ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8538 - 2025 / 11 / 26 - 16:44
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في إطار دراسة سلبيات وإيجابيات الحركات السياسية (الإسلامية والقومية واليسارية) التي شهدها المجتمع العراقي على امتداد ما يوازي القرن من الزمان ، فإنه يتعذر على الباحث المنصف إيجاد ما يضارع الحزب الشيوعي العراقي في مضمار حيازة المناقبيات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي جعلته يحظى بذلك الزخم الجماهيري والهالة الاعتبارية من لدن عموم الشرائح الاجتماعية . باستثناء تلك (الفضيلة) الغائبة أو المغيبة المتمثلة ب(تفريطه) المحيّر والغريب لما يعتبر (وفاءا") و(التزاما") ب(المنهجية) الماركسية ، التي كان يفترض به أن يكون شديد الحرص على مراعاتها ك(أولوية) قصوى لا مجال للتهاون فيها أو المهادنة بشأنها ، كائنة ما كانت الظروف والأحوال والأوضاع والسياقات التي تتعلق بمختلف الأنشطة التي زاولها هذا الحزب على مدى عقود ؛ سواء منها الحزبية / التنظيمية ، أو الفكرية / الإيديولوجية ، أو السياسية / السلطوية ، من منطلق كونه الفاعل الأساسي والناطق الرسمي بكل ما له صلة بالحركة الشيوعية كأفكار أو مؤسسات أو رموز أو أشخاص .
فعلى الرغم من ضخامة وجسامة التضحيات التي قدمها أعضاء الحزب الشيوعي العراقي ، وما عانوه من مكابدات وما تجرعوه من مرارات على مدار عقود من الطغيان والاستبداد السياسي التي أبتلي بها المجتمع العراقي ، إلاّ أنهم لم يحظوا بقيادة سياسية وفكرية ترقى الى مستوى الفلسفة التي يتبناها الحزب ، والتي يفترض به أن يعكس مبادئها ويمثل رسالتها ويحسد قيمها على أرض الواقع . حيث قلما اهتم القادة الحزبيين والسياسيين بجوهر الفكر الماركسي المتمثل بالطابع (المنهجي - الجدلي) الواقعي وليس (الإيديولوجي – المثالي) الطوباوي ، والذي اعتبر من أعظم الانجازات التي حققها الفكر الإنساني شرقا"وغربا"، بدلالة أن مؤسسا الماركسية لخصا أهمية هذا المكسب الفكري بجملة مختصرة هي بمثابة (قاموس) يغني عن الكثير من الخطابات المزوقة والشعارات المنمقة ، مفادها : (ان الماركسية هي منهاج عمل وليس عقيدة جامدة) ! .
ولعل كل ما عاناه وكابده – ولا يزال - (الحزب) من إخفاقات وتراجعات وخسارات ، ناجم عن هذا الابتلاء (الدوغمائي) الذي ما انفك الحزب يتخبط في دواماته ، دون أن يفلح في إيجاد مخرج / مخارج واقعية تتيح له التخلص من قيوده المزمنة ، والإفلات من مخانقه المتوطنة ، ومن ثم الانفتاح على الواقع المعيش ، والانغمار في تياراته الصاخبة ، ومساراته المتعرجة , وتفاعلاته المتفجرة . لا بل ان هذا الحزب لم يلبث أن يتراجع (خطوتين) الى الوراء بدلا"من أن يتقدم (خطوة) الى الأمام ، كلما استدعت الظروف السياسية الساخنة والأوضاع الاجتماعية المضطربة ، أن يبادر الى تشخيص مصادرها وتحليل معطياتها واستخلاص نتائجها واستنباط حلولها ، كلما (نكص) على عقبيه وعاد القهقري ليستأنف ذات السياسات الفاشلة ويتبنى ذات المواقف الخاطئة ، سواء على صعيد الخطابات الإيديولوجية والعلاقات السياسية والتحالفات الحزبية ، كما لو أن دروس الماضي المؤلم لم تكن بالقدر الكافي ليعتبر فيها ويتعظ منها .
