عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 08:00
المحور:
الادارة و الاقتصاد
لم تعد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ولا سيما في العراق، قابلة للفهم بزاوية واحدة. فبعد أعوامٍ من الحروب والانكفاء والتدخلات المتقاطعة، بدأت واشنطن تنتهج ما يمكن تسميته بـ سياسة التوازن الثلاثي: مواجهة محسوبة مع الفصائل،
تقارب براغماتي مع بغداد، وتحرك إقليمي محكوم بضرورات التهدئة بعد حرب غزّة.
لكنّ ما يهمّ العراق اليوم ليس كيف تتصرّف واشنطن، بل كيف يُدير هو هذه المعادلة بما يحمي مصالحه، ويُعيد ترتيب موقعه الإقليمي، ويحوّل الضغط إلى فرص اقتصادية واستراتيجية مستدامة.
أولاً: ما بعد حرب غزّة – صراع النفوذ بدل صراع الجبهات : انتهاء العمليات الكبرى في غزّة لا يعني نهاية الصراع، بل انتقاله إلى طورٍ جديد أكثر تعقيداً وأشدّ غموضاً.
فالهدوء النسبي الذي تفرضه الضغوط الدولية يفتح الباب أمام مرحلة اصطياد الهفوات، حيث يسعى بعض القادة الإقليميين – وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو – إلى استثمار أيّ توتّر في المنطقة لتأجيل محاكمته وإطالة عمر حكومته المتداعية.
لقد فقد نتنياهو كثيراً من عناصر الردع العسكري والسياسي، وأصبح يبحث عن عدو جانبي يُعيد من خلاله تعريف دوره أمام الداخل الإسرائيلي. والعراق، بما يمثله من موقعٍ حساسٍ وقربٍ من محور المقاومة،
قد يتحوّل هدفاً مغرياً لأيّ استفزازٍ مدروس يضمن له إعادة ترتيب أوراقه الداخلية.
وهنا تكمن خطورة المرحلة: أيّ ردٍّ غير محسوب من العراق أو فصائله المسلحة قد يمنح تل أبيب الذريعة للهروب إلى الأمام، وجرّ العراق إلى مواجهةٍ غير مطلوبةٍ ولا محسوبة النتائج. فالتاريخ القريب يذكّرنا بأن قرارات الانفعال هي
التي جرّت البلاد إلى كوارث مكلفة — من الحرب العراقية–الإيرانية إلى مغامرة الكويت — حيث دفع الشعب الثمن مضاعفاً، بينما ربح الآخرون الوقت والمكاسب.
ثانياً: البعد الأمني – ضبط الإيقاع بلا صدام : تعتمد واشنطن اليوم سياسة أمنية مركّبة في العراق، تقوم على الضغط الميداني المحدود ضد الفصائل المسلحة مع الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع الحكومة. هذا الأسلوب الذي يبدو توازناً في الظاهر، يُحتّم على بغداد إدارة الموقف بحذرٍ استراتيجيٍّ دقيق.
إنّ الفصائل العراقية جزء من النسيج الأمني والاجتماعي الوطني، وأيّ استهداف لها خارج إطار الدولة يُضعف مفهوم السيادة ذاته. والحل لا يكون في الانحياز الكامل أو المواجهة المفتوحة، بل في إعادة دمج هذه التشكيلات ضمن الإطار الدستوري والأمني الرسمي، وتثبيت مبدأ وحدة القرار العسكري تحت سلطة القائد العام للقوات المسلحة.
بهذا فقط يمكن للعراق أن يحصّن نفسه من الاستفزازات الانتقائية ، ويحافظ على وحدة الموقف الداخلي، ويقطع الطريق أمام من يسعى إلى تقسيم الجبهة الوطنية إلى موالٍ ومتمرد. فكل رصاصة تُطلق بلا قرار سيادي مدروس، هي رصاصة تصيب هيبة الدولة قبل خصمها.
