أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - تَفَكُّكُ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، وَمَصِيرُ الهُوِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ فِيهِ















المزيد.....

تَفَكُّكُ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، وَمَصِيرُ الهُوِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ فِيهِ


اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.

(Ishak Alkomi)


الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 12:11
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


لَم يَعُدِ الوَطَنُ، فِي الشَّرْقِ، ذَاكَ المَفْهُومَ المُتَمَاسِكَ الَّذِي اعْتَدْنَاهُ فِي الكُتُبِ المَدْرَسِيَّةِ أَوْ فِي خُطَبِ الزُّعَمَاءِ. فَالهُوِيَّةُ الوَطَنِيَّةُ، الَّتِي نَشَأَتْ فِي أَعْقَابِ انْهِيَارِ السَّلْطَنَةِ العُثْمَانِيَّةِ، وَارْتُجِلَ لَهَا اسْمٌ وَحُدُودٌ وَعَلَمٌ، تَبْدُو اليَوْمَ وَكَأَنَّهَا تَتَرَنَّحُ تَحْتَ ضَرَبَاتِ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.
هَلِ الوَطَنُ كِيَانٌ ثَابِتٌ، أَمْ مَفْهُومٌ سِيَاسِيٌّ مُتَحَوِّلٌ؟
هَلْ نَعِيشُ اليَوْمَ بَدَايَةَ مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ "سَايْكْس – بِيْكُو"، وَلَكِنْ لَا نَحْوَ الوَحْدَةِ، بَلْ نَحْوَ التَّذَرُّرِ، وَإِعَادَةِ التَّشْكِيلِ الطَّائِفِيِّ أَوِ القَوْمِيِّ الضَّيِّقِ؟
وَمَاذَا عَنِ المَكَوِّنَاتِ التَّارِيخِيَّةِ لِلْمِنْطَقَةِ؟
المَسِيحِيُّونَ، الآشُورِيُّونَ، الكِلْدَانُ، السُّرْيَانُ، الأَرْمَنُ، الأَقْبَاطُ، المَوَارِنَةُ، الدُّرُوزُ، الإِيزِيدِيُّونَ... هَلْ لَهُمْ مَكَانٌ فِي خَرَائِطِ الغَدِ؟
فِي هَذَا المَقَالِ، أُحَاوِلُ أَنْ أَقْرَأَ هَذِهِ الأَسْئِلَةَ بِقَدْرٍ مِنَ الحِيَادِ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أَنْفِي أَنَّنِي أَكْتُبُ مِن قَلْبِ الشَّرْقِ، وَمِنْ عُمْقِ انْتِمَائي إِلَيْهِ، لَا بِوَصْفِهِ جُغْرَافِيَا فَقَطْ، بَلْ كَذَاكِرَةٍ ثَقَافِيَّةٍ، وَكَمَصِيرٍ مَفْتُوحٍ عَلَى الاحْتِمَالَاتِ.
لَنْ أَدَّعِيَ امْتِلَاكَ أَجْوِبَةٍ قَاطِعَةٍ، وَلَكِنَّنِي سَأُحَاوِلُ أَنْ أَضَعَ إِصْبَعَ التَّفْكِيرِ فِي جُرْحِ "اللَّامُفَكَّرِ فِيهِ"، وَأَفْتَحَ نَافِذَةً صَغِيرَةً فِي جِدَارِ ضَبَابٍ كَثِيفٍ، اسْمُهُ: "الشَّرْقُ الأَوْسَطُ الجَدِيدُ".
المَبْحَثُ الأَوَّلُ: الدَّوْلَةُ القَوْمِيَّةُ فِي الشَّرْقِ – النَّشْأَةُ وَالتَّأْسِيسُ
حِينَ نَتَأَمَّلُ البُنَى السِّيَاسِيَّةَ الحَدِيثَةَ فِي الشَّرْقِ، نَجِدُ أَنْفُسَنَا أَمَامَ كِيَانَاتٍ جُغْرَافِيَّةٍ نَشَأَتْ فِي مُعْظَمِهَا بِقَرَارٍ مِنَ الخَارِجِ، لَا بِفِعْلِ نُضْجٍ دَاخِلِيٍّ. فَالدَّوْلَةُ القَوْمِيَّةُ، كَمَا عُرِفَتْ فِي السِّيَاقِ الأُورُوبِّيِّ الحَدِيثِ، نَشَأَتْ هُنَاكَ عَبْرَ مَسَارٍ تَارِيخِيٍّ طَوِيلٍ مِنَ الثَّوْرَاتِ، وَالإِصْلَاحَاتِ، وَالتَّعَاقُدَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، بَيْنَمَا فِي المَشْرِقِ، وُلِدَتْ غَالِبًا مِن رَحِمِ الخَرَائِطِ، لَا مِن رَحِمِ المُجْتَمَعَاتِ.
إِنَّ انْهِيَارَ السَّلْطَنَةِ العُثْمَانِيَّةِ، وَمَا تَبِعَهُ مِن تَدَخُّلٍ فَرَنْسِيٍّ وَبِرِيطَانِيٍّ، أَسَّسَ لِنَمَطٍ مِنَ "الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ" قَائِمٍ عَلَى تَوَازُنَاتٍ مُصْطَنَعَةٍ، حَيْثُ رُسِمَتِ الحُدُودُ بِقَلَمٍ أُورُوبِّيٍّ، ثُمَّ فُرِضَتِ السِّيَادَةُ عَلَى جَمَاعَاتٍ لَمْ تَتَوَافَقْ تَارِيخِيًّا، لَا ثَقَافِيًّا، وَلَا لُغَوِيًّا، وَلَا دِينِيًّا.
سُورِيَا، العِرَاقُ، لُبْنَانُ، الأُرْدُنُّ، وَغَيْرُهَا، لَمْ تَكُنْ نَتِيجَةَ حِرَاكٍ وَطَنِيٍّ، بَلْ ثَمَرَةَ تَفَاهُمَاتٍ اسْتِعْمَارِيَّةٍ.
لَقَدْ تَمَّ إِسْقَاطُ مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ الأُورُوبِّيَّةِ عَلَى بِيئَةٍ مُشْبَعَةٍ بِالهُوِيَّاتِ الطَّائِفِيَّةِ وَالعَشَائِرِيَّةِ وَالقَوْمِيَّاتِ المُتَدَاخِلَةِ، دُونَ تَأْهِيلٍ اجْتِمَاعِيٍّ أَوْ ثَقَافِيٍّ. فَكَانَ النَّاتِجُ دَوْلَةً هَشَّةً، تَبْدُو مُتَمَاسِكَةً مِنَ الخَارِجِ، وَلَكِنَّهَا – فِي الدَّاخِلِ – مَحْكُومَةٌ بِتَوَازُنَاتِ الخَوْفِ، أَوْ بِمُعَادَلَةِ "الرُّعْبِ المُتَبَادَلِ".
وَلِأَنَّ تِلْكَ الكِيَانَاتِ لَمْ تُبْنَ عَلَى عَقْدٍ اجْتِمَاعِيٍّ حَقِيقِيٍّ، فَإِنَّهَا ظَلَّتْ طِوَالَ قَرْنٍ كَامِلٍ تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الانْقِلَابَاتِ، وَالوِصَايَاتِ، وَالاحْتِلَالَاتِ، وَالنِّزَاعَاتِ الأَهْلِيَّةِ. وَحِينَ هَبَّتْ رِيَاحُ "الرَّبِيعِ العَرَبِيِّ"، لَمْ تَسْقِ تِلْكَ الدُّوَلَ بِمَاءِ الحُرِّيَّةِ، بَلْ كَشَفَتْ هَشَاشَتَهَا، فَانْهَارَ مَا كَانَ يُظَنُّ أَنَّهُ رَاسِخٌ.
فِي هَذَا السِّيَاقِ، لَا بُدَّ مِن سُؤَالٍ جَوْهَرِيٍّ:
هَلْ كَانَتِ الدَّوْلَةُ القَوْمِيَّةُ فِي الشَّرْقِ مَشْرُوعًا أَصِيلًا؟ أَمْ قِنَاعًا هَشًّا، يُخْفِي تَحْتَهُ تَنَاقُضَاتٍ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تَنْفَجِرَ يَوْمًا؟
المبحثُ الثّاني: عَلاماتُ تَصَدُّعِ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الحَاضِرِ
لم يَعُدِ الصَّدعُ في الكِياناتِ السِّياسيَّةِ في الشَّرقِ مُجَرَّدَ مَخاوِفَ تَتَداولُها مَراكِزُ البُحوثِ، ولا سيناريوهاتٍ تَفتَعِلُها القُوًى الخارجيَّةُ، بل صارَ واقعًا مُعاشًا، تَشهَدُهُ العُيونُ وتَكتُبُهُ الأجسادُ قبلَ الكُتُبِ.
