أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة و الهيمنة















المزيد.....

صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة و الهيمنة


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8544 - 2025 / 12 / 2 - 16:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في كلّ حقبةٍ تشتدّ فيها قبضة الهيمنة وتُخنق فيها الخيارات، تولد في الظلال بذورُ مقاومةٍ جديدة تتغذّى من الحاجة والكرامة معاً. فحين يُمنع الضوء، تتعلّم الشعوب كيف تُنبت قوتها في العتمة. هذه القاعدة القديمة التي لا تبلى: كلّ حصارٍ يولّد نقيضه، وكلّ عجزٍ يدفع نحو ابتكار أدوات تتجاوز حدود المنع.
التاريخ، وإن لم يُعِد نفسه حرفياً، يعيد مناهجه ودروسه الجوهرية. من «الهاغاناه» التي نمت في رحم الانتداب البريطاني، إلى «حماس» و«حزب الله» في واقعٍ عربيٍّ متصدّع ومحاصر، تتكرّر خيوط الحكاية ذاتها: بناء القوة بعيداً عن الضوء، وصياغة معادلة جديدة للردع من رحم الضعف والعزلة. ليست هذه قراءة في الماضي لذاته، بل محاولة لتأمل ما يتكرّر في التاريخ حين تتحوّل الحاجة إلى استراتيجية، والاختناق إلى مختبرٍ لبناء الإرادة.

صناعة القوة في العتمة: من التدريب إلى المصانع السرّية

في فلسطين الانتدابية، لم يولد السلاح من فراغ، بل من منهجٍ متكامل جمع بين التنظيم الدقيق والتصنيع السرّي والاستثمار في العنصر البشري. «الهاغاناه» لم تكن مجرّد مجموعات دفاعية مرتجلة، بل مشروعاً متدرّجاً لتأسيس جهازٍ عسكري يعمل تحت السطح ويعيد هندسة المجتمع حول فكرة القوة.
أنشأت الحركة ورشاً ومخابئ تحت الأرض، وموّلت مصانع متنكرة في هيئة مزارع أو معامل حرفية، وأطلقت برامج تدريب متواصلة للشبان والشابات في المستوطنات، بما يجعل من كلّ فردٍ مشروع مقاتلٍ محتمل. ومع الوقت، ولدت نواةُ الجناح النخبوي «البلماخ»، الذي مثّل القاعدة القتالية الأكثر احترافاً في زمن ما قبل الدولة.
كانت هذه العملية المزدوجة — تدريب متواصل وصناعة محلية مخفية — أشبه بمدرسة في تحويل الموارد المحدودة إلى قدرة مستدامة. لم تكن المسألة جمعاً للسلاح فحسب، بل بناء ثقافة عسكرية واجتماعية في آن واحد، بحيث يصبح الحصار محفّزاً للابتكار، لا سبباً للانهيار. إنّ ما جرى في الظلّ حينها يشبه إلى حدّ بعيد ما نراه اليوم في تجارب المقاومة التي تبني قوتها من رحم القيد، وتصنع إمكاناتها بوسائل محلية متقشفة لكنها فعّالة.

التكيّف مع الحصار: شبكات التمويل والتهريب

لم يكن بناء القوة العسكرية منفصلاً عن شبكة تمويلٍ وتمويهٍ دقيقة تمدّها بالمال والعتاد. فمع القيود البريطانية الصارمة على السلاح، لجأت «الهاغاناه» إلى ابتكار اقتصادٍ موازٍ يعتمد على الجاليات، والتبرعات، والتجارة غير الرسمية، وشركات وهمية لشراء الأسلحة عبر وسطاء في أوروبا الشرقية والبلقان. تحوّل العالم الخفيّ من خلف البحار إلى شريان حياةٍ يغذّي المشروع بالسلاح والخبرة والمال.
في زمننا الراهن، تتكرّر هذه المنظومة وإن بأشكالٍ مختلفة: شبكات دعمٍ مالي في المنافي، تحويلات من أنصارٍ في الشتات، أسواق سوداء، وطرق تهريبٍ معقّدة تتجاوز الموانئ الرسمية والمعابر المغلقة. جوهر التجربة واحد: تجاوز نظام المنع ببناء منظومةٍ موازية، حيث يصبح الحصار فرصةً لإعادة ترتيب مسارات التمويل وابتكار قنواتٍ بديلة.
لكنّ البعد الأعمق هنا ليس اقتصادياً فحسب، بل سياسي وأخلاقي أيضاً. فحين يُحاصَر الفعل المقاوم اقتصادياً، يتحوّل الدعم الشعبي إلى فعلٍ سياسي ذي معنى، ويغدو التبرع رمزاً للانتماء والمشاركة في معركة التحرّر. إنها لحظة تتجاوز الاقتصاد إلى الوجدان، حيث تتحوّل كلّ ليرةٍ أو قطعةٍ مهرّبةٍ إلى لبنةٍ في مشروع البقاء والمواجهة.

