عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 02:08
المحور:
الادارة و الاقتصاد
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، برزت مقولة “القطب الأوحد” التي هيمنت من خلالها الولايات المتحدة على النظام الدولي. إلا أنّ العقدين الأخيرين شهدا تصاعد النقاش حول نهاية هذه الحقبة وبروز نظام “متعدد الأقطاب”،
خاصة مع صعود الصين، عودة روسيا، ومحاولات أوروبا والهند لعب أدوار مستقلة.
غير أنّ وقائع السنوات 2022–2025 – من حرب أوكرانيا، وحرب غزة، وتصعيد إسرائيل–إيران، وانهيار النظام السوري، إلى الصراع الاقتصادي–التكنولوجي – برهنت أن واشنطن ما تزال الممسكة بالمفاتيح الأساسية للنظام الدولي.
لقد أُغرقت موسكو وطهران في صراعات استنزاف، وظلّت بروكسل تابعة لقيادة الناتو، فيما بقيت الهند قوة صاعدة لم تبلغ مستوى الندية. أما الصين، فعلى الرغم من قوتها الاقتصادية، فإنها ما زالت مقيدة في التكنولوجيا والمال والنفوذ الاستراتيجي.
المقال الحالي يقدّم برهانًا متماسكًا على أنّ العالم، رغم كل التحولات، لم يدخل بعد طور التعددية القطبية الحقيقية، بل يواصل الدوران في فلك القطبية الأميركية الواحدة، حتى وإن تلوّنت هذه القطبية بمظاهر تشاركية وتحالفية.
أولًا: القيادة العسكرية والأمنية – واشنطن مركز الثقل : حرب أوكرانيا مثلت الاختبار الأبرز. بعد صدمة الاجتياح الروسي في فبراير 2022، بدا أنّ أوروبا عاجزة عن التوحّد بدون المظلّة الأميركية. وقد تحقق ذلك بوضوح في ثلاث نقاط:
1. توسّع الناتو: انضمام السويد عام 2024، وتعزيز دفاعات البلطيق والقطب الشمالي، تم تحت قيادة مباشرة من واشنطن. الناتو كمنظمة ما يزال يعتمد على القدرات الأميركية الجوية والصاروخية والاستخبارية.
2. الإنفاق الدفاعي الأوروبي: 23 دولة رفعت إنفاقها العسكري إلى 2% من الناتج (الحد الأدنى للناتو) عام 2024 – تطور تاريخي ما كان ليحدث بهذه السرعة دون ضغط وتنسيق أميركي.
3. الدعم العسكري لكييف: حزمة الـ61 مليار دولار التي أقرها الكونغرس الأميركي في أبريل 2024 لم تكن مجرد تمويل، بل تضمنت تكنولوجيا تسليح متطورة وتدريبًا ومعلومات استخبارية لا يمكن لأوروبا منفردة أن توفرها.
بالمحصلة، لم تظهر “قطبية أوروبية” مستقلة؛ بل تأكد أنّ القارة العجوز هي جناح استراتيجي لواشنطن.
ثانيًا: المال أولًا – الدولار كسلاح النظام العالمي : الركيزة الثانية للهيمنة الأميركية هي النظام المالي:
• الدولار ما زال يمثل حوالي 58% من الاحتياطيات العالمية الرسمية (بيانات صندوق النقد 2024).
• في مدفوعات “سويفت” تجاوزت حصة الدولار 50% عام 2024، وهو أعلى مستوى في 12 عامًا.
• في سوق الصرف الأجنبي، الدولار موجود في طرف 88% من كل الصفقات اليومية.
لا اليورو ولا اليوان الصيني استطاعا الاقتراب من هذه المكانة. حتى بعد العقوبات على روسيا، لم يظهر بديل جدي، بل على العكس زادت حاجة موسكو وبكين إلى الالتفاف على النظام عبر الدولار. بالتالي، “التعددية النقدية” تبقى شعارًا أكثر منها حقيقة.