إنَّ ما حَدَثَ في سُورِيَا، والعِرَاقِ، ولُبْنَانَ، واليَمَنِ، ومَا يَتَسَرَّبُ إلى السُّودَانِ، وما يُهدِّدُ إِيرَانَ من دَاخِلِها، لا يَدَعُ مَجالًا لِلشَّكِّ في أنَّ الدَّوْلَةَ القَوْمِيَّةَ في الشَّرقِ تَمُرُّ في أخطَرِ مَراحِلِها منذُ تَشكِيلِها.
فالهُويَّةُ الجَماعيَّةُ، الّتي كانَ يُفتَرَضُ أن تَكونَ عِمادًا لِلوَحدةِ الوطنيَّةِ، تَحوَّلَت في كَثيرٍ مِنَ الأوطانِ إلى هُويَّاتٍ مُتَنازِعَةٍ، أو مُتَوازِيةٍ، لا تَلتَقِي إلّا فِي لُحظَاتِ القَهرِ أو في مَواسمِ الانفِجَارِ.
في سُورِيَا، باتَ الوطنُ شَطرًا يُدِيرُهُ النِّظامُ، وشُطُورًا تُدِيرُها فَصائلُ، أو مَجالسُ، أو قُوًى خارجيَّةٌ، تَخدُمُ مَصالحَها أكثرَ ممّا تَخدُمُ ما تَبقّى مِن وَحدةِ الأَرْضِ والشَّعبِ.
في العِرَاقِ، لا تَزالُ الخُطُوطُ الطَّائفيَّةُ والمَذهبيَّةُ تُحدِّدُ مَن يَحكُمُ، ومَن يَنتَفِعُ، ومَن يُهمَّشُ، في ظِلِّ وُجودِ دولةٍ شكليَّةٍ، تَزدادُ عَجزًا عن مَنعِ التَّشظِّي، أو حتَّى مُخاطَبتِه.
وفي لُبْنَانَ، يُمثِّلُ النِّظامُ الطَّائفيُّ أنموذجًا نادِرًا لِدَولةٍ تُدارُ بتَوازُنِ الوَلاءاتِ، لا بِنَاءً على مَفهومِ المُواطَنَةِ، فَصَارَتِ الطَّائفةُ أَقوى مِن الدَّولةِ، والزَّعِيمُ أَقوى مِن القَانونِ.
أمَّا إِيرَانُ، الّتي طالَما ظَهَرَت كقُوَّةٍ إقليميَّةٍ مُتماسِكَةٍ، فإنَّها تَحتَوِي في جَوفِها قَنابِلَ هُويَّاتيَّةٍ، مِن الفُرسِ إلى الأَكرادِ، إلى الأذريِّينَ، إلى البَلُوشِ والعَرَبِ، وكلُّ قَوميَّةٍ تَحمِلُ في صَدرِها ذاكرةً تاريخيَّةً لم تُصفَّ بَعدُ.
إنَّنا لا نَعيشُ مُجرَّدَ أزَمَةِ حُكمٍ أو نِظامٍ سِياسيٍّ، بل نَعيشُ أزَمَةَ مَفهومِ الدَّوْلَةِ نَفْسِها.
فما لم تَكن الدَّولةُ قادِرَةً على حَملِ كلِّ أبنائِها، والاعتِرافِ بِهِم لا كأقليّاتٍ بل كفَاعلينَ مُكوِّنينَ، فإنَّها تَفقِدُ مَشروعِيَّتَها، وتَتحوَّلُ إلى جِهازِ سَيطرةٍ، لا وَطَنٍ للجَميعِ.
المبحثُ الثَّالِثُ: الهُوِيَّاتُ الدِّينِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ – ضَحَايَا التَّفَكُّكِ؟
فِي خِضَمِّ تَفَكُّكِ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، تَظْهَرُ الهُوِيَّاتُ الدِّينِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ كَأَكْثَرِ المَكَوِّنَاتِ عُرْضَةً لِلتَّهْشِيمِ، لا سِيَّمَا تِلْكَ الَّتِي تُوصَفُ ﺑـ "الأَقَلِّيَّاتِ" ﺑـالمَعْنَى الدِّيمُوغْرَافِيِّ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا التَّارِيخِيُّ، وَمُسَاهَمَتُهَا الحَضَارِيَّةُ، تَجْعَلُهَا أَكْثَرَ قُدُمًا وَثُبُوتًا مِن كِيَانِ الدَّوْلَةِ نَفْسِهَا.
فَالمَكَوِّنُ المَسِيحِيُّ – بِتَشَعُّبَاتِهِ التَّارِيخِيَّةِ: ٱلْآرَامِيُّ ( السُّرْيَانِيُّ)، الآشُورِيُّ، الكِلْدَانِيُّ، الأَرْمَنِيُّ، القِبْطِيُّ، المَارُونِيُّ – لا يَزَالُ يَتَأَرْجَحُ بَيْنَ التَّهْجِيرِ وَالضَّمُورِ، وَبَيْنَ التَّمَسُّكِ بِوَطَنٍ صَارَ يُشْبِهُ الذِّكْرَى أَكْثَرَ مِمَّا يُشْبِهُ الحَقِيقَةَ.