ثالثاً: البعد السياسي – الحياد الواعي لا الانكفاء السلبي : المرحلة الراهنة تتطلب من العراق أن يُمارس سياسة الحياد الواعي، لا الانكفاء السلبي. الفرق بينهما دقيق لكنه جوهري: الأول يقوم على الإدراك الكامل للتوازنات وتوظيفها لخدمة المصلحة الوطنية، والثاني يقوم على الخوف والتردد الذي يتيح للآخرين تحديد موقع العراق بدلاً عنه.
تاريخ العراق السياسي مليء بالدروس التي لا تُنسى: كل مرة اندفع فيها النظام نحو محورٍ واحد دفع ثمنها غالياً من سيادته وثرواته واستقراره. ولذلك، فإنّ العقل السياسي العراقي اليوم مدعوّ إلى شجاعة الحذر لا حماسة الاندفاع، وإلى التعامل مع القوى الكبرى بمنطق المصالح المتبادلة لا الولاء أو العداء.
فإدارة العلاقة مع واشنطن في ظل تصاعد التوتر الإقليمي لا تعني الارتماء في أحضانها، بل تعني استثمارها لتحقيق مكاسب اقتصادية وتنموية تضمن للعراق حرية القرار واستقلال التمويل. فالقوة في هذا العصر تُقاس بما تملك من أدوات الاقتصاد، لا بما ترفعه من شعارات المواجهة.
رابعاً: البعد الاقتصادي – من العقوبات إلى الاستثمار الذكي : وراء الخطاب الأمني والسياسي، تقف المعادلة الاقتصادية كالعصب الحقيقي للعلاقات العراقية–الأميركية. فالولايات المتحدة، رغم القيود والعقوبات، تدرك أن انهيار الاقتصاد العراقي سيضرّ بمصالحها في الخليج وشرق المتوسط. وهنا يكمن مفتاح التحرك العراقي: تحويل الأزمة إلى فرصة استثمارية سيادية.
يمكن لبغداد أن تبدأ مساراً اقتصادياً مزدوجاً:
• من جهة، مفاوضات مباشرة مع واشنطن وصندوق النقد الدولي لإعادة النظر في القيود على التحويلات المصرفية وضبطها ضمن آليات شفافة.
• ومن جهة أخرى، إطلاق مشاريع شراكة طويلة الأمد مع شركات أميركية وأوروبية وآسيوية في مجالات الطاقة، والغاز، والبنى التحتية، والنقل، والخدمات اللوجستية، ضمن إطار قانوني يضمن للعراق السيطرة على الموارد، وللشركاء الأمان التشغيلي والاستثماري.
إنّ هذه المقاربة ليست انفتاحاً اقتصادياً فحسب، بل استراتيجية سيادية لإعادة تعريف العلاقة مع العالم على أساس المصلحة المشتركة لا الوصاية الدولية. فالعراق يستطيع أن يكون جسراً بين الشرق والغرب، لا ساحةً لصراعهما، إذا ما أحسن إدارة هذه الفرص بعقلية الدولة لا بعقلية الميدان.
خامساً: لقاء شرم الشيخ – من ملف أمني إلى فرصة طاقة : فحين يشير الرئيس الأميركي في كلمته إلى أهمية النفط العراقي، فهو لا يستدعي خطاب الهيمنة القديم، بل يرسل إشارة اقتصادية مزدوجة: الأولى أنّ العالم بعد حرب غزة يحتاج إلى مصادر طاقة مستقرة وآمنة، والثانية أنّ العراق بات ركيزةً أساسية في أمن الإمدادات العالمية، بل محطة استراتيجية تُعيد العراق إلى قلب معادلة الطاقة الدولية.
إنّ إدراك بغداد لهذه الرسالة يعني الانتقال من مرحلة “الاستقرار السلبي” إلى مرحلة الاستثمار الذكي للثروة النفطية. فبدلاً من أن يكون النفط سبباً للتجاذب، يمكن أن يتحوّل إلى أداة شراكة استراتيجية تعيد للعراق دوره كمزود موثوق، وتفتح الباب أمام استثمارات أميركية وأوروبية في مشاريع الغاز، والتكرير، والطاقة النظيفة، والبنى التحتية الداعمة للموانئ والنقل.
