عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 21:44
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يواجه العراق اليوم تحديات متفاقمة في قطاع الأدوية والرعاية الصحية، تتقاطع فيها أزمات السيولة، والاعتماد المفرط على الاستيراد، وتراجع الإنتاج المحلي، وضعف الإطار التنظيمي. ومع ازدياد الضغوط السكانية والمالية، لم يعد بالإمكان التعويل على المسكنات المؤقتة،
بل بات الإصلاح الهيكلي ضرورة استراتيجية للأمن الصحي والمالي على حدّ سواء.
رغم أنني لست من المختصين في قطاع الدواء وصناعته، إلا أنني، كمهتم بالإدارة المالية العامة، وجدت نفسي مضطرًا للاقتراب من هذا الملف الحساس، لا بوصفه شأنًا دوائيًا بحتًا، بل بوصفه ميدانًا يتكبد فيه العراق سنويًا كلفةً مالية باهظة تتجاوز المليارات،
دون أن يقابلها نظام رشيد للتوريد أو التصنيع أو التوزيع. إن هذا القطاع، بما ينطوي عليه من هشاشة في الرقابة واعتماد مفرط على الاستيراد، قد تحوّل إلى "نزيف صامت" في جسد الاقتصاد الوطني.
ولعلنا اليوم بأمسّ الحاجة إلى ما يشبه "الوصفة الطبية"، لكن هذه المرة ليست من طبيب مختص، بل من خبير اقتصادي يرسم خارطة علاج حقيقية، بعد تشخيص دقيق للداء: من غياب التصنيع المحلي، إلى تشوهات السوق، إلى تهريب الأدوية وتكديس النفقات.
إنها وصفة علاجية اقتصادية، يتوجب تبنّيها قبل أن تتفاقم المضاعفات، ويُصاب اقتصاد العراق بانتكاسة يصعب التعافي منها.
إنّ سوق الدواء لا يمثّل عبئًا صحّيًا فحسب، بل هو أيضًا معبر استراتيجي للمال العام، يتقاطع فيه الأمن الصحي مع السيادة الاقتصادية. لذلك، فإن مقاربتي لهذا الملف تنطلق من سؤال جوهري: كيف يمكن للعراق أن يُحوّل هذا القطاع من مستوردٍ متضخمٍ للكلفة
إلى رافعةٍ للتنمية الصناعية والتوازن المالي؟
هذه الورقة تحاول أن تطرح ملامح أولية لهذا المسار. وبينما تعاني دول المنطقة من أزمات مشابهة، كالانهيار الذي ضرب لبنان، تقدم تلك التجارب إشارات تحذيرية وفرصًا للدروس المستفادة. فقد أظهرت التجربة اللبنانية كيف يؤدّي انهيار العملة وغياب الحوكمة إلى انقطاع الأدوية
الحيوية، وخروج مئات الصيدليات من الخدمة، وتنامي سوق الأدوية المزوّرة. وعليه، فإن معالجة الملف الدوائي في العراق تستوجب إطارًا متماسكًا يرتكز على ثلاثة محاور: التوطين الإنتاجي، والتنظيم الذكي، والتمويل المستدام.
أولًا: تشخيص التحديات البنيوية في السوق العراقية
1. الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد: يتجاوز حجم الاستيراد الدوائي في العراق 90% من السوق، ما يجعله رهينة لتقلبات سعر الصرف وسلاسل الإمداد الخارجية.
2. ضعف الصناعة الدوائية المحلية: رغم كذا مصنعًا دوائيًا، فإن الطاقة التشغيلية لا تتجاوز 25%، بسبب غياب الحوافز(حماية المنتج الوطني) ، وارتفاع كلفة المواد الأولية، والعراقيل التنظيمية.
3. غياب مختبر مركزي لفحص الأدوية: الأمر الذي يضعف رقابة الجودة ويفتح المجال أمام الأدوية المزوّرة أو غير المطابقة.
4. فوضى التسعير وتعدد مصادر الاستيراد: دون نظام موحد للشراء الحكومي، ولا قواعد بيانات رقمية لتتبع سلاسل التوريد.
5. ضعف آليات الدعم المالي للمواطن: إذ يتحمل المرضى أكثر من 70% من كلفة العلاج من أموالهم الخاصة، في ظل تراجع دعم وزارة الصحة.
ثانيًا: الفرص المتاحة للإصلاح والتحول
1. إعادة هيكلة الصناعة الوطنية:
o دعم المصانع المحلية بمخصصات من صناديق التنمية أو من نافذة البنك المركزي.
o توفير إعفاءات جمركية وضريبية على المواد الأولية الدوائية.
o تخصيص نسبة إلزامية من الشراء الحكومي للأدوية المنتجة محليًا.
2. إنشاء هيئة وطنية عراقية للدواء:
o تكون مسؤولة عن التسجيل، والتسعير، ومراقبة الجودة.
o ربطها بمنصات إلكترونية لتتبع استيراد وتوزيع الأدوية.
o تطوير قدرات التفتيش الصيدلاني، واستحداث نظام يقظة دوائية فعّال.
