|
|
نحن نصنع التاريخ
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 14:06
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
«ليس كافياً أن نعترف بوجود طبقة اجتماعية فحسب، بل يجب أن نُحسّ بها ونتفاعل معها. فقد كان كارل ماركس واعياً لهذا الأمر، فكرّس حياته مع رفيقه إنجلز لتحفيز هذه الطبقة ودفعها إلى التحرك في حركات اجتماعية فعّالة.»
رالف هوفرووغه*
ترجمة :حازم كويي
لا يمكننا كيساريين الهروب من ماضينا. لكن لا يكفي أن نعرف تأريخنا فحسب: فإذا لم نملأه بالحياة، فسيفقد قوته. عشرة أسباب تدعونا لإعادة إحياء الذاكرة حول النضالات القديمة. شهد حزب اليسار في ألمانيا ثلاث مراحل تأسيس مختلفة – كانت كل واحدة منها تمثل قطيعة مع الماضي، لكنها لم تكن أبداً نهاية له. بدأ الحزب عام 1989 تحت اسم "حزب الاشتراكية الديمقراطية"، بعد أن نشأ من بقايا "الحزب الاشتراكي الألماني الموحد" الذي حكم ألمانيا الشرقية. وفي عام 2007، أندمج مع حزب "البديل الانتخابي للعمل والعدالة الاجتماعية" (WASG)، وأصبح يُعرف منذ ذلك الوقت باسم "DIE LINKE" أو "اليسار". ومنذ نهاية عام 2023، ومع إنسحاب الجناح المحافظ من الحزب، بدأت عملية تأسيس جديدة ثالثة. أكثر من نصف أعضاء الحزب الحاليين – الذين يزيد عددهم عن 100 ألف – انضموا فقط خلال الأشهر القليلة الماضية. وبهذه الولادة الجديدة، أصبح "اليسار" الحزب الأصغر سناً في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، رغم أنه من أقدمها من حيث الجذور التاريخية. فأصوله تعود إلى بدايات الحركة العمالية المُنظمة في القرن التاسع عشر، وهي نفس الجذور التي تجمعه بالحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) ونقابات العمال المنضوية تحت أسم اتحاد DGB. 1. لا يمكننا الهروب من التاريخ. يشمل إرث اليسار الألماني حماسة التنظيم التي عُرف بها أوغست بيبل، والخُطب النارية لروزا لوكسمبورغ، لكنها تشمل أيضاً الستالينية التي أجتاحت الحزب الشيوعي الألماني (KPD) والحزب الاشتراكي الألماني الموحد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (DDR) وحتى الأعضاء الجُدد في حزب اليسار المولودين بعد عام 1989 – وكذلك اليساريون في النقابات والحركات الاجتماعية الذين لا علاقة لهم بالحزب – يجدون أنفسهم مضطرين للدفاع عن "الاشتراكية الواقعية" في مقالات الصحف أو نقاشات المقاهي. لا يستطيع اليساريون الهروب من تأريخهم – ولهذا السبب ينبغي عليهم أن يستوعبوه بوعي ويتبنوه نقدياً. 2. ستالين وثورة 1989 إذا لم يرى اليساريون تاريخهم بأنفسهم، فسيرويه خصومهم عنهم. ووفقاً لرؤية هؤلاء الخصوم، فإن كل اليساريين ستالينيون. تمثل الستالينية ظلاً حزيناً يُثقل كاهل فكرة الاشتراكية. ولمواجهته، لا بد من القليل من المعرفة عن كيفية قيام ستالين بملاحقة الثوريين الذين قادوا ثورة أكتوبر 1917 وتصفيتهم، وعن إلغائه لما تبقى من مجالس العمال في الاتحاد السوفيتي، وتجريمه للإجهاض من جديد، وإعلانه أن الثورة العالمية لم تكن سوى «سوء فهم تراجيدي ـ هزلي». ستالين ونظامه لا يُمثلون الورثة الشرعيين للفكرة الاشتراكية – فالستالينية تحمل جميع سمات الثورة المضادة. لقد تطلّب الأمر ثورة جديدة لتفكيك هياكل الهيمنة الستالينية. لقد أجتاحت ثورة من هذا النوع في عام 1989 حتى الحزب الاشتراكي الألماني الموحد (SED) الذي بدأ يفقد