَرُ مَصيرَهُ المهنيَّ أو السِّياسيَّ. إنَّ هذا الازدِواجَ النَّفسيَّ يَعودُ إلى التَّنشئةِ الاجتماعيَّةِ، حيثُ تُغذَّى عقولُ الأطفالِ منذُ الصِّغَرِ على تَصوُّرِ "نحنُ" و"هُم"، وتُربَطُ الأخلاقُ بالدِّينِ لا بالإنسانيَّةِ. فينمو الفردُ وهوَ يَحمِلُ صورةً مُشوَّهةً عن الآخرِ تُصوِّرهُ خصمًا أو تهديدًا. كما أنَّ فَشلَ المؤسَّساتِ التَّربويَّةِ في نَشرِ قِيمِ المواطَنَةِ أدَّى إلى بقاءِ الانقِسامِ قائمًا. فالمَناهجُ الدِّراسيَّةُ تَميلُ إلى التَّمجيدِ الأحاديِّ للتَّاريخِ والدِّينِ، ولا تُقدِّمُ سِوى روايةٍ واحدةٍ للواقعِ، وكأنَّ الحقيقةَ لا تتَّسِعُ لِأكثَرَ مِن لِسانٍ أو إيمانٍ. الفصلُ السَّادسُ: الأبعادُ السِّياسيَّةُ والاقتصاديَّةُ تَكمُنُ الخَطيئةُ الأكبرُ في تَوظيفِ الطائفيَّةِ سياسيًّا. فَغالبًا ما يَستعمِلُ الحُكَّامُ التَّنوُّعَ لِتثبيتِ سُلطتِهم. تارةً بِاسمِ الحِمايةِ للأقليَّاتِ، وتارةً بِاسمِ الدِّفاعِ عن الأكثريَّةِ. وبِذلكَ يُفرَّغُ التَّعايُشُ من مَضمونِه، ويُختَزَلُ إلى مَعادلةٍ أمنيَّةٍ هشَّةٍ. اقتصاديًّا، أفرَزَت السِّياساتُ الإقصائيَّةُ تفاوتًا حادًّا في الفُرصِ والتَّمثيلِ، فصارت الطَّائفةُ هي الوسيطَ للحصولِ على العملِ والمَكانةِ. وهكذا تَحوَّلَ التَّعايُشُ من فِكرةٍ أخلاقيَّةٍ إلى تَنافُسٍ على المواردِ. الفصلُ السَّابعُ: الأسبابُ المُوجِبَةُ لِاستِحالةِ التَّعايُشِ 1-غِيابُ العقدِ الاجتماعيِّ الحقيقيِّ: فَالدُّوَلُ المشرقيَّةُ لم تُبنَ على رِضا المُواطِنينَ، بل على فَرضِ القُوَّةِ، فَغابت الثِّقةُ بينَ الحاكِمِ والمَحكومِ. 2-هيمنةُ الدِّينِ على المَجالِ العامِّ: لَم يُحَدَّدْ بَعدُ الفاصِلُ بينَ ما هو إيمانيٌّ وما هو مدنيٌّ، فَكُلُّ اختلافٍ يُؤوَّلُ على أنَّهُ عَداءٌ دينيٌّ. 3-انهيارُ النُّظمِ التَّعليميَّةِ والتَّربويَّةِ: فَبدلًا مِن غَرسِ قِيمِ التَّعدُّدِ والحُرِّيَّةِ، تُكرَّسُ مَناهجُ التَّقليدِ والتَّلقينِ. 4-التَّدخُّلاتُ الخارجيَّةُ: لَم يَكُن الشَّرقُ الأوسَطُ يومًا سَيِّدَ قَرارِه، فَكلُّ مشروعٍ تَصالُحِيٍّ داخليٍّ يُجهَضُ حينَ تَتعارَضُ مَصالحُ الكِبارِ. 5-عُقدةُ الخَوفِ التَّاريخيِّ: إذ يَعيشُ كُلُّ مكوِّنٍ هاجِسَ الإبادةِ أو الإقصاءِ، فيَستبِقُ العُنفَ بِعُنفٍ مُضادٍّ. الفصلُ الثَّامنُ: نحوَ فَهمٍ جديدٍ لِلتَّعايُشِ رغمَ سَوداويَّةِ المشهدِ، إلَّا أنَّ إدراكَ الاستِحالةِ لا يَعني الاستِسلامَ، بل البِدايةَ الحقيقيَّةَ لِمُراجَعةِ الذاتِ. فَلعلَّ أوَّلَ خُطوةٍ في بُلوغِ التَّعايُشِ هي الإقرارُ بأنَّهُ غيرُ مَوجودٍ، وأنَّ ما نَعيشهُ ليسَ تَعايُشًا بل تَجنُّبًا للصِّدامِ. إنَّ إعادةَ بِنَاءِ ثقافةٍ مدنيَّةٍ تتجاوزُ المَذهبَ والعِرقَ تَتطلَّبُ ثورةً في الفِكرِ التَّربويِّ، وفي مَناهجِ التَّعليمِ والإعلامِ، وفي تَشكيلِ الهُويَّةِ الوطنيَّةِ على أُسُسٍ إنسانيَّةٍ، لا على مَعاييرَ دينيَّةٍ أو حزبيَّةٍ. الخاتمةُ والنَّتائجُ يُستخلَصُ مِن هذهِ الدِّراسةِ أنَّ التَّعايُشَ في الشَّرقِ الأوسَطِ – في ظلِّ الظُّروفِ البنيويَّةِ والثَّقافيَّةِ الرَّاهنةِ – مُستحيلٌ، لا لأنَّ الإنسانَ المشرقيَّ عَدائيٌّ بطَبعِه، بل لأنَّ البيئةَ الَّتي يُنتِجُها التَّاريخُ والتَّربيةُ والسِّياسةُ تُغذِّي فيه الخَوفَ مِن الاختِلافِ. ومتى غابَ الخَوفُ وظهَرَ الأمانُ الحقيقيُّ في ظلِّ دَولةٍ مدنيَّةٍ عادِلةٍ، يُمكِنُ آنذاكَ فقط أن يُعادَ بناءُ مفهومِ التَّعايُشِ على أُسُسٍ صُلبةٍ. غيرَ أنَّ هذهِ الإمكانيَّةَ تبقَى – إلى إشعارٍ آخَرَ – حُلْمًا مؤجَّلًا، لأنَّ الشَّرقَ الأوسَطَ لَم يَزَلْ أسيرَ ذِهنيَّاتٍ تُقدِّمُ الولاءَ على الكفاءةِ، والعقيدةَ على الإنسانِ، والسُّلطةَ على القِيمةِ. فلذلكَ نُؤكِّدُ أنَّ التَّعايُشَ الحقيقيَّ، وإن كانَ مَطلبًا نبيلًا، يَبقَى في هذهِ البُقعةِ من العالمِ مُستحيلًا، ما دامَ الإنسانُ لم يُحرِّرْ عقلَهُ مِن سُجونِ الخَوفِ والماضِي. وحاولتُ أن أقدم ملحقاً للدراسة كخاتمة تتضمن : العاملُ الدِّينيُّ والمذهبيُّ في استِحالَةِ التَّعايُشِ – سوريَّةُ نَموذجًا (2025) تمهيدٌ لا يُمكِنُ الحديثُ عن استِحالَةِ التَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ من غيرِ الوقوفِ مطوَّلًا عندَ العاملِ الدِّينيِّ والمذهبيِّ الَّذي يَتسيَّدُ المشهدَ الاجتماعيَّ والسِّياسيَّ في مُعظمِ دولِ المَنطِقةِ، وبخاصَّةٍ في سوريَّةَ بعدَ أكثرَ من اثنَي عَشرَ عامًا على اندِلاعِ الحربِ الأهليَّةِ. لقد كانَ الأملُ، عندَ بداياتِ الأحداثِ، أن تَفرِضَ التَّضحياتُ ويلاتِها على الجميعِ فتَفتحَ بابًا لِلمُصالَحةِ، غيرَ أنَّ الَّذي حدَثَ هو العَكسُ تمامًا. إذِ انقَسمَ المجتمعُ السوريُّ – وهو مِثالٌ مُصغَّرٌ للمجتمعِ المشرقيِّ – إلى طَبقاتٍ مذهبيَّةٍ وطائفيَّةٍ مُتناحِرَةٍ، حتَّى صارَ القتلُ على الهُويَّةِ هو المِعيارَ الَّذي يُحدِّدُ مَصيرَ الإنسانِ، لا ذَنبَهُ ولا فِعلَهُ. أوَّلًا: الدِّينُ من رابِطٍ روحيٍّ إلى أداةِ فَرزٍ كانَ الدِّينُ في جوهرِه رابِطًا قيميًّا وأخلاقيًّا يَجمَعُ الأفرادَ في مِظلَّةٍ واحدةٍ من الإيمانِ، إلَّا أنَّهُ، في التَّطبيقِ الشَّرقيِّ، تَحوَّلَ تدريجيًّا إلى هُويَّةٍ سياسيَّةٍ ومذهبيَّةٍ تُحدِّدُ المَوقِفَ من الآخَرِ. فالمُواطنُ يُعرَّفُ اليومَ بصفَتِه "سُنِّيًّا" أو "عَلويًّا" أو "دُرزيًّا" أو "مسيحيًّا"، لا بصفَتِه سوريًّا. وقد تَحوَّلَت هذهِ الانتماءاتُ إلى حدودٍ دمويَّةٍ تُفرَضُ بالسِّلاحِ وتُكرَّسُ بالخَوفِ. ولَم تَعُدِ المساجِدُ والكَنائِسُ مَواطنَ عِبادةٍ فَقط، بل صارت في أحيانٍ كثيرةٍ خُطوطَ تماسٍّ نفسيَّةٍ تُفرِزُ المجتمعاتِ وتُحدِّدُ مَن "يَستحقُّ الحياةَ" ومَن يُتَّهَمُ بالكُفرِ أو الخِيانةِ. ثانيًا: سوريَّةُ 2025 – القتلُ على الهُويَّةِ في عامِ 2025م، بَعدَ أكثرَ من عَقدٍ على الحربِ، لَم تَزَلِ البلادُ تَرزَحُ تحتَ آثارِ التَّمزُّقِ الدِّينيِّ والمذهبيِّ. فَفي المَناطقِ الَّتي تَغلُبُ عليها الأكثريَّةُ العَلويَّةُ، يَخشى السُّنِّيُّ أن يُصرِّحَ بانتمائِه، وفي المَناطقِ السُّنِّيَّةِ يَخافُ المسيحيُّ من التُّهمةِ بالولاءِ "للنِّظامِ" أو "للغربِ". أمَّا الدُّروزُ، فَيُعَدُّونَ في نظرِ بعضِ الأطرافِ "حالةً خاصَّةً"، فيُتَّهمونَ حينًا بالخُروجِ عن الإسلامِ، ويُستَعمَلونَ حينًا آخَرَ كورقةِ تَوازُنٍ سياسيٍّ. لقد صارَ الاختِلافُ المذهبيُّ مِقياسًا للحياةِ أو الموتِ، وصارَ الانتماءُ الدِّينيُّ سِلاحًا يَحملُهُ المرءُ قبلَ اسمهِ. وفي ظِلِّ هذا المَشهدِ، كيفَ يُمكِنُ أن نَتَحدَّثَ عن تَعايُشٍ؟ أليسَ القتلُ على الهُويَّةِ هو نَقيضُ التَّعايُشِ بكلِّ معانيهِ؟ ثالثًا: من التَّعايُشِ إلى التَّناحُرِ ما كانَ في ماضٍ قريبٍ يُعَدُّ جِوارًا بينَ عائلاتٍ مُختلفةٍ في الدِّينِ، باتَ اليومَ تَناحُرًا على الهُويَّةِ. فَفي مدُنٍ مثلَ حَلبَ وحُمصَ ودِمشقَ والحَسَكَةِ، تَقلَّصَ الوجودُ المسيحيُّ إلى نِسَبٍ رمزيَّةٍ، وغادَرَت آلافُ العائلاتِ خوفًا مِن انتِقامٍ أو تَمييزٍ. وفي المَنطِقةِ الشَّرقيَّةِ، فَقَدَ الإيزيديُّونَ والأقليَّاتُ الأُخرى وجودَهم التَّاريخيَّ بعدَ أن صاروا هدفًا مباشرًا للتَّطهيرِ العِقَديِّ. رابعًا: البُعدُ النَّفسيُّ والاجتماعيُّ يُنتِجُ هذا المشهدُ حالةً مِن العُزلةِ الاجتماعيَّةِ والخَوفِ الجمعيِّ، تُولِّدُ رفضًا نفسيًّا للآخَرِ، وتَجعلُ كُلَّ مكوِّنٍ يَبني أسوارَهُ النَّفسيَّةَ قبلَ أسوارِه المادِّيَّةِ. فالطفلُ الَّذي يَنشأ في بِيئةٍ تَروِي له أنَّ جارهُ مِن طائفةٍ أُخرى هو خَطرٌ محتملٌ، لن يُنتِجَ مواطنًا قادِرًا على الشَّراكةِ، بل سيُعيدُ إنتاجَ الكراهيةِ بثوبٍ جديدٍ. خامسًا: استِنتاجٌ إنَّ العاملَ الدِّينيَّ والمذهبيَّ يُعتَبَرُ اليومَ العَقبةَ المركزيَّةَ أمامَ أيِّ مشروعٍ للتَّعايُشِ في الشَّرقِ الأوسَطِ، لا لأنَّ الأديانَ في ذاتِها تُحرِّضُ على العُنفِ، بل لأنَّ الإنسانَ المشرقيَّ حوَّلَها إلى أداةِ هُويَّةٍ سياسيَّةٍ. وفي سوريَّةَ خاصَّةً، لم يَكُن القتلُ على الهُويَّةِ إلَّا إعلانًا صريحًا لموتِ التَّعايُشِ، وانكِشافِ الزَّيفِ الَّذي كانَ يُغلِّفُهُ خِطابُ الأنظِمَةِ السِّياسيَّةِ والإعلاميَّةِ. خاتمةُ المُلحقِ لن يَقوى التَّعايُشُ على النُّهوضِ في المَشرقِ ما دامَ الدِّينُ يُستَعمَلُ سِلاحًا في يدِ السِّياسةِ، وما دامَ المذهبُ يَسبقُ الإنسانَ في التَّعريفِ. فَسوريَّةُ 2025 تُلخِّصُ مأساةَ المَشرقِ كُلِّه: شعوبٌ تُصلِّي للإلهِ نفسِه، وتَقتُلُ بعضَها باسمِه. إسحق قَومي مَشفَى مَدينةِ آهوس – أَلمانيا 9 تشرينَ الأوَّلِ / أُكتوبَر 2025م