والمفارقة ان سياسات الحزب الشيوعي العراقي تكون - في الغالب الأعم - أقرب الى معطيات الواقع وأكثر إحساسا"بإرهاصات المجتمع ، كلما كانت الظروف والأوضاع التي يمارس أنشطته من خلالها لا تسمح له بالظهور (العلني) للتعبير عن مواقفه وبرامجه وفكرياته ، بحيث تضطره الملاحقات الأمنية والبوليسية للجوء الى العمل تحت غطاء (السرية) ، تلافيا"لتبعات الحضر السياسي المشفوع بالردع والقمع التي تفرضها السلطات الحاكمة . ولكن ما أن تتغير تلك الظروف والأوضاع وتتبدل موازين القوى - عبر الثورات أو الانقلابات – بحيث تلغى الممنوعات والمحرمات التي كانت مفروضة على الأحزاب والتنظيمات المعارضة ، كما حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 ، حتى يفقد تلك الميزات التحليلية والاستقرائية والاستشرافية ، بحيث لا يلبث أن يمر بحالة من الارتباك في الرؤية الواضحة ، وغياب القدرة على تحديد الخيارات المتاحة ، وتشخيص الاتجاهات الفاعلة ، وتعيين المسارات المناسبة .
ولعل من جمل تبعات وتداعيات غياب (البوصلة المنهجية) الماركسية الموجّهة ، ان الحزب الشيوعي العراقي لم يعد بمقدوره اجتراح (المبادرات) الفكرية والسياسية ، التي من شأنها المساعدة على قراءة الواقع الاجتماعي الصاخب والمعقد ، قراءة تتيح له ليس فقط تحليل البنى والأنساق والسياقات الفاعلة فحسب ، ومن ثم تتيح له الوقوف على نمط التفاعلات والصراعات والعلاقات القائمة بين تلك البنى والأنساق والسياقات فحسب ، وإنما تضع بين يديه زمام قيادة وتوجيه بقية القوى السياسية والتيارات الإيديولوجية الأخرى التي تنافسه على حيازة مقاليد السلطة ، واجتذاب جماهير المجتمع . وذلك على خلفية جدوى سياساته الآنية ، وجدارة استراتيجياته المستقبلية .
وبناء على ذلك ، فإن المدماك الحديدي للحزب الشيوعي العراقي لم يلبث أن تعرض للتآكل والاندثار ، منذ اللحظة التي أغوته فيها السلطة السياسة للنظام السابق للوقوع في فخ ما يسمى ب(الجبهة الوطنية التقدمية) ، التي سمحت له السلطة بموجبها التخلي عن (سريته) واستئناف نشاطه (العلني) ، والتي كانت بمثابة (الطعم - السم) الذي كان ثمنه (تصفية) و(تشريد) عشرات الآلاف من خيرة عناصر الحزب في مجالات التنظير الفكري والتنظيم الحزبي . وبدلا"من أن تكون هذه (النكسة) المفجعة درسا"لنقد الأخطاء ومراجعة الإخفاقات ، فإن الحزب سرعان ما أوقع نفسه في ورطة أخرى لا تقل فداحة عن سابقتها ، ولكن هذه المرة لم تقتصر خسائره فقط بالعنصر (البشري) والتنظيم (الحربي) كما في المرة السابقة ، وإنما طالت – علاوة على ذلك - رصيده التاريخي ، وتفوقه الجماهيري ، واعتباره السياسي ، وتميّزه الإيديولوجي . لاسيما بعد أن ارتضت قياداته التقليدية أن تكون كون ضمن طاقم الكيانات العنصرية والطائفية والقبلية ، التي جاء بها الاحتلال الأمريكي الغاشم لحكم البلاد والعباد تحت يافطة عنوانها (الديمقراطية) ، ولكن بمضمون يعبر عن وصايتها الكاملة وإشرافها المباشر .