فِي العِرَاقِ، انْخَفَضَ العَدَدُ مِن نِحْوِ مِلْيُونٍ وَنِصْفٍ إِلَى أَقَلَّ مِن خَمْسِمِئَةِ أَلْفٍ فِي عَقْدَيْنِ فَقَطْ. وَفِي سُورِيَا، تَفَرَّقَ السُّرْيَانُ وَالمَارُونَةُ وَالآشُورِيُّونَ فِي أَرْجَاءِ الأُرُوبِيَّتَيْنِ وَأَمِيرِكَا وَأُسْتُرَالِيَا. وَفِي لُبْنَانَ، تَتَرَاجَعُ القُوَّةُ الدِّينِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ لِلمَارُونِيِّينَ بِفِعْلِ الهِجْرَةِ وَالتَّقَاطُبِ الطَّائِفِيِّ.
وَلَيْسَ المَكَوِّنُ المَسِيحِيُّ وَحْدَهُ مَن يَتَأَثَّرُ. الإِيزِيدِيُّونَ، وَالدُّرُوزُ، وَالصَّابِئَةُ، وَالأَقَلِّيَّاتُ القَوْمِيَّةُ – مِن تُرْكْمَانٍ، وشيشان، وشركس،وَكُرْدٍ، وَبَلُوشٍ، وَأَرْمَنٍ – كُلُّهَا تَقَعُ بَيْنَ فَكَّيْ رُحَى: هُوِيَّةٍ مَكْنُوسَةٍ، وَدَوْلَةٍ تَتَقَشَّفُ حَتَّى فِي تَعْرِيفِ نَفْسِهَا.
إِنَّ تَفَكُّكَ الدَّوْلَةِ يُؤَدِّي – بِحُكْمِ الفِعْلِ وَالنَّتِيجَةِ – إِلَى إِسْقَاطِ الحِمَايَةِ القَانُونِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ عَنِ الفِئَاتِ الأَضْعَفِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الفِئَاتُ مُمْتَلِكَةً لِذَاتِهَا، وَقَادِرَةً عَلَى التَّنْظِيمِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّهَا تَتَآكَلُ فِي زَمَنِ النِّسْيَانِ وَالإِقْصَاءِ.
وَلِذَلِكَ، تَبْقَى الهُوِيَّاتُ الدِّينِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ ضَرُورَةً، لَا عَارًا، فَهِيَ سُؤَالُ الذَّاتِ وَالمَعْنَى، وَلَيْسَتْ تَمَائِمَ تُلْقَى فِي طُرُقَاتِ العَصْرَنَةِ.
المبحثُ الرّابِعُ: هَلِ التَّفَكُّكُ نِهَايَةٌ أَمْ إِمْكَانٌ لِإِعَادَةِ التَّأْسِيسِ؟
يَبْدُو التَّفَكُّكُ، فِي مَنْطِقِ الحِسِّ المُشْتَرَكِ، كَارِثَةً. وَيُظَنُّ أَنَّهُ نِهَايَةُ المَشَارِيعِ، وَسُقُوطُ الأَحْلَامِ، وَوَفَاةُ الدُّوَلِ. وَلَكِنْ، مَاذَا لَوْ نَظَرْنَا إِلَيْهِ كـ فُرْصَةٍ نَادِرَةٍ لِلتَّرَاجُعِ النَّقْدِيِّ، وَإِعَادَةِ التَّصَوُّرِ، وَالتَّأْسِيسِ عَلَى أُسُسٍ جَدِيدَةٍ؟
فَقَدْ تَكُونُ الدَّوْلَةُ القَوْمِيَّةُ – بِصِيَغَتِهَا المُسْتَوْرَدَةِ – قَالبًا مَفْرُوضًا لَا يُنَاسِبُ تَعْقِيدَ الهُوِيَّاتِ وَالتَّارِيخِ فِي الشَّرْقِ. وَقَدْ يَكُونُ تَفَكُّكُهَا، بِمَا يَحْمِلُهُ مِن أَلَمٍ، مُقَدِّمَةً لِمُفَاهِيمَ أَعْمَقَ: كَالـتَّعَايُشِ التَّعَاقُدِيِّ، وَالمُواطَنَةِ المُسْتَنِيرَةِ، وَاللاّمَرْكَزِيَّةِ العَادِلَةِ.