تماسكه. ففي المؤتمر التأسيسي لحزب SED/PDS، أقسم ميشائيل شومان أمام جميع الراغبين في تجديد الحزب الحاكم السابق قائلاً: «نحن نقطع بشكل لارجعة فيه عن الستالينية كنظام!». وبهذا، لم يعترف الحزب فقط بجرائم الستالينية، بل أيضاً بحقيقة أن «إزالة الستالينية» في ألمانيا الشرقية كانت غير مكتملة. ومع أن حزب اليسار الحالي هو في حد ذاته ثمرة من ثمار ثورة 1989، إلا أنه لا يزال يترك مفهوم الثورة لليبراليين، الذين يسمّونها «الثورة السلمية»، أو لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني(AfD)، الذي يتحدث عن «ثورة محافظة». لقد آن الأوان لأن يعترف اليسار بصراعات الطبقات في ظل الاشتراكية الحكومية، وبثورة عام 1989، بوصفهما تقليداً تاريخياً لا يمكن أن يوجد اليسار المعاصر من دونه. 3. هل كان هتلر شيوعياً. وما حدث مع النازيين لا يتعدى كونه "فضلات طير" في تأريخ ألمانيا – هكذا وصلت التصريحات المُنفلتة من أليس فايدل وألكسندر غاولاند(كلاهما من حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف). لكن في الصحافة الليبرالية ظهرت ردود فعل رافضة لهذا العبث. يمكن لمن يراجع تقارير صحيفة "دويتشه فيله" (ذات التوجه المحافظ) أن يجد تأكيداً دقيقاً بأن هتلر أضطهد الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين على حد سواء، ولم يمس الملكية الخاصة بسوء. حين كانت مثل هذه التحريفات التاريخية تخرج من صفوف حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي (CSU)، لم تظهر حينها ردود تصحيحية واضحة كهذه. وحتى اليوم، يُرَوَّج في المدارس الألمانية، وفي مواقع التذكّر الرسمية، وفي تقارير جهاز حماية الدستور، لرؤية عالمية تزعم أن المتطرفين من اليسار واليمين يهددون الديمقراطية على حد سواء. ومن هذا المنظور، يبدو منطقياً أن يقوم حزب"البديل من أجل ألمانيا" (AfD) بتشويه هذه الرؤية حتى أقصى الحدود – حيث تضع نفسها بوقاحة في "الوسط"، لأن "الوسط"، بحسب هذا المنطق، لا يمكن أن يكون فاشياً. لكن من يعرف أن حزباً مثل الوسط الكاثوليكي، الذي يحمل "الوسط" حتى في اسمه، ساعد هتلر في مارس 1933 في الحصول على الأغلبية اللازمة لقانون التمكين ويعني أنه ("كان قانوناً يمنح حكومة الرايخ بقيادة أدولف هتلر صلاحية إصدار القوانين دون الحاجة إلى موافقة البرلمان (الرايشستاغ) أو مجلس الولايات"). وقد مثّل هذا القانون خطوة حاسمة نحو ترسيخ الديكتاتورية النازية وتدمير جمهورية فايمار الديمقراطية. وكذلك فعل المحافظون الوطنيون (DNVP) وحزب الشعب البافاري، الذي يُعدّ السلف لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، إذ وافقوا جميعهم على إعادة هيكلة الدولة على يد هتلر في عام 1933. أما الليبراليون في الحزب الديمقراطي الألماني (DDP)، فقد تراجعوا عن مبادئهم قبل ذلك بثلاث سنوات، حين أنضم جناحهم اليميني إلى طائفة معادية للسامية لتشكيل ما سُمّي بـ الحزب الوطني الألماني. كما صوتت هذه الأحزاب أيضاً لصالح قانون التمكين. أما المعارضة البرلمانية في عام 1933 فقد جاءت فقط من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، بينما كان الشيوعيون قد أُودِعوا بالفعل في معسكرات الاعتقال. لذلك، لا يمكن الوثوق بـ"الوسط" السياسي ـ لا في مراجعة الحقائق التاريخية في مواجهة حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، ولا ـ وهذا أخطر – فيما قد يحدث إذا اقترب هذا الحزب يوماً ما من الحصول على الأغلبية. 