كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث
(Karam Khalil)
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 09:54
المحور:
قضايا ثقافية
لم يبدأ صلاح الدين أسطورة، بل جنديًا صغيرًا في خدمة نور الدين زنكي، يتتلمذ على دهاء السلطة لا على مجدها. لم يكن في بداياته ما يُنبئ بولادة “الفارس النبيل” الذي سيخلّده التاريخ كرمز للتحرير. كانت حياته، في جوهرها، مسيرة عقلٍ سياسي حادّ أكثر من كونها ملحمة بطولية ميتافيزيقية. فحين مات نور الدين، لم يُورّثه المجد، بل فراغ السلطة؛ فراغٌ ملأه صلاح الدين بدهاءٍ متدرّج، إذ سيطر على مصر وألغى الخلافة الفاطمية ليعيد العباسيين إلى المشهد، في خطوة لم تكن دينية بقدر ما كانت صفقة شرعية – سياسية ذكية منحت مشروعه غطاء الخلافة، لا قداسة الرسالة.
توسع من مصر إلى الشام والعراق لا بوحدة الأمة كما تقول المرويات العاطفية، بل عبر سلسلة من التسويات والحروب المتقطعة، صاغها ميزان المصالح لا وحدة العقيدة. وحين جاءت لحظة المجد في حطّين عام 1187، تجسدت البطولة في مشهدٍ واحد: سقوط مملكة القدس اللاتينية وأسر ملكها ودخول القدس بلا دماء. كانت تلك اللحظة ذروة السرد الملحمي الذي ستبنيه الذاكرة لاحقًا، وذروة الانكسار الذي سيبدأ بعدها مباشرة.
فما إن جاءت الحملة الصليبية الثالثة حتى انقلب المشهد. حوصرت عكا سنتين، عجز صلاح الدين عن فكّها، وخسر معركة أرصوف أمام ريتشارد قلب الأسد، ثم خسر يافا في آخر محاولاته. انتهت الحروب بصلح الرملة، اتفاق سياسي لا نصر فيه لأحد: القدس للمسلمين، والساحل للصليبيين، والحجاج المسيحيون يدخلونها بحرية. كان ذلك، في معناه العميق، نصر العقل على السيف، وتسوية التاريخ مع نفسه.
لكن الذاكرة لا تكتب بما كان، بل بما يُناسب الوعي الجمعي أن يتذكّره. فاختزلت شخصية صلاح الدين في صورة المحرّر العظيم، وأهملت مشهد الجوع والضرائب والانقسامات التي أنهكت الداخل. مات الرجل في دمشق ولم يترك سوى بضع دراهم، تاركًا دولةً مثقلة بالديون والانقسام، لكن التاريخ لم يحفل بهذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الواقع، بل خلد تلك الصورة الكبرى التي تصنع الأسطورة.
صلاح الدين في الحقيقة ليس بطلاً أوحد، بل مرآةٌ لتاريخٍ يعيد إنتاج ذاته في كل زمن. التاريخ لا يخلّد الواقعيين بل من تُحوّلهم الذاكرة إلى رموز. فصلاح الدين الذي واجه ريتشارد لم ينتصر عليه في الميدان، لكنه انتصر في السرد. والبطولة الحقيقية لم تكن في معركة حطّين، بل في معركة الرواية التي جاءت بعدها: كيف تُحكى القصة، ولمن تُروى، ومن يملك حقّ تعريف البطولة.
إنه مثال خالد على أن الوعي الجمعي لا يعيش الحقيقة، بل يعيش صورتها.
الإعلام، والكتب، والأفلام، والسياسة، كلها تسهم في هندسة الذاكرة الجمعية وتجميل المهزومين أو تقديس المنتصرين. هكذا يُعاد تشكيل التاريخ ليخدم الحاضر، ويُعاد تشكيل الأبطال ليخدموا حاجة الأمم إلى رموزٍ تمنحها شعورًا بالانتصار، حتى لو كان هذا الانتصار مجازيًا.
في النهاية، صلاح الدين هو ابن واقعه لا ابن أسطورته، وجندي تحوّل إلى فكرة، لا بفعل السيف وحده، بل بفعل الكلمة التي روته بعد موته. وربما تلك هي المفارقة الكبرى: أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، بل من يُتقن تحويل الهزيمة إلى ذاكرةٍ جميلة.
#كرم_خليل (هاشتاغ)
Karam_Khalil#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