وهكذا ، وعلى هذا الإيقاع من التنازلات والخسارات والتراجعات ، لم يلبث الحزب أن وجد نفسه يكافح – بلا طائل - للحصول على دور هامشي يلعبه ضمن لعبة (المحاصصات) الفئوية التي خططت لها وشجعت عليها سلطات الاحتلال الأمريكي ، ضمن إطار ما يسمى ب(مجلس الحكم) سيء الصيت الذي كرّس الانقسامات العصبية بين مكونات المجتمع العراقي ، على أمل أن يبرر (الحزب) من خلالها سياسات (التفرط) المجاني التي انتهجها بخفة وتسرع لا يحسد عليها ، خصوصا"إزاء قوى سياسية وتيارات فكرية ما كان يجمعها بمبادئ الحزب ومواقفه وبرامجه قبل ذلك أي جامع ، سوى معارضة النظام السابق ورفض سياساته الدكتاتورية والقمعية . وهو الأمر الذي دللت عليه نتائج الانتخابات البرلمانية المزعومة في الدورات السابقة ، التي رغم كل الدعوات والاستعراضات التي بذلها الشيوعيون وأنصارهم لتحقيق فوز مرشحي (الحزب) ، فإن النتائج التي تمخضت على أساسها لم تفضي لشيء سوى أنها جاءت بائسة ومخيبة للآمال . حيث عكست تلك الحصائل حجم التآكل الذي تعرضت له قواعده الجماهيرية ، ومدى الانحسار في مستوى حواضنه الشعبية ، جراء تكرار الأخطاء والإخفاقات التي أبتلي بها (الحزب) على مدى سنوات ، للحدّ الذي خسر معها مواقع تصدره الأولى بين بقية الأحزاب والحركات المعارضة الأخرى . ولذلك فقد عجز (الحزب) في مساعيه لتغيير نسب المشاركة من قبل النشاطين والمتعاطفين ، على أمل أن يخطي حاجز المقعد البرلماني (اليتيم) الذي استمر محتفظا"به – بصعوبة بالغة - داخل قبة البرلمان دون أن يهش أو ينش ، في سابقة سياسية لم تكن متوقعة أبدا"إذا ما قورنت بباع مسيرة نضاله الصلب وتضحياته الجسيمة .
ولعل النكسة الكبرى التي مني بها (الحزب) وألحقت به الهزيمة المؤلمة في مراثون الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في الحادي عشر من هذا الشهر (ت2) 2025 ، حيث كانت بمثابة الضربة القاضية التي قضت على كل آمال وتطلعات ليس فقط الأعضاء العاملين داخل صوف (الحزب) والمنخرطين في تنظيماته فحسب ، وإنما شملت كل أولئك المنضوين تحت لواء تيارات (اليسار) الديمقراطي – المدني بمختلف تلاوينه واتجاهاته أيضا". إذ تبين بوضوح ان الحزب الشيوعي لم يمنى فقط بخسارة مقعده البرلماني (الوحيد) الذي كان يشغله في الدورات البرلمانية السابقة فحسب ، بل وكذلك فشل فشلا"ذريعا"في بلوغ الحدّ الأدنى من أصوات الناخبين الذين تمنح أعدادهم المطلوبة للمرشح المعني ، حق المشاركة بالمارثون الانتخابي المحموم ، ومن ثم ، خوض المنافسة للحصول على المقعد البرلماني العتيد .
ولعل هذه النتيجة التي كانت متوقعة من لدن بعض المتابعين لطبيعة الحراك الاجتماعي والاصطفاف السياسي قبل الانتخابات ، جاءت تتويجا"لسياسات (التفريط) بالقواعد والأسس التي طالما أكدت عليها (المنهجية) الماركسية ، لاسيما أثناء الانخراط في مثل هذه الأنشطة والفعاليات بحيث ينبغي الاحتراز من تداعيات وتبعات أي تجاوز أو تخطي لمحظورات (الخطوط الحمراء) الإستراتيجية ، حين تضطر الأحزاب الشيوعية (مكره) الى عقد التحالفات مع / وتقديم التنازلات لبعض الأطراف الأخرى ، بحيث يبقى زمام الأمور الجوهرية بيده وطوع بنانه ، وإلاّ فإنه سيفرط ليس فقط بحقوقه ومصالح الأساسية فحسب ، بل وكذلك سيفرط بمكانته الاعتبارية ورصيده الرمزي . وهو الأمر حصل – للأسف الشديد - مع (الحزب) الشيوعي مؤخرا"بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، التي أظهرت كم بات هذا الحزب العريق بعيدا"عن تيارات الواقع المتلاطمة ، وإرهاصات المجتمع المتفجرة . فهل - يا ترى - ستكون هذه النتيجة المخجلة سببا"يحمل قادة الصف الأول على المباشرة بإعادة نظر جذرية وفورية ، بحيث تطال كل ما يمثله الحزب من فكريات مثالية ، ومنهجيات تقليدية ، وسياسات ارتجالية ، وتحالفات عشوائية ! .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