4. الدفاع عن الديمقراطية – ولكن كيف؟ يمكن إلغاء الديمقراطية من خلال القوانين، لكن لا يمكن تأسيسها إلا عبر ثورة. فبينما تحتفل ألمانيا كل خمس سنوات بما يسمى «الثورة السلمية» عام 1989، لا تزال تتعامل بتردد مع أحداث تاريخية مثل ثورة نوفمبر 1918 أو ثورة عام 1848. لم يُعترف بمجالس العمال والجنود التي نشأت عام 1918 كخطوة ديمقراطية حقيقية إلا بعد مئة عام، في عام 2018. أما حرب الفلاحين عام 1525، فلم تحظَ بعد بتقييم واضح في ذكراها الـ500. وعلى مدى قرون، أعاق تمجيد مارتن لوثر الاعتراف بتلك الثورة، علماً أن لوثر نفسه دعا إلى إحراق المعابد اليهودية وقتل الفلاحين الثائرين على أسيادهم «كما يُقتل الكلب المجنون». يبدو أن ألمانيا تميل إلى تمجيد من قمعوا الثورات أكثر من أولئك الذين أطلقوها – وحتى بعد مرور 500عام، التي لا تزال تخشى التمرد. من يريد الدفاع عن الديمقراطية يجب أن يدافع عن الثورة. لكن الثورات ليست حوارات مدنية من أجل مزيد من المشاركة والمساهمة. بل تشتعل بسبب الحرمان السياسي والاستغلال الاقتصادي. من يريد الديمقراطية لا يمكنه الصمت عن اللا مساواة. في ألمانيا اليوم، يمتلك أغنى 1% من المواطنين ثلث الثروة الإجمالية. الدفاع عن ديمقراطيتنا كما هي، هو موقف محافظ. لا يُحفز لأنه لا يُغير من الوضع القائم شيئاً. من يريد الدفاع عن الديمقراطية، عليه أن يتذكر الفلاحين في عام 1525 أو البحارة الحمر في عام 1918 ونداءاتهم من أجل المساواة ولم تستثنِ ملكية الأراضي وحسابات البنوك. 5. "مسألة ديكتاتورية التنشئة" لم يكن جميع الاشتراكيين ديمقراطيين. من جمهورية أفلاطون إلى يوتوبيا توماس مور في عام 1516، هناك تقليد طويل للديكتاتورية التربوية، حيث أصبحت المساواة فرضاً، وكان أحد أبرز شخصياته هو المواطن الغاضب روبسبير. كان تقليد المساواة من خلال القسر يسري بشكل خاص في الثورات البرجوازية، التي نادراً ما بقيت سلمية. ما هو مثير للإهتمام في إختراع الماركسية في منتصف القرن التاسع عشر، هو انقطاعها مع الديكتاتورية التربوية. كان ماركس الشاب يُبشر في أطروحاته حول فيورباخ بأن "المعلم نفسه يجب أن يتم تدريبه". من ثورة عام 1848 إلى الأممية الأولى وصولاً إلى آخر إستشارات إنجلز للحزب الاشتراكي الديمقراطي في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان كلاهما يناضلان من أجل بناء ديمقراطي للأحزاب العمالية والنقابات. وهكذا أختلفوا عن معاصريهم مثل فرديناند لاسال، الذي كان يقود منظمته كملك. كما كانت روزا لوكسمبورغ تدافع دائماً عن التمكين الديمقراطي للجماهير، وكانت أول من إنتقدت بصرامة تحول لينين نحو اليعقوبية الجديدة. وحين تم عام 1921 فرض حظر على الفصائل داخل البلاشفة وحظر الأحزاب الاشتراكية المنافسة، تحولت الماركسية أيضاً إلى الديكتاتورية التربوية – وبهذا قطعت جذورها. أستخدم ستالين ذلك لتحويله إلى ثورته المضادة. من يستند اليوم إلى اليعقوبيين، يجب أن تبقى هذه التحولات في ذهنه: اليسارية ليست يوتوبيا جاهزة يجب تنفيذها بحزم، بل هي عملية بحث، توجهها المبادئ السياسية والتجارب التاريخية، لكنها لا تحدد نتيجتها. 