التشابك المدني ـ العسكري: حاضنةٌ تحمِل السلاح وتُخفيه

إحدى أهمّ ركائز بناء القوة في التجربة التاريخية كانت دمج المجتمع المدني في العمل العسكري، بحيث يصبح التمييز بين الحاضنة والمقاتل أمراً معقّداً. المستوطنات لم تكن فضاءات سكنية، بل قواعد لوجستية مموّهة للتدريب والتخزين والتمويل. المزارع التي بدت بريئة كانت تُخفي تحتها مصانع للذخيرة، والمدارس والنوادي تحوّلت إلى نقاط استقطاب وتعبئة.
اليوم، تتكرّر الديناميكية ذاتها في بيئات المقاومة الحديثة، حيث يتغلغل العمل المسلّح في النسيج الاجتماعي، ويتحوّل البيت إلى ملجأٍ والمصنع إلى ورشة تصنيعٍ صغيرة، وتصبح البنية المدنية مظلّة لحماية المشروع من التفكيك. هنا تتغيّر طبيعة الصراع: فاستهداف القوة المسلحة وحدها لا يكفي، لأنّها ممتزجة بالمجتمع، متموضعة داخله ومعبّرة عن إرادته.
هذا التشابك يضع الخصوم في مأزقٍ أخلاقي وسياسي، إذ يصعب ضرب البنية العسكرية دون المساس بالمدنيين، ويستحيل عزل المقاومة عن حاضنتها من دون تفكيك المجتمع ذاته. إنها معادلة الردع الأخلاقي التي تحوّل الحرب إلى اختبارٍ لحدود القيم بقدر ما هي اختبارٌ للقوة.

القفزة النوعية: من الاكتفاء الذاتي إلى الحرب المنظّمة

التحوّل النوعي الذي شهدته تجربة «الهاغاناه» قبل قيام الكيان الصهيوني كان الانتقال من مجرد اكتفاءٍ ذاتي إلى تخطيطٍ عسكريٍّ منظم يعتمد على مركزية القرار ووحدة القيادة وتوزيع الأدوار. لم يكن الجمع بين السلاح والتدريب كافياً؛ بل وُضعت خطط مسبقة لتقسيم الجبهات، وتنظيم العمليات، واستباق السيناريوهات المحتملة. وهكذا وُلدت نواة الجيش الذي سيُعلن قيام الدولة لاحقاً.
المنطق نفسه نجده في تجارب المقاومة الحديثة التي انتقلت من فوضى المواجهة إلى عقلانية التنظيم والتكامل. فصناعة الصواريخ محلياً، وبناء شبكات الأنفاق، وتطوير وسائل الاتصال والتخطيط العملياتي، كلّها تعبّر عن نقلةٍ من ردّ الفعل إلى المبادرة. أصبح الاكتفاء الذاتي منظومةً متكاملة لإدارة المعركة، لا مجرّد وسيلة للصمود.
وعندما تتكامل عناصر المنظومة — القيادة المرنة، التصنيع الداخلي، الحاضنة الشعبية، والتخطيط بعيد المدى — يتحوّل ميزان الصراع، وتفقد الهيمنة جزءاً من قدرتها على فرض الإملاء بالقوة. هنا يتجلّى أحد أهمّ دروس التاريخ: أن من يملك الإرادة والمنهج يستطيع، حتى في الظلّ، أن يفرض حضوره على الضوء.