لَا نَحْتَاجُ إِلَى دُوَلٍ أَقْوَى، بِلْ إِلَى دُوَلٍ أَعْدَلَ. لَا نَحْتَاجُ إِلَى حُدُودٍ صَلْبَةٍ، بِلْ إِلَى وِعَاءٍ وَطَنِيٍّ يَتَّسِعُ لِكُلِّ أَطْيَافِهِ. وَقَدْ تُسَاعِدُنَا التِّقْنِيَاتُ الجَدِيدَةُ، وَوَعْيُ الأَجْيَالِ الصَّاعِدَةِ، فِي تَشْيِيدِ نَمُوذَجٍ شَرْقِيٍّ خَاصٍّ لِلدَّوْلَةِ، لَا يُقَلِّدُ الغَرْبَ، وَلَا يَسْجُنُ نَفْسَهُ فِي أَشْبَاحِ المَاضِي.
إِنَّنِي – وَأَنَا أَكْتُبُ – لَا أَتَكَلَّمُ بِاسْمِ فِئَةٍ، وَلَا أَتَغَنَّى بِهُوِيَّةٍ. بَلْ أَكْتُبُ لِصَالِحِ الشَّرْقِ، وَلِضَمِيرِهِ المُثْقَلِ. فَهَذِهِ المَخَاضَاتُ الَّتِي نَعِيشُهَا، قَدْ تَكُونُ آلامَ وِلَادَةٍ، وَلَيْسَتْ صَرَخَاتِ مَوْتٍ.
هَلْ نَجْرُؤُ عَلَى تَصَوُّرِ أَوْطَانٍ، لَا تُبْنَى عَلَى الطَّائِفَةِ، وَلَا تُصَاغُ عَلَى مَقَاسِ الحِزْبِ، بَلْ عَلَى مِقْيَاسِ الإِنْسَانِ؟
هَلْ نَجْرُؤُ عَلَى إِعَادَةِ السُّؤَالِ مِن جَدِيدٍ: مَا الوَطَنُ؟ وَمَنْ نَكُونُ فِيهِ؟
الخاتمةُ:
لَيْسَ هَذَا المَقَالُ صَرْخَةً فِي فَلَكٍ، وَلَا مَنَاحَةً عَلَى مَاضٍ لَنْ يَعُودَ، وَلَا نُبُوءَةً فِي زَمَنِ الرُّؤَى المُضَلِّلَةِ. بَلْ هُوَ مُحَاوَلَةٌ لِفَهْمِ مَا يَجْرِي، وَقِرَاءَةُ مَا يُكْتَبُ بِالأَلَمِ عَلَى جِدَارِ الشَّرْقِ.
فَالدَّوْلَةُ القَوْمِيَّةُ، الَّتِي بَنَيْنَاهَا عَلَى رَمْلِ التَّقَاسِيمِ وَالتَّبَعِيَّةِ وَالإِقْصَاءِ، لَمْ تَصْمُدْ. وَالهُوِيَّاتُ الَّتِي طُمِسَتْ، عَادَتْ تُطَالِبُ بِالظُّهُورِ، أَوْ بِالهِجْرَةِ.
وَبَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، يَبْقَى السُّؤَالُ مُلِحًّا: هَلْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُعِيدَ تَصَوُّرَ الوَطَنِ، لَا كَحُدُودٍ، بَلْ كَـ مَعْنًى؟
هَلْ نَقْوَى عَلَى تَأْسِيسِ دُوَلٍ تَعْتَرِفُ بِكُلِّ أَبْنَائِهَا، بِلَا مَنٍّ وَلَا إِذْلالٍ، وَتَضُمُّهُمْ جَمِيعًا فِي ظِلِّ المَوَاطَنَةِ وَالعَدَالَةِ وَالمُسَاوَاةِ؟
إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلهُوِيَّاتِ أَنْ تَبْقَى عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ، إِلَّا إِذَا صَارَت جُزْءًا مِن مَشْرُوعٍ وَطَنِيٍّ أَكْبَرَ، يَضْمَنُ لَهَا الكَرَامَةَ، وَيُسَاهِمُ فِي نُمُوِّهَا. وَإِلَّا، فَسَتَكُونُ الأَسْمَاءُ وَالأَعْلَامُ، مَجَرَّدَ فُصُولٍ فِي كِتَابِ الأَسَى الشَّرْقِيِّ المُسْتَمِرِّ.
هَذِهِ الأَسْئِلَةُ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِجَابَاتٍ قَاطِعَةً اليَوْمَ، فَهِيَ تُوَجِّهُنَا نَحْوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَدًا.
وَالغَدُ – مَهْمَا بَدَا مُظْلِمًا – هُوَ نَتِيجَةُ مَا نَزْرَعُهُ الْيَوْمَ: فِكْرًا، وَحِوَارًا، وَإِيمَانًا بِأَنَّ الوَطَنَ الحَقِيقِيَّ، هُوَ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّسِعَ لِلْكُلِّ، بِلَا قَصْرٍ وَلَا قَبْرٍ.
الكَاتِب: المُدَرِّس إِسْحَق قَوْمِي
١٠ تَمُّوز / يُولْيُو ٢٠٢٥م – أَلْمَانْيَا



