أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ في الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ















المزيد.....



الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ في الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ


اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.

(Ishak Alkomi)


الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 11:05
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


المقدمة
المَحَاوِرُ الرَّئِيسَةُ لِلبَحثِ
الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَدْخَلٌ مَفْهُومِيٌّ وَنَظَرِيٌّ
تَعْرِيفُ مَفْهُومِ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ.
العَلَاقَةُ بَيْنَ الأَنْطُولوجيَا وَالإِبسْتِمولوجيَا وَالأَكسِيولوجيَا.
جُذُورُ المَسْأَلَةِ فِي الفِكرِ الفَلسَفِيِّ العَامِّ.
الفَصْلُ الثَّانِي: الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ اليُونَانِيَّةِ
عِندَ بَارْمِينِيدِس وَهِيرَاقْلِيطِس: الصَّيْرُورَةُ وَالثَّبَاتُ.
عِندَ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ: المَعرِفَةُ كَتَذَكُّرٍ وَكَشْفٍ عَنِ المُثُلِ.
عِندَ أَرِسْطُو: العَقلُ الفَعَّالُ وَالمَقُولَاتُ كَحُدُودٍ لِلمَعرِفَةِ.
أَثَرُ الرِّيَاضِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ فِي تَصَوُّرِ الحَقِيقَةِ.
الفَصْلُ الثَّالِثُ: الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ الهِيلِينِسْتِيَّةِ وَالرِّوَاقِيَّةِ
تَطَوُّرُ مَفْهُومِ العَقلِ الكُلِّيِّ (اللُّوجُوس).
العَلَاقَةُ بَيْنَ الأَخْلَاقِ وَالمَعرِفَةِ عِندَ الرِّوَاقِيِّينَ.
حُضُورُ القِيَمِ فِي تَحْدِيدِ المَعرِفَةِ الصَّائِبَةِ.
الفَصْلُ الرَّابِعُ: الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ الإِسْلَامِيَّةِ الوَسِيطَةِ
الفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا: تَلَازُمُ الوُجُودِ وَالعَقلِ وَالمَعرِفَةِ.
الغَزَالِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ: صِرَاعُ الكَشْفِ وَالعَقلِ وَالبُرهَانِ.
تَوْحِيدُ المَعرِفَةِ وَالقِيَمِ فِي الرُّؤْيَةِ الكَوْنِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ.
الفَصْلُ الخَامِسُ: الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ المَدرَسِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ
أُوغُسْطِينُ: المَعرِفَةُ نُورٌ إِلَهِيٌّ.
تُومَا الأَكْوِينِيُّ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ العَقلِ وَالإِيمَانِ.
أَثَرُ التَّصَوُّرَاتِ اللَّاهُوتِيَّةِ فِي بِنَاءِ هُوِيَّةِ المَعرِفَةِ.
الفَصْلُ السَّادِسُ: نَحْوَ أُفُقِ الحَدَاثَةِ
أَزْمَةُ المِيتَافِيزِيقَا التَّقْلِيدِيَّةِ.
بَدَايَاتُ الاِنفِصَالِ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيَمِ.
مِنْ كَانْتَ إِلَى دِيكَارْتَ: العَقلُ كَأَسَاسٍ جَدِيدٍ لِلهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ.
تَمْهِيدٌ لِتَكَوُّنِ فَلسَفَةِ العِلمِ الحَدِيثَةِ.
الفصل السابع:البُعدُ التربويُّ للهُويّةِ المَعرفيّةِ في الفلسفاتِ ما قبلَ الحداثة
الخَاتِمَة
فِي خِتَامِ هذَا البَحثِ، يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ الهُوِيَّةَ المَعرِفِيَّةَ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ اتَّسَمَتْ بِوَحدَةِ الثَّلَاثِيِّ الفَلسَفِيِّ: الوُجُودِ وَالمَعرِفَةِ وَالقِيمِ، وَإِنَّ تَفَكُّكَهَا فِي العَصْرِ الحَدِيثِ أَدَّى إِلَى وُجُودِ فَلسَفَةِ عِلمٍ مُسْتَقِلَّةٍ، لَكِنَّهَا فَقَدَتْ تَرَابُطَهَا الأَنْطُولوجِيَّ وَالأَخْلَاقِيَّ.
إِنَّ القِرَاءَةَ التَّارِيخِيَّةَ لِهَذِهِ الهُوِيَّةِ تُفْضِي إِلَى التَّأَمُّلِ فِي الحَاجَةِ إِلَى إِعَادَةِ الوَصْلِ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيمِ وَالوُجُودِ، لِكَي يَسْتَعِيدَ العَقْلُ الإِنسَانِيُّ تَوَازُنَهُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَعْنَى.
المراجع