التاريخ كمرآة ودرس للمستقبل

ما يتكرّر في التاريخ ليس التفاصيل، بل المعادلات الكبرى: الحصار يولّد التنظيم، والعزلة تفرز الإبداع، والقوة حين تُبنى في السرّ تصبح أكثر رسوخاً من تلك التي تُستورد جاهزة من الخارج. غير أن المقارنة بين الأمس واليوم تكشف مفارقةً مؤلمة: ما اعتُبر شرعياً في تجربة بناء الكيان، يُصنَّف اليوم إرهاباً حين يمارسه آخرون للدفاع عن أرضهم وحقّهم. إنها ازدواجية المعايير التي تحكم النظام الدولي، وتعيد تعريف الشرعية وفق موازين القوة لا وفق مبدأ العدالة.
ومع ذلك، يبقى الدرس الأهمّ هو أنّ بناء القوة في الظلّ ليس فعلاً مؤقتاً أو طارئاً، بل مسار طويل يُعيد تعريف العلاقة بين المجتمع والمقاومة، بين الخفاء والعلانية، بين الفكرة والرصاصة. فحين تشتدّ العزلة، تتكثّف الإرادة، وحين يُغلق الأفق السياسي، تُفتح الأنفاق الرمزية والمادية معاً نحو المستقبل.
التاريخ، إذاً، ليس سجلاً للأحداث الماضية، بل مختبراً مفتوحاً لفهم ديناميكيات القوة والتحرّر. ومن يتأمّل مسار «الهاغاناه» في زمن الانتداب، ويقارنها بتجارب المقاومة الحديثة في زمن الحصار، يدرك أن أدوات الصراع تتبدّل، لكنّ جوهر الإرادة يظلّ ثابتاً: أن تُصنع القوة في العتمة، لتولد يوماً على ضوء المواجهة، وتعيد إلى الإنسان معنى القدرة على التحدي والبقاء.

- كاتب و باحث تونسي مهتم بقضايا التنمية و المواطنة و الصراع العربي // الصهيوني.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواطنون لا رعايا : من أجل جمهورية ديمقراطية إختماعية تونسية ...
- محور المقاومة العربية : استراتيجيات الصمود و مسارات التاثير ...
- غزة و التحولات الإقليمية..حدود القوة و إمكانات التغيير
- الأمة العربية بين الوعي و المقاومة : صراع التاريخ و الخيارات ...
- شهادة نعتزً بها و تدفعنا إلى الأمام...
- الحبكة المقدسة : الدين في السينما الغربية
- السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الج ...
- انيسة عبود ..بين النعنع البرًي و صدى الروح الأدبية
- الذكرى الثانية لطوفان الأقصى : سقوط الأسطورة الصهيونية و صعو ...
- هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي بين التاريخ و الأسطورة و الهو ...
- الجمهورية الممكنة..من الرعوية إلى المواطنة
- من يقاوم الهزيمة لا يخشى النهايات
- غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة
- عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة
- محمد داني: بين السرد و النقد.. رحلة الوعي و الإبداع
- حنظلة لا يموت : ناجي العلي و الثقافة المقاومة
- نصر الدين العسالي : حين تتجلًى اللوحة في مواجهة قسوة الواقع


المزيد.....




- قبيل اجتماع بوتين – ويتكوف.. الكرملين: أي اتفاق بشأن أوكراني ...
- لأول مرة منذ عامين.. شاهد كيف عاد طلاب غزة إلى مدارسهم المدم ...
- السعودية وروسيا توقعان اتفاقية تاريخية للإعفاء المتبادل من ت ...
- الشرطة البلجيكية تعتقل المسؤولة السابقة عن الخارجية الأوروبي ...
- 753 قتيلا حصيلة جديدة لفيضانات إندونيسيا
- صور مأساوية من مستشفى للأمراض النفسية بالعراق تثير غضبا واسع ...
- محاولة ذبح قربان في الأقصى تنتهي بالفشل.. ما القصة؟
- بعد عمليتي الدعس والطعن.. هل تحفز عقوبات الاحتلال المقاومة ب ...
- خبير عسكري: لهذه الأسباب تعجز إسرائيل عن التنبؤ بعمليات الضف ...
- نتنياهو يشترط منطقة منزوعة السلاح من دمشق حتى الجولان


المزيد.....

- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة و الهيمنة