#اسحق_قومي (هاشتاغ)
Ishak_Alkomi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة بعنوان :((فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا))
-
قصيدة بعنوان: (فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا)
-
رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل
-
المثيولوجيا عند الآشوريين والآراميين والفينيقيين
-
التَّارِيخُ السُّورِيُّ وَالمَسْؤُولِيَّةُ الوَطَنِيَّةُ لِح
...
-
المعرفة بين الفكر الفلسفي والواقع من دفتر قراءات فلسفية
-
مَدينَةُ القامِشْلِيِّ كَما جاءَتْ في كِتابِنا الموسومِ قَبا
...
-
عشتار الفصول: 11735 سُورِيَّةُ القَادِمَةُ
-
هَلِ القِيَمُ الكُبْرَى مِعْيَارُ الحَضَارَةِ وَمِرْآتُهَا؟
-
مَدْرَسَة الوِلَادَة الإِبْدَاعِيَّة
-
رِسَالَةٌ إِلَى جَلَالَةِ المَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمَانَ،
...
-
عشْتارُ الفُصولِ: 11724 العالم والتغيرات السونامية القادمة
-
الفعلُ الإبداعيّ بينَ الجَمالِ والحَقِّ والخَيْرِ دراسةٌ فلس
...
-
عشتار الفصول:11721 الوَطَنُ الدَّاعِشِيُّ والنَّقْدُ وَالتَّ
...
-
سُورِيَّةُ ٱ---لْمُمْكِنَةُ بَعْدَ ٱ---لْأَلَمِ مَ
...
-
ما هِيَ الأَسْبَابُ المُوجِبَةُ لِبَقَاءِ المَسِيحِيَّةِ الم
...
-
تَفَكُّكُ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، وَمَصِيرُ
...
-
مَشْرُوعُ رُؤْيَةٍ لِسُورِيَّةَ وَالأُمَّةِ السُّورِيَّةِ يُ
...
-
اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ: حِينَ تَعْجَزُ الْكَلِمَات
...
-
إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟
المزيد.....
-
تحديد هوية جثمان الرهينة الإسرائيلي الـ13 بعدما سلمته حماس
-
خليل الحيّة: -اتفاق غزة سيصمد، ومصممون على المضي فيه إلى نها
...
-
ترامب يتوعد حماس إن انتهكت اتفاق غزة ونائبه في إسرائيل
-
دوجاريك: الحوثيون يحتجزون موظفين أمميين منذ يوم السبت
-
السلطات السورية تضبط بـ-عملية نوعية- نحو 12 مليون حبة كبتاغو
...
-
تصريحات براك تثير المخاوف من انفجار سياسي وعسكري في لبنان
-
انعكاسات التسليح التركي لسوريا على العلاقة بين دمشق و-قسد- و
...
-
ضغوط أميركية على سموتريتش لقبول اتفاق غزة
-
لقاء ترامب وبوتين المرتقب -يتعثر-
-
اتفاق غزة.. هل يفتح الطريق لتوسيع السلام الإبراهيمي؟
المزيد.....
-
اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات
/ رشيد غويلب
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
المزيد.....
|