أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كرم خليل - قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى















المزيد.....

قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى


كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث

(Karam Khalil)


الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 08:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في فضاءات التاريخ العثماني، لم تكن وراثة العرش مجرّد انتقالٍ آليٍّ للسلطة، بل امتحانًا دامياً لحدود الدولة وطبائع البشر معًا. فغيابُ ترتيبٍ حاسمٍ للتعاقب جعل كلَّ شقيقٍ مشروعَ سلطان، وكلَّ مولدٍ بذرةَ حرب. ومن هنا تفجّرت “حروب الشهدزات” حتى بدا البلاطُ ساحةَ صراعٍ صفريٍّ بين الإخوة، يتهدّد وحدة الدولة كلَّما هتف الدم للعرش.

محمد الفاتح: تقنين العنف باسم الدولة

وسط هذا الاضطراب أقدم محمد الفاتح (ت 1481) على تحويل القسوة إلى “قانون دولة”. في “قانون نامه” الشهير نقرأ تقعيدًا صريحًا لفكرة قتل الإخوة صونًا لـ نِظامِ العالَم (nizâm-ı ʿâlem)؛ أي إنّ من تؤول إليه السلطنة “له أن يقتل إخوته” اتقاءً للفتنة، وقد جوّز أكثرُ العلماء ذلك في منظور ذلك العصر. الفكرة الجوهرية هنا ليست فرديةً ولا نزوةَ دم، بل تعبيرٌ مبكّرٌ عن “عقل الدولة” الذي قد يُقدِّم بقاء الكيان على كلّ اعتبارٍ آخر.

لم يأتِ هذا التقعيد من فراغ؛ فالسلالة جرّبت من قبلُ ثمنَ الارتخاء المؤسّسي. يكفي أن نستحضر صراع بايزيد الثاني وأخيه جِم على العرش بعد وفاة الفاتح سنة 1481، وهو صراعٌ شقّ الدولة إلى معسكرين حتى انتهى جِمُ لاجئًا أسيرًا عند فرسان القدّيس يوحنا. لقد رأى “قانونُ الفاتح” نفسه دواءً مرًّا لعلّةٍ أشدّ مرارة.

محمد الثالث: الامتثال الحرفيّ… والندبة التي لا تُمحى

على هذا الأساس عُمِلَ بالقانون بلا مواربة. وقد بلغ التطبيق ذروته في عهد محمد الثالث (1595–1603) إذ أُعدم تسعةَ عشرَ أخًا دفعةً واحدة عند اعتلائه العرش؛ واقعةٌ صارت مثالًا صارخًا لثمن الاستقرار حين يُقاس بالأرحام. وهذا الرقم ليس أصداءَ حكايةٍ بلا سند، بل يورده باحثون مختصّون في تاريخ القانون العثماني.

القفص: من دمِ الإخوة إلى سجنِ الأمراء

لكنّ الدولة نفسها ستتراجع لاحقًا خطوةً عن هذا الحدّ، إذ برز منذ أواخر القرن السادس عشر نظامُ “القفص” (kafes)؛ تُعزَل فيه الأمراء الذكور في أجنحةٍ داخل القصر، بعيدًا من الولايات والجيوش، اتقاءً للفتنة ومن دون قتلٍ مباشر. ومع مطلع القرن السابع عشر، اتجهت السلالة شيئًا فشيئًا إلى مبدأ “الأكبريّة” (الأكبر سنًّا من الذكور) بدل السباق الدموي بين الإخوة، وظهر هذا التحوّل على نحوٍ جليّ سنة 1617 عند اعتلاء مصطفى الأوّل بعد وفاة أحمد الأوّل، بما يشير إلى ترسّخ التعاقب بالأكبريّة في الممارسة. بيد أنّ الثمن الجديد كان سلاطينَ معزولين قليلَي الخبرة، إذ يخرجون من القفص إلى العرش مباشرة.

فلسفة القسوة: “نِظامُ العالَم” بين “عقل الدولة” وذكورة الدم

هنا يتواجه مبدآن:
1. مبدأ الدولة: البقاء والاستمرارية ووحدة المجال السياسي.
2. مبدأ الرحم: قداسة الأخوّة وحرمة الدم.