6. التفكيك وحده لا يكفي نظراً لثقل الإرث اليساري بعد عام 1989، لجأ كثير من اليساريين حينها إلى إستخدام الحقائق التاريخية أساساً في عملية التفكيك. تم تفكيك أنظمة الجندر والأساطير القومية وبُنى العِرق وقوالب الطبيعي والمقبول بشغف. لقد كان ذلك فعلاً من أفعال التحرر، لأن أغلب تلك التصورات لم نعد بحاجة إليها، فمن لا يزال اليوم يصف الآسيويين بـ"الصُفر"، كما فعل بريشت ببساطة في "أغنية التضامن" عام 1947، فقد فاته الكثير. أما صور الأدوار الجندرية من خمسينيات القرن التاسع عشر حتى خمسينيات القرن العشرين، والتي يحاول حزب البديل لأجل ألمانيا (AfD) أن يفرضها علينا مجدداً اليوم، فهي جديرة بالمطرقة الثقيلة. لكن، متى ينتهي هذا التهديم؟ إذا لم يُبنَ شئ بعد التدمير، فلن ينمو فوق الركام سوى الأشواك. لقد لاحظت ذلك لأول مرة في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة أثناء دراستي، حين شرح لي أستاذي في مادة الفرنسي ميشيل فوكو، أن فيروس الإيدز ما هو إلا بناء أجتماعي. ما كنت أراه منطقياً في "الهستيريا" أصبح مثيراً للدهشة عندما تعلق الأمر بفيروس الإيدز. كان ميشيل فوكو، الذي كان يهيمن على القاعات الدراسية في ذلك الوقت، يعجب بـ "فن عدم الخضوع للحكم بهذا الشكل". اليوم، يظهر لنا المتمردون ضد كورونا، أن هدم السلطات لا يعني بالضرورة تحقيق التحرر. المسألة تتعلق ببناء الجديد. يجب على اليساريين أن يبنوا التاريخ. عليهم أن يفكروا في السرديات التي يريدون من خلالها أن يكسبوا قلوب وعقول الناس. 7. الطبقة كالبوصلة فئة واحدة صمدت بشكل مدهش أمام التفكيك، وهي الطبقة. حتى الليبراليون اضطروا إلى الاعتراف بها ضمن "التمييز الطبقي" كجزء من مجموعة الهويات التي يجب حمايتها، وبدأوا بالحديث عن "الوعي" بها. وقد تلقى كثير من اليساريين ذلك بامتنان – لكنهم سرعان ما أدركوا أن ذلك لا يكفي. فالطبقة ليست مجرد حكم مسبق، بل هي بنية اقتصادية – تماماً كما أن النظام الأبوي لا يوجد فقط في الأذهان، بل يتجسد في تقسيم غير متكافئ للعمل بين الجنسين. وكذلك، لا يمكن أن يكون للعنصرية هدف فعّال، لولا أنها تُستخدم في تبرير الاستغلال وعدم المساواة، من تجارة العبيد عبر الأطلسي حتى أسواق العمل المجزأة في يومنا هذا. يُظهر تاريخ الرأسمالية أن الصراعات الطبقية قد جلبت مراراً وتكراراً النساء والرجال والمثليين من ثقافات وديانات وألوان بشرية مختلفة معاً. فقد قادت روزا لوكسمبورغ، وهي يهودية بولندية، البروليتاريا الألمانية، وأسّس المُناهض للاستعمار البنغالي مانابندرا ناث روي الحزب الشيوعي في المكسيك. بالطبع، لم تجرِ الأمور بهذه الروعة في كل صراع طبقي. غالباً ما تحرر بعض الأفراد على حساب الآخرين: مثل النقابة البريطانية الضخمة "إتحاد المهندسين الموحدين" (AEU) التي لم تقبل النساء لمدة قرن تقريباً، وكان فرعها الجنوب أفريقي لا يقبل السود. ولكن في التضامنات المحدودة بين العمال المهرة، تحولت الطبقة إلى قوة تحريرية. بعد الإضرابات والثورات في الحرب العالمية الأولى، بدأ المزيد من الأعضاء المقاومين يطالبون بنقابة للجميع. بدءاً من عام 1944، اجتاحت النقابة العاملات المُبدعات، وتم طرد الفرع الجنوب أفريقي لاحقاً. الطبقة توحد. إنها سرديتنا اليسارية ضد "الذين في الأعلى" – سردية ديمقراطية راديكالية لا تعتمد على "الجسد الشعبي"، أو المؤامرات، أو الثقافة السائدة. 