أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فيحاء السامرائي - هي والمخلوقات الجميمة














المزيد.....

هي والمخلوقات الجميمة


فيحاء السامرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 02:28
المحور: الادب والفن
    


غروب متخثر يندلع حولها وفيها بعيونه وعيوبه، تنسلّ من أحشائه كائنات دميمة بذيول وذبول سحيق تدبّ نحوها بلجاجة ولزوجة أينما تذهب.. حين تروح للمطبخ، تتعثر خطاها بأشواك وحشة رمادية، تمشي لغرفتها، تستبقها تكشيرة جزع أزرق، وحين تروح للصالة يجلس جوارها جسد خيبة بارد.. تتمادى مخلوقات غريبة في استباحة حياتها، فتنبري مرارة مضنية في محاولة لإطفاء أضواء الدار، وتقفل لاجدوى جهاز التلفزيون، كما وتُصمت عزلة هاتفها.. ولدهشتها وعجزها، تنفث تلك المخلوقات غير المرئية هواءً إبرياً مسنوناً، يشقّ طريقه نحو روحها بمضاء ويتحول صوته من حسيس الى هسيس، يخرق لفح أخطبوطي له قلبها ويستوطن فيه، بعد أن يعطل يديها عن كل فعل، بل ويستلب بفظاظة رحم تفكيرها لتكون عقيمة من كل أمل في أي عمل، وفي حالة فقر في قفر.
وبدون سابق نيّة، وعلى نحو سريع، ترتدي معطفها، تستنجد بالباب وتعدو خارج دارها، تاركة وراءها جوقة عاوية من خبوّ وخذلان وخدر وخمود، صاحبتها طوال يومها.

ريح ناعقة ناخرة، تتسلل الى الريق والطريق.. ومن تحت مصابيح الشارع، يتكشف بجلاء نثار رذاذ هميم، وعلى الأرض، تختلط أوراق شجر حمراء وصفراء بأوراق يانصيب غير رابحة وبراز حيوانات بيتية وبقايا قيء لمخمور متشرد.. يتعالى من دار قريب نباح كلب عنيد وصوت بكاء صبي، يتداخل مع لهجة حادة لامرأة، ومن شباك مفتوح على الشارع ترتفع عقيرة رجل بزعيق عارم وبكلمات بذيئة حانقة على شخص لا يرد عليه.

ما لا تعقله هو كيفية احتلال مخلوقاتها الدميمة بصرها وسمعها وروحها ومتى.. لعلّ أمضى سلاح لمناجزتها هو ترانيم أثيرة تستلّها من حنجرتها وتنكّه بها وقت كربها، (يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا...) نغمة كانت على وشك أن تفلت من فمها، لكنها تعدل عنها وتغصّ باللحن المتغضن.. تدرك أن احساسها الجميل صار مستعبداً وغير مستبعد عن بشاعة وشناعة تلك المخلوقات، وهاهما قدماها تتجهان صوب أكثر مكان كانت تفضل الابتعاد عنه، وتعلقان في نسيجه.
حول قبور قديمة في مقبرة تحاذي دور سكنية مجاورة، يتعرش نبات علّيق ولبلاب على أشجار بتولا وزان نفضية عارية، وأمام بصرها، تمتد شواهد رخامية بيضاء ورمادية، ومزهريات مفجوعة بموقعها وبزهور بلاستيكية محشورة فيها دون أنفاس، ينعكس عليها ضوء مصابيح بعيد، فتبدو وكأنها آخر لوحة لرسام يودع بها الحياة.. مشهد يذكّرها بأشدّ ما تخشاه، أن تموت وحيدة.. على شاهدة قريبة مكتوب: السيد جيـ...من سنة كذا الى سنة كذا، ربما مات هذا السيد وحيداً دون أن يفهم الآخرين أو يفهمونه...السيدة أسـ...ترى ما سبب موتها؟ السيد أج، الآنسة آر، السـ.. أمر شائع هنا أن نجد في بعض الشوارع قطعاً مخطوطاً عليها: (هنا عاش فلان الفلاني المشهور بكذا، من سنة كذا حتى سنة كذا) وللحيوانات الأليفة نصيب من التخليّد بمخطوطة: (هنا عاش القط بوريس من سنة...).
يخطر في بالها قول أحد الأدباء، "الجثمان وليس الانسان من يحتاج الى جدث".. قد يحتفظ الناس بذكريات مادية للجسد وإرث بكذا حرقة وحرافة للذكرى، ليقولوا لمارة عابرين، هيا عيشوا حياتكم، ستكونون يوماً ما هنا كما لوح أو حجر، لكن ما سرّ غرائز منسوجة فينا كحب حياة وخلود؟ وما نفع خلود بعد فناء جسد؟ كيف نعلم وننشرح بإشادة الغير بنا بعد زوالنا مادياً؟ الحياة هي أقصى ما يهمها الآن.