لقد صاغ العثمانيون هذا التوتّر بعبارةٍ كثيفة: نِظامُ العالَم. إنها فكرة قريبة مما سيعرفه الفكر الأوروبي لاحقًا بـ “عقل الدولة” وضروراتها، حيث تُوزن الأفعال بميزان النتائج العامة لا بميزان الأخلاق الفردية. من وجهة نظرٍ نفعيّة، إن كان قتلُ إخوةٍ معدودين يمنع حربًا أهليةً تُفني الألوف وتصدّع الدولة، فقد يكون “شرًّا أصغر” لصالح “خيرٍ أكبر”. لكنّ هذا الميزان نفسه يحمل مفارقتَه المروّعة: فالدولة التي تُنقَذُ بقتل الإخوة تُنشَّأُ على خوفٍ مزمنٍ من الداخل، ويغدو العرشُ نفسه رمزًا للرعب المُمأسس.

ومن الطريف المُرّ أنّ بعض المؤرّخين العثمانيين الكبار التقاطوا حكمة الناس المرة في أمثالهم؛ ينقل ابن كمال أنّهم قالوا: “إن شِبلَ الذئب يصير ذئبًا”؛ أي إنّ الأمير الصغير الذي يُستثنى اليوم سيغدو غدًا خصمًا للسلطان، فدرهمُ قسوةٍ الآن أهونُ من قنطارِ دمٍ لاحق. غير أنّ استدعاء الأمثال لا يمحو المعضلة الأخلاقية، بل يعرّيها: هل يجوز للدولة أن تُعِدَّ مواطنيها –وأبناء بيتها– “موادَّ وقايةٍ” لسلطتها؟

بين المثال والبديل: مقارناتٌ لازمة

ليست العثمانيةُ بدعًا منفردًا؛ فممالكٌ أخرى عرفت حلولًا مختلفة لذات المعضلة. ففي الهند المغولية، لم يُقنَّن القتل لكنّ أورنك زيب صفّى إخوته وفي مقدّمتهم دارا شكوه في حرب خلافةٍ مشهورة، فاستُبقي مبدأ “البقاء للأقوى” واقعًا من دون اعترافٍ قانونيّ. أما البيزنطيون فمالوا إلى سملِ العيون وتشويهِ الخصوم لإسقاط أهليّتهم للعرش من غير قتلٍ صريح. وفي أوروبا الغربية تكفي الإشارة إلى حروب الوردتين في إنكلترا مثالًا على التكلفة الرهيبة لحرب الخلافة حين تنفلت من عقالها. المغزى واحد: كلّ حضارةٍ اخترعت أداتها المفضّلة لإخماد فتنة الوراثة؛ والنتيجة دائمًا مفاضلةٌ بين شرَّين.

ماذا كسبت الدولة… وماذا خسرت الأسرة؟

الكسب أنّ “قانون الفاتح” قلّص الحروب المفتوحة بين الإخوة فعلاً، ورسّخ سرعةَ انتقال السلطة، ومنح الجهاز الإداري والعسكري يقينًا عمليًّا. الخسارة أنّ البلاط عاش في اقتصادِ خوف دائم: أمهاتٌ يحمين أبناءهنّ بالمؤامرات، وأمراءُ يكبرون على وقعِ احتمالِ الخنق بحبل الحرير، وجهازُ حكمٍ يتعوّد أن يفضّ المعضلات بالسيف قبل العقل. وحين انتقلنا إلى “القفص” استُبدلت الدماءُ بالعزلة؛ فتراجعت الفتنُ المباشرة، لكنّ العرش تلقّى في المقابل سلاطينَ يعتلون الحكمَ بأجنحةٍ مقصوصة.

الدرس الأوسع: الدولة ليست “معصومة” والمبادئ لا تعمل في الفراغ

تكشف هذه التجربة عن حقيقةٍ صلبة: لا وجود لوراثةٍ ملكيةٍ بلا نظريةٍ سياسيةٍ تُدير أخطارَها. فإن أُهمل التصميم المؤسّسي تحكّمَ العُرفُ والسيفُ بالمصير؛ وإن صيغَ القانونُ بلا كوابح أخلاقيةٍ ومراقبةٍ اجتماعيةٍ رشيدة تحوّل إلى آلةٍ لإنتاج الخوف. لهذا يبدو المسار العثماني مفهومًا تاريخيًّا: تقنينٌ قاسٍ لانسدادٍ سياسيّ، ثمّ تحوّلٌ تدريجيّ إلى بدائل أقلّ دمويةً (القفص، ثم الأكبريّة) مع تكاليفَ من نوعٍ آخر.