8. نظّموا أنفسكم! الطبقة "كما هي" لا تحرك شيئاً في البداية. لا يكفي أن نقول إنها موجودة، يجب أن نشعر بها. هذا ما كان يُعلمه كارل ماركس وسعى مع صديقه إنجلز طوال حياته لجعل الطبقة تتحرك في منظمات واتحادات المجتمع. أسس ماركس في شبابه "رابطة الشيوعيين"، وفي منتصف عمره "الاتحاد الأول"، وعاد إنجلز لذلك كشيخ وأسّس "الاتحاد الثاني" في عام 1889. منذ 200 عام توجد منظمات للعمال. الكلاسيكيات هي الأحزاب، والنقابات، والتعاونيات – والمعروفة أيضاً بـ "الركائز الثلاث لحركة العمال". العديد من هذه التحالفات انهارت، والبعض الآخر لا يزال موجوداً حتى اليوم – والبعض الآخرأصبح الآن على الجهة المقابلة. نحن مدينون للديمقراطية الاجتماعية الثورية السابقة ومنظمات الإسكان التي أسسها العمال والعاملات،وهي تقاوم اليوم سقف الإيجارات المرتفع. عندما لا تقف حركة وراء منظمة، يبقى الحكم المتصلب فقط. يجب اكتساب وتجديد المنظمات الحية. يجب أن تثبت قيمتها العملية في كل جيل. نحن بحاجة إلى هذه التنظيمات، لأن الصراع الطبقي مشروع طويل الأمد يمتد عبر أجيال. والتاريخ يعلّمنا أن التنظيم يحتاج إلى نفس طويل أيضاً. فعندما أضطر بسمارك في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى منح العمال والعاملات المتمرّدين تأميناً صحياً، كانوا قد خاضوا بالفعل خمسين عاماً من النضال في ألمانيا. فقد خسروا إضرابات وكسبوا أخرى، وأشعلوا ثورة، ومرّوا بموجات من المحاكمات، والحظر، وإعادة التأسيس. بل إن بسمارك نفسه حظر جميع التنظيمات العمالية عام 1878. ومع ذلك، نجت هذه التنظيمات عند سقوطه في عام 1890، وتحولت بعدها إلى حركة جماهيرية واسعة. الحزب الاجتماعي الديمقراطي (SPD)، والحزب اليساري (Die Linke) والنقابات التابعة للاتحاد العام لنقابات العمال في ألمانيا (DGB) تقف في إستمرارية مباشرة مع المنظمات التي تم تأسيسها في ذلك الوقت. الحزب الاجتماعي الديمقراطي قد طوى هذه الحقيقة منذ فترة طويلة – لكن الحزب اليساري يمكنه أن يستأنف هذه الراية إذا أراد. تجارب وتقاليد الحزب الاشتراكي الديمقراطي في القرن التاسع عشر لا تزال مهملة – ومع ذلك، كانت هذه الفترة هي الأكثر إبداعاً وتشويقاً وصراعاً، حيث كانت الاشتراكية تعيد اختراع نفسها باستمرار. تاريخ التنظيم غالباً ما يكون مرفوضاً – وهذا صحيح إذا تحول إلى وطنية تنظيمية تتذكر القشرة وتنسى المحتوى. يجب إعادة اختراعه، كذكرى للنضالات الاجتماعية التي تبرز كيف ولماذا ينظم الناس أنفسهم – في الماضي كما في الحاضر. 9. تذكّر الصراعات – تذكّر النجاحات في بريطانيا، قام المغني الشعبي مارتن جوزيف في عام 2015 بتأليف نشيد حول خدمة الصحة الوطنية (NHS)، وهي التأمين الصحي الحكومي الذي تم تقديمه في عام 1948. وينتهي النشيد بالعبارة: "الحرية لن تكون حرية حتى يختفي الفقر". بالنسبة للبريطانيين، تبقى فكرة إدخال خدمة الصحة الوطنية (NHS) كصراع تذكّره الأغلبية العاملة التي تمكنت من إنتزاع شئ من الأثرياء. في ألمانيا، لا يخطر على بال أحد أن يغني أغنية حرية عن التأمين الصحي العام. غالباً ما يفسر الدولة الاجتماعية بشكل وظيفي، باعتبارها وسيلة تهدئة من قبل الحاكمين. أو يتم اعتبارها تعبيراً عن الشراكة الاجتماعية الفعّالة التي يجب احترامها من أجل السلام الاجتماعي. لا يوجد في كلا السردين مكان للصراعات بين الطبقات أو النجاحات التي تحققت. في ألمانيا، نميل إلى إقصاء صراع الطبقات – ربما لأن تلك الصراعات كانت في تاريخنا قاسية جداً. الثورة النوفمبرية الفاشلة