أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 02:42
المحور:
قضايا ثقافية
لم يكن التحضر يوما ناطحة سحاب، ولا جسورا تمتد على البحر، ولا مطارات تضيء كأنها لآلئ في الصحراء. فالعمران، مهما بلغ ارتفاعه، يظل هيكلا صامتا إذا لم تسكنه روح الثقافة والمعرفة. وحين يغيب الإنسان المفكر، لا يبقى في المدينة إلا الزجاج يلمع على فراغ هائل.
في أقطارٍ كثيرة من عالمنا العربي، صار المشهد مدهشا: مدن مذهبة، أبراج تلامس الغيم، سيارات تسبق الريح، لكنّ الكتاب غائب، والفكر منفي، والضمير الثقافي في إجازة طويلة. كأننا أمام مفارقة تُضحك وتبكي: عمران من القرن الحادي والعشرين، وعقل من القرن الأول. ليس في العمران ما يلام، فالبناء حق مشروع وضرورة لتقدم الشعوب، لكن حين يتحول إلى قناعٍ يخفي فراغ الروح، وحين يصبح الإنسان مجرد "مستهلك فخم" لا "مواطنا حرا"، حينها يصبح الزجاج رمزا للسجن لا للنهضة. الحضارة لا تقاس بما نملك، بل بما نعرف. ليست الأبراج التي تلمس السماء هي التي ترفع الإنسان، بل الفكرة التي تفتح عينيه على معنى الحياة. لقد بنى الفراعنة الأهرام، لكن عبقريتهم الحقيقية لم تكن في الحجارة،
بل في تنظيمهم للعلم والحساب والزراعة والإدارة. وبنى الإغريق المعابد، لكن ما خلدهم هو فلاسفتهم، لا أعمدتهم. حتى في الأندلس، لم تكن قرطبة تبهج العيون بالقصور، بل بالعقول التي أضاءت أوروبا يوم كانت غارقة في ليلها الوسيط. المدينة الحديثة التي لا تقرأ، تلمع فقط. والإنسان الذي لا يفكر، يعيش في مبنى من خمسة نجوم، لكنه يسكن في داخله كهفا. فما نفع أن تمتلك أحدث تكنولوجيا في عالم لا يجرؤ أحد فيه على السؤال؟ وما جدوى الثراء إن كان الفكر معدما، والضمير غائبا، والوعي سلعة نادرة؟ التحضر الحقيقي لا يُرى في العمارة، بل في سلوك الناس داخلها: كيف يتحدثون، كيف يختلفون، كيف يعاملون الضعيف والغريب. في حضارات كثيرة متقدمة، رأيت تواضعا في الشكل، وسموا في الإنسان.
وفي مجتمعات أخرى، رأيت العكس: بذخا في الحجر، وفقراً في الفكر.
المدن التي تبنى بلا ثقافة، تشبه الجسد بلا روح؛ جميلة في الصورة، ميتة في الجوهر. ولن تنهض أمة، مهما امتلكت من ثروة أو عمران، حتى تعيد إلى الإنسان مكانته الأولى: أن يكون هو الغاية لا الوسيلة،
والفكر هو الأساس لا الزخرف.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