الهيموت عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 14:17
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
كثر دعاة الحفاظ على الوطن والتغني به وحمايته من خطر الإرهاب ومن خطر المؤامرات الخارجية ، وكثر الحديث عن ضرورة الاصطفاف وراء الدولة لمواجهته، ولكن قلّما يلتفت هؤلاء إلى أن الفساد هو الوجه الآخر والأعمق للإرهاب، بل هو الخطر الأشد فتكا بالأوطان، لأنه لا يهاجمها من الخارج بل ينهشها من الداخل،فالإرهاب مهما اشتدّت ضرباته، يظلّ حدثا استثنائيا، يمكن للدولة أن تعبئ المجتمع لمواجهته، أما الفساد فهو مرض مزمن يسري في شرايين النظام السياسي والإداري والاقتصادية والاجتماعي، يخرّب الثقة، ويقتل الأمل، ويحوّل الوطن إلى غنيمة يتقاسمها المنتفعون .
ولعلّ نظرة إلى تاريخ أوروبا المعاصرة تُظهر لنا بجلاء هذه المفارقة بين صمود الديمقراطيات أمام العنف المسلح و ضربات الإرهاب مع القاعدة وداعش من جهة ، وبين تغلغل الفساد وخطورته القاتلة من جهة أخرى.
*عرفت فرنسا مابين 1979- 1987 منظمة يسارية متطرفة ، قامت باغتيال رجال أعمال كبار ( مدير شركة رينو "جورج بيس" سنة 1986)، وقامت بهجمات ضد مصالح عسكرية واقتصادية لعقد من الزمن، تم جاءت ضربات القاعدة وداعش 2015-2016 وأدت إلى قتل أكثر من 240 مواطن فرنسي ،تعرضت باريس لأكثر العمليات دموية لم تعرفها منذ الحرب العالمية الثانية نتج عنها آلاف الضحايا رغم كل ذلك لم تتراجع الجمهورية عن مبادئها الديمقراطية،لم تفقد السيطرة على الجيش أو الشرطة ،وكل العمليات واجهتها الدولة في إطار القانون والدستور، وتعززت الوحدة الوطنية لأن الشعب الفرنسي لديه تاريخ طويل مع الصراع السياسي منذ الثورة الفرنسية ، ولم تتحول فرنسا إلى دولة بوليسية مما حافظ على الثقة العامة، وعلى السير العادي للمؤسسات و على الإعلام الحر والمجتمع المدني اليقظ والنقاش العمومي المفتوح في وجه الجميع للتداول في الظاهرة وأسبابها وتداعياتها، ولم يستعمل الإرهاب كذريعة لإلجام المعارضة والصحافة ،بقيت الجمهورية الفرنسية دولة قانون ومؤسسات لم تتخل عن قيمها و عن كافة الحريات والحقوق .
*عرفت إسبانيا منذ ستينيات القرن العشرين واحدة من أعنف الحركات المسلحة في أوروبا: منظمة إيتا الباسكية التي خاضت حربا انفصالية طويلة من أجل استقلال إقليم الباسك.
نفّذت المنظمة مئات التفجيرات والاغتيالات ، أشهرها تفجير عام 1987 في برشلونة الذي خلّف أكثر من 20 قتيلاً، ومحاولة اغتيال عدد من الوزراء ورغم هذا العنف الدموي الذي استمر لعقود، لم تنهَر الديمقراطية الإسبانية، ولم تتوقف الانتخابات، ولم تتحوّل البلاد إلى دولة بوليسية، لأن المؤسسات كانت قوية، والفساد محدود، و القضاء مستقل ويطال الجميع .
وفي 2004 تعرضت إسبانيا لتفجيرات إرهابية داخل القطارات أدت لمئات القتلى ، ومع ذلك لم تتراجع إسبانيا عن ديقراطيتها ولم تسن قوانين لمحاربة الإرهاب ، بل أجرت انتخابات حرة بعد أيام، وتغيّرت الحكومة عبر صناديق الاقتراع لأن الدولة قوية بمؤسساتها ودستورها وديمقراطيتها وقضائها وصحافتها.
* المملكة المتحدة
في إيرلندا الشمالية واجهت بريطانيا طوال السبعينيات والثمانينيات موجة من العنف المسلح قادها الجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت ، بلغ العنف المسلح ذروته فيما سُمّي بـالسنوات الدامية، حيث شهدت المدن البريطانية تفجيرات مروّعة، منها محاولة اغتيال رئيسة الوزراء "مارغريت تاتشر" سنة1984بتفجير فندق "برايتون"، ومع ذلك لم تسقط الديمقراطية البريطانية، بل أدارت الدولة الأزمة بسلاسة سياسية، انتهت باتفاق السلام في بلفاست عام 1998، السبب هو أن الفساد في المملكة المتحدة لم يكن سمة بنيوية، ولم يفقد المواطن ثقته في العدالة ولا في البرلمان ولا في القانون، ولا في الديمقراطية ،في 2005 تعرضت لندن لأربعة تفجيرات إرهابية متزامنة في المترو والحافلات ، ورغم ذلك المملكة لم تعلن لا حالة الطوارئ ، ولم تلغ الحريات المدنية والسياسية وبقيت الصحافة حرة والنظام البرلماني صامدا، والمؤسسات تشتغل بشكل عادي لأن الفساد محاصر بالقانون والمحاسبة.
