أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كرم خليل - حين يصبح الإجماع قيدًا: في نقد الوعي الجمعي العربي














المزيد.....

حين يصبح الإجماع قيدًا: في نقد الوعي الجمعي العربي


كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث

(Karam Khalil)


الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 00:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا يتشكل الفكر الجمعي في فراغ، بل ينمو ويتبلور في قلب الشبكات الثقافية والاجتماعية التي تحتضنه، ثم يُعاد إنتاجه عبر منظومات التربية والإعلام والدين واللغة اليومية. إنّه خلاصة ما يعتقده الناس حول أنفسهم والعالم، لكنه في الوقت ذاته ليس معطى ثابتًا، بل نتاج عملية تراكمية مستمرة من الفهم، والتأويل، والنقد.

في المجتمعات المتقدمة، يتشكل الفكر الجمعي من خلال تراكب معرفي طويل الأمد، تحكمه آليات نقد ذاتي فعالة، ومؤسسات تربوية وإعلامية تتيح تعدد الرؤى وتكافؤ المساءلة. هناك، يُنظر إلى الفكر الجمعي بوصفه ظاهرة متحولة قابلة للتطوير، لا كجوهر أبدي يجب أن يُسلَّم به كما هو. أما في المجتمعات المتخلفة، فالوضع على النقيض تمامًا: إذ يتحول الفكر الجمعي إلى فضاء مغلق، تهيمن عليه التصورات الموروثة التي تُعامل كحقائق مقدسة، لا تخضع للمراجعة ولا للمساءلة.

في هذا السياق، تُختزل مفاهيم الخير والشر، والهوية، والماضي، والمستقبل، في قوالب جاهزة يعاد تكرارها جيلاً بعد جيل، من دون تمحيص أو تعديل. وعندما يُطرح سؤال خارج هذه القوالب، لا يُناقش السؤال، بل يُحاكم صاحبه. يهيمن على هذا النمط من التفكير خوف عميق من التغيير، لأن التغيير يستدعي بالضرورة مساءلة ما كان يُعتبر بديهيًا، وهو ما ترفضه المنظومات التقليدية بطبيعتها. وهكذا تتطور لدى هذه المجتمعات “مناعة نفسية” ضد النقد، فترى في المختلف خطرًا، وفي السؤال تهديدًا للنسيج الاجتماعي.

يُستخدم الدين في بعض الحالات كأداة لترسيخ هذا الجمود، لا باعتباره فضاءً للفهم الروحي العميق، بل كوسيلة لضبط السلوك الجمعي وتثبيت البنية التقليدية. ويُسهم التعليم بدوره في تكريس هذا النمط، حين يُبنى على الحفظ والتلقين بدل التحليل، وتُقدّم المعرفة بوصفها مجموعة إجابات نهائية لا كعملية مفتوحة على الاحتمالات. أما الإعلام، فغالبًا ما يتبنى خطابًا شعبويًا يعزز الرؤية النمطية، ويضخم الشعارات، ويشيطن التساؤلات النقدية

في السياق العربي تحديدًا، يظهر هذا النمط من الفكر الجمعي بحدة أشد. فالعقل الجمعي العربي يعيش حالة من المفارقة: من جهة، يُحاصر بتقاليد ثقافية ودينية واجتماعية ترفض النقد، ومن جهة أخرى يُنتظر منه أن يكون فاعلاً في عالم يتطلب تجديدًا مستمرًا في الأفكار والبُنى. بين هذين القيدين يتشكل وعي مضطرب، مشدود بين الولاء للموروث والخوف من التفكك، بين الحاجة إلى التغيير والقلق من تبعاته.

يرتكز الفكر الجمعي العربي غالبًا على ثلاث ركائز أساسية: تمجيد الماضي، تبرير الحاضر، والارتياب من المستقبل.

فالماضي يُقدم كزمن مثالي يجب العودة إليه؛ والحاضر يُعاد تأويله باعتباره استثناءً مؤقتًا أو نتيجة مؤامرة؛ أما المستقبل فيُصوَّر كخطر غامض مجهول الملامح. في هذا المناخ، لا يُربى الفرد العربي على أن يكون فاعلًا نقديًا، بل على أن يكون تابعًا لصوت الجماعة، ويقيس صوابه بمدى تطابقه مع ما يراه “الناس” لا مع ما يمليه عليه العقل أو الضمير.

وحين يظهر صوت نقدي داخل هذا النسق، لا يُقابل بالحوار، بل يُصنف فورًا في خانة “الطابور الخامس”، أو يُتهم بأنه “انسلخ من مجتمعه” أو أنه ناكر للثوابت. وهكذا يتضح أن الفكر الجمعي ليس مجرد وعاء للمعتقدات، بل آلية دفاع جماعية لحماية النسق من زعزعة الداخل. إنه ليس فقط ما نعتقده، بل ما نحرسه دون وعي، خشية أن نواجه سؤال الذات.

هذا النمط من الفكر لا يُنتج وعيًا نقديًا قادرًا على التطور، بل يُنتج استقرارًا شكليًا هشًا سرعان ما يتصدع أمام أي أزمة سياسية أو اقتصادية أو فكرية. ولهذا كثيرًا ما تفاجأ المجتمعات العربية بانفجارات غضب مفاجئة، أو موجات شك عارمة، أو صعود تيارات تطرف حادة؛ لأن هذه المجتمعات لم تدرّب أفرادها على مساءلة الأفكار، بل على كبتها.

لا يمكن تحرير الفكر الجمعي بقرارات فوقية أو خطابات طارئة، بل عبر عملية عميقة لإعادة تشكيله من الداخل: من خلال نظام تربوي جديد يزرع التفكير النقدي منذ الصغر، وإعلام مسؤول يفتح المجال لتعدد الأصوات، ومؤسسات ثقافية تشجع التساؤل لا التبعية. لا يدخل المجتمع إلى الحداثة إلا حين يتصالح مع فكرة أن الإجماع ليس فضيلة مطلقة، وأن الأسئلة لا تهدد النسيج، بل تقويه. فالمجتمعات لا تنهض حين تكرر ذاتها، بل حين تراجعها.

إن الفكر الجمعي، لكي يكون حيًا، يجب أن يتسع للهامش، لا أن يُقصيه. فالمجتمع الحي ليس من لا يختلف فيه الناس، بل من يعرف كيف يحوّل اختلافهم إلى طاقة بناء لا إلى أداة قمع.



#كرم_خليل (هاشتاغ)       Karam_Khalil#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الليبرالية: مشروع وجودي أم مجرد جهاز قانوني؟
- تركيا بين اهتزاز الداخل وتشابك الإقليم: قراءة في الواقع والم ...
- سوريا بين خطاب المركزية وأزمة التشكل: قراءة في مسارات إعادة ...
- سوريا في معترك المواجهة: الخطة الوطنية للتصدي لهيمنة الإحتلا ...
- من بوق الحدث إلى عقل الأمة: الإعلام ودوره في بناء الثقة والو ...
- بسّام العدل: من بريق الطائرة إلى ظلام القمامة قصة خيانة تكشف ...
- بين الموعظة والقانون: رحلة الإنسان بين خلود الفكرة وفناء الج ...
- قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى
- التحول السوري: قراءة في المرحلة الراهنة وتوصيات لبناء الدولة ...
- أهمية العلاقات السورية الأمريكية في هذه المرحلة الحساسة
- تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية في سوريا
- الخصخصة في سوريا.. حديث في الإيجابيات والسلبيات والطريق نحو ...
- وسائل الإعلام في مجتمعات ما بعد النزاع: بين الهيمنة والتحرر
- ظاهرة التكويع وسلطة الأمر الواقع
- العدالة الانتقالية والية الاصلاح
- الجهاز الأمني السوري الجديد
- الجيش السوري: أزمة هوية واستجابة للثورة
- تحديات النصر السوري ومستقبله
- مواقع التواصل الاجتماعي حديث في الإيجابيات والسلبيات
- المرأة ثورة روحية لا تخمد ولغز لا ينتهي


المزيد.....




- البيت الأبيض ينشر صورة لترامب خلال تسجيل فيديو للتعليق على ر ...
- -حماس- تصدر بيانا بشأن موقفها من خطة ترامب للسلام في غزة
- حماس تجدد موافقتها على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية م ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو لهدوء المغرب وجيل زد يجدد دعوات الاحتج ...
- حماس تعلن موافقتها على الإفراج عن كل الرهائن وفق خطة ترامب
- أردوغان لترامب: استمرار هجمات إسرائيل يفشل مبادرات وقف الحرب ...
- ديسكورد.. منصة ألعاب أصبحت غرفة عمليات لتنظيم الاحتجاجات
- يونيفيل: الجيش الإسرائيلي ألقى قنابل قرب عناصرنا جنوبي لبنان ...
- أسطول الصمود يكذب مزاعم بن غفير بشأن المساعدات المحمولة
- نتنياهو يبحث رد حماس على خطة ترامب وغالبية الإسرائيليين يؤيد ...


المزيد.....

- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كرم خليل - حين يصبح الإجماع قيدًا: في نقد الوعي الجمعي العربي