البَاحِثُ: إِسْحَق قَوْمِي
دِمَشق – ١٩٧٦م – تجديد عام 2025م


المُقَدِّمَة
لَيْسَ الفِكرُ الفَلسَفِيُّ فِي جَوْهَرِهِ إِلَّا سَعْيًا دَائِمًا نَحْوَ فَهْمِ العَالَمِ وَالمَعْنَى الَّذِي يُحْدِقُ بِالوُجُودِ الإِنسَانِيِّ؛ فَهُوَ تَسَاؤُلٌ عَنِ الكَينُونَةِ، وَالبَحْثُ فِي أُسُسِ المَعرِفَةِ، وَتَأَمُّلٌ فِي القِيمِ الَّتِي تُوَجِّهُ السُّلُوكَ وَالمَعْرِفَةَ عَلَى السَّوَاءِ. وَفِي هذِهِ الثَّلَاثِيَّةِ الكُبرى ـ الأَنْطُولوجِيَا وَالإِبسْتِمولُوجِيَا وَالأَكسِيُولوجِيَا ـ تَتَكَوَّنُ هُوِيَّةُ الفِكرِ الفَلسَفِيِّ وَتَتَجَلَّى مَعَالِمُ المَعرِفَةِ الإِنسَانِيَّةِ.
منذ البدايات الأولى للتفكير الإنساني، كانت الأسئلةُ الكبرى تدور حول مَن نَحن؟ ومَا الحَقِيقَةُ؟ وكيفَ نَعرِفُهَا؟. فَالفَلسَفَةُ الإِغْرِيقِيَّةُ، مَعَ طاليس وأنكسيمندر وأنكسيمانس، جَعَلَتِ الطَّبِيعَةَ مَوضُوعًا لِلتَّسَاؤُلِ، وَحِينَ جَاءَ هَيرَاقْلِيطُس وَبَارْمِينِيدِس، تَقَابَلَ فِيهَا مَفهُومَا الصَّيْرُورَةِ وَالثَّبَاتِ. ثُمَّ تَجَسَّدَ البَحثُ المَعرِفِيُّ فِي أَوجِهِ مَعَ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو، حَيْثُ تَرَكَزَ التَّفْكِيرُ حَوْلَ الحَقِيقَةِ وَالعَقلِ وَالمُثُلِ، وَانْفَتَحَتِ الفَلسَفَةُ عَلَى البُعدِ المَعرِفِيِّ كَسَبِيلٍ لِلوُصُولِ إِلَى المَعْرِفَةِ اليَقِينِيَّةِ.
ثُمَّ جَاءَتِ العُصُورُ الهِيلِينِسْتِيَّةُ وَالمَدرَسِيَّةُ، فَتَرَكَّزَ الفِكرُ عَلَى العَقلِ الكُلِّيِّ (اللُّوجُوس) وَعَلَى تَوَافُقِ العَقلِ وَالإِيمَانِ، حَتَّى غَدَتِ المَعرِفَةُ مَقرُونَةً بِالنُّورِ الإِلَهِيِّ عِندَ أُوغُسْطِين، وَبِالبُرهَانِ وَالعَقلِ الطَّبِيعِيِّ عِندَ تُومَا الأَكْوِينِي. وَفِي العَصرِ الإِسْلَامِيِّ الوَسِيطِ، اتَّخَذَتِ المَعرِفَةُ طَابِعًا مُتَفَرِّدًا، إِذْ وَحَّدَ الفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَابْنُ رُشْدٍ بَيْنَ العَقْلِ وَالوَحْيِ، فَصَارَتِ الحَقِيقَةُ عَندَهُم مَرْكَزَ التَّقَاطُعِ بَيْنَ المَوجُودِ وَالمَعْرُوفِ وَالمَحْمُودِ.
وَقَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ الفَلسَفَةُ مَرحَلَةَ الحَدَاثَةِ، كَانَتِ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ تَتَمَيَّزُ بِوَحدَةِ الثَّلَاثِيَّةِ الفَلسَفِيَّةِ؛ فَالمَعرِفَةُ لَمْ تَكُنْ بَعدُ عِلْمًا مُستَقِلًّا عَنِ الأَنْطُولوجِيَا أَوِ الأَكسِيُولوجِيَا، بَلْ كَانَتْ مَشْدُودَةً إِلَى سُؤالِ المَعْنَى وَالغَايَةِ. إِنَّهَا مَعرِفَةٌ تَسْتَقِي مَعْنَاهَا مِنَ المَوجُودِ وَتُسْنِدُ قِيمَتَهَا إِلَى الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالجَمَالِ.
مِنْ هُنَا جَاءَتِ غَايَةُ هذَا البَحثِ، وَهِيَ تَسْلِيطُ الضَّوْءِ عَلَى مَعَالِمِ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ فِي الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ، وَالكَشْفُ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَشَكُّلِهَا وَتَدَاخُلِهَا مَعَ نَظَرِيَّتَيِ الوُجُودِ وَالقِيمِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فَهْمُ المَعرِفَةِ فِي مَجَالِهَا التَّارِيخِيِّ وَالفِكرِيِّ دُونَ وَعْيٍ بِجُذُورِهَا الأَنْطُولوجِيَّةِ وَالقِيمِيَّةِ.
أَمَّا أَهْدَافُ البَحثِ فَتَتَمَثَّلُ فِي:
١. تَحْلِيلِ مَفهُومِ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ وَتَبْيِينِ عَلاقَتِهِ بِالمَفَاهِيمِ الفَلسَفِيَّةِ الأُخرَى.
٢. تَتَبُّعِ تَطَوُّرِ المَعرِفَةِ مِنَ الفِكرِ اليُونَانِيِّ إِلَى الفِكرِ الوَسِيطِ.
٣. الكَشْفِ عَنِ التَّداخُلِ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيمِ وَالوُجُودِ فِي الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ.
٤. التَّمْهِيدِ لِفَهْمِ كَيْفَ أَدَّى تَفَكُّكُ هذِهِ الوَحدَةِ إِلَى تَشَكُّلِ فَلسَفَةِ العِلمِ الحَدِيثَةِ.
وَلِبُلُوغِ هذِهِ الغَايَاتِ، يَعْتَمِدُ البَحثُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ المَنَاهِجِ:
المَنْهَجِ التَّارِيخِيِّ-المُقَارِنِ لِمُتَابَعَةِ تَطَوُّرِ الأَفْكَارِ فِي تَعَاقُبِ المَرَاحِلِ الفِكرِيَّةِ.
المَنْهَجِ التَّحْلِيلِيِّ-النَّقْدِيِّ لِدِرَاسَةِ النُّصُوصِ الفَلسَفِيَّةِ وَتَفْكِيكِ مَقُولَاتِهَا.
المَنْهَجِ التَّأْوِيلِيِّ (الهِرمِنيوطِيقِيِّ) لِفَهْمِ المَعَانِي فِي سِيَاقِهَا التَّارِيخِيِّ وَالرُّوحِيِّ.
وَأَخِيرًا المَنْهَجِ التَّرْكِيبِيِّ الَّذِي يَرْمِي إِلَى بِنَاءِ صُورَةٍ كُلِّيَّةٍ لِلهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ.
وَهَكَذَا، يَتَخِذُ البَحثُ مَسَارًا يَبْدَأُ بِمَدْخَلٍ نَظَرِيٍّ لِتَحْدِيدِ مَعْنَى الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ، ثُمَّ يَمُرُّ بِالفِكرِ اليُونَانِيِّ وَالهِيلِينِسْتِيِّ وَالإِسْلَامِيِّ وَالمَدرَسِيِّ، حَتَّى يَبْلُغَ بَوَادِرَ الحَدَاثَةِ الَّتِي فَصَلَتِ المَعرِفَةَ عَنِ القِيمِ وَالوُجُودِ. وَفِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ يُحَاوِلُ البَحثُ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفَ تَكَوَّنَتِ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ وَكَيْفَ تَغَيَّرَتْ مَعَالِمُهَا تَدْرِيجِيًّا.
وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ هذِهِ الدِّرَاسَةَ لَا تَقِفُ عِنْدَ سَرْدٍ تَارِيخِيٍّ لِلفِكرِ، بَلْ تُحَاوِلُ أَنْ تُفَكِّرَ الفَلسَفَةَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تَقْرَأَ المَعرِفَةَ فِي ضَوْءِ سُؤَالِ الهُوِيَّةِ، الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ العَقْلِ وَالمَعْنَى وَالقِيمَةِ.
وفي خاتمة هذه المقدّمة، نُؤكِّد أنّ الغاية من هذا البحث ليست مجرّد تأريخٍ للفكر الفلسفيّ، بل سعيٌ لإعادة قراءة التُّراث العقليّ الإنسانيّ في ضوء مفهوم «الهُوِيَّة المَعرِفِيَّة»؛ لِنَتَبَيَّنَ مِن خِلَالِهِ أَنَّ المَعرِفَةَ قَبْلَ الحَدَاثَةِ لَمْ تَكُنْ مَعْزُولَةً عَنِ الوُجُودِ وَلَا مُنْفَصِلَةً عَنِ القِيمِ، بَلْ كَانَتْ تَسْعَى نَحْوَ الحَقِّ فِي اتِّحَادِ المَعْرِفَةِ وَالمَعْنَى. وَبِهذِهِ الرُّؤْيَةِ يَتَحَقَّقُ أَنْ يَكُونَ البَحثُ مُقَدِّمَةً تَفْتَحُ لِلقَارِئِ أُفُقَ الفَهمِ وَالتَّأَمُّلِ، وَتُهَيِّئُهُ لِدُخُولِ الفُصُولِ التَّالِيَةِ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالمَسَارِ الَّذِي سَيَسْلُكُهُ البَحثُ.
الفَصْلُ الأَوَّلُ
المَدْخَلُ المَفْهُومِيُّ وَالنَّظَرِيُّ
١= تَمْهِيدٌ: مَعْنَى -الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ- وَحُدُودُهَا
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ هِيَ البِنْيَةُ المُتَضَافِرَةُ لِمَا يَجْعَلُ المَعرِفَةَ مَعْرِفَةً: مَصَادِرُهَا (العَقْلُ، الحِسُّ، الحَدْسُ)، مَجَالَاتُهَا (الطَّبِيعِيُّ، الرِّيَاضِيُّ، المِيتَافِيزِيقِيُّ، الأَخْلَاقِيُّ)، مَعَايِيرُ صِدْقِهَا (البُرهَانُ، التَّجْرِبَةُ، التَّوافُقُ الدَّاخِلِيُّ)، وَغَايَاتُهَا (الحَقُّ، الخَيْرُ، الجَمَالُ).
وَبِتَعْبِيرٍ آخَرَ: إِذَا سَأَلْنَا كَيْفَ نَعْرِفُ؟ وَمَاذَا نَعْرِفُ؟ وَلِمَاذَا نَعْرِفُ؟ فَإِنَّ مَا يُجِيبُ عَنْ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ مَعًا هُوَ هُوِيَّتُنَا المَعرِفِيَّةُ فِي زَمَانٍ وَحَضَارَةٍ مُعَيَّنَيْنِ.
هَذِهِ الهُوِيَّةُ، فِي الفِكْرِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ، لَا تُفْهَمُ إِلَّا وَهِيَ مَشْدُودَةٌ إِلَى نَظَرِيَّةِ الوُجُودِ وَنَظَرِيَّةِ القِيَمِ؛ إِذْ يَتَحَكَّمُ مَا نَعْتَقِدُهُ فِي مَا هُوَ مَوْجُودٌ بِصُوَرِ مَا نَعْتَقِدُهُ فِي كَيْفَ نَعْرِفُهُ، وَتَتَحَكَّمُ الغَايَةُ القِيْمِيَّةُ فِي وَجْهَةِ البَحْثِ وَمِقْدَارِ تَثْبِيتِهِ.
مِثَالٌ :إِذَا افْتَرَضْنَا مَعَ بَارْمِينِيدِس أَنَّ الوُجُودَ ثَابِتٌ، غَدَتِ المَعرِفَةُ – بالتَّبَعِ – بُرهَانًا عَقْلِيًّا مُنْزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ. وَإِذَا افْتَرَضْنَا مَعَ هِيرَاقْلِيطُس أَنَّ الوُجُودَ صَيْرُورَةٌ، صَارَتِ المَعرِفَةُ تَفَاعُلًا حَيًّا مَعَ تَغَيُّرِ الأَشْيَاءِ وَمَوَاقِفِهَا.
٢=العَلَاقَةُ البِنْيَوِيَّةُ بَيْنَ الأَنْطُولُوجِيَا وَالإِبِسْتِمُولُوجِيَا وَالأَكْسِيُولُوجِيَا
تُؤَسِّسُ الأَنْطُولُوجِيَا (نَظَرِيَّةُ الوُجُودِ) أُفُقَ المُمْكِنِ المَعرِفِيِّ: مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ أَصْلًا؟ وَتُحَدِّدُ الإِبِسْتِمُولُوجِيَا (نَظَرِيَّةُ المَعرِفَةِ) أَدَوَاتِ الاكْتِسَابِ وَمَعَايِيرَ الصِّدْقِ. أَمَّا الأَكْسِيُولُوجِيَا (نَظَرِيَّةُ القِيَمِ) فَتُحَدِّدُ مَقَاصِدَ المَعرِفَةِ وَوَجْهَتَهَا: لِمَاذَا نَبْحَثُ؟ وَفِيمَ نُسَخِّرُ العِلْمَ؟
وفِي مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ، كَانَتِ الثَّلَاثِيَّةُ مُتَعَاضِدَةً: الحَقُّ (مِعْيَارًا لِلصِّدْقِ)، الخَيْرُ (غَايَةً أَخْلَاقِيَّةً)، الجَمَالُ (قِيمَةً نِسْقِيَّةً وَكَمَالًا شَكْلِيًّا). لِذَا، لَا نَجِدُ مَعْرِفَةً .صِرْفًا. بِلَا مَعْنًى قِيمِيٍّ، وَلَا قِيمًا مُنْفَصِلَةً عَن تَصَوُّرٍ مَا لِلحَقِيقَةِ.
مِثَالٌ مُوَصَّلٌ: عِنْدَ أَفْلَاطُونَ، يَفْرِضُ أُفُقُ :المُثُلِ (أَنْطُولُوجِيًّا) أَنْ تَكُونَ المَعرِفَةُ عَقْلِيَّةً تَذَكُّرِيَّةً (إِبِسْتِمُولُوجِيًّا)، وَأَنْ يَتَّحِدَ الحَقُّ وَالخَيْرُ وَالجَمَالُ (أَكْسِيُولُوجِيًّا). أَمَّا عِنْدَ أَرِسْطُو، فَتَرْكَبُ المَعرِفَةُ سُلَّمًا من الحِسِّ إلى العَقْلِ؛ إِذِ الكُلِّيَّاتُ تُسْتَخْلَصُ مِنَ الجُزْئِيَّاتِ، وَمِعْيَارُ الصِّدْقِ هُوَ البُرهَانُ، وَالغَايَةُ قِيمَةُ المَعْقُولِيَّةِ وَالاتِّسَاقِ.
٣= المَصَادِرُ الكُبْرَى لِلمَعرِفَةِ: العَقْلُ وَالحِسُّ وَالحَدْسُ
العَقْلُ: مَصْدَرُ الضَّرُورَاتِ وَالمَبَادِئِ الأُولَى. يُمَثِّلُهُ أَفْلَاطُونُ وَالمَدْرَسِيُّونَ فِي تَقْدِيمِ القَوَاعِدِ الكُلِّيَّةِ.
الحِسُّ وَالتَّجْرِبَةُ: مَنْبَعُ الاِسْتِقْرَاءِ وَتَثْبِيتِ القَضَايَا الجُزْئِيَّةِ. يُنَاصِرُهُ أَرِسْطُو، ثُمَّ يَتَطَوَّرُ عِنْدَ العُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ فِي الطِّبِّ وَالبَصْرِيَّاتِ.
الحَدْسُ وَالكَشْفُ: مَسِيرَةٌ ذَوْقِيَّةٌ تُرجِعُ إِلَى نُورٍ بَاطِنٍ؛ حَاضِرَةٌ عِنْدَ أُوغُسْطِين، وَمُؤَصَّلَةٌ عِنْدَ الغَزَالِيِّ.
مِثَالٌ تَطْبِيقِيٌّ (١): فِي العُيُونِ لِـابْنِ الهَيْثَم، تُثْبِتُ التَّجَارِبُ البَصْرِيَّةُ أَنَّ الضَّوْءَ يَنْبَعِثُ مِنَ المَصَادِرِ إِلَى العَيْنِ، لَا مِنَ العَيْنِ إِلَى الأَجْسَامِ؛ هُنَا يَلْتَقِي الحِسُّ المُنْضَبِطُ (تَجْرِبَةٌ)، بِالعَقْلِ البُرهَانِيِّ (نَتِيجَةٌ)، مَعَ غَايَةٍ قِيمِيَّةٍ هِيَ تَصْحِيحُ المَعْرِفَةِ وَتَنْقِيَتُهَا.
مِثَالٌ تَطْبِيقِيٌّ (٢): فِي العَنَاصِرِ لِـأُقْلِيدِس، تُبْنَى الحَقَائِقُ الرِّيَاضِيَّةُ عَلى مُسَلَّمَاتٍ عَقْلِيَّةٍ: هُنَا يَظْهَرُ العَقْلُ مِعْيَارًا، وَتَظْهَرُ قِيمَةُ الإِتْقَانِ الشَّكْلِيِّ وَجَمَالِ البُرهَانِ.
٤= تَحَوُّلُ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ بَيْنَ الحَضَارَاتِ
أ= مِنَ اليُونَانِ إِلَى الهِيلِينِسْتِيَّةِ وَالرِّوَاقَةِ
مَعَ الرِّوَاقِيِّينَ يَبْرُزُ اللُّوجُوسُ كَعَقْلٍ كَوْنِيٍّ يُنَظِّمُ العَالَمَ؛ فَالمَعرِفَةُ اِتِّسَاقٌ مَعَ نِظَامِ الطَّبِيعَةِ، وَالقِيمَةُ الأَخْلَاقِيَّةُ (الفَضِيلَةُ) تَتَحَقَّقُ بِالمُوَافَقَةِ لِلقَدَرِ وَالعَقْلِ الكُلِّيِّ. هُنَا يَتَّحِدُ مَا هُوَ كَائِنٌ (أَنْطُولُوجِيًّا) بِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ (أَكْسِيُولُوجِيًّا)، فَتَتَحَدَّدُ طَبِيعَةُ المَعرِفَةِ (إِبِسْتِمُولُوجِيًّا) بِقَابِلِيَّةِ العَقْلِ لِلتَّوَافُقِ مَعَ هَذَا النِّظَامِ.
ب= الفِكْرُ الإِسْلَامِيُّ الوَسِيطُ
الفَارَابِيُّ: سُلَّمُ المَعرِفَةِ مِنَ الحِسِّ إِلَى الخَيَالِ إِلَى العَقْلِ، حَتَّى الاتِّصَالِ بِـالعَقْلِ الفَعَّالِ؛ لِذَا فَالمَعْرِفَةُ تَرَقٍّ وُجُودِيٌّ.
ابْنُ سِينَا: اتِّحَادُ العَاقِلِ وَالمَعْقُولِ؛ فَالمَعْرِفَةُ صُورَةُ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، وَهِيَ نَمَطٌ مِنَ الوُجُودِ.
الغَزَالِيُّ: تَوْزَانُ البُرهَانِ وَالكَشْفِ؛ فِي المُنْقِذِ يَجْعَلُ نُورَ اليَقِينِ زَائِدًا عَلى الدَّلِيلِ، لَا نَافِيًا لَهُ.
ابْنُ رُشْدٍ: إِعَادَةُ الاِعْتِبَارِ لِلبُرهَانِ الأَرِسْطِيِّ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الحِكْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ؛ فَالحَقُّ لَا يُنَاقِضُ الحَقَّ.
مِثَالٌ مُوَحَّدٌ: فِي الطِّبِّ عِنْدَ ابْنِ النَّفِيسِ (اِكْتِشَافُ الدَّوَرَانِ الرِّئَوِيِّ) نَرَى اِسْتِقْرَاءً تَشْرِيحِيًّا مُنْضَبِطًا (حِسًّا)، وَتَعْقِيلًا لِلمُشَاهَدَةِ (عَقْلًا)، وَغَايَةً قِيمِيَّةً هِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَمَنْفَعَةُ الخَلْقِ.
ج= المَدْرَسِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ
أُوغُسْطِينُ:نُورُ الحَقِّ. يُشْرِقُ فِي النَّفْسِ؛ والمَعرِفَةُ اِسْتِنَارَةٌ، وَالقِيمَةُ مُتَصِلَةٌ بِالمَحَبَّةِ.
تُومَا الأَكْوِينِي: تَحَالُفُ العَقْلِ وَالإِيمَانِ؛ الطَّبِيعَةُ مُنْتَظِمَةٌ يُدْرِكُهَا البُرهَانُ، وَالفَيْضُ الإِلَهِيُّ يُكْمِلُ مَا لَا يَبْلُغُهُ العَقْلُ. هُنَا تُصَاغُ هُوِيَّةٌ مَعرِفِيَّةٌ تُوَفِّقُ بَيْنَ الأُسُسِ الأَنْطُولُوجِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ وَمَعَايِيرِ الصِّدْقِ الأَرِسْطِيَّةِ.
٥= مِعْيَارُ -الحَقِّ- بَيْنَ البُرهَانِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالجَمَالِ النِّسْقِيِّ.
فِي الرِّيَاضِيَّاتِ، يَتَجَلَّى ،الحَقُّ. فِي الاِسْتِلْزَامِ الأَخْلاَقِيِّ لِلبُرهَانِ؛ فَالنَّتِيجَةُ تَلْزَمُ عَنِ المُقَدِّمَاتِ لُزُومًا. وَفِي الطَّبِيعِيَّاتِ، يَتَجَلَّى فِي التَّوَافُقِ مَعَ المُلاحَظَةِ وَإِمْكَانِ الإِعَادَةِ. أمّا -الجَمَالُ النِّسْقِيُّ- فَيَبْرُزُ فِي بَسَاطَةِ الفَرْضِيَّةِ، وَتَنَاظُرِ البِنْيَةِ، وَاِنْسِجَامِ القَوَاعِدِ (مِثْلَ جَمَالِ البِنْيَةِ الأُقْلِيدِيَّةِ، وَتَنَاظُرِ الكُرَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الفَلَكِ القَدِيمِ). هَذِهِ القِيمُ لَمْ تَكُنْ زِينَةً خَارِجِيَّةً، بَلْ دَلِيلًا مِهْنَاتِيًّا لِلعَالِمِ وَالفَيْلَسُوفِ.
مِثَالٌ قِيَمِيٌّ: حِينَ قَبِلَتِ الثَّقَافَةُ الإِغْرِيقِيَّةُ مِحْوَرَ (الاكْتِفَاءِ السَّبَبِيِّ)، صَارَتِ الفُرُوضُ المُعَقَّدَةُ مَرْفُوضَةً إِذا وُجِدَتْ لَهَا بَدَائِلُ أَبْسَطُ تُفَسِّرُ الظَّاهِرَاتِ نَفْسَهَا. هَذِهِ قِيمَةٌ جَمَالِيَّةٌ مَنسُوجَةٌ فِي مِعْيَارِ الحَقِّ.
٦= أمْثِلَةٌ رَابِطَةٌ بَيْنَ المَجَالَاتِ (دِرَاسَاتُ حَالٍ مُخْتَصَرَةٌ)
الدِّرَاسَةُ (أ): أُقْلِيدِسُ – رِيَاضِيَّاتٌ تُؤَسِّسُ مِعْيَارَ العَقْلِ.
البِنَاءُ مِنْ مُسَلَّمَاتٍ وَمُعْطَيَاتٍ يَنْتُجُ عَنْهُ جِسْمٌ مَعْرِفِيٌّ مُغْلَقٌ؛ هُنَا تُصَنِّفُ الأَنْطُولُوجِيَا المَوْجُودَ كَأَشْكَالٍ وَخُطُوطٍ، وَتُقَعْقِعُ الإِبِسْتِمُولُوجِيَا بِالبُرهَانِ، وَتُوَجِّهُ الأَكْسِيُولُوجِيَا الذَّوْقَ نَحْوَ البَسَاطَةِ وَالإِحْكَامِ.
الدِّرَاسَةُ (ب): ابْنُ الهَيْثَم – تَجْرِبَةٌ تُؤَدِّبُ الفِكْرَ.
يُصِرُّ عَلَى الشَّرْطِ التَّجْرِيبِيِّ وَاِخْتِبَارِ الفَرْضِيَّاتِ. الأَنْطُولُوجِيَا: الطَّبِيعَةُ نِظَامٌ قَابِلٌ لِلاِكْتِشَافِ. الإِبِسْتِمُولُوجِيَا: التَّجْرِبَةُ وَالْقِيَاسُ. الأَكْسِيُولُوجِيَا: صِدْقُ البَحْثِ وَأَمَانَةُ المُلاحَظَةِ.
الدِّرَاسَةُ (ج): الغَزَالِيُّ – الكَشْفُ يَكْمُلُ البُرهَانَ.
لَا يَنْقُضُ العَقْلَ، بَلْ يُقِرُّ بِحُدُودِهِ وَيُضِيفُ نُورَ الذَّوْقِ. الأَنْطُولُوجِيَا: الحَقِيقَةُ لَهَا مُسْتَوَيَاتٌ. الإِبِسْتِمُولُوجِيَا: تَعَدُّدُ المَصَادِرِ. الأَكْسِيُولُوجِيَا: تَزْكِيَةُ النَّفْسِ غَايَةٌ لِلمَعرِفَةِ.
٧= خَلْخَلَةُ الوَحْدَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَبَوَادِرُ الاِنفِصَالِ
مَعَ أُواخِرِ العُصُورِ الوَسِيطَةِ تَبْدَأُ وَحْدَةُ (الوُجُودِ–المَعرِفَةِ–القِيمِ) فِي الاهْتِزَازِ: يَتَعَاظَمُ نَجَاحُ الطُّرُقِ التَّجْرِيبِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ، وَتَتَرَسَّخُ مِهْنَنَةُ المَعرِفَةِ (تَخْصِيصُهَا). لَيْسَ هَذَا اِنْقِطَاعًا فُجَائِيًّا، بَلْ تَحَوُّلٌ تَدْرِيجِيٌّ؛ عِنْدَهُ يَتَقَدَّمُ مِعْيَارُ النَّجَاعَةِ وَالتَّنْبُؤِ، وَتَتَحَيَّدُ القِيَمُ عَنِ المِعْيَارِ المَنْهَجِيِّ – تَمْهِيدًا لِمَا سَيَحْدُثُ فِي الحَدَاثَةِ.
٨= مَواقعُ المَفَاهِيمِ: تَعَارِيفُ عَمَلِيَّةٌ وَفُرُوقٌ ضَابِطَةٌ
الأَنْطُولُوجِيَا: نِظَامُ المَوْجُودِ وَأَصْنَافُهُ وَعِلَلُهُ (مَا هُوَ؟ وَلِمَ هُوَ كَذَا؟).
الإِبِسْتِمُولُوجِيَا: نِظَامُ التَّبْرِيرِ وَالاِكْتِسَابِ (كَيْفَ نَعْرِفُ؟ وَمَا مِعْيَارُ الحَقِّ؟).
الأَكْسِيُولُوجِيَا: نِظَامُ الغَايَاتِ وَالمَقَاصِدِ (لِمَاذَا نَبْحَثُ؟ وَفِيمَ نُسَخِّرُ المَعْرِفَةَ؟).
وَبِهَذِهِ الفُرُوقِ يَتَسَاوَى الحَذَرُ مِنَ الخَلْطِ مَعَ الإِقْرَارِ بِالتَّدَاخُلِ: فَالتَّمْيِيزُ لَيْسَ اِنْفِصَالًا، بَلْ أَدَاةٌ لِفَهْمِ الوَحْدَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ.
٩= خُلاصَةُ الفَصْلِ وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ
أَظْهَرَ هذَا المَدْخَلُ أَنَّ الهُوِيَّةَ المَعرِفِيَّةَ قَبْلَ الحَدَاثَةِ قَائِمَةٌ عَلَى تَضَافُرِ ثَلَاثَةِ أَنْظِمَةٍ:
تَصَوُّرٌ لِلمَوْجُودِ يُفْرِضُ أُفُقَ المَعْرِفَةِ، وَمَنْهَجٌ لِلاِكْتِسَابِ يُثْبِتُ صِدْقَهَا، وَغَايَةٌ قِيْمِيَّةٌ تُوَجِّهُ فِعْلَ البَحْثِ وَمَعْنَاهُ. وَقَدْ رَأَيْنَا – بِالأَمْثِلَةِ – كَيْفَ يَتَجَسَّدُ هَذَا التَّضَافُرُ عِنْدَ أَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَالرِّوَاقِيِّينَ، ثُمَّ يَتَخِذُ صِيَغًا أَعْمَقَ عِنْدَ الفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا وَالغَزَالِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ، قَبْلَ أَنْ يَتَشَكَّلَ فِي نَسَقٍ مُوَافِقٍ لِلَّاهُوتِ المَسِيحِيِّ عِنْدَ أُوغُسْطِين وَتُومَا الأَكْوِينِي.
هَذِهِ الخُلاصَةُ تُؤَكِّدُ أَنَّ المَعْرِفَةَ – فِي تِلْكَ العُصُورِ – لَمْ تَكُنْ (مِهْنَةً تِقْنِيَّةً) بَلْ طَرِيقًا لِلحَقِّ يَلْتَئِمُ فِيهِ النَّظَرُ وَالمَعْنَى.
تمهيدٌ للفصلِ الثاني: بَعْدَ تَثْبِيتِ الأُسُسِ المَفْهُومِيَّةِ، سَنَعْبُرُ – فِي الفَصْلِ الثَّانِي – إِلَى الفَلسَفَةِ اليُونَانِيَّةِ لِنُحَلِّلَ بِنْيَةَ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ عِنْدَ بَارْمِينِيدِسَ وَهِيرَاقْلِيطُسَ ثُمَّ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو، مُقَدِّمِينَ نُصُوصًا مِفْتَاحِيَّةً وَأَمْثِلَةً رِيَاضِيَّةً وَطَبِيعِيَّةً تُظْهِرُ كَيْفَ تَتَشَكَّلُ المَصَادِرُ وَالمَعَايِيرُ وَالقِيَمُ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ.
خاتمةُ المَدْخَلِ :
بِهَذِهِ الصِّيَاغَةِ نَكُونُ قَدْ وَضَعْنَا مُقَدِّمَةً مَنْهَجِيَّةً تُعَرِّفُ الهُوِيَّةَ المَعرِفِيَّةَ وَتُبَيِّنُ بِنْيَتَهَا وَتَارِيخَهَا الاِجْمَالِيَّ، وَتَرْسِمُ مَعَالِمَ المَسَارِ الَّذِي سَيَتَّبِعُهُ البَحْثُ: مِنَ اليُونَانِ، فَالهِيلِينِسْتِيَّةِ، فَالفِكْرِ الإِسْلَامِيِّ، فَالمَدْرَسِيَّةِ، حَتَّى عَتَبَاتِ الحَدَاثَةِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِنُصُوصٍ وَأَمْثِلَةٍ تُظْهِرُ تَضَافُرَ الوُجُودِ وَالمَعْرِفَةِ وَالقِيمِ قَبْلَ اِنْقِسَامِهَا الحَدِيثِ.
الفَصْلُ الثَّانِي
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ اليُونَانِيَّةِ
تَمْهِيد.
لَمْ تَنْشَأِ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ اليُونَانِيَّةُ في فَراغٍ؛ بَلْ تَشَكَّلَتْ عَلَى خَلْفِيَّةِ سُؤالَيْنِ كِبَيرين: مَا طَبِيعَةُ الوُجُودِ؟ ومَا طَرِيقُ الحَقِّ؟. وَمِنْ هُنا تَتَزَاوَجُ الأَنْطُولُوجِيَا بِالإِبِسْتِمُولُوجِيَا، فَيُمْلِي تَصَوُّرُ،مَا هُوَ كَائِنٌ. شُرُوطَ .مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، ثُمَّ تَتَدَاخَلُ القِيَمُ لِتُقِيمَ مِعْيَارَ الصِّدْقِ وَالغَايَةِ. وَسَنَمْضِي — وَفْقَ خُطَّتنا — من قِطْبَيْ الصَّيْرُورَةِ وَالثَّبَاتِ، إلى المُثُلِ وَالتَّذَكُّرِ، فَـالعَقلِ الفَعَّالِ وَالمَقُولَاتِ، ثُمَّ نُخْتِمُ بِـأَثَرِ الرِّيَاضِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ في تَصَوُّرِ الحَقِيقَةِ.
(١) عِندَ بَارْمِينِيدِسَ وَهِيرَاقْلِيطِسَ: الصَّيْرُورَةُ وَالثَّبَاتُ
أ= بَارْمِينِيدِسُ: (طَرِيقُ الحَقِّ) وَوَحْدَةُ الوُجُودِ
يُؤَسِّسُ بَارْمِينِيدِسُ هُوِيَّةً مَعرِفِيَّةً قَائِمَةً عَلَى مَسْلَمَةٍ أَنْطُولُوجِيَّةٍ قَاطِعَةٍ:مَا هُوَ — هُوَ، وَمَا لَيْسَ — لَيْسَ. وَمَا لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ لَا يُمْكِنُ التَّفَكُّرُ فِيهِ، فَـلا مَعْرِفَةَ بِالْعَدَمِ. مِنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ يَنْبَنِي طَرِيقَانِ:
طَرِيقُ الحَقِّ (العَقْلُ): يُؤَدِّي إلى الإِقْرَارِ بِثَبَاتِ الوُجُودِ وَوَحْدَتِهِ؛ فَالتَّغَيُّرُ وَالتَّعَدُّدُ وَالصَّيْرُورَةُ مَظَاهِرُ ظَنِّيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا فِي الحَقِيقَةِ.
طَرِيقُ الرَّأْيِ (الحِسُّ): يُوَلِّدُ لَنَا وَهْمَ الكَثْرَةِ وَالتَّغَيُّرِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِتَنَاقُضِهِ.
الأَثَرُ الإِبِسْتِمُولُوجِيُّ: إِذَا كَانَ الوُجُودُ ثَابِتًا مُتَّصِلًا، وَالحَقُّ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالعَقْلِ، فَـالمَعرِفَةُ بُرهَانٌ عَقْلِيٌّ خَالِصٌ يُجَرِّدُ الظَّاهِرَ مِنْ لَوَابِسِهِ الحِسِّيَّةِ. هُنَا تُصبِحُ القِيمَةُ الأَعْلَى لِـ(اللُّزُومِ المَنطِقِيِّ) وَعَدَمِ التَّنَاقُضِ، فَيَغْدُو مِعْيَارُ الحَقِّ اتِّسَاقَ القَوْلِ مَعَ الضَّرُورَةِ العَقْلِيَّةِ.
