عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 01:45
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مع اشتداد لهيب صيف 2025، لم تعد أزمة المياه في العراق مجرّد تحدٍ بيئي عابر، بل تحوّلت إلى تهديد وجودي يعصف بأسس الأمن الغذائي، ويهزّ ركائز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. ففي ظل التراجع الحاد لمنسوب نهري دجلة والفرات، وتحوّل آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية إلى مساحات قاحلة، تتصاعد موجات النزوح الداخلي ويضيق الأفق أمام المجتمعات الريفية. إنها أزمة مركبة، تتغذى على تغيّرات مناخية متسارعة، وسنوات من سوء الإدارة، وغياب التخطيط الاستباقي. هذا المقال يحاول أن يضيء أبعاد الأزمة، ويستشرف مداخل الحل، قبل أن تجفّ الفرص كما جفّت منابع النهرين.
واقع مائي قاتم: فجوة بين الاستهلاك والاحتياطي : تشير التقديرات إلى أن احتياطي المياه المتاح في العراق لا يتجاوز 20 مليار متر مكعب، في حين يقدّر الاستهلاك السنوي بنحو 48 مليار متر مكعب. هذا التباين الصارخ يعكس اختلالاً هيكلياً في دورة الموارد المائية ويضع العراق أمام تحدٍ وجودي. إذ إن غياب الشفافية في إدارة الموارد المائية، وتفاقم تدهور البنية التحتية، لا يؤديان إلى تعقيد الأزمة فحسب، بل يسرّعان انزلاق العراق إلى قلب الكارثة المائية. فالوضع لم يعد يُصنَّف ضمن نطاق "الخطر المحتمل"، بل تجاوز عتبة التحذير، وأصبح أزمة قائمة تهدد الأمن المائي بشكل مباشر.
شحّ الأمطار في تركيا: متغيّر إقليمي يعمّق الاختناق المائي في العراق : إذ لم يعد شحّ الأمطار في تركيا مجرّد مؤشر مناخي عابر، بل تحوّل إلى متغيّر إقليمي بالغ الخطورة يُفاقم الأزمة المائية في العراق. فقد كشفت البيانات المناخية عن تراجع مقلق في معدلات الهطول المطري خلال موسم 2024-2025، حيث لم تتجاوز نسب الأمطار 60% من المعدلات الطبيعية في حوض دجلة والفرات. هذا النقص الحاد في الموارد المائية لا يقتصر أثره على تراجع الإطلاقات من السدود التركية، بل باتت نتائجه المدمّرة ماثلة في الداخل التركي ذاته، مع تصاعد موجات الحرائق غير المسبوقة التي تلتهم مساحات واسعة من الغابات، في واحدة من أبرز تجليات الجفاف المتطرف.
وفي هذا السياق، جاء تقليص الإطلاقات المائية من سد إليسو إلى العراق — من 500 متر مكعب في الثانية إلى 75 فقط — ليضاعف من آثار العجز المائي، في لحظة حرج تتقاطع فيها التحولات المناخية مع غياب التنسيق الإقليمي العادل، يتلقى العراق تداعيات مزدوجة: أزمات الداخل التركي المناخية، والقرارات الأحادية التي تخنق شرايينه المائية الحيوية.
تدهور زراعي ونزوح داخلي : تأثر الموسم الزراعي العراقي بشدة؛ فقد تراجعت المساحات المزروعة في مشاريع مثل ري الجزيرة في نينوى، وتقلص إنتاج المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والشعير. وقد أفاد نائب وزير الزراعة مهدي الجبوري أن الخطط الزراعية الصيفية والشتوية اضطرت إلى إعادة النظر، ما أدى إلى خسائر مباشرة في الأمن الغذائي. في الجنوب، أجبرت الأزمة أكثر من 37 ألف مواطن على النزوح نحو المناطق الحضرية أو الشمال، نتيجة شح المياه وارتفاع ملوحتها وانعدام فرص المعيشة المرتبطة بالزراعة وتربية المواشي.
سد الموصل وتراجع الخزن الاستراتيجي : أثار انخفاض مناسيب المياه في سد الموصل قلقاً واسعاً، إذ يُعد السدّ من أهم مواقع الخزن الاستراتيجي في العراق. ووفقًا لمجلس محافظة نينوى، فإن استمرار التراجع يعرض آلاف العائلات الزراعية في شمال البلاد للخطر، ويهدد استدامة مشروع ري الجزيرة الذي يغذي أكثر من 240 ألف دونم من الأراضي الزراعية.
استجابة حكومية: بين الخطط الآنية والحاجة إلى التحول البنيوي : وفي مواجهة هذا التدهور، وقعت وزارة الموارد المائية العراقية اتفاقات مع شركات إيطالية وأردنية لتحديث منظومات الري، كما تم توزيع أكثر من 13,000 منظومة ري حديثة بين 2023 و2024، مما ساعد على ريّ 1.1 مليون دونم من الأراضي بالمياه الجوفية. ورغم أن هذه الإجراءات حسّنت من إنتاجية القمح، إلا أن المختصين يرون أنها حلول مرحلية لا تعالج الجذور العميقة للأزمة.
