|
|
فرض الطاعة وافتقاد الشرطين القانوني والشرعي
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 06:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فرض الطاعة وافتقاد الشرطين القانوني والشرعي
"لا تأتي الطاعة بطلب استجداء عاطفي أوفرضي ممن يتنطّع لسلطةٍ ما، بل تأتي حصيلة تفويضٍ صريح، ومساءلةٍ قائمة، والتزامٍ فعليٍّ بالقانون الذي يحاكم الحاكم قبل المحكوم" أحدهم
منبر يطلب ما لم يؤسس له
ألقى السيد أحمد الشرع في صلاة فجر يوم الجمعة ٦ كانون الأوّل ٢٠٢٤، خطبة في المسجد الأموي، تضمّنت دعوةً مفاجئة صريحة، غير مستساغة من قبله، إلى طاعته ما دام "يطيع الله"، موجِّهاً هذه الدعوة إلى السوريين في لحظة انتقالية شديدة الحساسية بعد سنوات طويلة من الاقتتال والانقسام والتشظّي الاجتماعي والسياسي. اللافت في هذه الخطبة لا يتعلق بالمكان ولا بالتوقيت وحدهما، بل بالفكرة التي أُدخلت إلى المجال العام لأول مرة بهذه الصراحة: (تحويل الطاعة من شأن ديني باطني إلى طلب سياسي موجّه إلى مجتمع كامل)، وفي سوريا: الملايين الذين يرون أنفسهم يطيعون الله- أكثر منه- وهم الأبعد عن إلحاق الأذى بالآخرين أكثر منه، والأكثر نضالاً وطنياً أكثر منه، بل والأكثر تضحية منه، لاسيما أمام السؤال: ما الذي خسره السيد أحمد الشرع وهو في سوريا من أجل السوريين؟ ولن نقول: ما الذي ربحه على غير استحقاق وهو في سوريا؟ وإذ تُطرَح الطاعة بهذه الصيغة، فهي تنتقل من حقل الإيمان الفردي الذي لا يخضع للمراقبة ولا للفحص ولا للمساءلة، ولا لمعيار: الإقرار أو الرفض أو الشك، لأنه يربط بين أمرين: افتراض بل فرض الطاعة الشرعية السياسية، وهنا تبدأ الأزمة الفعلية للخطاب. (الشرعية في أي نظام حديث لا تُستمد من خطاب ديني ولا من موقع منبري)، بل من تفويض عام، ومن مشاركة سياسية حقيقية، ومن خضوع دائم للمحاسبة. أما الطاعة الدينية فهي علاقة داخلية بين الإنسان وما يؤمن به، ولا يمكن نقلها إلى حيّز الدولة دون أن تتحول إلى أداة هيمنة وتسلّط. وحقيقة، فإن سوريا ليست مجتمعاً أحاديّاً، بل هي بلد متعدّد دينياً ومذهبياً وفكرياً وثقافياً. فيها المسلم والمسيحي والإيزيدي واليهودي، وفيها من يتبع هذه الطائفة الإسلامية أو تلك، بعيداً عن تقويم إحداها، وفيها من يؤمن وفيها من لا ينطلق من الدين أصلاً في تنظيم حياته. من هنا فإن أي خطاب يطلب طاعةً موحّدة بصيغة دينية يصطدم مباشرة بواقع بنية وتركيب المجتمع، ويحوّل شريحة واسعة من السوريين إلى غرباء داخل المعادلة الوطنية، لا لأنهم خارج الدولة، بل لأنهم خارج صيغة الطاعة المعروضة. وتزداد الإشكالية حين يصدر هذا الخطاب من موقع يسعى إلى الإمساك بالسلطة السياسية، بل تمسك بها، عبر مصادفة، أو من دون توافر أي من شروطها، إذ يصبح السؤال مباشراً: على أي أساس يُطلب من السوريين طاعة شخص بعينه وهو لايملك مشروعية الإقرار برئاسته خارج تعصب فئة سرعان ما قبلت به وسرعان ما ستتخلى عنه بعد أي تغيير جديد، فيما إذا تم، وذلك على ضوء تجارب تاريخية منذ بداية تأسيس سوريا وحتى الآن؟، فمن المعروف أن سوريا لم تُستنزَف بأفعال فرد واحد، ولم تُحفر تضحياتها على يد جهة بعينها، لأن الواقع يؤكد أن ملايين السوريين ناضلوا، وسُجنوا، وسقطوا، وتشردوا، وخسروا بيوتهم وأعمالهم وأبناءهم، ولعل السيد أحمد الشرع الأقل من بين كل هؤلاء دفعاً لفاتورة النضال- السوري- وأحد-هنا- نوع هذه الفاتورة. من هنا فإن تحويل شخص واحد إلى مركز للطاعة يفصل بين التضحيات الجماعية ومصير السلطة، ويعيد إنتاج فكرة الحاكم بوصفه أعلى من المجتمع لا ممثلاً عنه. فكرة الطاعة التي طُرحها السيد الشرع بعد أن قال فيما قبل" أنا خادمكم" جاء على إيقاع بعد هوسات الولاء والمسيرات التي أكدت تاريخياً عدم امتلاكها أي رصيد مستقبلي، فهي تصطدم مباشرة بذاكرة مفتوحة على خسارات لم تُغلق بعد. إذ كيف يُطلب الامتثال وقد نام في هذا آلاف الأطفال على أصوات القصف بدل الحكايات، إن لم نتحدث عمن قتلوا تحت وابل القصف والبراميل، وكيف يُطلب الانقياد وقد تيتم آلاف بعد أن قُتل آباؤهم، وكيف تُرفع الطاعة بوصفها قيمة أخلاقية فيما واقع الدولة يحتفظ في صفحاته بمسبيّات ومهجّرات ومعتقلين لم تعد "أجسادهم" إلى ذويها. سؤال الطاعة هنا لا يقف عند هذه الجملة المنطوقة بدثار ارتباكها وإن في صيغة الثقة. إنه يدخل في جوهر المسؤولية، لأن من يطلب طاعة عامة يضع نفسه تلقائياً في موقع المحاسبة العامة لا في موقع الوعظ الذي لا شأن له بمهمة من يصل الجامع في شكل- رئيس- أو مترئس، مفروض، لايمكنه أن يكتسب الشرعية لو نال أصوات كل السوريين، مستقبلاً، بعد تشبثه بكرسي السلطة واستقراره في القصر الجمهوري، من دون جواز سفر شرعي إلى هذه المهمة. ثمة جدار فاصل بين المهمتين: (الرئيس الحاكم والخليفة)، وهما لا تلتقيان إلا في مخيال هذا الفتي القادم من- الجهاد- بعد أن تولد لدى السوريين القناعة أن مكان المقاتل الثكنة تحت أمرة السياسي المحايد، بعد كل ما ألحقه المجاهد الفصائلي وجيش النظام، ومن حولهما من الطرفين: القاتل الأجنبي بالسوريين من الويلات والمآسي والكوارث. إن واقع الدولة لا يُمحى بخطبة ولا بنداء. لقد التهم الاقتتال المجتمع من داخله، كما إن الفزعات التي جرت باسم العشائر ضد هذه الطائفة أو تلك عمّقت الشقوق بدل ردمها، وبات الوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك موقفاً غير محايد، وهوما لم يتم إلا بأمر من الرئيس ذاته المسؤول عن كل نقطة دم سوري أريقت ظلماً، ليكون كل ماتم انخراطاً في منطق الاستقطاب الذي حوّل السوري إلى خصم لسوري آخر. إن أية طاعة تُطرَح في سياق كهذا تتحول من فكرة دينية إلى مطلب سياسي يفتقر إلى الأساس التعاقدي مع طرف هو الأساس في المعادلة، من قبل آخر لايمتلك أدوات الشرعية القانونية، لأن التعاقد لا يُبنى فوق قبور مفتوحة ولا فوق جراح لم تُعالج، بل فوق اعتراف كامل بما جرى، وفوق مساءلة