في عام 1919، سحق حركة العمال في عام 1933، تقسيم البلاد وأشتراكية الدولة الاستبدادية بين 1945 و1989 – صراعات الطبقات الألمانية في القرن العشرين تروي قصة عنف. في بعض الأحيان، أحتفل اليساريون بهذا العنف. منذ العشرينات من القرن الماضي، أختصر فولكلور الحزب الشيوعي الألماني (KPD) صراع الطبقات إلى تمرد عسكري، ولذلك فإن محاولات إعادة الاستحواذ على هذا المفهوم تبدو اليوم بعيدة عن الواقع. البنادق، الحواجز، أغاني الجنود المعاد صياغتها لتصبح أغاني عمالية، والكثير من الرجولة البطولية – لا علاقة لهذه بحياتنا اليومية. يبدو أن الدعوات إلى "السلام الاجتماعي" أو "التحام المجتمع" أكثر جاذبية – وليست تسوية صراع المصالح، بل البحث عن توافق بين "الشركاء الاجتماعيين" لحل المشاكل. لكن هذه السرديات عن السلام تُسَلِّح العمال. خصومهم لم ينسوا أبداً أن هناك معارك تُخاض – حتى وإن كانت المعارك في البرلمانات والمؤسسات مكبوحة. لذلك نحتاج إلى تذكير مُجدد بصراعات الطبقات؛ تذكير لا ينكر العنف التاريخي ولا يُبالغ فيه، تذكير لا ينكر العلاقة بين الرأسمالية والفاشية، تذكير يذكر الإصلاحات باعتبارها إنجازات – دون أن ننسى أن كل من هذه الإصلاحات لا يمكن أن يكون سوى حالة من التعادل – "حتى يُزال الفقر". 10. التقاليد من أجل المستقبل التاريخ يريد أن يُحتفل به. يجب أن يكون جزءاً من الحياة اليومية وأن يُلهم الأطفال أيضاً. هناك حاجة بالفعل إلى تقاليد حية، وهذا يظهر من خلال الاهتمام المتزايد بالذكريات السنوية لحركة العمال. يمتد التقويم من إحياء ذكرى ليبكنخت-لوكسمبورغ في شهريناير كل عام، إلى يوم المرأة في 8 آذار، وصولاً إلى الأول من مايو. جميع هذه الأيام مثار جدل. على الرغم من أن الذكرى الصامتة لاغتيال كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ في "نصب تذكاري للاشتراكيين" في برلين، تَجمعُ اليساريين من جميع التوجهات. أما في 8 مارس، فإن التحالفات النسوية تضع نغمة جديدة، وفي 1 مايو، تصبح المسيرات النقابية مرة أخرى منصات للنضال من أجل الحقوق العمالية. ومع ذلك، لا ينبغي التهوين من أهمية الأنشطة الأخرى، فمن جرب إقناع طفل يبلغ من العمر خمس سنوات للمشاركة في مسيرة مشي على الأقدام يعرف تماماً ما أقصد. التاريخ يريد أن يُحتفل به – محاضرة قد تصل إلى الأذن، ولكن عندما تجد رائحة البطاطس المقلية بجانب القلعة الهوائية وعزف جوقة الطبول نشيد "الزفاف الأحمر"، حينها تُلامس جميع الحواس. ينبغي أن نُجسِّد التاريخ بالغناء والرقص. لكن ما نفعله في الواقع هو أن معظم مظاهراتنا تشبه محاضرات متحركة، تُلقى فيها كلمات مكتوبة تُقرأ بصوت عالٍ. تُشغَّل الأغاني عبر مكبرات الصوت – لكن ما نسمعه في الغالب ليس سوى الضجيج والإيقاعات الصاخبة. يجب علينا أن نتدرب على الغناء مرة أخرى، وأن نكتشف أي من الأغاني القديمة ما زالت صالحة – أو نبتكر أغاني جديدة. التعليم والتمكين الذاتي إن سرد قصص جديدة عن الصراعات الطبقية القديمة هو مهمة لن تقوم بها الجامعات. فهي لا تتحدث لغة العمال ولا تشارك أولوياتهم. كما أن الحركات الاجتماعية غالباً ما تكون غير قادرة على التعامل مع التاريخ. فهي تجعل التاريخ ينبض بالحياة في لحظات غير متوقعة تماماً، فبفضل حركة الإيجارات، يمكننا اليوم مناقشة المسألة الاجتماعية. ولكن الحركات تقوم بالتعبئة في موجات قصيرة وحملات نادراً ما