دور الأمم المتحدة: حملة "الماء حياة" : أطلقت الأمم المتحدة في العراق حملة "الماء حياة" بالتعاون مع الحكومة العراقية، وستُنفذ خلال عام 2025 بأربع مراحل تشمل التوعية، ودعم الحوكمة المائية، وتسليط الضوء على المشاريع الجارية، والترويج لمشاركة العراق في المنتديات الدولية لتأمين الدعم المالي والفني.
التباني على سياسة الوطنية للتوعية البيئية المستدامة في مجال الموارد المائية : تهدف الدولة من خلالها إلى ترسيخ ثقافة الوعي المائي والبيئي على المستوى المجتمعي، من خلال اعتماد برامج توعوية متكاملة تعزز مفاهيم الاستخدام الرشيد للمياه، وتشجع على السلوكيات الصديقة للبيئة، بما في ذلك:
• ترشيد استهلاك المياه في الأنشطة اليومية والزراعية والصناعية.
• دعم ممارسات إعادة الاستخدام والتدوير للمياه.
• الحد من الاعتماد على المواد البلاستيكية أحادية الاستخدام.
• تقليل إنتاج النفايات وتحسين إدارتها.
ويجب أن تُعد هذه السياسة جزءًا من الالتزام الوطني بمواجهة التغيرات المناخية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز مشاركة المجتمع في حماية الموارد الحيوية.
الإقليم: جهود محدودة في ظل ضائقة مالية : وفي إقليم كردستان، تعمل مديرية ري أربيل على إيصال مياه الزاب الكبير إلى 80 ألف دونم من أراضي شمامك، وتشييد 33 خزانًا مائيًا، لكن الأزمة المالية أعاقت استكمال سوى ثلاثة منها.
نحو تحول استراتيجي في إدارة المياه: من المعالجات الظرفية إلى الرؤية المستدامة : رغم تعدد المبادرات وتنوع الجهود الحكومية، لا تزال أزمة المياه في العراق محكومة بإطار مجزأ يفتقر إلى الاتساق والرؤية بعيدة المدى. فغياب استراتيجية وطنية شاملة ومستدامة يشكّل العقبة الأساسية أمام تحقيق أمن مائي حقيقي. إن المعالجات المرحلية، مهما تعددت، لا ترقى إلى مستوى التصدي للجذور البنيوية لأزمة التصحر وشحّ الموارد. والمطلوب اليوم هو تبنّي نهج وطني متكامل في إدارة المياه، يستند إلى التخطيط الاستراتيجي، وحوكمة فعّالة للموارد، ورؤية مستقبلية تعيد التوازن إلى العلاقة بين الإنسان والمورد الطبيعي، وتحصّن البلاد من تداعيات تغيّر المناخ المتسارعة.
تبنّي خيار تحلية مياه البحر كمسار استراتيجي للأمن المائي في جنوب العراق : في ضوء التحديات المتزايدة التي تواجه الموارد المائية التقليدية، بات اعتماد تحلية مياه البحر خيارًا استراتيجيًا وضروريًا لتعزيز الأمن المائي، ولا سيما لتأمين مياه الشرب. ويوصى بأن يتم اعتماد هذا الخيار كحل فوري لمحافظة البصرة، التي تتمتع بأقرب منفذ بحري وبنية تحتية أولية تسمح بتنفيذ مشاريع التحلية.
أما على المدى المتوسط والبعيد، فيُقترح توسيع نطاق التحلية تدريجيًا ليشمل محافظات ميسان وذي قار والمثنى، من خلال تطوير منظومة متكاملة لنقل وتوزيع المياه المُحلّاة عبر شبكة إقليمية مرنة وفعّالة. سيسهم ذلك في تخفيف الضغط على نهري دجلة والفرات، ويعيد توزيع الاستخدامات المائية على نحو أكثر استدامة.
ومن شأن هذا المسار أن يعزز مرونة المنظومة المائية الوطنية في مواجهة التغيرات المناخية، ويقلل من الاعتماد الحرج على الموارد السطحية المتناقصة، بما يتماشى مع توجهات التنمية المستدامة وأهداف التكيّف المناخي.
ولا يفوت التنويه بأن دول الخليج العربي – برغم فقرها الطبيعي بالأنهار – قد سبقت دول الأنهار العريقة مثل العراق ومصر وسوريا في تطوير منظومات تحلية متقدمة، مكّنتها من تحقيق أمن مائي نسبي مستقر، مما يقدّم نموذجاً عملياً يجب أن يُستلهم منه في التخطيط العراقي المستقبلي.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