واضحة لكل موقع مشاركة في هذا المضمار الأليم.. أجل، إن هذا الخطاب الذي ظهر على نحو غير مدروس- نتيجة نوازع الهوس بالسلطة- لا يقف عند حدود دعوة أخلاقية، بل يقترب في عمقه من بنية فكرية تستدعي (نموذج الوالي أو الأمير)، حيث تُطلَب الطاعة قبل النقاش، ويُعرَّف الصواب من موقع السلطة لا من موقع التعاقد الوطني. هذا النموذج الخطابي ذي البعد النرجسي المتضخم يتناقض مع فكرة الخروج من الحرب، لأن المجتمعات التي خرجت من الاقتتال لا تُعاد صياغتها بالأوامر ولا بالامتثال، بل بـ(عقد سياسي جديد) يقوم على التعدّد، وعلى توزيع السلطات، وعلى الاعتراف بالحقوق المتساوية. إذ يُقال إن الطاعة لله، يُغفل أن هذا القول لا يصلح أن يكون معياراً سياسياً، لأن الطاعة في معناها الديني لا تُقاس في السلوك العام ولا تُمتحن عبر المؤسسات. وقد قدمت التجربة السورية نفسها أدلة قاسية على أن من رفعوا شعارات الطاعة تورّط كثير منهم في القتل، والفساد، والتحريض، واستباحة الدم. ولهذا فإن الربط بين الادّعاء الديني والسلوك السياسي لم يمنع الجريمة، ولم يحمِ الضحايا، بل استُخدم مراراً لتسويغ العنف. هنا يظهر لنا جلياً جوهر الاعتراض، ألا وهو: إن (الدولة لا تُدار بالإيمان بل بالقانون). كما إن الرئاسة ليست مقاماً روحياً، بل وظيفة عامة تُستمد من التفويض، وتُضبط بالدستور، وتُراقَب بالمحاسبة، فهي تعنى بكل الطيف السوري الذي لايمثل مصلو فجر الجامع الأموي إلا جزءاً منهم، ولربما قد جيء بهم، بعد اختيار ودراسة، لا على شكل عفوي، لاسيما إن إيمانية الرجل ومقوماتها بدءاً من الوضوء وانتهاء بتاريخ الطاعة غيرالجهادي غير مشهود لها من قبل المصلين العفويين أو المجندين حضوراً. ولهذا، فإن من يريد أن يؤسس- لسوريا لكل السوريين- فهو لا يبدأ من الرهان على امتحان عقائدهم، ولا من تصنيف طاعاتهم، بل من ضمان حقوقهم، ومن احترام اختلافهم، ومن صون حريتهم في الإيمان أو عدمه. ما ورد في الخطبة لا يمكن التعامل معه بوصفه زلّة لفظية عابرة- تتطلب الاعتذار عنها- بل باعتباره مؤشراً على اتجاه فكري يحتاج إلى تصحيح علني، من قبل مدعيه، أو رفض علني من قبل كل ذي رأي حر. لاسيما إن المطلوب هنا ليس سجالاً دينياً، بل مراجعة سياسية واضحة، لأن من شأن استمرار هذا المنطق يفتح الباب أمام تحويل الدولة من إطار جامع إلى سلطة أخلاقية فوق المجتمع، وهذا هو المدخل التقليدي لكل أشكال الاستبداد. وأخيراً، لابد من معرفة أن المسألة لا تتعلّق بنوايا مضمرة، بل بعقد جد ضروري دفع السوريون ثمناً كبيراً لتأمين أدواته، بما لاتسع له أهواء خطيب أو فحوى خطبة تتكىء على ماهو روحاني. لأن كل مشروع قيادي وطني إنما يبدأ بطلب الطاعة قبل بناء التعاقد، و يضع الامتثال للذات الفردية- بكل أهوائها لاسيما بعد اكتشاف نوازعها عبر التهافت على بريق العرش- قبل سن شروط ومقومات واقع ومستقبل الشراكة، ينتهي غالباً إلى إعادة إنتاج الصراع لا إلى إنهائه. ومن الضروري