لا ريب أن ثمة ناس يفقهون مصير حتمي للبشر، يعيشون حياتهم بسعادة حتى نهاية يستقبلونها غير نادمين، يحثون خطواتهم نحو سعي لا نعي.. وهناك من يعرف هذه الحقيقة ويتجاهلها، واضعاً إياها في مؤخرة رأسه، ويدَعون الحياة تسير بهم بلا أدرية وبدون تفكير وتعكير، وثمة أيضاً من يلغي حياته ويجلس مع مخلوقاته الدميمة بانتظار لحظة النهاية.. بعضهم يجد هدفاً لحياته ويستخدمها بصورة حسنة، ومنا من لم يلمسها وتركها كما هي.. من منهم ينعم بحياة أفضل ويسلك صواباً وحكمة؟ هل بمقدورنا امتلاك إرادة قادرة على دحر وهن وإخفاق وتسرّب لآمال ولأحلام تنسكب من ثقوب حياتنا سدى؟ كيف نتحكم بمصائرنا ورغائبنا وصيرورة حياة جئنا لنحياها لا أن نفنى فيها؟ كيف يمكن أن نقلل من نسبة خساراتنا ونخفف من ثقل فقدنا ومواجعنا؟ ما هو صمغ الحياة الذي يشدّنا اليها؟ هل هو حبنا لأنفسنا وللغير كما يجزم كثيرون سعداء لم يستسلموا لما يسوء الحياة؟
تتعالى أصوات ضحكات من دار تسير أمام بابه، وترأف هدأة ريح بما تبقى من ورق تعلّق بأغصان شجرة، تستريح عليها عصافير صغيرة نافضة أجنحتها الصغيرة، تكفّ غيوم عابرة عن إنجاب مطر فيطلّ بزهو فوق رأسها قمر أشيب مهيب.. لليل محامده أيضاً، فلولاه لما لمحنا ضوء القمر.
تتوقف في دائرة الضوء، تحدّق في ظلمة دجى هامد، وفي سطوع سراج نيّر.. تتمعن بحقيقتين موجودتين على الدوام، عتم وضياء، مرارة وهناء، عسر ورخاء، قنوط وأمل، قبح وبهاء، انحدار وعلاء، خواء وامتلاء، هبوط وارتقاء، حياة وفناء.. ومثلما هناك مخلوقات دميمة تحضرها، هناك في النفس العجيبة أيضاً مخلوقات جميلة تعادلها، تدرك ذلك حينما تسحب طرفي فمها ابتسامة جذلة، وتسيل في روحها ذكرى لذيذة كقطعة حلوى، ويقفز بانشراح الى سمعها لحن يبعث على ابتهاج.

قد تحضر مخلوقات جميلة ودميمة في اليوم نفسه، فتكون (جميمة) في آن واحد، وتشكّل سر الحياة وحقيقتها وعظمتها في تكويناتها وسيرورتها، من خلال تناقضاتها وتنوعاتها وتلاوينها وتعثراتها وصراعاتها وأزمويتها.. لا تشك الآن في أنها هي، من تصنع مخلوقاتها بنفسها، وأنها نفسها من يقدر على محو الفارق الشاحب الرحيب بين الملاحة والدمامة.. ومثلما هناك غروب وغربة وغدر وغل، هناك أيضاً غبطة وغناء وغزل وغفران، و(القلب نفسه تستهدفه الرصاصة والوردة، والوجه نفسه تأتيه الضحكات والبكاء، والشفاه نفسها تذوق العسل والسم).. فمرحى لكل المخلوقات الجميمة، سر الحياة.



#فيحاء_السامرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة النهر في رواية (أبناء آنو) لسلام أمان
- ثقل الحنين والذاكرة في رواية لؤي عبد الإله(جاذبية الصفر)
- قطوف من -خزامى- سنان أنطون
- الثيوديسيا الأرضية وإشكالية الشر في رواية حصى الشاطئ
- تلك هي الأيام
- تباريح مياه متيبسة
- تباريح مياه متيبسة
- رواية -رجال ما بعد منتصف الليل- وعالم المدينة الداخلي
- ألوان في سماء قاتمة.. قراءة في رواية - أجنحة في سماء بعيدة-
- زيارة الى أبي لهب
- فوق (العاقول) مشّاني زماني... (على ضوء حوار الاستاذ سعدون مح ...
- مسرّة صغيرة
- رواية -مولانا-.. بين عنصر التشويق وزحمة الأفكار
- رقصة الصيادين
- يا لون الرحيل !
- ثرثرة في ساونا
- من أدب الرحلات.. الصين
- ني هاو تشاينا
- عالم سائل
- الحصير والهجير


المزيد.....




- وفاة أيقونة السينما الهندية دارميندرا عن 89 عاماً
- تحولات السينما العراقية في الجمعية العراقية لدعم الثقافة
- وفاة جيمي كليف أسطورة موسيقى -الريغي- عن عمر ناهز 81 عامًا
- فيلم -الملحد- يعرض في دور السينما المصرية بقرار قضائي مصري و ...
- -شرير هوليود-.. وفاة الممثل الألماني الشهير أودو كير
- محكمة الجنايات تفرج عن الممثلة الكويتية إلهام الفضالة دون ضم ...
- وفاة نجم موسيقى الريغي الجامايكي جيمي كليف عن 81 عاما
- نظرة داخل المتحف المصري الكبير
- -عالم سعيد العدوي-: كتاب موسوعي عن أبرز فناني الحداثة في مصر ...
- وفاة نجم موسيقى الريغي الجامايكي جيمي كليف عن عمر 81 سنة


المزيد.....

- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فيحاء السامرائي - هي والمخلوقات الجميمة