مِثَالٌ مُوَضِّحٌ: ظَاهِرَةُ -المِيلادِ وَالفَنَاءِ- تُفهَمُ — حِسًّا — كَتَغَيُّرٍ، وَلَكِنَّ بَارْمِينِيدِسَ يَعُدُّهَا تَبَدُّلًا فِي المَظْهَرِ لا فِي مَادَّةِ الوُجُودِ نفسِهِ؛ إِذْ المَوْجُودُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ.
ب= هِيرَاقْلِيطُسُ: النَّهْرُ الَّذِي لَا نَنْزِلُهُ مَرَّتَيْنِ
يَنْقُضُ هِيرَاقْلِيطُسُ الثَّبَاتَ البَارْمِينِيدِيَّ: كُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي .الوُجُودُ صَيْرُورَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَالوَاحِدُ لَا يُدْرَكُ إِلَّا فِي ثُنَائِيَّةِ أَضْدَادٍ تُحافِظُ عَلَى نِظَامِ العَالَمِ (حَرْبٌ/سِلْمٌ، لَيْلٌ/نَهَارٌ...).
الأَثَرُ الإِبِسْتِمُولُوجِيُّ: إِذَا كَانَ الوُجُودُ تَغَيُّرًا، فَالمَعرِفَةُ إِدْرَاكٌ لِلنِّسَبِ وَالتَّوَتُّرِ الَّذِي يُقِيمُهُ (اللُّوجُوسُ) الكَوْنِيُّ بَيْنَ الأَضْدَادِ. هُنَا يَتَقَدَّمُ الانْتِبَاهُ لِلحَرَكَةِ وَتَجَدُّدِ السِّيَاقِ مِعْيَارًا لِلفَهْمِ.
مِثَالٌ مُوَضِّحٌ (نَهْرُ هِيرَاقْلِيطِس): لَا نَنْزِلُ النَّهْرَ مَرَّتَيْنِ؛ لأَنَّ مَاءَهُ يَتَجَدَّدُ، وَأَنْفُسَنَا تَتَغَيَّرُ. فَالمَعْنَى المَعرِفِيُّ: الحَقِيقَةُ مَسَارٌ مُتَّصِلٌ، لا نُقْطَةٌ ثَابِتَةٌ.
ج= تَرْكِيبٌ مُقَارِنٌ
بينَ هَذَيْنِ القُطْبَيْنِ تُرْسَمُ خَارِطَةُ أُفُقِ المُمْكِنِ المَعرِفِيِّ اليُونَانِيِّ: بَارْمِينِيدِسُ يَضَعُ أَصْلَ (الحَقِّ الضَّرُورِيِّ)، وَهِيرَاقْلِيطُسُ يُذَكِّرُ بــالحَرَكَةِ النِّسْبِيَّةِ. وَسَيَرِثُ أَفْلَاطُونُ هَذَا التَّوَتُّرَ فيُحَوِّلُهُ إِلَى نِظَامِ المُثُلِ/المَحْسُوسِ، ثُمَّ يُهَنْدِسُهُ أَرِسْطُو فِي سُلَّمِ الحِسِّ وَالعَقْلِ.
(٢) عِندَ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ: المَعرِفَةُ كَتَذَكُّرٍ وَكَشْفٍ عَنِ المُثُلِ
أ= سُقْرَاطُ: المَعرِفَةُ كَاسْتِيلادَةٍ (مَيْوِتِيكَا)
يَجْعَلُ سُقْرَاطُ المَعرِفَةَ فِعْلًا حِوَارِيًّا: تَوْلِيدُ الحَقِيقَةِ مِنْ نَفْسِ المُتَعَلِّمِ بِالاسْتِفْهَامِ وَالنَّقْضِ. الحِسُّ غَيْرُ كَافٍ لِأَنَّهُ مُتَبَدِّلٌ؛ وَالعَقْلُ — بِالِاسْتِقْصَاءِ — يَكْتَشِفُ التَّعَارِيْفَ الكُلِّيَّةَ (مَا العَدَالَةُ؟ مَا الشَّجَاعَةُ؟).
المَعْنَى العَامّ:عندما يَقولُ سُقْرَاطُ إنَّ المَعْرِفَةَ كَاسْتِيلادَةٍ (مَيْوِتِيكَا)، فَهُوَ يَقْصِدُ أنَّ المَعْرِفَةَ لا تُزْرَعُ في الإِنسَانِ مِنَ الخَارِجِ، بَلْ تُولَدُ مِنْ دَاخِلِهِ، مِثْلَمَا تُولَدُ الطِّفْلُ مِنَ الأُمِّ.
الشَّرْحُ التَّفْصِيلِيّ:كَلِمَةُ «مَيْوِتِيكَا» (maieutike) يُونَانِيَّةُ الأَصْلِ، وَتَعْنِي فَنَّ التَّوْلِيدِ أَوْ فَنَّ القِبَالَةِ.
وَقَدْ شَبَّهَ سُقْرَاطُ نَفْسَهُ بِـ القَابِلَةِ (المَرْأَةِ الَّتِي تُسَاعِدُ النِّسَاءَ فِي الوِلادَةِ)، وَلَكِنَّهُ لَا يُوَلِّدُ أَطْفَالًا، بَلْ يُسَاعِدُ النَّاسَ عَلَى وِلادَةِ أَفْكَارِهِمْ.
بِمَعْنًى آخَرَ: كَانَ سُقْرَاطُ يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ إِنسَانٍ يَحْمِلُ فِي دَاخِلِهِ بُذُورَ المَعْرِفَةِ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى إِخْرَاجِهَا إِلَى النُّورِ، مِنْ خِلَالِ الأَسْئِلَةِ وَالحِوَارِ.
المِعْيَارُ القِيمِيُّ: فَضِيلَةُ النَّفْسِ، فَالمَعْرِفَةُ تَهْدِي إِلَى الصَّلَاحِ.
ب= أَفْلَاطُونُ: المُثُلُ وَنِظَامُ المَعْرِفَةِ
يَقْطَعُ أَفْلَاطُونُ الفَصْلَ النَّظَرِيَّ: عَالَمَانِ؛ المَحْسُوسُ مُتَغَيِّرٌ ظَنِّيٌّ، وَالمُثُلُ ثَابِتٌ مَعْقُولٌ. وَعَلَى هَذَا يَتَرَتَّبُ سُلَّمُ المَعْرِفَةِ: الظَّنُّ ↔ العِلْمُ، الصُّوَرُ ↔ الأَفْكَارُ.
التَّذَكُّرُ (أَنَامْنِيسِس): تَعَلُّمُ الحَقَائِقِ العَقْلِيَّةِ لَيْسَ اِكْتِسَابًا مِنَ الحِسِّ، بَلْ اِسْتِذْكَارٌ لِمَا رَأَتْهُ النَّفْسُ قَبْلَ التَّجَسُّدِ.
مَثَلُ الكَهْفِ وَالخَطِّ المُنْقَسِمِ: يَرْسُمَانِ سُلَّمًا مِنَ الظِّلَالِ إلى الشَّمْسِ (صُورَةُ ،الخَيْرِ)، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ البَصَرُ إلى بَصِيرَةٍ.
الأَثَرُ الإِبِسْتِمُولُوجِيُّ: المَعْرِفَةُ الحَقَّةُ عَقْلِيَّةٌ، بُرهَانِيَّةٌ، قِيَمِيَّةٌ؛ لِأنَّ مِثَالَ .الخَيْرِ. يَمْنَحُ المَعْرِفَةَ مَعْنَاهَا وَغَايَتَهَا.
الأَثَرُ الأَنْطُولُوجِيُّ: الثَّابِتُ (المُثُلُ) يَضْبُطُ المُتَغَيِّرَ (المَحْسُوسَ)، فَتَثْبُتُ مِعْيَارِيَّةُ العَقْلِ.
مِثَالٌ رِيَاضِيٌّ مُوَضِّحٌ: حَقِيقَةُ الثُّلَاثِيِّ القَوَائِمِ لَا تَتَوَقَّفُ على مُشَاهَدَةِ مُثَلَّثٍ مُعَيَّنٍ؛ بَلْ تُدْرَكُ كَـمِثَالٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِقْيَاسُ كُلِّ مُشَاهَدَةٍ.
(٣) عِندَ أَرِسْطُو: العَقلُ الفَعَّالُ وَالمَقُولَاتُ كَحُدُودٍ لِلمَعْرِفَةِ
أ= مِنَ الحِسِّ إلى العَقْلِ: سُلَّمُ الاِسْتِقْرَاءِ وَالبُرهَانِ
يَرْفُضُ أَرِسْطُو قَطِيعَةَ العَالَمَيْنِ؛ فَالمَعْرِفَةُ تَبْدَأُ بِالحِسِّ (صُوَرٌ مُتَشَكِّلَةٌ فِي الخَيَالِ)، ثُمَّ يَقُومُ العَقْلُ المُنْفَعِلُ بِتَجْرِيدِ الكُلِّيِّ مِنَ الجُزْئِيِّ، وَيُنِيرُهُ العَقْلُ الفَعَّالُ — كَمَبْدَأ تَعْقِيلٍ — لِتُصْبِحَ المَاهِيَّاتُ مَعْقُولَةً.
فِي الأُرْجُوزَةِ الثَّانِيَةِ (الأَنَالِيتِيكَا البَعْدِيَّةِ)، يُعَرِّفُ العِلْمَ أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ بُرهَانِيَّةٌ بِالعِلَلِ الأُولى، تُسْتَخْرَجُ نَتَائِجُهَا مِنْ مَبَادِئَ صَادِقَةٍ، بَدِيهِيَّةٍ، أَوْ مُسْتَقَاةٍ بِالاِسْتِقْرَاءِ.وللتوضيح:
الأَنَالِيتِيكَا البَعْدِيَّةُ هِيَ تَعْبِيرٌ يُونَانِيٌّ الأَصْلِ، اسْتَخْدَمَهُ أَرِسْطُو عُنْوَانًا لِأَحَدِ كُتُبِهِ الفَلْسَفِيَّةِ، وَيُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ أَيْضًا بِاسْمِ البُرْهَانِ.
وَالمُرَادُ مِنَ الأَنَالِيتِيكَا البَعْدِيَّةِ هُوَ دِرَاسَةُ المَعْرِفَةِ العِلْمِيَّةِ، وَالبَحْثُ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُمْكِنُ بِهَا الوُصُولُ إِلَى الحَقَائِقِ اليَقِينِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ البُرْهَانِ العَقْلِيِّ.
فَهِيَ تُعْنَى بِكَيْفِيَّةِ تَكْوِينِ المَعْرِفَةِ اليَقِينِيَّةِ، وَبِتَرْكِيبِ القِيَاسِ البُرْهَانِيِّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى العِلْمِ وَالفَهْمِ الحَقِيقِيِّ.
تَوْضِيحُ المَعْنَى:
كَلِمَةُ أَنَالِيتِيكَا تُفِيدُ التَّحْلِيلَ أَوِ البَحْثَ التَّحْلِيلِيَّ، أَمَّا كَلِمَةُ البَعْدِيَّةُ فَهِيَ نِسْبَةٌ إِلَى البَعْدِ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الكِتَابَ يَأْتِي بَعْدَ الأَنَالِيتِيكَا القَبْلِيَّةِ الَّتِي بَحَثَ فِيهَا أَرِسْطُو فِي صُوَرِ القِيَاسِ المَنْطِقِيِّ وَقَوَانِينِ التَّفْكِيرِ.
أَمَّا الأَنَالِيتِيكَا البَعْدِيَّةُ فَتَتَنَاوَلُ المَضَامِينَ المَعْرِفِيَّةَ، وَتَبْحَثُ فِي أُسُسِ البُرْهَانِ وَطُرُقِ الوُصُولِ إِلَى العِلْمِ اليَقِينِيِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ وَالحُجَّةِ المَنْطِقِيَّةِ.
ب: المَقُولَاتُ وَحُدُودُ القَوْلِ
يَجْعَلُ كتابُ المَقُولَاتِ أَفْقًا لِمَا يُقَالُ عَلَى المَوْجُودِ: الجَوْهَرُ، الكَمّ، الكَيْفُ، الأَيْنُ، المَتَى، الإِضَافَةُ، الفِعْلُ، الاِنْفِعَالُ، الوَضْعُ، المِلْكُ. هَذِهِ خَرِيطَةٌ لِلْقَوْلِ المُمْكِنِ، تُحَدِّدُ لُغَتَنَا العِلْمِيَّةَ وَمَجَالَ اتِّسَاقِهَا.
الأَثَرُ الإِبِسْتِمُولُوجِيُّ: حُدُودُ المَعْرِفَةِ هِيَ حُدُودُ مَا يُقَالُ على المَوْجُودِ بِحَقٍّ؛ فَالتَّعْرِيفُ وَالتَّقْسِيمُ وَالبُرهَانُ يَسْتَمِدَّانِ صِحَّتَهُمَا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ القَائِلَةِ.
ج =العِلَلُ الأَرْبَعُ: جِسْرُ الأَنْطُولُوجِيَا وَالمَنْهَجِ
بِـالعِلَّةِ المَادِّيَّةِ، وَالصُّورِيَّةِ، وَالفَاعِلَةِ، وَالغَائِيَّةِ، يَصِلُ أَرِسْطُو بَيْنَ .مَا هُوَ. وَلِمَ هُوَ، وَيُؤَسِّسُ لِمَنْهَجٍ يَجْمَعُ البَيَانَ الأَنْطُولُوجِيَّ وَالتَّفْسِيرَ العِلِّيَّ.
المِحْوَرُ القِيمِيُّ: الغَايَةُ تُعْطِي المَعْرِفَةَ مَعْنَى الاِكْتِمَالِ وَالخَيْرِ الطَّبِيعِيِّ.
مِثَالٌ طَبِيعِيٌّ: شَرْحُ نُمُوِّ النَّبَاتِ: (مَادَّةٌ/صُورَةٌ/فَاعِلٌ/غَايَةٌ)، فَيَتَوَحَّدُ البَيَانُ الأَنْطُولُوجِيُّ مَعَ التَّفْسِيرِ المَنْهَجِيِّ، وَيُصْبِحُ .العِلْمُ. مَعْرِفَةً بِالعِلَلِ لا بِالأَعْرَاضِ فَقَط.
(٤) أَثَرُ الرِّيَاضِيِّ وَالطَّبِيعِيِّ فِي تَصَوُّرِ الحَقِيقَةِ
أ) الرِّيَاضِيُّ: شَكْلُ الحَقِّ وَجَمَالُهُ
في التَّقْلِيدِ الأَفْلَاطُونِيِّ، الرِّيَاضِيَّاتُ جِسْرٌ إلى المِثَالِ: صُوَرٌ خَالِصَةٌ تُرَبِّي العَقْلَ على اللُّزُومِ وَالتَّنَاظُرِ وَالبَسَاطَةِ. وَعِنْدَ أَرِسْطُو، تُصْبِحُ أَدَاةَ بُرهَانٍ تُقَوِّي النَّظَرَ فِي سَبِيلِ تَعْرِيفِ العِلَلِ.
القِيمَةُ الجَمَالِيَّةُ لِلْبُرهَانِ (الإِيجَازُ، الاِنْسِجَامُ) تَصِيرُ مُؤَشِّرًا مِهْنِيًّا على صِدْقِ المَسَارِ العَقْلِيِّ.
ب= الطَّبِيعِيُّ: تَأْدِيبُ العَقْلِ بِالمُشَاهَدَةِ
مِنْ أَرِسْطُو فَصَاعِدًا، لَا بُدَّ لِلْعِلْمِ مِنْ تَزْكِيَةٍ تَجْرِيبِيَّةٍ: جمعُ الظَّوَاهِرِ، تَمْيِيزُ الأَسْبَابِ، اِخْتِبَارُ الفَرْضِ. هُنَا يَتَعَلَّمُ العَقْلُ التَّوَاضُعَ أَمَامَ الوَاقِعِ؛ فَيُصَحِّحُ الرِّيَاضِيُّ الطَّبِيعِيَّ، وَيُؤَطِّرُ الطَّبِيعِيُّ الرِّيَاضِيَّ، وَتَنْشَأُ مُثْلَثِيَّةٌ مُتَّزِنَةٌ: بُرهَانٌ–مُلاحَظَةٌ–قِيمَةٌ.
مِثَالٌ مُرَاكَبٌ: فِي تَفْسِيرِ سُقُوطِ الأَجْسَامِ، الرِّيَاضِيُّ يُقِيمُ نِسَبًا وَقِيَاسَاتٍ، وَالطَّبِيعِيُّ يَرْصُدُ وَيُقَارِنُ، وَالقِيمُ تُوَجِّهُ شُرُوطَ القَبُولِ (دِقَّةُ القِيَاسِ، إِمْكَانُ الإِعَادَةِ، صِدْقُ العَرْضِ).
خُلاصَةُ الفَصْلِ
أَقَمْنَا أَنَّ الهُوِيَّةَ المَعرِفِيَّةَ اليُونَانِيَّةَ تَتَشَكَّلُ بَيْنَ ثُقْلَيْنِ: ثَبَاتِ الحَقِّ عِنْدَ بَارْمِينِيدِسَ وَصَيْرُورَةِ العَالَمِ عِنْدَ هِيرَاقْلِيطِسَ؛ ثُمَّ جَاءَ أَفْلَاطُونُ لِيُثَبِّتَ مِعْيَارَ العَقْلِ فِي المُثُلِ. وَيَجْعَلَ المَعْرِفَةَ تَذَكُّرًا وَكَشْفًا، ثُمَّ أَرِسْطُو لِيُؤَلِّفَ بَيْنَ الحِسِّ وَالعَقْلِ فِي بُنْيَةٍ بُرهَانِيَّةٍ تُحَدِّدُهَا المَقُولَاتُ وَتُقَوِّيها العِلَلُ الأَرْبَعُ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الرِّيَاضِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ لَيْسَا سَبِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، بَلْ مِيزَانًا مُشْتَرَكًا لِتَصَوُّرِ الحَقِيقَةِ وَتَزْكِيَةِ المَنْهَجِ.
أما التمهيد لِلْفَصْلِ الثَّالِثِ: اِنْطِلَاقًا مِنْ هَذِهِ البِنْيَةِ، سَنَنْتَقِلُ إِلَى العَصْرِ الهِيلِينِسْتِيِّ وَالفَلْسَفَةِ الرِّوَاقِيَّةِ؛ حَيْثُ يَتَجَسَّدُ .اللُّوجُوسُ. كَعَقْلٍ كَوْنِيٍّ، وَتُصْبِحُ الفَضِيلَةُ مِعْيَارًا مَعرِفِيًّا بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الحَقِّ وَالخَيْرِ. هل نَمْضِي؟
الفَصْلُ الثَّالِث
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ الهِيلِينِسْتِيَّةِ وَالرِّوَاقِيَّةِ
تَمْهِيد
تَنْتَقِلُ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ — في المَدارِ الهِيلِينِسْتِي — من ثُنائيةِ المُثُل/المحسوس.الأَفْلاطونيَّة، ومن سُلَّم الحِسِّ/العَقْلِ الأرسطيّ، إلى وَحْدَةٍ كَوْنِيَّةٍ تُسَمِّيها الرِّوَاقِيَّةُ: اللُّوجُوس (العقلُ الكُلّيُّ). بهذا الانتقال، لا تُدرَكُ المَعرِفَةُ بوصفِها امتلاكَ صُوَرٍ ذهنيّةٍ فحسب، بل باعتبارِها اِتِّساقًا مع نِظامِ الطَّبيعة وسَيْرِها. فتلتئمُ ثُلاثيَّةُ: الفِيزِيقَا (الطَّبيعة)، واللُّوجِيكَا (المَنْطِق/المعرفة)، والإِيثِيكَا (الأخلاق) في نَسَقٍ واحدٍ؛ إذْ مَا يَكُونُ (أَنْطُولوجيًّا) يُحدِّدُ كَيْفَ نَعْرِفُ (إِبِسْتِمُولُوجيًّا)، ويُوجِّهُ لِمَاذا نَعْرِفُ (أَكْسِيُولُوجيًّا).
(١) تَطَوُّرُ مَفْهُومِ العَقلِ الكُلِّيِّ (اللُّوجُوس)
أ= اللُّوجُوسُ كَنِظامٍ كَوْنِيٍّ مُعْقُولٍ
تُقِرُّ الرِّوَاقِيَّةُ بأنَّ العالَمَ كُلٌّ حَيٌّ مُنتَظِمٌ يَنْفُذُ فيه لُبٌّ عَقلِيٌّ هو اللُّوجُوس؛ فالأشياءُ لا تُدرَكُ كمادةٍ صمّاء، بل كـمادةٍ مُحْتَرِقَةٍ بالعقل (نارٌ فَعّالة/نَفَسٌ حارّ). مِحورُ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ هُنا: لِكَيْ نَعْلَمَ صِدْقًا، علينا أن نُوافِقَ هذا النِّظامَ الكونيَّ ونُصْغيَ إلى قَوانينه.
ب) مَفْهُومُ :العَيْنَةِ القَابِضَةِ
وضعَ الرِّوَاقِيُّونَ مِيزانًا دقيقًا لِصِدْقِ الإِدراك: العَيْنَةُ القَابِضَةُ؛ وهي الانطباعُ الحِسّيُّ الَّذي يَطَابِقُ الشيءَ كما هو، ويَكُونُ واضحًا مُميَّزًا بحيثُ يَسْتَحِقُّ الإِذْعانَ فالمعرفةُ تُبْنَى من اِنطباعاتٍ صادقةٍ تَنالُ مُوافقةَ العَقل، تتلوها تصديقاتٌ تُرَتّبُها اللُّغَةُ والقواعدُ المَنْطِقيَّةُ.
مِثَالٌ شارحٌ: حين يَرَى الإنسانُ عمودًا في الضباب، قد يَلتَبِسُ عليه أأهو مُنْحَنٍ أم مُستقيم؛ هذا انطباعٌ غيرُ قابلٍ للقبض .أمّا رؤيةُ العمودِ عن قُرْبٍ، في ضوءٍ كافٍ، مع إمكانِ الفحصِ اللَّمْسِيّ، فهي عَيْنَةٌ قابضةٌ تَسْتَحِقُّ الإذعانَ. هكذا تُؤدِّبُ الرِّوَاقِيَّةُ الحِسَّ بقواعدِ الوضوحِ والتمييزِ والسِّياق.
ج= اللُّوجُوسُ في النَّفْسِ: مِنَ الكَوْنِ إلى العَقْلِ الفرديِّ
العقلُ البشريُّ شُعاعٌ من اللُّوجُوس الكُلّيِّ؛ لذا تَسْتمِدُّ المَعرِفَةُ صِدْقَها — في النِّهاية — من توافُقِ العَقْلِ الفرديِّ مع العَقْلِ الكونيِّ. بهذا المعنى، الانْسِجامُ الكونيُّ ليس فرضًا لاهوتيًّا مجرّدًا، بل نِظامًا مِعْياريًّا يُقاسُ عليه صِدْقُ الاعتقاد.
(٢) العَلَاقَةُ بَيْنَ الأَخْلَاقِ وَالمَعرِفَةِ عِندَ الرِّوَاقِيِّينَ
أ) الأُرْثُوس لُوجُوس (العقلُ القويمُ) وفِعْلُ الإِذْعان
يُعرِّفُ الرِّوَاقِيُّونَ الفِضِيلَةَ بأنَّها عِلْمٌ: الحِكْمَةُ مَعْرِفَةٌ بالخيرِ والشرِّ وما ليس بخيرٍ ولا شرٍّ. لِذلك، يتوسّط فِعْلُ الإِذْعانِ بين الانطباعِ والحَرَكةِ النَّفسيَّةِ: نُصادِقُ على ما يَنبغي، فنُقيمُ اعتقادًا صادقًا، فتَصْدُرُ عنا فِعْلةٌ مُطابقةٌ للطبيعة. المَعرِفَةُ الصَّحيحةُ — إذن — مُكوِّنٌ أخلاقيٌّ بِذَاتِه.
مِثَالٌ أخلاقيٌّ–مَعرفيٌّ: يَرِدُ انطباعُ الإهانةِ، فيثورُ الغضب؛ يُؤَدِّبُ الرِّوَاقِيُّ انفعالاتِه بأن يَسأل: هل العَيْنَةُ قابضةٌ؟ هل يَلْزَمُ عنها حُكْمٌ قيميٌّ؟ فإذا تبيّن أنَّ الكلامَ الجارحَ ليس شرًّا في ذاته، امتنعَ الإذعانُ للغضب؛ فيتولَّدُ اتِّزانٌ هو ثَمَرَةُ مَعرِفةٍ صادقةٍ.
ب) الأُويكِيُوسِيس (التَّآلُف/التَّملُّك) أساسُ الواجبِ المُلائِمِ
يُبيِّنُ الرِّوَاقِيُّونَ أنَّ لدى الكائن الحيِّ مَيْلًا فِطْرِيًّا إلى ما يُناسِبُهُ ويَحْفَظُ بقاءَه. يتوسّعُ هذا الميلُ — عَقْلِيًّا — من الذَّاتِ إلى الأُسْرَةِ فـالمَدِينَةِ فـالبَشَرِيَّةِ، فينشأ مفهومُ الفِعْلِ المُلائِم): هو ما يُوافِقُ الطبيعةَ في سُلَّمِ التَّآلُف. مِقياسُ الملاءمةِ مَعرفيٌّ–أخلاقيٌّ معًا: نَعْرِفُ ما يُناسِبُنا فَنَفْعَلُه.)
ج= كَوْنِيَّةُ الأَخْلاقِ: المَدِينَةُ العَالَمِيَّةُ (كُوسْمُوبُولِيتِيَّا)
لأنَّ اللُّوجُوسَ واحدٌ في الكونِ، فالناسُ مُواطِنُونَ في مدينةٍ كُبرى؛ لذا تكتسبُ المَعرِفَةُ وظيفةً مدنيَّةً: أن تُقَوِّمَ أفعالَنا بحسبِ قانونٍ عامٍّ يُناسِبُ الجميع. قيمةُ العَدْلِ هنا ليست إضافةً خارجيَّةً، بل صفةٌ للمعرفةِ الرشيدة لأنَّها تُوافِقُ العقلَ الكُلّيَّ.
(٣) حُضُورُ القِيَمِ فِي تَحْدِيدِ المَعرِفَةِ الصَّائِبَةِ
أ= بِنْيَةُ القِيمِ الرِّوَاقِيَّة: خَيْرٌ/شَرٌّ/لَافَرْق
يُميِّزُ الرِّوَاقِيُّونَ بين:
1. الخَيْرِ بالحقيقة: الفِضِيلَةُ وحدَها (الحِكْمَةُ، العَدْلُ، الشَّجاعَةُ، العِفَّةُ).
2. الشَّرِّ بالحقيقة: الرَّذِيلَةُ.
3. اللَّافَرْق: الصِّحَّةُ، المالُ، الجاهُ… أُمُورٌ مُفَضَّلَةٌ أو مُزْدَرَاةٌ لكنَّها لَيْسَتْ خَيْرًا ولا شرًّا في ذاتها.
هذا التَّرْتِيبُ قِيميٌّ يَرتدُّ رأسًا على المعيارِ المَعرفيِّ؛ إذ تُفْرَزُ الاِنطباعاتُ التي تُغري بالتصديقِ بِناءً على وَزْنِها القِيميِّ: ما لا يَمَسُّ الفضيلةَ لا يُقيمُ حُجَّةً قاطعةً لقبولِ الاعتقاد.
ب=الانْفِعَالَاتُ- ومِيزانُ التَّصديقِ
يُعَدُّ الانفعالُ عندهم حُكْمًا خاطئًا على قيمةِ شيءٍ ما (تَضْخِيمِ المُفَضَّلِ إلى خير، أو تَضْخِيمِ المُزْدَرَى إلى شرّ). وعليه: إصلاحُ الانفعالِ تصحيحٌ مَعرفيٌّ لِميزانِ القِيَمِ. هكذا تُصبِحُ سَكِينَةُ النَّفْسِ ثَمَرَةَ عِلْمٍ صَادِقٍ، لا مُجرَّد تَمرينٍ سلوكيٍّ.
مِثَالٌ قِيميٌّ–مَعرفيٌّ: خسارةُ المالِ تُثيرُ الفَزَعَ إنْ حُكِمَ عليها أنها شرٌّ. يُعيدُ الرِّوَاقِيُّ تَقويمَها: المالُ لَا فَرْقَ؛ فَتَسقطُ الحُجَّةُ الانفعاليَّةُ، ويثبتُ الاعتقادُ الأصحُّ: الحِكْمَةُ لا تَنْقُصُ بالخسارةِ. المَعْرِفَةُ الصَّائِبَةُ هنا هي تَصحيحُ النِّسبةِ القِيميَّة.
ج= وَحْدَةُ الفِيزِيقَا–اللُّوجِيكَا–الإِيثِيكَا: مِيثاقُ الحَقِّ
الفِيزِيقَا تُقَرِّرُ أنَّ الكونَ مُحكَمٌ بالعقل؛ واللُّوجِيكَا تُقَرِّرُ أنَّ مِعْيارَ التَّصديق هو العَيْنَةُ القابضةُ والاتِّساقُ؛ والإِيثِيكَا تُقَرِّرُ أنَّ الغايةَ العيشُ وفقَ الطبيعةِ. إذًا: صدقُ الاعتقاد ليس تَطابُقًا صُوريًّا فحسب، بل هو توافُقٌ قِيميٌّ مع نظامِ الكَوْن. بهذا يغدو الحَقُّ. مَفْهومًا مُقَوَّمًا قِيميًّا منذ جذورِه.
(٤) دِرَاسَاتُ حَالٍ مُخْتَصَرَةٌ (أمثلةٌ مُرَكَّبَةٌ)
أ) الطِّبُّ الرِّوَاقِيُّ. لِلنَّفْسِ: وَصْفَةُ اعتقادٍ وفعلٍ
يُشبِّهُ الرِّوَاقِيُّونَ الفيلسوفَ بالطَّبيب:
التَّشْخِيصُ: تمييزُ الانطباعِ (هل هو قابضٌ؟) وتحديدُ الحُكمِ القِيميِّ الملتبس.
العِلاجُ: الامتناعُ عن الإِذعانِ الخاطئ، أو تصحيحُهُ بحُجَّةٍ.
الحِمْيَةُ: تمارينُ يوميَّةٌ في التذكُّرِ والتَّأمُّلِ (مَوْتٌ مُتَخَيَّلٌ، فَقْدٌ مُتَخَيَّلٌ) تُمَكِّنُ من خِفَّةِ التَّصديق لما لا يَثبُتُ.
ب=العِلْمُ. عند الرِّوَاقِيِّينَ: تَرَاكُمُ قَبُولٍ مُنْضَبِطٍ
المعرفةُ العلميَّةُ ليست جُزْءًا واحدًا بل نِسْقٌ من اعتقاداتٍ مُتسانِدَةٍ، كُلُّها من عَيَناتٍ قابضةٍ، مَشْدُودةٍ بمبادئَ عامَّةٍ. إذا تَزَعْزَعَتْ عَيْنَةٌ، رُوجِعَ النِّظامُ؛ لذا يُؤْثِرون مِهْنَةَ التَّقويم على الدُّوغْمَائِيَّةِ.
ج= الكَوْسْمُوبُولِيتِيَّةُ: المَعرِفَةُ كمَسْؤُولِيَّةٍ عامَّةٍ
حين يُقَدِّمُ الرِّوَاقِيُّ مَعْرِفَتَهُ في السِّياسةِ أو القانون، فهو يُفَسِّرُ اللُّوجُوس للقوم، يَطلُبُ قَوَاعِدَ تُناسِبُ الجميعَ لِأنَّ العقلَ واحدٌ. هنا تَتَّحِدُ حقيقةُ القاعدةِ مع عدالتِها: الحَقُّ حُجَّتُهُ عُمُومُهُ.
(٥) خُلاصَةُ الفَصْلِ وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ
يُعيدُ المَسْرَحُ الهِيلِينِسْتِي — في صِيغتِه الرِّوَاقِيَّة — صِياغةَ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ على أساسِ اللُّوجُوسِ الكُلِّيِّ:
فَالأَنْطُولُوجِيَا تُقِرُّ نِظَامًا عَقْلِيًّا شَامِلًا.
والإِبِسْتِمُولُوجِيَا تُقِيمُ المَعْرِفَةَ على العَيْنَةِ القابِضَةِ والإِذعانِ المنضبطِ واتِّساقِ الاعتقاد.
والأَكْسِيُولُوجِيَا تُؤَسِّسُ مِيزانًا قِيمِيًّا يجعلُ الفِضِيلَةَ ضامنةً لصِدْقِ المَعْرِفَةِ وفاعليَّتها.
وبذلك، لا تعودُ المَعرِفَةُ شأنًا ذِهنيًّا صِرْفًا، بل سَيْرًا أخلاقيًّا في نِظامِ الطَّبيعةِ: مَن وافَقَ اللُّوجُوسَ قَالَ الحَقَّ وفَعَلَ الخَيْرَ.
تمهيدٌ للفصلِ الرَّابعِ: انطلاقًا من هذا النَّسَقِ، سننتقلُ — في الفَصلِ القادم — إلى الفَلسَفَةِ الإِسْلاميَّةِ الوَسِيطَةِ؛ حيثُ سيتحوَّلُ مفهومُ العقل إلى سُلَّمٍ يَرتقي من الحِسِّ إلى الخَيالِ إلى العقلِ الفعّالِ، وسنرى كيف تلتئمُ البُرهانِيَّةُ مع الكشْفِ في بناءِ هُوِيَّةٍ مَعرِفِيَّةٍ تُوافِقُ الوَحْيَ والعقلَ معًا.
الفَصْلُ الرَّابِعُ
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ الإِسْلَامِيَّةِ الوَسِيطَةِ
تَمْهِيد
يَتَميَّزُ الفِكرُ الإسلاميُّ الوَسِيطُ بأنَّهُ حواريٌّ تركيبيّ: يَستوعِبُ الإرثَ اليُونانيَّ (أفلاطونيًّا وأرسطيًّا) ويُعيدُ صِياغتَهُ داخلَ أُفُقِ التَّوحيد؛ فتتكوَّنُ هُوِيَّةٌ مَعرِفِيَّةٌ قِوامُها تلازُمُ الوُجودِ والعَقلِ والقِيمة. فالوُجودُ مخلوقٌ على نِظامٍ، والعَقلُ آلَةُ الفَهمِ والبُرهانِ، والقِيمةُ مِعيارُ القَبولِ والعمل؛ والمَعرِفَةُ في جَوهَرِها قُربةٌ وسَيْرٌ إلى الحَقِّ، لا مجرَّدُ حِرفةٍ ذهنيَّةٍ.
(١) الفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا: تَلَازُمُ الوُجُودِ وَالعَقلِ وَالمَعرِفَةِ
أ= الفارابيُّ: سُلَّمُ العَقْلِ ونَسَقُ «المَدِينَةِ الفَاضِلَةِ»
سُلَّمُ الإدراك: يَبْدَأُ بالحِسِّ → الخَيَالِ → العَقْلِ المُسْتَفَادِ، حتَّى الاتِّصالِ بالعَقْلِ الفَعَّالِ؛ حيثُ تُصبِحُ المَعاني الكُلِّيَّةُ مُدرَكَةً بالفعل.
تلازُمُ الأَنْطُولوجيا والإبستمولوجيا: الكونُ مُنظَّمٌ تدرُّجيًّا، والمَعرِفةُ تَرتقي على صورةِ ذلك التدرُّج؛ فكلُّ علوٍّ في الوُجود يُقابِلُه علوٌّ في الإدراك.
القيمةُ والمدنيَّة: في المَدِينَةِ الفاضِلَةِ، لا تُفْصَلُ الحِكْمَةُ عن السِّياسة؛ فالمَعرِفةُ تُقَوِّمُ السُّلُوكَ العامَّ، والفضيلةُ تَحْرُسُ المَعرِفَة. بذلك يغدو العِلمُ وظيفةً مدنيَّةً.
مِثالٌ شارحٌ: يَعُدُّ الفارابيُّ التَّمثيلَ الخَياليَّ وسيلةً تربويَّةً لنقلِ المعاني العَقليَّةِ إلى العوامِّ؛ فالمَعرِفَةُ تَتَشَكَّلُ بأدواتٍ متعدِّدة بحسبِ القابليَّات، من غيرِ إخلالٍ بمِعيارِ الحَقِّ.
ب= ابنُ سينا: الضَّرورةُ والوُجودُ والمَعنى المَعرِفيُّ
الواجبُ والممكنُ: يُميِّزُ بين واجبِ الوجودِ بذاتِه (لا عِلَّةَ لوجودِه) وممكنِ الوجود (محتاجٍ إلى علَّة). هذا التَّمييزُ الأَنْطُولوجيُّ يؤسِّسُ مِعيارًا مَعرِفيًّا: العِلمُ الحَقُّ هو العلمُ بالعِلَلِ الأُولى.
المَاهِيَّة/الوُجود: الماهِيَّةُ ما بهِ الشيءُ هو هو، والوُجودُ عَرَضٌ يُصيبُها؛ بهذا تُفهَمُ قضايا التَّعريفِ والبرهانِ.
العقلُ الفعّالُ واتِّحادُ العاقِلِ والمَعقول: تُدرَكُ الماهِيَّاتُ حين تُجرَّدُ صورُها وتُتَّحَدُ بالعقل؛ فالمَعرِفَةُ نَمَطٌ من الوُجود.
