عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 15:11
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يشهد العراق في الأشهر الأخيرة تحوّلاً لافتاً في مقاربته للعلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، يتجاوز الإطار التقليدي للتعاون في مجالي النفط والغاز نحو شراكة استراتيجية أوسع تشمل مجالات الطاقة، الصناعة، الأمن السيبراني. هذا التحوّل يمكن قراءته في ضوء سلسلة القرارات والعقود التي أبرمتها الحكومة العراقية مع شركات أمريكية رائدة خلال يوليو 2025، إلى جانب التوجهات الواضحة في خطاب الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب بعد إعادة انتخابه كما يعكسه التقرير الاستراتيجي السنوي لمركز الخليج للأبحاث لعام 2025 الذي أشار إلى تصاعد أهمية التحالفات الاقتصادية والدبلوماسية بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.
التحركات العراقية الأخيرة: أن ما شهده العراق خلال الأسابيع الماضية من السير الحثيث نحو شراكة اقتصادية أوسع مع الولايات المتحدة، وتوقيع وتفويض مجموعة من العقود والاتفاقيات مع شركات أمريكية بارزة في قطاع الطاقة والصناعات المرتبطة به. فقد وقّعت وزارة النفط عقداً مع شركة شلومبرجير لتطوير حقل عكاس الغازي في محافظة الأنبار في خطوة وُصفت بأنها إنجاز كبير لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي ودعم خطط العراق في استثمار موارده الغازية بشكل مستدام كذلك فوض مجلس الوزراء وزارة النفط بالتفاوض مع شركة شيفرون الأمريكية لتوقيع مذكرة مبادئ غير ملزمة بشأن مشروع رقعة الناصرية بما يشمل أعمال الاستكشاف والتطوير.
إلى جانب ذلك، سمحت الحكومة العراقية لشركة HKN Energy الأمريكية بتجاوز معايير التأهيل القياسية بهدف تطوير حقل حمريّن في شمال العراق كما حصلت شركة KBR الأمريكية على عقد تصميم هندسي أولي (FEED) لمصنع أسمدة رئيسي في البصرة إضافة إلى تمديد عقدها لعامين آخرين في حقل مجنون النفطي وفي السياق نفسه عقد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اجتماعاً مهماً مع وفد من شركة مورغان هيوز الأمريكية للخدمات النفطية لبحث فرص الاستثمار في النفط والغاز ما يعكس حرص الحكومة على تعزيز التعاون مع الشركات الأمريكية الكبرى.
الرسائل السياسية والاقتصادية لهذه الخطوات : هذه التطورات لا يمكن قراءتها بمعزل عن التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية بعد إعادة انتخاب الرئيس ترامب فالرسالة التي بعث بها ترامب إلى رئيس الوزراء العراقي مؤخراً والتي تضمنت رفع الرسوم الجمركية على البضائع العراقية المصدرة إلى الولايات المتحدة بنسبة 30% الى جانب دعوته العراق لفتح مصانع في الولايات المتحدة وتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي تعكس سياسة أمريكية تهدف إلى إعادة تشكيل الشراكات الاقتصادية عبر الأطلسي بما يتجاوز الإطار النفطي التقليدي.
إن توقيع العراق لهذه العقود مع الشركات الأمريكية في مجالات الغاز، النفط، والصناعات التحويلية، يُعدّ استجابة ذكية لهذه الرسائل وفرصة لفتح آفاق أوسع للاستثمارات المشتركة ليس فقط في قطاع الطاقة بل أيضاً في الصناعات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني حيث تمتلك الولايات المتحدة خبرة رائدة يمكن للعراق الاستفادة منها في بناء اقتصاد متنوع ومستدام.
انسجام مع التوجهات الخليجية والإقليمية : مما قد يخلق كتلة اقتصادية عراقية – خليجية إقليمية ذات ثقل عالمي، إذ جاء بالتقرير الاستراتيجي السنوي لمركز الخليج للأبحاث لعام 2025 والذي سلّط الضوء على تنامي أهمية التحالفات الاقتصادية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تركيزاً أوسع على تعزيز أوجه الشراكة الاستراتيجية، خصوصاً في ضوء التحولات العالمية في أسواق الطاقة والأمن.. وأشار التقرير إلى أن زيارة الرئيس ترامب إلى المنطقة في مايو 2025 جاءت لترسّخ التوجه الجديد للسياسة الأمريكية، مع إعطاء أولوية للتعاون الاقتصادي وتثبيت الشراكات الاستثمارية في المنطقة.
هذا التوجه الخليجي نحو شراكات أعمق مع الولايات المتحدة يشكّل نموذجاً يمكن للعراق البناء عليه، خصوصاً في مجالات استثمار الفوائض النفطية في مشاريع استراتيجية مثل مصافي النفط المشتركة أو الصناعات البتروكيميائية داخل الولايات المتحدة، فضلاً عن استثمارات في قطاعات المستقبل كالذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والأمن السيبراني. وهو ما يتوافق مع الحاجة العراقية إلى تنويع الاقتصاد، خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز مكانته كلاعب اقتصادي إقليمي.