تكون لديها مؤسسات، وتكون تقلبات الناشطين عالية، وبالتالي تكون الذاكرة قصيرة. التاريخ يحتاج إلى تنظيمات متماسكة. يحتاج إلى موارد مؤسساتية – وإلى أناس يريدون أن يعرفوا لماذا يجدر بهم أن يتحدوا. عندما كانت بون لا تزال عاصمة ألمانيا، كانت حلقات التاريخ في نقابة البريد تُعتَبر مكافأة: من أنهى دورة قانون الأجور كان يُسمح له بدراسة تاريخ الحركة العمالية. فالتاريخ قادر على ترسيخ الانتماء التنظيمي – عندما يمكّن الناس من إيجاد معنى في نضالاتهم والتفكير في نتائجها. ولتحقيق ذلك، لا تكفي برامج تعليمية تسلط الضوء على المناسبات السنوية أو تكتفي ببث المعلومات إلى جمهور مشتت من المتابعين. بل نحتاج إلى تعليم ذاتي مستمر من قبل أناس يتكاتفون لتحقيق أهداف مشتركة.
رالف هوفرووغه: مؤرخ وكاتب. يعيش في برلين، وهو ناشط في حركة الإيجارات منذ أكثر من عشر سنوات، وكان من مؤسسي مبادرة "Deutsche Wohnen & Co Enteignen". في عام 2017، نشر مقدمة بعنوان "الاشتراكية وحركة العمال في ألمانيا والنمسا" ضمن سلسلة theorie.org. في سبتمبر 2025، سيصدر كتابه "برلين الصاخبة" عن احتجاجات الإيجارات في العاصمة منذ الأزمة المالية.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقل يتفوّق على الذكاء الاصطناعي
-
-مسألة الحزب-
-
الولايات المتحدة والذكاء الاصطناعي: «هيمنة تكنولوجية عالمية»
-
الذكاء الأصطناعي، ذكي لكن للأسف غير مربح
-
هل تحتاج نظرية الفاشية إلى تجديد؟
-
إنجلز: العقل المنظم وراء النظرية الماركسية
-
سر التجربة الصينية: من الفقر إلى أضخم طبقة وسطى في العالم
-
ماركس نصيرٌ للديمقراطية
-
-النرويج تشهد تقدماً لليسار الجذري-
-
حزب اليسار الألماني :نحن الأمل
-
كارل ماركس كسياسي: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ»
-
-نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-
-
قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»
-
حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA
-
حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
-
من يملك الكون؟
-
هتلر:سيرة إنهيار
-
الجامعات الصينية في صدارة العالم
-
حزب في مرحلة تحول
-
-تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
المزيد.....
-
الجيش السوداني يعلن انسحابه من الفاشر وسط كارثة إنسانية مروع
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يعلن تضامنه المطلق مع الشعب الس
...
-
الصحراء الغربية: جبهة البوليساريو ترفض مشروع القرار الأمريكي
...
-
ملايين سويدية لتمويل عمليات الترحيل إلى الصومال والاشتراكي ا
...
-
بعد عقود من الصراع.. حزب العمال الكردستاني يكمل المرحلة الأو
...
-
افتتاحية: حراكات الشباب ودور القوى المناضلة
-
What’s New About the “New Middle East”?
-
The Post-Gaza Rebalancing in the Middle East
-
The World Confronts the Genocide Washington is Trying to Bur
...
-
حزب العمّال يجدّد إدانته للمحاكمات الجائرة ويدعو إلى التصدي
...
المزيد.....
-
كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي: الربح، السلطة، والسيطرة
/ رزكار عقراوي
-
كتاب الإقتصاد السياسي الماويّ
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية!
/ طلال الربيعي
-
مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
المزيد.....
|