الإقرار بأن دحض هذا الطرح ليس خصومة شخصية البتة، بل هو دفاع عن مشروعية مستقبل الدولة باعتبارها ملكاً عاماً، لا ملكيةً موروثة أو مكتسبة أو سبية لشخص أو جهة. ويقيناً، إن أية دولة تُبنى على الطاعة تُعاد فيها إنتاج أسباب الانفجار، وفي المقابل إن أية دولة تُبنى على (أسس الحق والمساءلة) تفتح الباب أمام خروج فعلي من زمن الاقتتال، وتدفعنا للتوجه إلى بناء وطننا" التشاركي" . وطننا المنشود، لا بريق وهالة دولة الخلافة، ولا دولة الإمارة، أو السلطنة، أو المملكة كحلم مضمر مدغدغ، فيما تم تجاهل حلم شعب عظيم بكل مكوناته وأشكال فسيفسائه.
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من يكسر فرحة السوريين بسقوط النظام
-
لعبة التماثيل- من مجموعة ساعة دمشق الشعرية- نصوص كتبت في سقو
...
-
عائشة شان أسطورة الفن في مواجهة تحديات عدة
-
المطهّر الملوّث: غُسل السلطة بالدم
-
مزكين حسكو: هل حقاً إنه أربعونك!؟
-
الشاعرة مزگين حسكو: حكاية الحرف صفر وبياض الحلم والانطلاقة1-
...
-
نباح الجرو الأجرب مسرحية قصيرة للأطفال
-
غيابة نرمين في يومي الحزين في رحيل ابنة صديقي د. برزو محمود
-
دستور الفيرومونات النحل وكيمياء النظام وسقوط الخطاب!
-
الدجاجة المستديكة مسرحية قصيرة للأطفال
-
شاهين سويركلي إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا
-
على هامش فصل الكاتب حسن م يوسف دعوة إلى التسامح مع أصحاب الر
...
-
سيرة بين السبورة والصحيفة والقضية: توفيق عبدالمجيد مناضل لم
...
-
رهبة الوداع في هانوفر مزكين حسكو تعبر إلى الضفة الأُخرى من ا
...
-
الشاعرة مزگين حسكو: حكاية الحرف صفر وبياض الحلم والانطلاقة
-
مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!
-
مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
-
نداء إلى الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمختصين من أجل مئوي
...
-
المثقف الكردي والسياسي ثنائية الكلمة والسلطة
-
إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري: مجازر في قرى كردية في ال
...
المزيد.....
-
إلهان عمر ترد بتدوينة على انتقادات ترامب اللاذعة
-
إدارة ترامب تخطط بهدوء لما قد يحدث في حال الإطاحة بمادورو في
...
-
إجلاء مئات الآلاف من الحدود التايلاندية-الكمبودية بعد تجدد ا
...
-
ترامب قد يجعل أفريقيا عظيمة مرة أخرى دون أن يدري
-
قوات الاحتلال تعتقل العشرات بالضفة ومستوطنون يقتحمون الأقصى
...
-
عقوبات أمريكية على شبكة -تجند مقاتلين كولومبيين لصالح قوات ا
...
-
انسحاب جنود سودانيين إلى جنوب السودان بعد سقوط حقل هجليج بيد
...
-
زيلينسكي يبدي استعداده لانتخابات جديدة بعد انتقادات ترامب وي
...
-
على عكس تصريحات ترامب عن -خسارة- أوكرانيا.. مصادر لـCNN: الو
...
-
ترامب: الصومال -أسوأ دولة في العالم-.. وإلهان عمر-لا تفعل شي
...
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|