فرصة استراتيجية واعدة للعراق : من خلال هذه التطورات، والتي تحمل نظرة تفاؤلية مدروسة، لكنها تتطلب متابعة تنفيذية دقيقة من الحكومة العراقية لضمان أن هذه العقود لا تبقى حبراً على ورق، إذ تتبلور أمام العراق فرصة استراتيجية لتعزيز موقعه الاقتصادي والسياسي في المنطقة عبر تبني نموذج شراكات اقتصادية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، على غرار ما تقوم به السعودية والإمارات في استثماراتهما المشتركة مع واشنطن. كما يمكن للعراق أن يذهب أبعد من ذلك، من خلال:
1. إنشاء مصافي تكرير نفط عراقية في الولايات المتحدة بالشراكة مع الشركات الأمريكية، ما يتيح تصدير منتجات نفطية مكررة عالية القيمة بدلاً من الاقتصار على تصدير الخام.
2. الاستثمار في شركات أمريكية ناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، بهدف نقل الخبرات والتكنولوجيا إلى العراق وتأسيس قاعدة معرفية واقتصادية حديثة.
3. تطوير مشاريع طاقة مشتركة مع دول الخليج والولايات المتحدة، بما يساهم في تعزيز الأمن الطاقوي الإقليمي، وتحويل العراق إلى شريك موثوق في معادلة الطاقة العالمية.
آفاق مستقبلية وتوصيات عملية : لكي يحقق العراق أقصى استفادة من هذا التوجه الجديد، يحتاج إلى وضع خطة متكاملة تعتمد على عدة محاور أساسية:
1) تشجيع الربط الإقليمي والدولي: الربط بين العراق ودول الخليج في مشاريع مشتركة يعزز من مكانة العراق كلاعب إقليمي.
2) تنويع أدوات الاستثمار: الدخول كشريك مالي واستثماري في المشاريع الأمريكية الكبرى في قطاع الطاقة والتقنيات المتقدمة.
3) تعزيز الوجود العراقي في الأسواق العالمية عبر تأسيس مكاتب استثمارية وتجارية في الولايات المتحدة وأوروبا.
4) إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي بإنشاء صندوق استثماري سيادي على غرار صناديق السعودية والإمارات.
5) التكامل مع دول الخليج في مشاريع مشتركة لتعزيز النفوذ الاقتصادي العراقي الخليجي في الأسواق الأمريكية.
6) التركيز على القطاعات المستقبلية كالذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر.
التحديات المحتملة : رغم الفرص الكبيرة، فإن العراق سيواجه عدة تحديات، أبرزها:
1) الرسوم الجمركية الأمريكية: إذ أن رفع الرسوم بنسبة 30% على البضائع العراقية قد يحد من فعالية هذه الشراكة ما لم يتم التفاوض بشأنها. والعودة الى الاعفاء الذي منحه الرئيس جورج بوش للبضائع العراقية سنة 2004
2) البيروقراطية والفساد الإداري، ما يتطلب إصلاحات مؤسسية وتشريعات محفزة.
3) الضغوط الإقليمية نتيجة التوازنات الدولية الحساسة، وهو ما يستدعي دبلوماسية متوازنة.
4) نقص الكفاءات البشرية، ما يتطلب برامج تدريب وتأهيل بالتعاون مع الشركات الأمريكية.
5) ولضمان أن لا يتحول التعاون مع الشركات الأمريكية إلى تبعية اقتصادية، بل إلى شراكة منتجة، يُوصى بأن تعتمد الحكومة العراقية على نهج "النقل الموجّه للتكنولوجيا"، عبر آليات واضحة لبناء القدرات المحلية.
ويشمل ذلك:
I. تضمين بنود إلزامية في العقود مع الشركات الأمريكية تنص على تدريب وتأهيل الكوادر العراقية، ونقل المعرفة التقنية والإدارية.
II. إنشاء مراكز مشتركة للبحث والتطوير داخل العراق بالشراكة مع هذه الشركات، تُعنى بابتكار حلول تقنية تلائم السياق المحلي.
III. تشجيع الاستثمار في الشركات العراقية الناشئة من خلال برامج احتضان تدعمها الشركات الأمريكية، بما يعزز من بيئة الابتكار الوطنية.
IV. ربط الشراكات الاقتصادية بسياسات تعليمية، من خلال تطوير المناهج الجامعية بالتعاون مع خبراء أمريكيين لتجهيز الجيل الجديد بمهارات المستقبل.
بهذا الشكل، يتحول الاعتماد على الشركات الأجنبية من كونه علاقة أحادية إلى نموذج تكاملي يعزز السيادة الاقتصادية ويُمكن العراق من التحول إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا والصناعة
يقف العراق اليوم أمام منعطف استراتيجي يمكن أن يغيّر مكانته الاقتصادية والسياسية إذا أحسن استغلاله. فالتحركات الأخيرة مع الشركات الأمريكية ليست مجرد عقود تجارية بل تمثل إشارات إلى انخراط العراق في شبكة شراكات اقتصادية عالمية عابرة للأطلسي، تتناغم مع توجهات السياسة الأمريكية والخليجية نحو تعزيز الاستثمارات المتبادلة. إن تمكنت الحكومة العراقية من الحفاظ على ديمومة العلاقة وصياغة استراتيجية متكاملة تستثمر هذه الشراكات في مشاريع داخل الولايات المتحدة وفي الداخل العراقي، فإن العراق يمكن أن يتحول من اقتصاد ريعي يعتمد على تصدير النفط الخام، إلى اقتصاد متنوع يمتلك أذرعاً استثمارية عالمية، ويحظى بثقل سياسي أكبر على الساحة الدولية. هذه هي اللحظة المناسبة للعراق ليكون شريكاً لا مجرد تابع، وليضع نفسه على طريق الاستقرار والازدهار المستدام.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