ويمكن للحكومة العراقية أن توظّف هذا المناخ الجديد في إعادة صياغة علاقتها الاقتصادية مع واشنطن عبر حوارٍ متكافئٍ عنوانه “الفرصة مقابل الاستقرار ؛ العراق يوفّر بيئة استثمارية آمنة وطاقة رخيصة، مقابل دعم أميركي حقيقي في ملفيّ التكنولوجيا والبنية التحتية. وبهذا، يتحول اللقاء من مشهدٍ سياسيٍ عابر إلى بداية تحوّل في هندسة العلاقات العراقية–الأميركية نحو منطق الاقتصاد لا السلاح.
سادساً: بين الدبلوماسية والردع – توازن الكلمة والسلاح : يُخطئ من يظن أن الدبلوماسية ضعفٌ أو أن الردع العسكري وحده ضمانة للأمن. القوة الحقيقية للعراق اليوم تكمن في قدرته على الجمع بين الحكمة والهيبة: أن يرفع صوته حين تُنتهك سيادته، وأن يُحسن الصمت حين يكون الصمت جزءاً من إدارة الأزمة.
ولذلك، فإنّ المرحلة المقبلة تتطلب بناء جبهة دبلوماسية واقتصادية فاعلة تتحدث باسم العراق في المحافل الدولية، وتعرض رؤيته كمحور استقرارٍ وتنميةٍ لا كطرفٍ في صراع المحاور.
سابعاً: إعادة تعريف الحياد العراقي : بعد حرب غزّة وتبدّل خرائط النفوذ، بات واضحاً أن المنطقة مقبلة على إعادة توزيعٍ للأدوار بين القوى الكبرى. وإذا كانت واشنطن تميل لتقليص كلفة وجودها العسكري، فإنّ ذلك يتيح للعراق مساحةً نادرة لإعادة بناء دوره القيادي في العالم العربي، بشرط أن لا يقع في فخّ “الانفعال الشعبوي” أو الاستقطاب الطائفي .
إنّ الحياد العراقي حماية له من الانقسام. فحين يلتزم العراق بخطٍّ وطني مستقلّ، فإنه يقدّم نموذجاً في السياسة الرصينة التي لا تندفع خلف الشعارات، ولا تبيع مواقفها مقابل لحظة تصفيقٍ عابر.
ثامناً: الرؤية المستقبلية – من إدارة الأزمة إلى استثمارها : التحوّلات الراهنة في السياسة الأميركية وصعود الرغبة الدولية في تهدئة المنطقة بعد حرب غزّة تمثل فرصة استراتيجية للعراق ليقدّم نفسه مركز توازنٍ جديد في الشرق الأوسط. ولتحقيق ذلك، يحتاج إلى خطة ثلاثية الأبعاد:
1. تحييد الصراعات الخارجية عن أراضيه عبر ضبط الفصائل وتأكيد حصرية السلاح بيد الدولة.
2. بناء اقتصاد استثماري منتج يعيد الثقة بالنظام المصرفي ويفتح أبواب الشراكة أمام الشركات العالمية.
3. إطلاق دبلوماسية اقتصادية تركّز على الطاقة النظيفة، والموانئ، وربط العراق بشبكات التجارة الإقليمية الكبرى.
ختاماً: شجاعة الحذر لا حماسة الصدام : لقد آن للعراق أن يُثبت أن الذكاء السياسي ليس في رفع الصوت، بل في توظيف الصمت كأداة نفوذ، وأنّ الشجاعة ليست في الحرب، بل في تجنّبها حين تكون عبثية.
الذين كتبوا مآسي البلاد كانوا يظنون أنهم يكتبون أمجادها؛ واليوم، على العراق أن يكتب تاريخه من جديد بلغة التنمية لا البنادق، وبعقل الدولة لا ردّات الفعل.
العالم يراقب، والفرصة ما تزال قائمة: أن يكون العراق جسر توازنٍ اقتصادي وسياسي بين الشرق والغرب، لا ساحةً لصراعاتهما، وأن يُثبت أن المستقبل لا يُصنع بالولاء للمحاور، بل بالإيمان بقدرة الوطن على أن يكون مركز القرار لا هامشه.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