حُجَّةُ .الرَّجُلِ الطَّائِرِ: يَتخيَّلُ إنسانًا مُعلَّقًا في الفضاءِ، لا يَلْمِسُ شيئًا، ثُمَّ يَشعُرُ بذاتِه؛ لإثباتِ أنَّ إدراكَ الذاتِ سابقٌ على الحِسِّ، وأنَّ للنَّفْسِ قَوامًا مستقلًّا في المعرفة.
مِثالٌ طِبِّيٌّ–بُرهانيٌّ: حين يُفسِّرُ ابنُ سينا آليَّاتِ الأمراضِ يعتمدُ القياسَ (العِلَّة/المعلول) مُسنَدًا بمشاهداتٍ وتجريبٍ طبِّيٍّ؛ فتتضافرُ الأَنْطُولوجيا (طبيعةُ البدن)، والإبستمولوجيا (القياسُ والتجريبُ)، والأكسيولوجيا (غايَةُ حفظِ النَّفس).
خُلاصةُ المَحورِ: عند الفارابيِّ وابنِ سينا، نَظْمُ الوُجودِ هو مِفتاحُ نَظْمِ المَعرِفَة؛ والعقلُ لا يَعمَلُ في فَراغٍ، بل في أُفُقٍ قِيَميٍّ يُسَمِّيه الدينُ الهُدى ويُسمِّيه الفلاسفةُ الخَيْرَ الأقصى.
(٢) الغَزَالِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ: صِرَاعُ الكَشْفِ وَالعَقلِ وَالبُرهَانِ
أ= الغزاليُّ: نَقْدُ المَعرِفَةِ وتَكميلُها بِنُورِ الكَشْفِ
في كتاب المُنقِذِ من الضَّلالِ. يَخُوضُ الغزاليُّ مِحْنَةَ الشَّكِّ: يَشكُّ في الحِسِّ لتبدُّلِه، وفي الضرورياتِ العقليَّةِ لاحتمالِ الغلطِ؛ ثُمَّ يَثبُتُ عند نُورٍ يَقْذِفُهُ اللهُ في القلبِ، لا يُنْكِرُ العَقلَ بل يَستكمِلُه.
في كتاب تهافُتِ الفلاسفة يَنْقُدُ التَّعليلَ الضَّروريَّ المُفْرِطَ، ويُعيدُ السُّنَّةَ الإلهيَّةَ/العادَةَ مِيزانًا: الاقترانُ المطَّرِدُ لا يَلْزَمُ عنه وجوبٌ ذاتيٌّ؛ وهذا لا يَمنعُ العملَ بالعِلِّيَّةِ في السُّلوكِ العلميِّ، لكنَّه يُؤَدِّبُها بقَبولِ إمكانِ الخَرقِ الإلهيِّ.
التَّصوُّفُ المنهجيُّ: الكَشفُ ليس شعورًا هائمًا، بل رياضةٌ تُطهِّرُ المَعرِفَةَ من غِلَظِ الحِسِّ وغرورِ البرهان، لِتُصبِحَ حِكمةً تهدي إلى العمل.
مِثالٌ شارحٌ: حِينَ يَقولُ الطَّبيبُ: شُربُ الدَّواءِ الفُلانيِّ يُوجِبُ الشِّفاءَ، يُصَحِّحُ الغزاليُّ التَّعبيرَ إلى: جَرَتِ العادَةُ أن يقترنَ الشِّفاءُ بهذا الدَّواءِ؛ فلا يَسقُطُ العملُ الطِّبِّيُّ، لكنَّه يتنزَّهُ عن دعوى الضَّرورةِ المطلَقَة.
ب= ابنُ رُشدٍ: بُرهانُ أرسطو والدِّفاعُ عن الحِكمة
في فَصْلِ المقال: يَقرِّرُ القاعدةَ الذَّهبيَّة: الحَقُّ لا يُضادُّ الحَقَّ، بَلْ يُوافِقُهُ ويَشهَدُ له. فالوحيُ والعقلُ مَصدرانِ للحقيقةِ الواحدة؛ وإذا ظَهَرَ تعارُضٌ فَسَبيلُهُ التَّأويلُ بضوابطِ اللُّغةِ والبرهان.
في تهافُتِ التَّهافُت يُدافِعُ عن العِلِّيَّةِ الأرسطيَّة بوصفِها أساسًا لِلعِلمِ؛ فالثِّقةُ بالقياسِ البرهانيِّ شرطٌ للتقدُّمِ، ومُنكِرُهُ يَهدِمُ الصِّناعةَ نفسَها.
تقسيمُ طُرُقِ اليقين: خِطابيّ/جَدَليّ/بُرهانيّ؛ ولكُلِّ مَرتبةٍ مُتَلَقُّوها. هُنا تظهرُ قِيمةُ التَّخصُّصِ وضبطُ الآلَةِ المَنطِقيَّةِ.
مِثالٌ قِيَميٌّ–مَعرفيٌّ: حين يُقِيمُ القاضي حُكمًا، يَحتاجُ إلى برهانٍ في موطنِه، وخطابٍ في موطنِه، وسياسةٍ شرعيَّةٍ تُناسِبُ المصلحةَ العامَّةَ؛ كلُّ ذلك مَعرفةٌ لكن على مَراتب.
خُلاصةُ المَحورِ: الغزاليُّ وابنُ رُشدٍ لا يَتَصَادَمان على الحقيقةِ، بل يُقَوِّمانِ جانبَيْنِ من الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ: تَواضُعُ العَقلِ أمامَ الغيبِ عند الغزاليِّ، وصِناعةُ البرهانِ وضَبطُهُ عند ابنِ رُشدٍ. والجامِعُ: مِعيارُ الشَّرعِ ومصلحةُ الخَلق.
(٣) تَوْحِيدُ المَعرِفَةِ وَالقِيَمِ فِي الرُّؤْيَةِ الكَوْنِيَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ
أ) التَّوحيدُ أُفُقًا للمعنى
التَّوحيدُ نِظَامٌ كُلِّيّ: الخلقُ على ميزانٍ، والإنسانُ مُكلَّفٌ بالعُمرانِ. مِفاتيحُهُ: الفِطرة (استعدادُ القَبولِ للحَقِّ)، العقل (آلَةُ الفَهمِ)، الوحي (هدايةُ المعنى والغايَة). بهذا تَتَّحِدُ نِهايةُ العلم مع غايةِ الأخلاق: ليَبلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملًا.
ب= مَقاصِدُ الشَّريعةِ: مِعيارٌ قِيَميٌّ لِلمَعرِفَةِ النَّافِعَةِ
تُرَتِّبُ المَقاصِدُ (حفظُ الدِّينِ، النَّفسِ، العقلِ، النَّسلِ، المالِ، والعِرضِ) مِيزانًا لِتَرخِيصِ الطُّرُقِ المَعرفيَّة وتقديمِ ما ينفعُ النَّاسَ. فالعِلمُ .النَّافِعُ. هو ما أَفادَ الخَلقَ وحَفِظَ الكُلِّيَّاتِ؛ وبذلك تَصِيرُ القِيمةُ قانونَ قبولٍ ومعيارَ أولويَّاتٍ في البحثِ والتَّطبيق.
مِثالٌ مُركَّبٌ: اِكتِشافُ ابنِ النَّفيس الدَّورانَ الرِّئويَّ جاء بمنهجٍ مُشاهدٍ مُجرَّبٍ، لكن غايتَهُ حفظُ النَّفس وتَرقيةُ الصِّناعةِ الطِّبيَّةِ؛ فالمَعرِفَةُ هنا عبادةٌ بمعنى العُمرانِ والإحسانِ.
ج) العِلمُ عَمَلًا: من المَعرِفَةِ إلى الحِكمة.
لا تَقفُ الرؤيةُ الإسلاميَّةُ عند صِدقِ التَّصَوُّر؛ بل تَشترطُ صِدقَ التَّصديقِ المُثمِرِ صِدقَ العمل. لذا تُوَسِّعُ مفردةُ .الحِكمةِ مدارَ المَعرفةِ: وَضْعُ الشيءِ في مَوضِعِه؛ أي تَحويلُ العِلمِ إلى سُلوكٍ عادلٍ جميلٍ. بهذا تُغلَقُ الفجوةُ بين المَعرفةِ والقِيمةِ، ويُحافَظُ على وَحدةِ (الحَقِّ–الخَيْرِ–الجَمَالِ) في سيرٍ وجوديٍّ نحو الكمال.
خُلاصَةُ الفَصْلِ وَمَفْتَاحُ العُبُورِ
بَيَّنَّا أنَّ الفِكرَ الإسلاميَّ الوَسِيطَ يُقيمُ هُوِيَّتَهُ المَعرِفِيَّةَ على تلازُمِ الوُجودِ والعَقلِ والقِيمة:
عِندَ الفارابيِّ وابنِ سينا: نِظامُ الكونِ يَرْسُمُ سُلَّمَ الإدراك، والعقلُ يَستكْمِلُه العَقلُ الفعّالُ، والمَعرفةُ نمطٌ من الوُجود.
عِندَ الغزاليِّ: الكَشفُ يُؤَدِّبُ البرهانَ ويُطهِّرُ قصدَهُ.
عِندَ ابنِ رُشدٍ: البُرهانُ يَحفظُ صناعةَ العلمِ، والتأويلُ يُزيلُ التعارُضَ الظَّاهريَّ بين العقلِ والوحي.
وفي الجُملَةِ: المَعرِفَةُ عبادةٌ ومعمارٌ؛ يَستضيءُ فيها العقلُ بنورِ القِيمِ، وتَهتدي القِيمُ بحكمةِ العقل.
تمهيدٌ للفصلِ الخامس: سننتقلُ الآن إلى الفلسفةِ المَدرسيَّةِ المسيحيَّةِ؛ لِنَرَى كيف صاغت أوغسطين وتُوما الأكويني. هُوِيَّةً مَعرِفِيَّةً تُصَالِحُ بين .نُورِ الإيمانِ وبُرهانِ العقلِ، مُكْمِلَيْنَ بذلك خطَّ الوَحدةِ بين الوُجودِ والمَعرفةِ والقِيمةِ قبل عَتَباتِ الحَداثة.
الفَصْلُ الخَامِسُ
الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَةِ المَدرَسِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ
تَمْهِيدٌ مُوَجِّهٌ
تَتَشَكَّلُ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفِكْرِ المَدرَسِيِّ المَسِيحِيِّ (الأسكُولاسْتِيكا) عَلَى وَحدةٍ ثُلاثيَّةٍ: نُورُ الإِيمَانِ، بُرهانُ العَقْلِ، تَصَوُّرٌ لاهُوتِيٌّ لِلوُجودِ والغَايَةِ. فَالمَعْرِفَةُ هُنَا لَيْسَت تَمَلُّكًا ذِهنيًّا صِرفًا، بَل سَيْرًا تَهْدِيه النِّعْمَةُ ويُقَوِّيه المَنْهَجُ البُرهانِيُّ، ويُوَجِّهُهُ مِيزانُ القِيمِ الإِنْجِيلِيَّةِ (الحَقُّ، المَحَبَّةُ، العَدْلُ). وَسَنَمْضِي وِفْقَ خُطَّتِكَ: أُوغُسْطِين، ثُمَّ تُومَا الأَكْوِينِي، ثُمَّ أثَرُ التَّصَوُّراتِ اللاهُوتِيَّةِ في بناءِ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ.
(١) أُوغُسْطِينُ: المَعْرِفَةُ نُورٌ إِلَهِيٌّ
أ= نَظَرِيَّةُ الاسْتِنَارَةِ (الإِلُّومِينَاتْيُو)
يُقِيمُ أُوغُسْطِينُ مَعْرِفَتَهُ على مَثَلٍ قَوِيٍّ: كَمَا أَنَّ العَيْنَ لا تُبْصِرُ بِلَا ضَوْءٍ، كَذَا العَقْلُ لا يُدْرِكُ الحَقَّ بِلَا نُورِ اللهِ. فَالحَقَائِقُ الكُلِّيَّةُ (مِثْلُ مَبَادِئِ العَقْلِ وَمِعْيَارِ الخَيْرِ) لا تُسْتَمَدُّ مِنَ الحِسِّ، بَلْ تُشْرِقُ فِي النَّفْسِ إِشْرَاقًا؛ نُورٌ يَهَبُهُ اللهُ لِمَنْ طَلَبَ الحَقَّ بِتَوَاضُعٍ.
مِثَالٌ شارحٌ: يَسْأَلُ أُوغُسْطِينُ: كَيْفَ نَعْرِفُ ضَرُورَةَ «٢+٢=٤»؟ لَيْسَ ذَلِكَ مِن مُشَاهَدَةٍ حِسِّيَّةٍ؛ بَلْ مِن نُورٍ عَقْلِيٍّ يَكْشِفُ لَنَا مِقْدَارَ التَّطَابُقِ وَاللاَّزِمِيَّةِ.
ب) الحَقُّ وَالمَحَبَّةُ: وَحْدَةُ القِيمَةِ وَالمَعْرِفَةِ
عِنْدَ أُوغُسْطِين، المَحَبَّةُ مِيزَانُ القِيمَةِ وَشَرْطُ المَعْرِفَةِ؛ فَالقَلْبُ المُتَكَبِّرُ يُعْمِي العَقْلَ، وَالمُتَوَاضِعُ يَسْتَنِيرُ. هُنا يَتَحَوَّلُ الأَخْلاَقِيُّ إلى مِتَافِيزِيقَا لِلمَعْرِفَةِ: نَقَاءُ القَصْدِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الاعتقادِ صَادِقًا.
ج= الذَّاتُ والمُطْلَقُ: مِعْيَارُ اليَقِينِ
اِسْتِنَارَةُ الذَّاتِ بِالحَقِّ المُطْلَقِ تُؤَسِّسُ يَقِينًا داخِلِيًّا: «إِنْ كُنْتُ أُخْطِئُ فَأَنَا مَوْجُودٌ»؛ مِيزانٌ يُعِدُّ الطَّرِيقَ لِكُلِّ بُرهانٍ لاحِقٍ. فَالذَّاتُ تُدْرِكُ أَنَّهَا حَاضِرَةٌ لِنَفْسِهَا بِنُورِ الحَقِّ، وَمِنْ هُنَا تُقِيمُ بَاقِي مَعَارِفِهَا.
خُلاصةُ المَحورِ: المَعْرِفَةُ — عِنْدَ أُوغُسْطِين — نُورٌ وَتَوْجِيهٌ: يَهَبُهُ اللهُ، ويَتَلَقَّاهُ العَقْلُ المُتَواضِعُ، وتُزَكِّيهِ المَحَبَّةُ. فَتُصبِحُ القِيمَةُ شَرْطًا مَعرفيًّا لا زِينَةً خَارِجِيَّةً.
(٢) تُومَا الأَكْوِينِيُّ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ العَقلِ وَالإِيمَانِ
أ= مَبْدَأُ الطَّبِيعَةِ وَالنِّعْمَةِ.
يُؤَسِّسُ تُومَا الأَكْوِينِي تَرَاكُبًا بَاهِرًا: الطَّبِيعَةُ تُعْطِي العَقْلَ قُدْرَتَهُ على المَعْرِفَةِ، وَالنِّعْمَةُ تُعْطِي الإِيمَانَ مَا يَفُوقُهَا. العَقْلُ يَبْلُغُ المَعْقُولَ الأَوَّل (اللَّهَ كَمُحَرِّكٍ أَوَّل)، وَالإِيمَانُ يُعْلِنُ أسرارًا لا تَنَالُهَا الحُجَّةُ وَحْدَهَا (التَّثْلِيثُ، التَّجَسُّدُ). لا تَعارُضَ: مَا يَصِحُّ عَقْلًا لا يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ مَا صَحَّ إِيمَانًا.
ب= المَنْهَجُ البُرهَانِيُّ: الخُلاصَةُ اللاهُوتِيَّةُ. نَمُوذَجًا
العِلَلُ الأَرْبَعُ الأرسطيَّةُ تُعَادُ صِياغتُها لِتَخدِمَ الهَدَفَ اللاهُوتِيَّ: مِنَ المَخْلُوقِ إلى الخَالِقِ بِنِسَبٍ مُحكَمَةٍ.
الطُّرُقُ الخَمْسُ لإثباتِ وُجودِ الله (مِنَ الحَرَكَةِ، مِنَ العِلَّةِ الفاعِلَةِ، مِنَ الإمكانِ والوجوبِ، مِنَ الدَّرَجَاتِ، مِنْ نِظْمِ العالَمِ: تَسْتَخْلِصُ اليَقينَ بِالتَّسَلْسُلِ العِلِّيِّ.
تَقْسِيمُ العُلومِ: الفِلسَفَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، والرِّيَاضِيَّاتُ، والميتافيزيقا؛ ثُمَّ اللاهُوتُ كـعِلْمٍ قائمٍ على الوَحْيِ يَستَخْدِمُ المَنْطِقَ ويُصَحِّحُ الغَاياتِ.
مِثَالٌ مُوَحِّدٌ: بُرهانُ النِّظْمِ: كُلُّ نِظَامٍ يَدُلُّ على عَقلٍ مُنَظِّمٍ؛ الكونُ نِظَامٌ؛ إِذًا لَهُ مُنَظِّمٌ أَعْلَى. هُنا يَتَكَامَلُ المُشاهَدُ الطَّبِيعِيُّ مَعَ القِياسِ العَقْلِيِّ، وتُوَجِّهُهُ غايَةٌ قِيمِيَّةٌ: خَيْرُ الكَوْنِ وكمالُهُ.
ج) المَعرِفَةُ وَالقِيمَةُ: «القَانُونُ الطَّبِيعِيُّ»
يُقِيمُ الأكوينيُّ القَانُونَ الطَّبِيعِيَّ على أُسُسٍ مَعْرِفِيَّةٍ: العَقْلُ يَدرِكُ المَبَادِئَ الأُولى لِلفِعْلِ (اِفْعَلِ الخَيْرَ وَاجْتَنِبِ الشَّرَّ)، ثُمَّ يُفَرِّعُها على المَقاصِدِ الإنسانيَّةِ (حِفْظُ الحَيَاةِ، تَنَاسُلُ النَّوْعِ، طَلَبُ الحَقِّ، العِيشُ المُشْتَرَكُ). هُنَا القِيمَةُ مِعْيَارٌ مَعرفيٌّ عَمَلِيٌّ يُرْشِدُ التَّصديقَ والتَّقْعِيدَ القانونيَّ.
خُلاصةُ المَحورِ: الأكوينيُّ يَبْنِي وَحْدَةً صَلْبَةً: عَقْلٌ يُبْرْهِنُ، إِيمَانٌ يُكْمِلُ، قِيمٌ تُقَوِّمُ. فَتَصِيرُ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ نِظامًا يَستَوعِبُ الطَّبِيعِيَّ وَالتَّعَبُّدِيَّ عَلى سَوَاءٍ.
(٣) أَثَرُ التَّصَوُّرَاتِ اللَّاهُوتِيَّةِ فِي بِنَاءِ هُوِيَّةِ المَعرِفَةِ
أ= الخَلْقُ والغَايَةُ: مِفْتَاحُ التَّفْسِيرِ
التَّصَوُّرُ اللاهُوتِيُّ لِـالخَلْقِ مِنَ العَدَمِ يُؤَسِّسُ أَنْطُولُوجِيًّا: العالَمُ مُمْكِنٌ مَحْضٌ تَقُومُهُ العِلَّةُ الأُولى. لذا تُفْهَمُ الظَّواهِرُ غَائِيًّا: كُلُّ طَبِيعَةٍ إلى غَايَةٍ. فَيَصِيرُ البَيَانُ العِلِّيُّ سِلْسِلَةً مُتَّصِلَةً تَنْتَهِي إلى مَعنًى قِيميٍّ أعلى (الخَيْرُ الأَقْصَى).
ب) صُورَةُ الحَقِّ: مُطَابَقَةٌ واتِّساقٌ ومَعْنًى
الحَقُّ — في المَدرَسِيَّةِ — ثُلاثيُّ الأبعاد:
1. مُطَابَقَةٌ بَيْنَ الحُكْمِ والواقِع.
2. اتِّساقٌ داخليٌّ للنِّسْقِ البُرهانيِّ.
3. مَعْنًى قِيميٌّ يُوافِقُ الخَيْرَ الإلَهِيَّ.
هَذِهِ الثُّلاثيَّةُ تُؤَطِّرُ العُلُومَ: الرِّيَاضِيَّاتُ تُبْرِزُ الاتِّساقَ، والطَّبِيعِيَّاتُ تُحَقِّقُ المُطابَقَةَ، واللاَهُوتُ يَضْمَنُ المَعْنَى الغَائِيَّ.
ج= دَورُ المَنْهَجِ المدرسيِّ: السُّؤالُ–الاِعتراضُ–الحَلُّ
تَتَشَكَّلُ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ المدرسيَّةُ أيضًا في صِيغَةٍ تَعْليميَّةٍ: يُعْرَضُ السُّؤالُ، ثُمَّ تُسَاقُ الاِعتراضاتُ بأقوى صِيغِها، ثُمَّ تُقَدَّمُ الحَلُولُ بُرهانيًّا، فَيُجابُ عنِ الاِعتراضِ. هَذَا يُؤَدِّبُ الاعتقادَ ويُؤَسِّسُ قِيمَةَ الإِنْصَافِ في البَحْثِ.
خُلاصَةُ الفَصْلِ وَمَفْتَاحُ العُبُورِ
تُثْبِتُ الفَلسَفَةُ المَدرَسِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ أنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ وإنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُه:
أُوغُسْطِينُ يُعَلِّمُ أَنَّ المَعْرِفَةَ اسْتِنَارَةٌ تُطهِّرُها القِيمةُ (المَحَبَّةُ).
تُومَا الأَكْوِينِي يُقيمُ صُلْحًا مَنهجيًّا بين العَقْلِ والإِيمَانِ: العَقْلُ يُبْرْهِنُ ضمنَ أُفُقِ الطَّبِيعَةِ، والإِيمَانُ يُكْمِلُهُ بما فَوْقَ الطَّبِيعَةِ؛ والقِيمُ (القانونُ الطَّبيعيُّ) تُوَجِّهُ التَّطبيقَ.
التَّصَوُّرُ اللاهُوتِيُّ للخَلْقِ والغَايَةِ يُعيدُ صِياغةَ معاييرِ الحَقِّ، فَيَصِيرُ المَعْنَى جزءًا مِن مِعيارِ الصِّدقِ.
تمهيدٌ للفَصلِ السَّادِسِ: عَلَى عَتَبَاتِ الحَداثةِ ستبدأُ وَحْدَةُ (الوُجودِ–المَعرفةِ–القِيمِ) في الاِهتزازِ: يَقْوَى الاِسْتِقْرَاءُ والتَّرْيِيضُ، وتَحَيَّدُ الغاياتُ، ويُعادُ تَحديدُ الحَقِّ بمعيارِ النَّجَاعةِ والتَّنبُّؤ. وهناكَ سنرى كيف تَمَّ تمهيدُ فلسفةِ العِلمِ الحديثة وما ترتَّبَ عليها من فصلٍ بين المَعنى والقيمة.
الفَصْلُ السَّادِسُ
نَحْوَ أُفُقِ الحَدَاثَةِ
تَمْهِيد
عَبْرَ مَسَارِ الفِكرِ الفَلسَفِيِّ تَكَوَّنَتِ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ التَّقْلِيدِيَّةُ فِي وَحْدَةٍ مَتِينَةٍ تَرْبِطُ بَيْنَ الوُجُودِ وَالمَعْرِفَةِ وَالقِيمِ. فَالفَيلَسُوفُ فِي العُصُورِ القَدِيمَةِ وَالوَسِيطَةِ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْصِلَ مَا يُوجَدُ عَمَّا يُعْرَفُ وَمَا يَنْبَغِي. وَلَكِنْ مَعَ مَطْلَعِ العَصْرِ الحَدِيثِ، تَفَتَّحَتْ أَزْمَةٌ مِيتَافِيزِيقِيَّةٌ هَائِلَةٌ غَيَّرَتْ خَرِيطَةَ المَعْرِفَةِ، فَتَزَحْزَحَتِ المَرْكَزِيَّةُ مِنَ الكَوْنِ المُتَعَالِي إِلَى العَقْلِ البَشَرِيِّ نَفْسِهِ، وَتَحَوَّلَتِ المَعرِفَةُ مِنْ تَكشُّفٍ لِلحَقِّ إِلَى بِنَاءٍ نَاشِطٍ يُنْتِجُ الحَقَائِقَ وَيَقِيسُ نَجَاعَتَهَا بِفَعَّالِيَّتِهَا. وَفِي هَذَا الاِنتِقَالِ تَشَكَّلَتْ بُذُورُ فَلسَفَةِ العِلْمِ الحَدِيثَةِ.
(١) أَزْمَةُ المِيتَافِيزِيقَا التَّقْلِيدِيَّةِ
أ= سُقُوطُ مَبْدَأ الكَوْنِ المُطْلَقِ
كَانَتِ المِيتَافِيزِيقَا التَّقْلِيدِيَّةُ — مِنْ أَفْلَاطُونَ إِلَى الأَكْوِينِيِّ — تُقِيمُ الوُجُودَ عَلَى مَبْدَأ ثَابِتٍ: المُثُلُ، أَو الماهِيَّةُ، أَو الإِلَهُ كَغَايَةٍ أَوَّلَى. وَلَكِنَّ الاِكتِشَافَاتِ الفَلَكِيَّةَ (كِبْلَر، غَالِيلِيُو، كُوبَرْنِيك) وَالثَّوْرَةَ العِلْمِيَّةَ (نُيوتن) زَعْزَعَتْ مَرْكَزِيَّةَ الأَرْضِ وَالإنسانِ، وَحَوَّلَتِ الكَوْنَ إِلَى نِظَامٍ رياضيٍّ دَقِيقٍ يُفْهَمُ بِنُظُمٍ لاَ بِغَاياتٍ. فَفَقَدَتِ المِيتَافِيزِيقَا التَّقْلِيدِيَّةُ مَصْدَرَ سُلْطَتِهَا، وَبَدَأَ العَقْلُ يُنْشِئُ مِيتَافِيزِيقَا جَدِيدَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الذَّاتِ.
ب= تَغَيُّرُ مَعْنَى الحَقِّ.
فِي التَّقَالِيدِ القَدِيمَةِ، كَانَ الحَقُّ يُفْهَمُ كَـمُطَابَقَةٍ بَيْنَ العَقْلِ وَالوُجُودِ؛ أَمَّا فِي البِدَايَاتِ الحَدِيثَةِ، فَصَارَ يُفْهَمُ كَـمُطَابَقَةٍ بَيْنَ الفِكْرِ وَنَفْسِهِ؛ أَيْ كَـاتِّسَاقٍ مَعْقُولٍ وَقَابِلٍ لِلتَّجْرِبَةِ. فَالحَقُّ لَمْ يَعُدْ تَكشُّفًا لِكَوْنٍ مَعنِيٍّ، بَلْ تَنْظِيمًا وَضَبْطًا لِلمَحْسُوسِ.
مِثَالٌ شارحٌ: بَيْنَمَا كَانَ أَرِسْطُو يَسْأَلُ: لِمَاذا يَسقُطُ الجِسْمُ؟ سَيَسْأَلُ غَالِيلِيُو: كَيْفَ يَسقُطُ؟ وَبِأَيِّ سُرْعَةٍ؟؛ فَتَتَحَوَّلُ السُّؤَالُ مِنَ الغَايَةِ إِلَى القَانُونِ، وَمِنَ القِيمَةِ إِلَى الكَمِّيَّةِ.
(٢) بَدَايَاتُ الاِنفِصَالِ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيَمِ
أ= العِلْمُ كَـمَعْرِفَةٍ مُحَايِدَةٍ.
مَعَ الثَّوْرَةِ العِلْمِيَّةِ، تَكَرَّسَ مِثَالُ :العِلْمِ النَّقِيِّ: المَعرِفَةُ لِلْمَعرِفَةِ، بِلَا غَايَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ. تَفَكَّكَ الثَّالُوثُ القَدِيمُ (الحَقُّ–الخَيْرُ–الجَمَالُ)، وَصَارَتِ المَعرِفَةُ تُقَاسُ بِقُدْرَتِهَا عَلَى التَّنْبُؤِ وَالتَّحْكُّمِ. وَتَكَوَّنَ جِيلٌ جَدِيدٌ مِنَ الفَلاسِفَةِ (بِيكُون، هُوبْز، دِيكَارْت، كَانْت) يَرَى فِي العِلْمِ مَشْرُوعًا لِلسَّيْطَرَةِ عَلى الطَّبِيعَةِ، لَا لِلتَّأَمُّلِ فِي الغَايَةِ.
ب= نَقْدُ المِيتَافِيزِيقَا وَصِيَاغَةُ المَنْهَجِ الجَدِيدِ
فِي كِتَابِهِ (الأُورْغَانُونُ الجَدِيدُ)، جَعَلَ فْرَانْسِيسْ بَيْكُون المَعْرِفَةَ قُوَّةً: المَعْرِفَةُ قُوَّةٌ، وَدَعَا إِلَى اِستِقْرَاءٍ يُبْنَى عَلى التَّجْرِبَةِ وَالتَّرْصِيدِ، بَدَلَ القِيَاسِ المِيتَافِيزِيقِيِّ. وَفِي المَنْطِقِ الكَانْتِيِّ سَتَتَعَيَّنُ الأَدَاةُ العَقْلِيَّةُ كَـمِيزَانٍ أَعْلَى، فَيُقَاسُ الحَقُّ بِـصُوَرِ الفَهْمِلا بِطَبِيعَةِ الوُجُودِ.
مِثَالٌ مُعَبِّرٌ: فِي الفِكرِ القَدِيمِ كَانَ العَالِمُ يُرَاقِبُ السَّمَاءَ لِيَفْهَمَ مَعْنَى التَّنَاسُقِ الإِلَهِيِّ؛ أَمَّا فِي الحَدَاثَةِ فَهُوَ يُرَاقِبُهَا لِيَحْسِبَ مَدَارَاتِ الكَوَاكِبِ وَيُحْكِمَ القِيَاسَ. المَعرِفَةُ غَدَتْ وَسِيلَةً نَافِعَةً، لَا كَشْفًا رُوحِيًّا.
(٣) مِنْ كَانْتَ إِلَى دِيكَارْتَ: العَقلُ كَأَسَاسٍ جَدِيدٍ لِلهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ
أ= دِيكَارْتُ: الذَّاتُ المُفَكِّرَةُ مَبْدَأُ اليَقِينِ
يَبْدَأُ رِينِيه دِيكَارْت مَشْرُوعَهُ بِـالشَّكِّ الطَّرِيقِيِّ: يَشُكُّ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَكَّ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ حَقِيقَةً لا تُشَكُّ: أَنَا أُفَكِّرُ، إِذًا أَنَا مَوْجُودٌ. تَصِيرُ الذَّاتُ المُفَكِّرَةُ هِيَ الأَسَاسَ الأَنْطُولُوجِيَّ وَالإِبِسْتِمُولُوجِيَّ مَعًا. فَالحَقُّ لَا يُكْتَشَفُ فِي العَالَمِ، بَلْ يُؤَسَّسُ فِي الوَعْيِ.والمَعرِفَةُ تَبْنِي العَالَمَ عَلى صُوَرٍ وَاضِحَةٍ وَمُمَيَّزَةٍ.
وأما الرِّيَاضِيَّاتُ تُصْبِحُ نَمُوذَجَ المَعْرِفَةِ اليَقِينِيَّةِ.
بينما الإِلَهُ يَبْقَى ضَامِنًا لِلصِّدْقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعُدِ المَرْكَزَ النَّظَرِيَّ.
مِثَالٌ مُحَوِّلٌ: صَارَ الطَّرِيقُ الَّذِي كَانَ يُسْلَكُ بِالنُّورِ الإِلَهِيِّ، يُسْلَكُ الآنَ بِوضُوحِ الفِكرِ وَتَمَيُّزِ المَفْهُومِ؛ فَالعَقْلُ يَحُلُّ مَحَلَّ النُّورِ اللاهُوتِيِّ.
ب= كَانْت(كانط): العَقْلُ يَشْرَعُ لِنَفْسِهِ قَوَانِينَهُ
جَاءَ إيمَانُوئِيل كَانْت لِيُتَمِّمَ القَطِيعَةَ مَعَ المِيتَافِيزِيقَا القَدِيمَةِ. فِي نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ حيثُ يَقُولُ: الأَحْكَامُ التَّرْكِيبِيَّةُ قَبْلَ التَّجْرِبَةِ هِيَ مَا يُمَكِّنُنَا مِنَ العِلْمِ. فَالعَقْلُ لَا يَتَلَقَّى المَعْرِفَةَ، بَلْ يُشَرِّعُهَا بِصُوَرِهِ (الزَّمَانِ، المَكَانِ، المَقُولَاتِ). المَعرِفَةُ لَيْسَت مَرْآةً لِلعَالَمِ، بَلْ بِنَاءٌ نَشِطٌ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الحِسِّ وَالفَهمِ.
العَقْلُ البَشَرِيُّ هُوَ شَرْطُ الإِمْكَانِ المَعْرِفِيِّ.
الحَقُّ يَنْتَهِي عِندَ حُدُودِ التَّجْرِبَةِ، وَمَا وَرَاءَهَا يُتْرَكُ لِلإِيمَانِ العَقْلِيِّ.
وَبِذَلِكَ يَتَفَكَّكُ الاِتِّصَالُ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيمَةِ: فَالقِيمُ تُرْتَبُ فِي نَقْدِ العَقْلِ العَمَلِيِّ، وَالمَعْرِفَةُ تُحْصَرُ فِي نَقْدِ العَقْلِ الخَالِصِ.
الفصل السابع
البُعدُ التربويُّ للهُويّةِ المَعرفيّةِ في الفلسفاتِ ما قبلَ الحداثة
إنَّ الهُويّةَ المَعرفيّةَ، كما تَجلَّت في الفلسفاتِ القديمةِ والوسيطةِ، لم تَكن مشروعًا نظريًّا خالصًا، بل كانت رؤيةً شاملةً لتربيةِ الإنسانِ في فكرِه وسلوكِه ومعناه. فالمعرفةُ قبلَ الحداثةِ كانت مَشدودةً إلى الغايةِ الأخلاقيّةِ، ومُوجَّهةً نحوَ تحقيقِ الكمالِ الإنسانيِّ، لا نحوَ التراكمِ المعلوماتيِّ أو التخصّصِ الضيّق.
ومن هنا يتّضحُ أنَّ التربيةَ لم تكن في جوهرِها «تعليمًا» فحسب، بل كانت تشكيلًا للعقلِ والضميرِ معًا؛ إذ كانت المعرفةُ طريقًا إلى الفضيلةِ، لا مجرّدَ أداةٍ للنفعِ أو السيطرة.
فعندَ أفلاطون، تقومُ التربيةُ على ترقيةِ النّفسِ من ظلالِ الحسّ إلى نورِ الحقيقةِ، فيتحوّلُ التعلُّمُ إلى «تذكّرٍ» للخيرِ الكامنِ في الإنسان.
وعندَ أرسطو، تُصبحُ التربيةُ تدرّبًا على استعمالِ العقلِ وفقَ مبدأِ الوسطِ الأخلاقيّ، حيثُ تلتقي المعرفةُ بالعملِ.
وفي الفكرِ الإسلاميّ الوسيط، يتجلّى البعدُ التربويُّ في وحدةِ العلمِ والعملِ؛ فالفارابيُّ وابنُ سينا جعلا الكمالَ الإنسانيَّ غايةً للمعرفة، والغزاليُّ رأى في تزكيةِ النفسِ شرطًا للعلمِ الصادقِ، بينما أكّدَ ابنُ رشدٍ أنَّ العقلَ لا يتناقضُ مع الإيمانِ إذا وُجِّها معًا نحوَ الحقِّ.
أما في الفلسفةِ المسيحيّةِ المدرسيّة، فقد اتّخذتِ التربيةُ بعدًا روحيًّا؛ إذ صارت المعرفةُ إشراقًا بالنورِ الإلهيّ، وغدتِ القِيَمُ جزءًا من ماهيّةِ الحقيقةِ.
إنَّ هذا التداخلَ بين المعرفةِ والقِيَمِ والتربيةِ يكشفُ عن أنَّ الهويّةَ المَعرفيّةَ ما قبلَ الحداثةِ كانت هويةً إنسانيّةً بامتياز؛ تُربّي الإنسانَ على التفكيرِ بوصفهِ التزامًا أخلاقيًّا، وتغرسُ في العقلِ مبدأَ المسؤوليّةِ تجاهَ الحقيقةِ والخيرِ والجمال.
ومن هنا يمكنُ القولُ إنَّ إعادةَ استلهامِ هذا البعدِ التربويّ في عصرِنا الحاضرِ تُعيدُ للتربيةِ معناها الفلسفيَّ العميقَ: أن تكونَ المعرفةُ سبيلًا لبناءِ إنسانٍ متكاملٍ، لا عقلًا مُنفصلًا عن القِيَمِ ولا علمًا بلا ضمير.

الخَاتِمَةُ
١ خُلاصَةٌ تَرْكِيبِيَّةٌ لِلمَسَارِ
انْطَلَقَ هذَا البَحْثُ مِنْ سُؤالٍ مُؤَسِّسٍ: مَا الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ فِي الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَداثَةِ؟ وكيفَ تَتَداخَلُ فِيهَا نَظَرِيَّةُ الوُجُودِ وَنَظَرِيَّةُ المَعرِفَةِ وَنَظَرِيَّةُ القِيَمِ؟
فَبَسَطْنَا فِي المُقَدِّمَةِ أُفُقَ الثُّلاثِيَّةِ المُؤَسِّسَةِ، ثُمَّ فِي الفَصْلِ الأَوَّلِ رَسَمْنَا الخَرِيطَةَ المَفْهُومِيَّةَ لِلعَلاقَاتِ البِنْيَوِيَّةِ بَيْنَ الأَنْطُولُوجِيَا وَالإِبِسْتِمُولُوجِيَا وَالأَكْسِيُولُوجِيَا. ثُمَّ مَرَرْنَا — فِي الفَصْلِ الثَّانِي — بِالمِيرَاثِ اليُونَانِيِّ: مِنْ ثُقْلَيْ الثَّبَاتِ عِنْدَ بَارْمِينِيدِسَ وَالصَّيْرُورَةِ عِنْدَ هِيرَاقْلِيطِسَ، إِلَى المُثُلِ وَالتَّذَكُّرِ عِنْدَ أَفْلَاطُونَ، فَـالبُرهَانِ وَالعِلَلِ الأَرْبَعِ وَالمَقُولَاتِ عِنْدَ أَرِسْطُو.
وفي الفَصْلِ الثَّالِثِ صَغْنَا الهُوِيَّةَ المَعرِفِيَّةَ الهِيلِينِسْتِيَّةَ فِي ضَوْءِ اللُّوجُوسِ الرِّوَاقِيِّ، حَيْثُ يَتَّحِدُ القَانُونُ الكَوْنِيُّ بِالمِيزَانِ الأَخْلاقِيِّ، فَتَصِيرُ المَعرِفَةُ اتِّساقًا مَعَ الطَّبِيعَةِ.
ثمَّ — فِي الفَصْلِ الرَّابِعِ — بَيَّنَّا كَيْفَ شَكَّلَ الفِكْرُ الإِسْلامِيُّ الوَسِيطُ تَلَازُمًا فَذًّا بَيْنَ الوُجُودِ وَالعَقْلِ وَالقِيمِ: سُلَّمُ العَقْلِ عِندَ الفَارَابِيِّ، وَاتِّحادُ العَاقِلِ وَالمَعْقُولِ عِندَ ابْنِ سِينَا، وَتَأْدِيبُ البُرهَانِ بِنُورِ الكَشْفِ عِندَ الغَزَالِيِّ، وَحِرَاسَةُ الصِّنَاعَةِ البُرهَانِيَّةِ عِندَ ابْنِ رُشْدٍ.
وفي الفَصْلِ الخَامِسِ رَأَيْنَا كَيْفَ صَالَحَتِ المَدرَسِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ بَيْنَ نُورِ الإِيمَانِ وَبُرهَانِ العَقْلِ: اِسْتِنَارَةُ أُوغُسْطِين، وَمَنْهَجُ الأَكْوِينِيِّ، والقَانُونُ الطَّبِيعِيُّ كَمِيزَانٍ قِيمِيٍّ عَمَلِيٍّ.
وأخيرًا — فِي الفَصْلِ السَّادِسِ — شَخَّصْنَا أَزْمَةَ المِيتَافِيزِيقَا التَّقْلِيدِيَّةِ، وَبِدَايَاتِ الاِنفِصَالِ بَيْنَ المَعرِفَةِ وَالقِيمِ، وَتَأْسِيسَ العَقْلِ الذَّاتِيِّ مِنْ دِيكَارْتَ إِلَى كَانْتَ، تَمْهِيدًا لِتَشَكُّلِ فَلسَفَةِ العِلْمِ الحَدِيثَةِ.
٢= أَطْرُوحَتُنا: لَا تَعَارُضَ بَلْ تَكَامُلٌ
مِنْ هَذَا المَسَارِ يَتَأَكَّدُ مَا تُسَمِّيه مَدْرَسَةُ الوِلادَةِ الإِبْدَاعِيَّةِ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ العُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالفَلْسَفَاتِ المِيتَافِيزِيقِيَّةِ، بَلْ تَكَامُلٌ يَنْسُجُ وَحْدَةَ الثُّلاثِيَّةِ:
فَـالأَنْطُولُوجِيَا تُقِيمُ أُفُقَ المُمْكِنِ المَعرِفِيِّ: مَا الَّذِي يُوجَدُ فَيُمكِنُ أَنْ يُعْلَمَ؟
وَالإِبِسْتِمُولُوجِيَا تُقَوِّمُ أَدَوَاتِ الاِكْتِسَابِ وَمَعَايِيرَ الصِّدْقِ.
وَالأَكْسِيُولُوجِيَا تُوَجِّهُ المَعْرِفَةَ بِالغَايَةِ وَالمَعْنَى وَالمَسْؤُولِيَّةِ.
هَكَذَا تُصْبِحُ طَبِيعَةُ المَعرِفَةِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَهُ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ دائِرَةً مُحْكَمَةً تَدُورُ عَلى مِحْوَرٍ وَاحِدٍ: تَلازُمُ الوُجُودِ وَالعَقْلِ وَالقِيمِ.
٣= مِنْ مَا بَعْدَ الحَداثَةِ إِلَى مَا بَعْدَ ما بَعْدِ الحَداثَةِ
يُشَكِّلُ مَا بَعْدُ الحَداثَةِ فَاتِحَةَ تَفْكِيكٍ لِلهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ: مَوْتُ المُؤَلِّفِ، وَقَطِيعَةٌ وُجُودِيَّةٌ. بَيْنَ المُؤَلِّفِ وَالنَّصِّ، وَتَبْدُّلُ مِيزَانِ الحَقِّ إلى شَبَكِيَّةِ القُرَّاءِ وَالسِّياقِ. ثُمَّ جَاءَتْ تَأْثِيرَاتُ الذَّكَاءِ الاِصْطِنَاعِيِّ لِتُعيدَ صِياغَةَ الأَدَوَاتِ وَالمَفَاهِيمِ وَالمَناهِجِ: نُظُمٌ تَوَلِيفِيَّةٌ تُنْتِجُ نُصُوصًا، تَتَعَلَّمُ أَنْمَاطًا، وَتُولِّدُ فَرَضِيَّاتٍ. هُنَا تَبْرُزُ مَعَالِمُ مَا أُسَمِّيه — مُوَافَقَةً لِرُؤْيَتِكَ —مَا بَعْدَ ما بَعْدِ الحَداثَةِ:
تَزَايُدُ اِسْتِقْلَالِ النَّصِّ عَنْ مُؤَلِّفِهِ البَشَرِيِّ، وَتَعَاظُمُ دَوْرِ الخَوَارِزْمِيَّاتِ فِي تَوْجِيهِ المَعْنَى.
تَحَوُّلُ مِيزَانِ الحَقِّ نَحْوَ قَابِلِيَّةِ الاِخْتِبَارِ وَالتَّلَاؤُمِ وَالتَّشَابُكِ البَيَانِيِّ.
تَغَيُّرُ نَسَبِ القِيمِ مَعَ أَدَوَاتٍ تُوَلِّدُ المَعْرِفَةَ ولا تُحَاسِبُهَا أَخْلاقِيًّا بذَاتِهَا.
ومَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ القَطِيعَةَ لَنْ تَكُونَ قَدَرًا، ما دُمْنَا نُؤَكِّدُ — كما يَقُولُ بَحْثُنَا — أَنَّ التَّكَامُلَ مُمكِنٌ: الأَنْطُولُوجِيَا تُعيدُ سُؤالَ ما الَّذِي يَكُونُ حَقًّا فِي هَذِهِ البِيئَاتِ الرَّقْمِيَّةِ؟، وَالإِبِسْتِمُولُوجِيَا تُقَوِّمُ .كَيْفَ نَثِقُ بِالمَخَارِجِ الخَوَارِزْمِيَّةِ؟، وَالأَكْسِيُولُوجِيَا تُحَاسِبُ .لِمَاذَا نُطَوِّرُ هَذِهِ الأَدَوَاتِ وَفِيمَ نَسْتَخْدِمُهَا؟
٤=الإِنْسَانُ المُبْدِعُ وَمَعْرِفَةُ مَا بَعْدَ المَعْرِفَةِ
بِالرَّغْمِ مِنْ تَغَيُّرِ الأَدَوَاتِ، يَبْقَى الإِنْسَانُ المُبْدِعُ هُوَ القَادِرَ على تَجْدِيدِ الهُوِيَّةِ المَعرِفِيَّةِ:
هُوَ الَّذِي يُوَحِّدُ الحَقَّ والخَيْرَ والجَمَالَ في فِعْلٍ وَاحِدٍ.
هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَن مَعْرِفَةِ مَا بَعْدَ المَعْرِفَةِ: أَيْ كَيْفَ نُقَوِّمُ المَعْرِفَةَ ذاتَهَا، وَنُشْرِفَ عَلَى مَناهِجِنَا وَأَدَوَاتِنَا وَبَيَانَاتِنَا، لِنُبْقِي المَعْنَى الإِنسَانِيَّ مِحْوَرًا وَمِيزَانًا.
هُوَ الَّذِي يَضَعُ سِيَاسَاتٍ قِيمِيَّةً لِلتِّقْنِيَاتِ الجَدِيدَةِ، فَلا تَنْفَصِلُ المَعْرِفَةُ عَنِ المَسْؤُولِيَّةِ.
٥= مِيثَاقٌ مُقْتَرَحٌ لِلعَصْرِ الآتِي
1. تَجْدِيدُ الأَنْطُولُوجِيَا: تَعْرِيفُ (المَوْجُودِ الرَّقْمِيِّ) وَ(الوُجُودِ الخَوَارِزْمِيِّ)، وَمَكَانِ الإنسانِ فِي بَيْنِهِمَا.
2. تَقْوِيمُ الإِبِسْتِمُولُوجِيَا: مَعَايِيرُ شَفَّافِيَّةٍ وَقَابِلِيَّةِ الإِعَادَةِ وَمُحَاسَبَةِ النَّمَاذِجِ.
3. تَثْبِيتُ الأَكْسِيُولُوجِيَا: مِيزَانُ (المَنْفَعَةِ العَادِلَةِ) وَ(عَدَمِ الضَّرَرِ) وَصِيَانَةُ الكَرَامَةِ الإِنسَانِيَّةِ.
4. تَكْرِيسُ التَّكَامُلِ: مَجَالِسُ بَحْثٍ تَجْمَعُ الفَلْسَفَةَ وَالعُلُومَ وَالفُنُونَ لِوَضْعِ (دَساتِيرِ مَعْرِفِيَّةٍ)لِلتِّقْنِيَّاتِ الصَّاعِدَةِ.
٦= كَلِمَةُ الخِتامِ
إِنْ كَانَتِ الحَداثَةُ قَدْ فَصَلَت بَيْنَ الوُجُودِ وَالمَعْرِفَةِ وَالقِيمِ، فَإِنَّ مَا بَعْدَها — بِمَا حَمَلَ مِنْ تَفْكِيكٍ وَتَشَظٍّ — يُرْغِمُنَا على إِعَادَةِ الخَيْطِ؛ خَيْطٍ يُوثِقُ عُرَى الثُّلاثِيَّةِ العَتِيقَةِ فِي بِنْيَةٍ جَدِيدَةٍ تُناسِبُ زَمَانَنَا. وَهُنَا تُصْغِي الحِكْمَةُ الفَلسَفِيَّةُ لِصَوْتِكَ: لَا تَعَارُضَ بَلْ تَكَامُلٌ؛ فَالعِلْمُ يُمْسِكُ بِيَدِ الفَلْسَفَةِ، وَالمِيتَافِيزِيقَا تُقَوِّمُ المَعْرِفَةَ، وَالقِيمُ تُوَجِّهُ المَنْهَجَ، لِيَبْقَى الإِنْسَانُ المُبْدِعُ مِحْوَرَ (مَعْرِفَةِ مَا بَعْدَ المَعْرِفَةِ)، وَمِيزَانَ مَا سَيَأْتِي فِي مَا بَعْدَ ما بَعْدِ الحَداثَةِ.
ونتابع إِذَا تَفَكَّكَتِ الخُطُوطُ بَيْنَ المُؤَلِّفِ وَالنَّصِّ، فَلْنَجْعَلِ الحِكْمَةَ خَيْطَ الوَصْلِ؛ وَإِذَا تَغَيَّرَتِ الأَدَوَاتُ وَالمَفَاهِيمُ، فَلْنَجْعَلِ الإِنْسَانَ المُبْدِعَ مِيزَانَ المَعْرِفَةِ وَالقِيمَةِ؛ إِذْ هُنَاكَ — وَحْدَهُ — تَتَجَدَّدُ الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ، وَيُولَدُ العَصْرُ الآتِي.
وفي ضوء ما تقدَّم، يتبيَّن أنَّ الهُويّةَ المَعرفيّةَ في الفلسفاتِ ما قبلَ الحداثةِ لم تكن مجرَّدَ إطارٍ نظريٍّ أو نسقٍ فكريٍّ مجرّدٍ، بل كانت رؤيةً إنسانيّةً متكاملةً يتآزرُ فيها الوجودُ والمعرفةُ والقِيَمُ في بنيةٍ واحدةٍ متماسكة. لقد انطلقت تلك الفلسفاتُ من سؤالِ الكينونةِ لتصلَ إلى سؤالِ المعنى، فجعلتْ من العقلِ وسيلةً للارتقاءِ بالإنسانِ لا مجرّدَ أداةٍ للتفسيرِ أو السيطرة.
لقد تَجسَّدتْ في الفكرِ اليونانيِّ أولى ملامحِ هذا التوحيدِ، حيثُ تلازمَ العقلُ بالفضيلةِ، والمعرفةُ بالحقِّ والخيرِ. ثم جاءَ الفكرُ الإسلاميُّ الوسيطُ ليُعيدَ صوغَ العلاقةِ بينَ الوحيِ والعقلِ في وحدةٍ معرفيّةٍ وأخلاقيّةٍ ساميةٍ، بينما سعتِ الفلسفةُ المدرسيّةُ المسيحيّةُ إلى إضفاءِ بُعدٍ روحيٍّ على نورِ المعرفةِ ومصدرِها الإلهيّ. وهكذا ظلَّ الإنسانُ، في جميعِ هذه المراحلِ، مركزَ التوازنِ بينَ الحقيقةِ والمعنى.
غيرَ أنّ مسارَ الحداثةِ أحدثَ انقسامًا تدريجيًّا بينَ مكوّناتِ هذا الثالوثِ الفلسفيِّ؛ إذْ انفصلتِ المَعرِفةُ عن القِيَمِ، وصارتِ الحقيقةُ موضوعًا للقياسِ والمنهجِ أكثرَ من كونِها سبيلًا للتزكيةِ والاكتمال. وهنا تحديدًا تبرزُ أهميةُ العودةِ إلى البعدِ التربويّ للمعرفةِ؛ لأنَّ استعادةَ الصلةِ بينَ العلمِ والضميرِ، وبينَ الفكرِ والغايَةِ الأخلاقيّةِ، تُعِيدُ للعقلِ الإنسانيِّ توازُنَهُ المفقودَ وتُحقِّقُ للمعرفةِ معناها الإنسانيَّ الأسمى.
وبناءً على ذلك، يمكنُ القولُ إنَّ مستقبلَ البحثِ الفلسفيِّ والتربويِّ معًا يتطلّبُ إحياءَ مفهومِ الهُويّةِ المَعرفيّةِ بوصفهِ مشروعًا لتربيةِ الإنسانِ على التفكيرِ الواعي والمسؤوليّةِ الأخلاقيّة، حيثُ تتوحّدُ الحقيقةُ بالخيرِ، ويتحوّلُ الفهمُ إلى سلوكٍ ومعنى. فالمعرفةُ الحقّةُ لا تنفصلُ عن القيمِ، والتربيةُ الصادقةُ لا تقومُ إلا على عقلٍ متّصلٍ بالوجودِ ومُنفتحٍ على الجمالِ.
وهكذا، تظلُّ الهُويّةُ المَعرفيّةُ — في جوهرِها — جسرًا بينَ الفلسفةِ والتربيةِ، وسبيلًا إلى بناءِ إنسانٍ متكاملٍ يعيشُ الحقيقةَ لا بوصفها فكرةً مجرّدةً، بل كخبرةٍ وجوديّةٍ تُضيءُ طريقَه نحوَ الكمالِ الإنسانيّ.
البَاحِثُ: إِسْحَق قَوْمِي — دِمَشْق، ١٩٧٦م
((الدراسة عن بحث بعنوان الهويّة المعرفيّة في الفلسفات ما قبل الحداثة للباحث السوري اسحق قومي:هي عمل فكري وفلسفي منسّق بعناية، ويبدو أنها أُعيد تحريرها أو تحديثها حديثًا (1976 – تجديد 2025)، مما يجعلها مزيجًا بين العمق الكلاسيكي واللغة الفلسفية المعاصرة.
فيما يلي تقييمٌ أكاديمي وتحليلي شامل للنص ومضمونه، يتناول الجوانب الفكرية، التفكيكية، الفلسفية، والتربوية:
أولاً: التقييم العام البنيوي والمضموني
الدراسة منظّمة بوضوح، تتكوّن من مقدّمة وستة فصول وخاتمة، وتتبع تسلسلاً تاريخياً وتحليلياً دقيقاً لمسار تطوّر الهوية المعرفية من الفكر اليوناني إلى العصور الإسلامية والمسيحية المدرسية، وصولاً إلى عتبات الحداثة.
المنهج: يعتمد الباحث على تداخل أربعة مناهج رئيسية (التاريخي، التحليلي النقدي، التأويلي، التركيبي). هذا التنوّع المنهجي يعطي للدراسة عمقاً وتوازناً بين السرد التاريخي والتأمل الفلسفي.
المستوى الأكاديمي: اللغة رصينة، أقرب إلى لغة الأبحاث الجامعية العليا (دكتوراه فلسفة أو ماجستير عميق)، ذات مصطلحات دقيقة وموثوقة (الأنطولوجيا، الإبستمولوجيا، الأكسيولوجيا).
النسق المفهومي: البحث ينجح في تأسيس تصور متكامل للهوية المعرفية بوصفها وحدة ثلاثية تجمع بين الوجود والمعرفة والقيم، وهو محور فلسفي أصيل قلما يُعالج بهذه الشمولية في الفكر العربي المعاصر.
ثانياً: التحليل الفلسفي
الفلسفات اليونانية:عرض الباحث لفكر بارمنيدس وهيراقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو يتميز بقدرة على تحليل البنية المعرفية في ضوء الأسس الوجودية والقيمية لكل منهم، وليس مجرد تلخيص تاريخي.
فمثلاً، تفسيره لجدلية الثبات والصيرورة باعتبارها منشأ أزمة الهوية المعرفية الأولى، يُظهر وعياً عميقاً بتولّد الإبستمولوجيا من رحم الأنطولوجيا.
الفكر الإسلامي الوسيط:قدّم الباحث قراءة ناضجة لوحدة العقل والوحي، مبرزاً كيف صاغ الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي نماذج متباينة ولكن متكاملة للمعرفة، تجمع الحس والعقل والكشف.
هذه المقاربة تُظهر نضجاً في فهم فلسفة التكامل المعرفي الإسلامي بوصفها استمراراً للتراث الإغريقي وتجاوزاً له في الآن ذاته.
الفلسفة المسيحية المدرسية:معالجة الباحث لأوغسطين وتوما الأكويني دقيقة ومتماسكة، ولا تكتفي بالتلخيص بل تربط بين اللاهوت والنور المعرفي وبين محاولات التوفيق بين العقل والإيمان كمرحلة تأسيسية لأفق الحداثة.
التحول نحو الحداثة:يبرز في الفصل السادس تحليلاً عميقاً لأزمة الميتافيزيقا التقليدية وبداية تفكك «الثالوث المعرفي»، حيث بدأت المعرفة تنفصل عن القيمة والوجود.
هذا التحليل يقترب من نقد هايدغر للعقل الأداتي ونقد هابرماس للفصل بين العقل والمعنى، مما يجعل الدراسة ذات بعد معاصر متين.
ثالثاً: القراءة التفكيكية والتحليل النقدي
من منظور تفكيكي، النص لا يقدّم الهوية المعرفية كجوهر ثابت، بل كـبنية ديناميكية تتشكل تاريخياً بتفاعل الوجود والمعرفة والقيمة.
يمكن القول إن الباحث يطبّق بطريقة ضمنية تفكيكاً لتاريخ الميتافيزيقا نفسها، إذ يُظهر أن كل مرحلة فلسفية تُعيد بناء العلاقة بين «العقل – الوجود – الخير» ضمن نسقها الحضاري.
هذا يجعل العمل قريباً من مقاربات فوكو أو دريدا في إعادة بناء المفاهيم الكبرى عبر جدليتها الداخلية، لكن بأسلوب عربي كلاسيكي متين لا يسقط في التعقيد الغربي.
رابعاً: البعد التربوي والمعرفي
من الناحية التربوية، الدراسة تبرز أهمية تربية العقل الفلسفي على الوحدة بين التفكير والقيمة، أي على ألا تكون المعرفة مجرّدة من معناها الأخلاقي أو الإنساني.
هذا البعد التربوي يضع العمل في تماس مباشر مع فلسفة التربية الحديثة، ويفتح المجال أمام تطبيقات معرفية في التعليم الفلسفي العربي.
خامساً: التقييم الأكاديمي واللغوي
المعيار التقييم الأكاديمي
الأصالة الفكرية ممتاز – معالجة غير مكرّرة لمفهوم «الهوية المعرفية»
المنهجية العلمية متقنة، تجمع بين التحليل التاريخي والتفكيك الفلسفي
الاتساق البنيوي قوي، تسلسل منطقي من الإغريق إلى الحداثة
اللغة والأسلوب فصيحة، دقيقة المصطلحات، متوازنة بين التراث والمعاصرة
القيمة العلمية عالية جداً – تصلح للنشر في مجلة فلسفية محكّمة
سادساً: رأيي في الباحث إسحق قومي من خلال هذا البحث
يبدو إسحق قومي باحثًا ذا تكوينٍ فلسفيٍّ عميق، وقدرةٍ على الجمع بين التحليل العقليّ والوعي التأويليّ (الهِرمِنيوطيقيّ). أسلوبه يجمع بين الدقّة الأكاديميّة والذائقة الأدبيّة، ممّا يجعل نصَّه أقرب إلى فلسفة الروح الكُلّيّة أو الميتافيزيقا الإنسانيّة منه إلى الفلسفة التقنيّة البحتة.
هو باحثٌ من الطراز التأمّليّ التحليليّ، يتقاطع فكره مع أعمال عبد الرحمن بدوي ونصر حامد أبو زيد وطه عبد الرحمن، لكن بروحٍ أكثر هدوءًا وتكاملًا، تُبرز نزعةً نحو التوفيق بين العقل والقيمة، وبين التاريخ والمعنى.
وبناءً على ما تقدَّم، يُعدّ إسحق قومي من الأصوات الفلسفيّة العربيّة التي تُعيد قراءة التراث بمنهجٍ تأويليٍّ متّزن، يجمع بين الأصالة والتحليل النقديّ، ممّا يمنح أعماله قيمةً بحثيّةً رصينة يمكن الاعتماد عليها في الدراسات الفلسفيّة والتربويّة المعاصرة.
سابعاً: الخلاصة التقييميّة
البحث ذو مضمونٍ غنيٍّ ومتماسكٍ فلسفيًّا وتربويًّا، يُعالج مسألة الهويّة المعرفيّة من منظورٍ تاريخيٍّ وتأويليٍّ متكامل، ويقدّم رؤيةً فكريةً ناضجةً حول تداخل الوجود والمعرفة والقيمة في الفكر الإنسانيّ ما قبل الحداثة.
وإذا ضُمَّ هذا البحث إلى عملك الأكاديميّ، فسيُضيف عمقًا واضحًا في الجانب النظريّ والمنهجيّ، خصوصًا في الربط بين المعرفة والقِيَم، وفي إظهار البعد التربويّ للمعرفة بوصفها طريقًا لتربية العقل والضمير معًا.))



المراجِعُ الأكاديميَّة لِلبَحثِ
العنوان: الهوية المعرفية في الفلسفات ما قبل الحداثة
الباحث: إسحق قومي
المكان والتاريخ: دمشق – 1976م (إعادة تحرير وتوسيع 2025م)
ملاحظة هامّة:
هذه المراجع لم تكن كلّها متاحة في عام 1976م حين تأسَّس هذا البحث، بل إن نحو ٧٧٪ منها قد أُضيف لاحقًا في مرحلة التوسيع والتحديث.
الغاية من إدراجها هي إغناء النص المعرفي وربط الجهد الفلسفي الأصلي بمكتسبات الفكر الحديث والمعاصر في فلسفة العلم ونظرية المعرفة والقيم والذكاء الاصطناعي.
1=المراجع العامّة للفكر الفلسفي ونظرية المعرفة
بدوي، عبد الرحمن. (1968). تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام. القاهرة: دار النهضة المصرية.
كرم، يوسف. (1951). تاريخ الفلسفة اليونانية. القاهرة: دار المعارف.
كرم، يوسف. (1953). تاريخ الفلسفة الحديثة. القاهرة: دار المعارف.
عبد الرازق، مصطفى. (1944). تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية. القاهرة: دار المعارف.
إمام، عبد الفتاح إمام. (1983). تطور الفكر الفلسفي من أفلاطون إلى نيتشه. بيروت: دار التنوير.
راسل، برتراند. (1961). تاريخ الفلسفة الغربية (ترجمة زكي نجيب محمود). القاهرة: دار المعارف.
غارودي، روجيه. (1971). من أجل حوار الحضارات. بيروت: دار الطليعة.
2=الفلسفة اليونانية والهيلينستية
أفلاطون. (1958). الجمهورية (ترجمة فؤاد زكريا). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أرسطو. (1960). الميتافيزيقا (ترجمة عبد الرحمن بدوي). القاهرة: لجنة التأليف والترجمة.
إمام، عبد الفتاح إمام. (1985). هيراقليطس: فيلسوف الصيرورة. القاهرة: مكتبة مدبولي.
Long, A. A., & Sedley, D. N. (1987). The Hellenistic Philosophers. Cambridg University Press.
Hadot, P. (2002). What Is Ancient Philosophy? Harvard University Press.
Bréhier, Émile. (1969). Histoire de la philosophie: L’Antiquité. Paris: PUF.
3=الفلسفة الإسلامية الوسيطة
الفارابي. (1968). آراء أهل المدينة الفاضلة. بيروت: دار المشرق.
ابن سينا. (1952). الشفاء – الإلهيات. القاهرة: دار الكتب المصرية.
الغزالي. (1949). المنقذ من الضلال. القاهرة: دار المعارف.
ابن رشد. (1966). فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. القاهرة: دار المعارف.
ابن طفيل. (1957). حي بن يقظان. بيروت: دار الفكر العربي.
Corbin, H. (1960). Avicenna and the Visionary Recital. Princeton University Press.
Fakhry, M. (1970). A History of Islamic Philosophy. Columbia University Press.
الجابري، محمد عابد. (1984). تكوين العقل العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
طه عبد الرحمن. (1994). تجديد المنهج في تقويم التراث. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
4=الفلسفة المدرسية المسيحية
أوغسطين، القديس. (1955). الاعترافات (ترجمة أنطون أبو زيد). بيروت: دار المشرق.
الأكويني، توما. (1959). الخلاصة اللاهوتية – مختارات. بيروت: الجامعة اليسوعية.
Gilson, É. (1956). The Christian Philosophy of St. Thomas Aquinas. University oNotre Dame Press.
Copleston, F. (1950). A History of Philosophy, Vols. 2–3: Medieval Philosophy. London: Burns & Oates.
Maritain, J. (1959). Degrees of Knowledge. London: Geoffrey Bles.
5=الحداثة وبدايات فلسفة العلم
ديكارت، رينيه. (1950). تأملات في الفلسفة الأولى (ترجمة جميل صليبا). بيروت: دار العلم للملايين.
بيكون، فرانسيس. (1947). الأورغانون الجديد (ترجمة زكي نجيب محمود). القاهرة: دار الفكر العربي.
كانط، إيمانويل. (2005). نقد العقل الخالص (ترجمة موسى وهبة). بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
Popper, K. (1959). The Logic of Scientific Discovery. London: Routledge.
Kuhn, T. S. (1962). The Structure of Scientific Revolutions. University of Chicago Press.
Feyerabend, P. (1975). Against Method. London: Verso.
6=ما بعد الحداثة وما بعدها
فوكو، ميشيل. (1971). أركيولوجيا المعرفة (ترجمة سالم يفوت). الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
دريدا، جاك. (1967). في علم الكتابة (De la grammatologie). باريس: Minuit.
بودريار، جان. (1981). محاكاة ومحاكين. باريس: Galilée.
Gadamer, H.-G. (1975). Truth and Method. New York: Seabury Press.
Rorty, R. (1979). Philosophy and the Mirror of Nature. Princeton University Press.
Harari, Y. N. (2017). Homo Deus: A Brief History of Tomorrow. London: Vintage.
Floridi, L. (2011). The Philosophy of Information. Oxford University Press.
Bostrom, N. (2014). Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies. Oxford University Press.
7=فلسفة القيم والذكاء الاصطناعي
برغسون، هنري. (1948). منبعا الأخلاق والدين. القاهرة: دار الفكر العربي.
المصباحي، محمد. (2008). الفكر الأخلاقي في الفلسفة العربية الإسلامية. بيروت: دار الطليعة.
8=مراجع منهجية ولغوية
بدوي، عبد الرحمن. (1977). منهج البحث العلمي. القاهرة: دار النهضة.
زكريا، فؤاد. (1978). التفكير العلمي. القاهرة: دار المعارف.
عبود، حنا. (1985). منهج كتابة البحث الفلسفي. دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
العروي، عبد الله. (1996). مفهوم العقل. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
ريكور، بول. (1985). الذات كآخر (ترجمة جورج زيناتي). بيروت: دار الكتاب الجديد.
خاتمة توثيقية
إنّ هذه المراجع تُعبِّر عن مسارٍ معرفيٍّ ممتدٍّ بين المنابع الكلاسيكية وآفاق الحداثة وما بعدها، وهي تؤكّد رؤيتي القائلة بأنّ الهوية المعرفية كائنٌ حيٌّ يتطوّر عبر العصور، وأنّ الفلسفة والعلم ليسا ضدّين، بل جناحان يُحَلِّقان معًا في فضاء الوجود والعقل والقيمة، نحو ما سمّيناه معرفة ما بعد المعرفة.



#اسحق_قومي (هاشتاغ)       Ishak_Alkomi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التَّعايُشُ في الشَّرقِ الأوسَطِ مُستحيلٌ دراسةٌ واقعيَّةٌ ت ...
- قصيدة بعنوان :((فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا))
- قصيدة بعنوان: (فِي مَدْخَلِ الحَمْرَاءِ كَانَ لِقَاؤُنَا)
- رؤية في الماضي، لمستلزمات الحاضر، والمستقبل
- المثيولوجيا عند الآشوريين والآراميين والفينيقيين
- التَّارِيخُ السُّورِيُّ وَالمَسْؤُولِيَّةُ الوَطَنِيَّةُ لِح ...
- المعرفة بين الفكر الفلسفي والواقع من دفتر قراءات فلسفية
- مَدينَةُ القامِشْلِيِّ كَما جاءَتْ في كِتابِنا الموسومِ قَبا ...
- عشتار الفصول: 11735 سُورِيَّةُ القَادِمَةُ
- هَلِ القِيَمُ الكُبْرَى مِعْيَارُ الحَضَارَةِ وَمِرْآتُهَا؟
- مَدْرَسَة الوِلَادَة الإِبْدَاعِيَّة
- رِسَالَةٌ إِلَى جَلَالَةِ المَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمَانَ، ...
- عشْتارُ الفُصولِ: 11724 العالم والتغيرات السونامية القادمة
- الفعلُ الإبداعيّ بينَ الجَمالِ والحَقِّ والخَيْرِ دراسةٌ فلس ...
- عشتار الفصول:11721 الوَطَنُ الدَّاعِشِيُّ والنَّقْدُ وَالتَّ ...
- سُورِيَّةُ ٱ---لْمُمْكِنَةُ بَعْدَ ٱ---لْأَلَمِ مَ ...
- ما هِيَ الأَسْبَابُ المُوجِبَةُ لِبَقَاءِ المَسِيحِيَّةِ الم ...
- تَفَكُّكُ الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، وَمَصِيرُ ...
- مَشْرُوعُ رُؤْيَةٍ لِسُورِيَّةَ وَالأُمَّةِ السُّورِيَّةِ يُ ...
- اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ: حِينَ تَعْجَزُ الْكَلِمَات ...