3. إصلاح منظومة الشراء والتوزيع:
o تطوير شركة كيماديا الى مستوى مركز وطني موحد للمشتريات الدوائية الحكومية.
o اعتماد "الوصفة الموحدة" لتقنين وصف الأدوية والترويج للدواء الجنيس Generic Drug)).
o تقنين الاستيراد إلى قائمة من الأدوية الحيوية ذات الجدوى العلاجية والتكلفة الفعالة.
4. إطلاق استراتيجية وطنية شاملة للأمن الدوائي في إطار التأمين الصحي والرعاية الأولية
مع تشريع قانون التأمين الصحي وبلوغه مرحلة التفعيل، بات العراق يمتلك الإطار القانوني اللازم لتأسيس منظومة صحية متكاملة، لا سيّما وأن هذا القانون يشمل فعليًا الغالبية العظمى من المجتمع العراقي من خلال تغطيته لجميع موظفي الدولة ومنتسبي القوات الأمنية وعائلاتهم،
أي ما يعني أن أغلب الأسر العراقية باتت داخلة ضمن دائرة التغطية التأمينية. وفي ضوء ذلك، تقترح الاستراتيجية المحاور التالية:
أ. التمويل المنظم عبر التأمين الصحي
• ربط الأمن الدوائي بقاعدة الطلب المنظم الذي يوفره التأمين الصحي، ما يضمن استقرار السوق، ويضع حداً للاستهلاك العشوائي، ويعزز قدرة الدولة على التفاوض المركزي لتوفير الأدوية بأسعار عادلة.
• توجيه الإنفاق التأميني نحو دعم الأدوية الأساسية، وخصوصًا أدوية الأمراض المزمنة، والسرطانات، والمضادات الحيوية، بما يسهم في تخفيف العبء المالي عن المواطنين.
ب: التحفيز والإنتاج المحلي للأدوية الحيوية
• إطلاق برامج دعم تقني وتمويلي لإنتاج الأمصال والمضادات الحيوية داخل العراق، بالشراكة مع شركات محلية وعالمية.
• تشجيع تصنيع الأدوية الجنيسة محليًا، ووضع سياسات تسويقية وإجرائية لضمان استخدامها في المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة.
جـ: قواعد بيانات وطنية وتخطيط رقمي متقدم
• إنشاء منصة وطنية رقمية تضم:
o إحصاءات دقيقة عن الاستهلاك الدوائي حسب الفئات السكانية والمرضية.
o نسب الإنتاج المحلي مقابل الاستيراد.
o مؤشرات الاستجابة العلاجية وجودة الدواء.
• ربط هذه المنصة إلكترونيًا بمؤسسات التأمين الصحي والمراكز الصحية لتوليد تحليلات تنبؤية دقيقة تساعد في اتخاذ القرار على المستويين العلاجي والسيادي.
5. تحفيز الشراكات الدولية:
o عقد اتفاقات نقل تكنولوجيا مع شركات عالمية.
o توسيع شراكات التعليم الصيدلاني وبرامج التدريب على التصنيع الجيد GMP.
o إدخال شركات الأدوية الكبرى كشركاء في التصنيع المحلي بنظام BOT.
ثالثًا: أدوات التمويل والتحفيز
• استثمار جزء من فائض صندوق التقاعد أو صناديق التأمين الصحي في محافظ استثمارية دوائية.
• فرض رسوم على المنتجات الضارة (تبغ، مشروبات سكرية) وتخصيصها لقطاع الأدوية.
• تشجيع قطاع الأوقاف والمؤسسات الخيرية على إنشاء صناديق دوائية مستدامة.
• اعتماد نموذج "التسعير الدوائي العادل" بالتنسيق مع وزارة المالية.
إن ضمان الوصول العادل والآمن للأدوية في العراق لم يعد ترفًا تقنيًا بل خيارًا سياديًا. ومن خلال إصلاح بيئة الاستثمار، وتمكين الصناعة المحلية، وتحقيق التكامل بين الجهات التنظيمية، يمكن للعراق أن يتحول من مستورد هش إلى مركز إقليمي للإنتاج الدوائي في الشرق الأوسط.
وتأتي رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، الداعية لتوسيع الشراكات الاقتصادية، فرصة مواتية لتوطين هذه الصناعة بالشراكة مع كبرى شركات الأدوية العالمية، عبر تأسيس مصانع مشتركة داخل العراق أو في أراضي حليفة، بما يخدم الأمن الصحي ويخلق فرص عمل وموارد مستدامة. إن ملف الدواء هو بوابة للاستقلال الاقتصادي، وحماية للكرامة الوطنية، ومن دون إصلاحه الجذري، تبقى المنظومة الصحية معلقة بخيط هشّ بين الأسواق الرمادية... ومواسم الأزمات.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