ثالثًا: حرب غزة والتصعيد الإيراني – إظهار الهيمنة الصلبة والناعمة : حرب غزة (أكتوبر 2023 – صيف 2025) شكّلت اختبارًا مزدوجًا:
1. الدعم العملياتي لإسرائيل: خلال الهجوم الإيراني المباشر في أبريل 2024، شكّل الاعتراض الجماعي للطائرات والصواريخ نموذجًا للقيادة الأميركية التي دمجت الدفاعات الإسرائيلية مع قدراتها وقدرات الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، الأردن، دول الخليج).
2. الدبلوماسية في مجلس الأمن: بعد أشهر من الفيتوات الأميركية ضد مشاريع قرارات لوقف إطلاق النار، نجحت واشنطن في مارس 2024 بتمرير القرار 2728 عبر الامتناع عن التصويت،
ثم صاغت بنفسها مشروع قرار لاحقًا يقترح إطارًا لوقف النار على ثلاث مراحل.
هذه القدرة على الجمع بين الحماية العسكرية والتأطير الدبلوماسي تفضح ضعف الأطروحة القائلة بقطبية روسية أو صينية بديلة. موسكو وبكين لم تستطيعا فرض أجندتهما، بينما بقيت واشنطن صاحبة الكلمة الفصل.
رابعًا: سقوط نظام الأسد – تراجع المحور الروسي–الإيراني : في ديسمبر 2024، سقط نظام بشار الأسد بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية. صعود أحمد الشرع إلى السلطة، بدعم من قوى إقليمية ودولية، مثّل ضربة كبرى لمحور موسكو–طهران.
• روسيا، المنهمكة في أوكرانيا، لم تستطع منع الانهيار.
• إيران، المستنزفة في حرب غزة والتصعيد مع إسرائيل، عجزت عن تثبيت نفوذها.
• الولايات المتحدة، من خلال أدوات العقوبات والتحالفات الإقليمية، حافظت على موقع المراقب–الضابط الذي يحدد اتجاه التسويات.
هذا المثال يوضح أنّ القوى “المفترضة كأقطاب” ليست قادرة على فرض إرادتها خارج حدود ضيقة، وأنّ واشنطن ما تزال تمسك بخيوط التوازن المشرقي.
خامسًا: الطاقة كسلاح جيوسياسي – واشنطن تملأ فراغ موسكو
بعد 2022، انهارت صادرات الغاز الروسي لأوروبا من أكثر من 40% إلى نحو 11% عام 2024. من سدّ الفراغ؟ الولايات المتحدة.
• صادرات الغاز المسال الأميركي (LNG) أصبحت المورد الأول لأوروبا، تغطي قرابة نصف وارداتها.
• هذا التحول البنيوي لم يقتصر على سوق الطاقة، بل قلّص نفوذ روسيا السياسي والاقتصادي داخل أوروبا.
الاستنتاج هنا واضح: بدلاً من أن تخلق الحرب “تعددية طاقوية”، كرستها لمصلحة واشنطن.
سادسًا: التكنولوجيا – مفاتيح الرقبة بيد واشنطن : الصراع مع الصين في مجال الرقائق وأشباه الموصلات أوضح بعدًا آخر للقطبية الأميركية:
• القيود التي فرضتها واشنطن منذ 2022 حرمت بكين من الوصول إلى معدات الطباعة الضوئية المتقدمة (EUV).
• انضمت هولندا واليابان إلى القيود، مما أثبت أنّ واشنطن ليست وحدها، لكنها قادرة على توحيد أهم اللاعبين في سلاسل القيمة.
• النتيجة: رغم حجم الاقتصاد الصيني، إلا أنّ “الرقبة التكنولوجية” ما تزال ممسوكة بيد الولايات المتحدة.
سابعًا : أسواق السلاح والتكنولوجيا والاقتصاد العالمي تحت الهيمنة الأمريكية
إلى جانب القيادة العسكرية والدولار والطاقة، هناك بعد آخر لا يقل أهمية وهو الهيمنة الأميركية على أسواق التكنولوجيا والسلاح والاقتصاد العالمي:
1. سوق السلاح:
o الولايات المتحدة تحتفظ بالمركز الأول عالميًا في تصدير الأسلحة، بأكثر من 40% من السوق الدولي.
o شركات مثل لوكهيد مارتن، بوينغ، ورايثيون تهيمن على سوق الطائرات المقاتلة، أنظمة الدفاع الصاروخي، والطائرات المسيّرة.
o حرب أوكرانيا أثبتت أن أنظمة مثل “هيمارس” و”باتريوت” أصبحت معيارًا عسكريًا عالميًا، ما رسّخ الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية.
2. التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي:
o السيطرة على مفاتيح الثورة الرقمية عبر عمالقة وادي السيليكون (مايكروسوفت، غوغل، أبل، ميتا، أمازون).
o أنظمة التشغيل، الحوسبة السحابية، الذكاء الاصطناعي، ووسائل الدفع الرقمية ما تزال كلها بيد شركات أميركية.
o حتى محاولات الصين في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية تبقى مقيدة بعقوبات وقيود وصول للتقنيات الأميركية.
3. الاقتصاد العالمي:
o أميركا تتحكم في أهم مؤسسات التمويل الدولي (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي).
o الدولار كعملة تسعير للنفط والغاز والسلع الاستراتيجية يجعل من النظام الاقتصادي العالمي مرهونًا بالسياسات النقدية الأميركية (رفع أو خفض الفائدة من الفيدرالي يؤثر مباشرة على عملات وأسواق الدول الأخرى).
4. أسواق الطاقة: إلى جانب الغاز المسال، الولايات المتحدة أصبحت أكبر منتج للنفط عالميًا بفضل ثورة النفط الصخري، ما منحها قدرة مضاعفة على التحكم في المعروض والأسعار.
إنّ أي حديث عن “تعددية قطبية” يجب أن يتجاوز هذه الحقيقة الجوهرية: أنّ الولايات المتحدة ليست فقط قوة عسكرية أو سياسية، بل هي “العصب” الذي يمر من خلاله السلاح، التكنولوجيا، التمويل، والطاقة في العالم.
ثامناً: تفكيك أطروحة التعددية الخماسية : رؤية فلاديمير جيرينوفسكي (خمس عواصم: واشنطن، موسكو، بكين، بروكسل، نيودلهي) تبدو اليوم نظرية أكثر منها واقعية:
• بروكسل: عاجزة عن الاستقلال الأمني؛ استراتيجيتها الدفاعية مرهونة بالناتو/واشنطن.
• الهند: قوة صاعدة مهمة، لكن ما تزال في طور النمو؛ قدراتها العسكرية والمالية محدودة أمام الصين وأميركا.
• موسكو: غارقة في مستنقع أوكرانيا، معزولة ماليًا، مقزّمة طاقويًا.
• بكين: اقتصاد ضخم لكن محاصر بالتكنولوجيا وبالاعتماد على الأسواق الغربية.
الواقع: لم يبقَ سوى واشنطن كقطب متكامل يمتلك أدوات عسكرية، مالية، تكنولوجية، ودبلوماسية
تاسعا: دروس للعراق والمنطقة العربية : بالنظر إلى المشهد الدولي، هناك جملة من الدروس الأساسية:
1. الاعتراف بالواقع القطبي الأميركي:
o مهما اختلفت التوجهات، فإن بنية النظام العالمي تُدار من خلال مفاتيح أميركية (الأمن، المال، التكنولوجيا).
o تجاهل هذه الحقيقة يضع العراق والدول العربية في مواجهة مباشرة مع “القوة المهيمنة”، وهو ما يضاعف المخاطر بدل تقليصها.
2. التركيز على الشراكات الاقتصادية:
o العراق يمتلك ثروة نفطية وغازية هائلة، لكنه بحاجة إلى استثمارات في التكنولوجيا والبنى التحتية.
o الشراكات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمكن أن توفّر التكنولوجيا والتمويل مقابل تأمين الإمدادات الطاقوية.
o تنويع الشراكات مع الصين والهند مفيد، لكن يجب أن يكون في إطار لا يتعارض مع المصالح الأميركية المباشرة.
3. الشراكات الأمنية:
o مكافحة الإرهاب، حماية الحدود، الدفاع الجوي، الأمن السيبراني؛ كلها مجالات لا يمكن للعراق أن يواجهها منفردًا.
o التعاون مع واشنطن وحلفائها يوفّر مظلة أمنية أكبر ويعزز الاستقرار الداخلي.
4. بناء سياسة خارجية مرنة: بدلاً من عقلية التبعية أو الانتظار، على العراق أن يتبنى دبلوماسية نشطة تقوم على تنويع العلاقات، مع إبقاء خطّ أساس استراتيجي مع واشنطن.
إنّ تجارب العقد الراهن – من أوكرانيا وغزة إلى سقوط النظام السوري والتصعيد الإيراني – أثبتت أن القطبية الأميركية الواحدة لم تنكسر بعد. بل على العكس، عزّزت واشنطن قبضتها على أسواق السلاح والتكنولوجيا والطاقة والمال العالمي.
عاشرا : ختاما ؛ بالنسبة للعراق والمنطقة العربية، فإنّ الطريق الأمثل ليس في وهم البحث عن “تعددية قطبية” توفر بدائل جاهزة، بل في بناء شراكات اقتصادية وأمنية محسوبة مع الولايات المتحدة وحلفائها،
مع هامش مدروس للتعاون مع قوى أخرى. والاستقرار الإقليمي، لا يتوقف على انتظار ولادة نظام دولي جديد، بل على القدرة الوطنية على التكيّف مع القطبية الأميركية الراهنة، واستثمارها بما يخدم المصالح العراقية والعربية.
ومعنى استمرار القطبية الأميركية هو:
1. الهامش موجود لكنه محدود: تعدد الصراعات لا يفتح الباب أمام مناورة مطلقة، بل أمام تنويع محسوب للعلاقات تحت سقف النفوذ الأميركي.
2. الرهان على خصوم واشنطن مجازفة: موسكو وطهران مقيدتان، وبكين ليست جاهزة لحماية شركاء على الأرض.
3. السياسات الواقعية: العراق يحتاج إلى بناء استراتيجيات مرنة تستفيد من الانفتاح الأميركي–الإقليمي، وتبني شراكات اقتصادية مع الصين والهند، لكن دون اصطدام بالبنية الأميركية للنظام العالمي.
الخاتمة : كل الأزمات الأخيرة – أوكرانيا، غزة، إيران–إسرائيل، سقوط الأسد – لم تؤسس لنظام متعدد الأقطاب، بل على العكس أعادت تكريس القطبية الأميركية.
• روسيا أُغرقت في أوكرانيا وفقدت أوراقها الطاقوية.
• أوروبا زادت تبعيتها العسكرية والطاقوية لواشنطن.
• الصين محاصرة في التكنولوجيا والمال.
• الهند قوة صاعدة لكنها بعيدة عن مستوى الندية.
إنّ العالم اليوم يدور حول قطب أميركي واحد، حتى وإن بدا ظاهريًا أن هناك مراكز أخرى. الجوهر ما زال:
• واشنطن تقود التحالفات.
• الدولار يحكم المال العالمي.
• التكنولوجيا بيد أميركية.
• الطاقة تعزز النفوذ الأميركي.
من هنا، فإنّ القول بـ“تعددية قطبية” كاملة ليس إلا وصفًا متفائلًا. الواقع – كما تكشفه حروب العقد الراهن – هو أنّ القطبية الأميركية الواحدة ما تزال حقيقة النظام الدولي.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