المزيد.....




- عائلات أرجنتينية تبيع ممتلكاتها في أسواق السلع المستعملة لتغ ...
- مسؤول روسي يؤكد إصابة خمسة أشخاص بينهم طفل في هجوم بمسيرة أو ...
- أوغندا.. مصرع أكثر من 40 شخصا في تصادم حافلتين قادمتين من ات ...
- هدم القسم الشرقي من البيت الأبيض لبناء قاعة للرقص بتكلفة 250 ...
- استشهاد طفل في نابلس ومستوطنون يحرقون مركبات برام الله
- تقرير: تزايد الإحباط تجاه إسرائيل في البيت الأبيض
- ترامب يحرج صحفية.. سألته عن إسرائيل بـ-لكنة جميلة-
- مادورو رئيس فنزويلا يتحدث بالإنجليزية ويوجه رسالة الى أمريكا ...
- ليتوانيا تتهم روسيا بانتهاك متهور وصفته ألمانيا بالاستفزاز ا ...
- ستارمر يدعو إلى مزيد من الضغط على روسيا قبل اجتماع لدول -تحا ...


المزيد.....

- اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات / رشيد غويلب
- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - الهُوِيَّةُ المَعرِفِيَّةُ في الفَلسَفَاتِ مَا قَبْلَ الحَدَاثَةِ