*شهدت إيطاليا في السبعينيات ما عُرف بـسنوات الرصاص حين نشطت الألوية الحمراء، وهي تنظيم يساري متطرف اختطف واغتال رئيس الوزراء الأسبق "ألدو مورو" سنة 1978 بعد 55 يوماً من الأسر، كانت تلك ضربة موجعة هزّت وجدان الإيطاليين، لكن البلاد لم تفقد توازنها الديمقراطي، بل زادت تمسكاّ بالمؤسسات والانتخابات، رغم أن الدولة الإيطالية كانت واجهت عنفا مسلحا مروّعا، بقيت صامدة ومستقرة لأنها لم تكن غارقة في فساد هيكلي.
*في ألمانيا الغربية، برز في السبعينيات تنظيم يساري راديكالي هو فصيل الجيش الأحمر ، الذي نفّذ سلسلة اغتيالات وتفجيرات واختطافات، من أبرزها خطف رئيس اتحاد الصناعيين هانس مارتن شلاير وقتله سنة 1977، رغم حالة الذعر والهلع التي عاشتها البلاد، بقيت المؤسسات الألمانية قوية و تشتغل بشكل عادي، لأن الثقة العامة لم تُقوَّض بالفساد، ولأن الدولة قوية بمؤسساتها الديمقراطية وقضائها المستقل وشفافية التحقيقات وحرية الصحافة .
في هذه الدول وأخرى التي تعرف ديمقراطية حقيقية وقضاء مستقلا وانتخابات نزيهة وصحافة حرة وكرامة إنسانية واختصارا دولة الحريات والحقوق لم يستطع أن يسقطها العمل المسلح والإرهاب مجتمعين لأن الفساد بهذه الدول استثناء وليس قاعدة ، ولأن الفساد يطاله القانون، و القضاء المستقل يحاكم الإرهابي والفاسد على السواء، لم تسقط هذه الدول لأن الديمقراطية تشكل مناعة حقيقية وصمام أمان وهي من تحمي الوطن من الفساد والإرهاب مادامت تتوفر على قضاء مستقل وصحافة حرة ومجتمع مدني حقيقي و مواطن مستعد الدفاع عن حقوقه وبلده.
* في المقابل دول مثل نيجيريا والكونغو وزيمبابوي وهايتي والسودان وغيرها الكثير من الدول التي سقطت وانهارت ليس نتيجه حركات مسلحة أو الإرهاب بل نتيجة الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة ،الفساد هو الإرهاب الحقيقي الذي يقتل المؤسسات ويهدم الثقة، ويحوّل الأوطان إلى قشرة فارغة ، هو الموت البطيء التي مهما رفعت فيها من شعارات الأمن والوطنية ، الإرهاب يُوحّد الناس ضد عدو خارجي، أما الفساد فيُفرّقهم، لأنه يجعل الجميع يشك في الجميع، ويفقد المواطن ثقته في الدولة وفي معنى المواطنة نفسها.
تبث وبالمؤشرات العلمية إن الفساد أخطر من الإرهاب و في بعض الحالات أخطر حتى من الاستبداد فيما يعرف بمفارقة الصين ، تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة تؤكد أن“الفساد يُضعف مؤسسات الدولة، ويقوّض سيادة القانون، ويمنع التنمية، ويخلق بيئة خصبة للإرهاب والجريمة المنظمة" أي أن الفساد ليس مجرد خطر موازٍ للإرهاب، بل هو البيئة الحاضنة له.
منظمة الشفافية الدولية تعتبر الفساد هو الخطر الأول على ضعف الدولة قبل الإرهاب أو الاستبداد ، البنك الدولي يعتبر الفساد هو التهديد الأكبر للتنمية المستدامة، لأنه يبدد الموارد قبل أن تصل للمجتمع.
تجمع الدراسات الأكاديمية والتقارير الأممية أن الفساد أخطر من الإرهاب لأنه يولّده، وأخطر من الاستبداد لأنه يفرغه من مضمونه، فالدولة يمكن أن تبقى رغم القمع والاستبداد ، أو تتعافى بعد الإرهاب،لكنها تنهار لا محالة حين يصبح الفساد نظاما للحكم وليس فقد ظاهرة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