ميزانٌ ذو كفّتين لا تُسوّيه إلا المؤسسات

حين نُعيد قراءة “قانون قتل الإخوة” بوصفه لحظةً تأسيسيةً في تاريخ الدولة العثمانية، لا ينبغي أن نسقط في ثنائيّة التمجيد أو الشيطنة. لقد كان حلًّا تاريخيًّا لمعضلةٍ تاريخية، ناجعًا في كسر حلقة الحروب الأهليّة، فادحَ التكلفة في كسر صلةِ الرحم ومعنويّات السلطة. والمفارقة أنّ الدولة نفسها –ومن داخل خبرتها– سعت لاحقًا إلى تدجين القسوة: عزلٌ بدل قتل، وأكبريّةٌ بدل سباقٍ دمويّ. هنا تتقدّم الحوكمة المؤسّسية على فِقه الضرورات، ويغدو السؤال: كيف نبني تعاقبًا آمنًا يقلّل كلفة العنف على الدولة والأسرة معًا؟

إنّ العرش، في النهاية، لا يُثبتُه حبلُ الحرير ولا أبوابُ “القفص”، بل شبكةُ قواعدَ ومؤسّساتٍ تُحوِّل القوة إلى نظامٍ قابلٍ للعيش. وما بين “نِظامِ العالَم” ودمِ الإخوة، تعلّم العثمانيون –كما غيرهم– أنّ شرعيّة البقاء إن لم تُسدَّد أقساطُها في مؤسّساتٍ وعدالةٍ ورقابةٍ، فسيدفعها أحدٌ ما نقدًا من اللحم والدم



#كرم_خليل (هاشتاغ)       Karam_Khalil#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحول السوري: قراءة في المرحلة الراهنة وتوصيات لبناء الدولة ...
- أهمية العلاقات السورية الأمريكية في هذه المرحلة الحساسة
- تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية في سوريا
- الخصخصة في سوريا.. حديث في الإيجابيات والسلبيات والطريق نحو ...
- وسائل الإعلام في مجتمعات ما بعد النزاع: بين الهيمنة والتحرر
- ظاهرة التكويع وسلطة الأمر الواقع
- العدالة الانتقالية والية الاصلاح
- الجهاز الأمني السوري الجديد
- الجيش السوري: أزمة هوية واستجابة للثورة
- تحديات النصر السوري ومستقبله
- مواقع التواصل الاجتماعي حديث في الإيجابيات والسلبيات
- المرأة ثورة روحية لا تخمد ولغز لا ينتهي
- كساندرا التي فرضت حظر التجول في سورية لسبعة أشهر
- زلزال أنطاكيا جرح غائر في صفحات التاريخ الإنساني
- التطرف الديني بين الخرافة والبدعة
- سرد حكاية شالوم في رواية قمر أورشليم
- شيزوفرينيا الديموقراطية في ربوع مزرعة الأسد
- تأرجح العلاقات التركية تدفع ثمنه ادلب السورية وسط تنازلات تر ...
- صراع القرن وحرب فرض النفوذ
- أكذوبة -نظرية المؤامرة- غيّبت الشعوب العربية عن الصراع العال ...


المزيد.....




- نظرة على منتجع كوريا الشمالية الجديد الشاسع وشبه الفارغ
- ديمي مور تدعم إيما هيمينغ زوجة طليقها بروس ويليس في محنته ال ...
- هجوم بسكين في مرسيليا يوقع 4 جرحى.. والشرطة تطلق النار على ا ...
- شي جين بينغ يرحب بفلاديمير بوتين لإجراء محادثات في بكين
- مواجهات في باندونغ: شرطة إندونيسيا تطلق غازاً ومطاطاً على طل ...
- كل الأنظار إلى البرازيل: انطلاق المداولات الختامية في محاكمة ...
- روسيا والصين تُوقعان اتفاقًا ملزمًا لبناء خط أنابيب -طاقة سي ...
- بأكبر عرض عسكري منذ عقود.. فيتنام تُحيي ذكرى الاستقلال الـ80 ...
- سوريا: كشف آثار يورانيوم في دير الزور بمنشأة قصفتها إسرائيل ...
- بعد فقدان الملاحة الجوية لطائرة فون دير لاين قرب روسيا.. روم ...


المزيد.....

- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كرم خليل - قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى