عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 18:18
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
في عالم الحروب الحديثة، لم تعد المعلومة والصورة الإعلامية أقل أهمية من القنبلة والصاروخ. الولايات المتحدة، بما تمتلكه من خبرة طويلة في عمليات الخداع الاستراتيجي (Strategic Deception) وإدارة الإدراك (Perception Management)،
تدرك جيدًا كيف يمكن لرقم مالي ضخم، أو نسبة مئوية مثيرة للقلق، أن تُربك حسابات الخصم وتستنزف أعصابه قبل أن تستنزف قدراته. هنا، يصبح إعلان “نفاد” أو “انخفاض” مخزون صواريخ دفاعية متطورة ليس مجرد تقرير خبري، بل أداة نفسية
تستهدف زرع صورة ذهنية لدى طهران بأن باب الهجوم مفتوح، بينما الهدف الحقيقي قد يكون دفعها إلى كشف أوراقها أو التورط في قرار استراتيجي غير محسوب.
تاريخيًا، مارست الولايات المتحدة هذه الأساليب ضد خصومها عبر المزج بين التضليل الإعلامي والتسريبات المقصودة، لإيهام العدو بوجود نقاط ضعف، أو لدفعه إلى الاستثمار في مسارات هجومية أو دفاعية مكلفة وغير ضرورية.
وفي حالة إيران، فإن الإعلان عن استهلاك 25% من مخزون THAAD خلال أيام معدودة يمكن أن يؤدي إلى أحد هدفين:
1. إغراء الخصم بالمغامرة ظنًا منه أن الدفاع الأميركي في حالة إنهاك.
2. استدراج رد استخباراتي أو عملياتي يكشف خطط أو مواقع حيوية يمكن استهدافها لاحقًا.
ومع الأخذ بالاعتبار أن منظومة “ثاد” هي نظام دفاع صاروخي بعيد المدى، مصمم لاعتراض الصواريخ الباليستية في مرحلتها النهائية عبر الاصطدام المباشر (Hit-to-Kill) دون رأس متفجر، وأن تكلفة الصاروخ الواحد تتجاوز 12 مليون دولار،
فإن أي رسالة عن استهلاك مكثف لهذه الذخيرة، في سياق أزمة إقليمية، لا بد أن تحمل أبعادًا نفسية واقتصادية موجهة، خصوصًا أن العدد الإجمالي للوحدات التشغيلية في الجيش الأميركي لا يتجاوز سبع وحدات، ما يجعل أي “نزيف” في مخزونها خبرًا قابلاً للاستثمار النفسي.
ففي حزيران 2025، وأثناء الحرب الإيرانية–الإسرائيلية التي امتدت اثني عشر يومًا، تسربت تقارير من كبريات وسائل الإعلام الغربية – من بينها CNN وWall Street Journal – تزعم أن الولايات المتحدة قد استهلكت قرابة 150 صاروخًا من منظومة الدفاع الصاروخي البعيدة المدى THAAD، أي ما يعادل تقريبًا ربع الترسانة الأميركية من هذا النوع. ووفق هذه التقارير، فإن قيمة ما أُطلق من صواريخ خلال أقل من أسبوعين تراوحت بين 1.2 و2 مليار دولار. هذه الأرقام الصادمة، للوهلة الأولى، قد توحي بوجود فجوة حقيقية في الجاهزية الأميركية أمام سيناريو هجمات صاروخية كثيفة من خصم بحجم إيران، لكنها في الوقت نفسه تفتح باب الشك حول كون هذا الإفصاح جزءًا من مسرح عمليات إعلامي–نفسي مُخطط بعناية.
بهذا المعنى، تصبح حادثة “THAAD” مثالاً حيًا على توظيف البيانات العسكرية في الحرب النفسية، حيث تُحوَّل المعلومة من مجرد إحصاء إلى أداة ردع ذهني وإرباك إدراكي، هدفها الحقيقي ليس ما يُقال، بل ما يترسخ في عقل صانع القرار الإيراني.