#اسحق_قومي (هاشتاغ)       Ishak_Alkomi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَشْرُوعُ رُؤْيَةٍ لِسُورِيَّةَ وَالأُمَّةِ السُّورِيَّةِ يُ ...
- اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ: حِينَ تَعْجَزُ الْكَلِمَات ...
- إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟
- قِرَاءَةٌ فِي المَفَاهِيمِ القَوْمِيَّةِ لِشُعُوبِ الشَّرْقِ ...
- كيفَ نَشَأَ حَيُّ تَلِّ حَجَرٍ بِالحَسَكَةِ؟!
- المَشرِق بينَ المَوروثِ والحُرِّيَّةِ: تأمُّلاتٌ في الإنسانِ ...
- نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ أَرِسْطُو قِرَاءَةٌ نَقْدِيّ ...
- أيُّها الباحثونَ المشرقيُّون، لا تُغالوا في آرائِكُم، لا قَو ...
- عنوان البحث: أَصْلُ الْيَهُودِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ الدِّينِي ...
- قِراءَةٌ جَديدَةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ وَنَقْدِيَّةٌ بِشَأْنِ مُؤْ ...
- مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَ ...
- عشْتَارُ الفُصُولِ: ١١٦٥٩ . لَ ...
- عشتار الفصول:11655كيف نصل لدولة المواطنة في الشرق الأوسط؟
- عشتار الفصول: 11651سوريةُ ليستْ مِلْكًا لأيِّ مكوِّنٍ دينيٍّ ...
- ملحمة شعرية بعنوان:أسئلة لها جواب
- المؤتمر الآشوري العالمي القادم في يريفان في 26 نيسان القادم
- إِزْدِوَاجِيَّةُ الْمَعَايِيرِ لَدَى أَغْلَبِ أَبْنَاءِ الشّ ...
- عشتارُ الفصولِ: ١٢٢٥١ قرَاءات بحثية ...
- أناشيد لبحرٍ غير موجود
- سوريا: أصلُ التَّسميةِ، مِن أين؟


المزيد.....




- وفاة الرئيس النيجيري السابق محمد بخاري عن عمر يناهز 82 عامًا ...
- تايلاند تحتفل بـ-مو دينغ-: أصغر فرس نهر قزم يشعل الأجواء في ...
- هل تقبل -قسد- باندماج كامل في الجيش السوري أم تخاطر بمواجهة ...
- السبب وراء تفجّر المواجهات المسلحة بين الدروز والبدو في السو ...
- ما وراء الخبر.. دمشق و-قسد- تباطؤ في تنفيذ اتفاق مارس
- الاحتلال ينقذ متعاونين بعد تفجير منزل جنوب القطاع
- تحقيق للشيوخ الأميركي: انهيار أمني وإخفاقات لا تغتفر وراء مح ...
- هل انتهى عهد رمز القوة البحرية الروسية -الأدميرال كوزنيتسوف- ...
- رفيق القائد الضيف يكشف تفاصيل جديدة عن حياته ومسيرته
- الاتحاد الأوروبي يطالب الصين بإجراءات مناخية أكثر طموحا


المزيد.....

- اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات / رشيد غويلب
- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - تَفَكُّكُ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، وَمَصِيرُ الهُوِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ فِيهِ