أولاً: الإطار النظري للحرب النفسية الأميركية : الحرب النفسية ليست مجرد بث دعايات أو نشر أخبار مضللة، بل هي فن إدارة الإدراك الجماعي والفردي للخصم بحيث يتخذ قرارات تصب في مصلحة الطرف المهاجم دون أن يدرك أنه مُستَدرَج. الولايات المتحدة طورت هذا الفن عبر مؤسسات استخباراتية وإعلامية وبحثية، وتزاوج بين المعلومة الموجهة والتسريب المقصود وإدارة الصورة الذهنية. والركائز الأساسية لهذه الاستراتيجية تشمل:
1. زرع الشك في قدرات العدو: عبر تسريب بيانات جزئية أو مبالغ فيها.
2. إيهام العدو بوجود ضعف تكتيكي: لتحفيزه على كشف خططه أو الإسراع بالهجوم.
3. استخدام الإعلام كسلاح: حيث تصبح القنوات الإخبارية الكبرى جزءًا من ساحة العمليات.
ثانيًا: نماذج تاريخية للخداع الاستراتيجي الأميركي
1. عملية الحارس الوفي (1990–1991) – حرب الخليج : قبل حرب الخليج الأولى، استخدمت الولايات المتحدة حملة معلوماتية مكثفة لإظهار أن قواتها البرية غير جاهزة لاقتحام الأراضي الكويتية المحتلة، بينما كانت تعد سرًا لهجوم بري خاطف. الهدف كان إيهام العراق بأن الهجوم البري لن يأتي قريبًا، ما سمح للقوات الأميركية باختيار توقيت المفاجأة.
2. حرب العراق 2003 – أسلحة الدمار الشامل : روّجت واشنطن رواية وجود أسلحة دمار شامل كغطاء استراتيجي للغزو، مع توظيف صور وتقارير استخباراتية "مختارة" لخلق إجماع دولي نسبي. رغم أن الهدف المعلن كان نزع السلاح، إلا أن الهدف الفعلي كان إسقاط النظام العراقي وتغيير موازين القوى في المنطقة.
3. إدارة الأزمات مع الاتحاد السوفيتي – الحرب الباردة : خلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تبالغ في الإعلان عن قدرات عسكرية أو تقلل منها وفق الحاجة السياسية. أحيانًا تعلن عن برامج صاروخية أو دفاعية تجريبية وكأنها مكتملة، وأحيانًا تقلل من شأن نجاحات تقنية حقيقية لإخفاء قوتها.
4. مثال معاصر – THAAD في حرب يونيو 2025 : حادثة الإعلان عن استهلاك 25% من مخزون صواريخ THAAD في مواجهة الصواريخ الإيرانية تمثل نموذجًا معاصرًا للحرب النفسية. فهي رسالة مزدوجة: إغراء الخصم باستغلال ما يعتقد أنه ضعف، وفي الوقت ذاته قياس ردود الفعل الإيرانية وحلفائها لاستخلاص معلومات استخباراتية.
فهل نحن أمام خداع استراتيجي أميركي؟ : المؤشرات الدالة على الخداع: ومن خلال المؤشر التحليل نلاحظ توقيت النشر جاء بعد انتهاء الحرب بأيام، مما يعزز فرضية أن الهدف هو التأثير على ما بعد الحرب. كما وأن الجهات الناشرة CNN وWSJ تسربان عادةً رسائل مدروسة من داخل الدولة العميقة.
غياب التصريحات الرسمية القاطعة من البنتاغون يتيح للولايات المتحدة مساحة الإنكار أو التراجع التكتيكي.
التضخيم الرقمي للتهديد تقديم رقم 25% من الترسانة دون تأكيد مستقل يجعل الرقم قابلًا للتوجيه الإعلامي.
استدعاء ذاكرة “الضعف المؤقت” سياسة أميركية كلاسيكية (مثل ما حصل بعد الانسحاب من أفغانستان، وقبل غزو العراق).
ثالثًا: أذا ربطنا الحرب النفسية بالبيئة الإيرانية : فإيران مجتمع سياسي–أمني شديد الحساسية للأخبار عن القدرات العسكرية لخصومه، وتاريخيًا، تميل مراكز القرار فيه إلى ردود فعل محسوبة لكنها مشحونة بالعاطفة الوطنية. في هذا السياق، أي خبر عن ضعف دفاعي أميركي–إسرائيلي قد يدفعها لزيادة النشاط الصاروخي أو تحريك وكلاء إقليميين، وهو ما قد يكون هدفًا أميركيًا لاختبار منظومات الدفاع أو كشف مواقع الإطلاق. فسنصل الى الغايات المحتملة لهذا الخداع :
1. إغراء الخصم بالمجازفة: من خلال إيهام إيران بأن الدفاع الأميركي منهك، لجرّها إلى تصعيد أو كشف مواقعها العسكرية.
2. تبرير ميزانيات الدفاع الجديدة: باستخدام الذعر المصطنع لتبرير موازنات تسليحية جديدة في الكونغرس.
3. إعادة ترتيب أولويات الانتشار: بخلق مناخ ضاغط لنقل صواريخ من السعودية أو حلفاء آخرين إلى مناطق أكثر حساسية (مثل إسرائيل).
4. توسيع شبكات الردع متعددة الطبقات: بتهيئة الرأي العام لتوسيع برامج مثل: Aegis، Iron Dome، Patriot، وتحفيز الصناعات الدفاعية الأميركية.
رابعًا: الاستنتاج : حادثة THAAD ليست حالة منفصلة، بل هي استمرار لسلسلة طويلة من التلاعب بالمعلومة كجزء من ساحة المعركة. الحرب النفسية الأميركية ضد إيران تمزج بين الضغط النفسي والتضليل الاستراتيجي والتحكم بالرواية الإعلامية، بحيث يصبح العدو في حالة تفاعل دائم مع ما يُقال عنه أكثر من تركيزه على خططه الذاتية. وقد لا نكون نعلم بدقة كم صاروخ THAAD أُطلق فعلاً في يونيو 2025، لكن ما نعلمه أن نشر هذه الأرقام علنًا ليس بريئًا. بل هو جزء من لعبة معقدة تمارسها الولايات المتحدة لتحريك بيادق الخصم على رقعة الشطرنج الجيوسياسية. ومن يبتلع الطُعم… يخسر المباراة. فأعلان انهيار مخزون صواريخ منظومة ثاد في حرب الـ١٢ يوم .ومن الولايات المتحدة التي تمتلك إرثاً عسكرياً واستخباراتياً حافلاً بعمليات الخداع الاستراتيجي (Strategic Deception) التي استُخدمت في الحروب والصراعات الكبرى، وتمكنت من خلالها من تضليل خصومها وتغيير مسارات الحروب. إليك أبرز وأشهر هذه العمليات:
1. عملية “فورتتيود” (Fortitude) – الحرب العالمية الثانية : الهدف: إقناع الألمان بأن الإنزال الحقيقي سيكون في كاليه شمال فرنسا، وليس في نورماندي. وكانت أدوات الخداع: ( إنشاء جيش وهمي بقيادة الجنرال جورج باتون. استخدام دبابات وطائرات مطاطية، وموجات إذاعية زائفة. تزوير برقيات وشبكات استخباراتية مضادة. ) . والنتيجة: نجح الإنزال في نورماندي بشكل مذهل بسبب تركيز القوات الألمانية في المكان الخطأ.
2. عملية “كوادرانت” – الحرب الكورية (1950–1953): الهدف: إيهام القوات الصينية والكورية الشمالية أن الإنزال البحري سيكون في مكان آخر غير “إنشون”. وكانت أدوات الخداع: ( تمويه تحركات الأساطيل البحرية. تضليل الاتصالات اللاسلكية. نشر معلومات استخباراتية مضللة عبر “عملاء مزدوجين”.) و النتيجة: حقق الجنرال ماك آرثر إنزالاً ناجحاً في إنشون، غيّر مجريات الحرب.
3. خداع صدام حسين قبيل حرب الخليج (1991): الهدف: إقناع العراق أن الهجوم البري الأميركي سيكون من الجنوب، بينما كان التخطيط لهجوم عبر غرب الكويت. وكانت أدوات الخداع: ( مناورات حقيقية بالسعودية قرب الحدود. حملة تضليل إعلامية عبر تسريبات متعمدة. استخدام قوى التحالف كمشتت للتركيز العراقي.) وكانت النتيجة: انهارت خطوط الدفاع العراقية بسرعة في عملية “عاصفة الصحراء”.
4. خداع صربيا في حرب كوسوفو (1999): الهدف: إرباك الدفاعات الجوية الصربية ومنعها من إصابة طائرات الناتو. وكانت أدوات الخداع: ( إطلاق إشارات إلكترونية وهمية. نشر طائرات بدون طيار لرصد مواقع الدفاعات ثم قصفها بعد استنفاد ذخيرتها استخدام تكتيك “false target illumination” ) والنتيجة: دُمرت منظومة الدفاع الجوي الصربي دون فقدان طائرات حربية أميركية كبيرة.
5. عملية “مينتيم” (Mintim) في العراق (2003): الهدف: تشتيت انتباه القيادة العراقية عن الهجوم الأميركي الرئيسي من الجنوب. وكانت أدوات الخداع: ( نشر شائعات وتحريك قوات بشكل وهمي عبر الأردن وتركيا. تسريب معلومات عبر الإنترنت ووسائل الإعلام.) وكانت النتيجة: أُجبرت القيادة العراقية على نشر قواتها في محاور ثانوية، وسقطت بغداد بسرعة.
6. تضليل طالبان (2001–2002) : الهدف: ضرب قادة طالبان في أماكن محددة دون أن تدرك الحركة نوايا التحالف. وكانت أدوات الخداع: ( تجنيد قنوات قبلية محلية لزرع معلومات مغلوطة. إطلاق عمليات صغيرة لجذب الأنظار بعيداً عن الهجمات الجوية الكبيرة.) وكانت النتيجة: سقوط قندهار وتفكك القيادة المركزية لطالبان بسرعة.
7. حرب الخليج الثانية – “الخداع الإعلامي” (2003) : الهدف: إقناع العالم أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. وكانت أدوات الخداع: ( شهادات موجهة في مجلس الأمن. تقارير استخبارية ملفقة أو مضخّمة. دعم تسريبات عبر صحف عالمية كـنيويورك تايمز.) وكانت النتيجة : شرعنة الغزو الأميركي رغم عدم وجود دليل فعلي على وجود أسلحة محرّمة.
خلاصة تحليلية:
1. عندما يكون العنصر هو [الإعلام] فأن الاستخدام هو تسريب أخبار مضللة أو مبالغ فيها.
2. عندما يكون العنصر هو [الاتصالات] فأن الاستخدام هو بث إشارات وهمية / تعطيل شبكات الخصم.
3. عندما يكون العنصر هو [العمليات النفسية] فأن الاستخدام هو زرع الشك داخل قيادة العدو وتشتيت قراراته.
4. عندما يكون العنصر هو [التمويه الميداني] فأن الاستخدام هو قوات وهمية، معدات مزيفة، مواقع غير حقيقية.
5. عندما يكون العنصر هو [العملاء المزدوجون] فأن الاستخدام هو تقديم معلومات خاطئة عن عمد.
خامسًا: الدروس المستخلصة عراقياً
1. العراق كدولة ذات موقع حساس بين إيران وحلفاء واشنطن، عليه أن يفكك الخطاب الاستراتيجي الأميركي، لا أن يبتلعه.
2. من مصلحة العراق تطوير قراءة استخباراتية مستقلة للأحداث، لا سيما تلك التي تمس ميزان الردع الإقليمي.
3. كل إشعار “ضعف” تصدره الولايات المتحدة هو إما تمهيد لضربة وقائية، أو إغراء للعدو بالمجازفة.
4. يجب تعزيز تنسيق الاستخبارات العسكرية العراقية مع نظرائها الإقليميين لفهم الرسائل غير المعلنة في الإعلام الغربي.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