أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - حين تكلم النسيان (قصة قصيرة)















المزيد.....

حين تكلم النسيان (قصة قصيرة)


سيد كاظم القريشي

الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 23:38
المحور: الادب والفن
    


*حين تكلم النسيان*
(قصة قصيرة)

✍🏻 سيد كاظم القريشي

حين سكتت المدينة عن الحلم، همس التراب باسمٍ واحدٍ فاهتزّت المقابر: أحمد كنعاني. انشقّت الأرض في مقبرة “االطابوگ” بعبادان. كان القمر يترنّح في السماء، والنجوم تتراقص كما لو كانت تطرب على وقع كاسورة. من بين التراب الطيني، ارتفع جسد نحيل، له لحيةٌ بيضاء شبه ذهبية، وعيون كأنها مرايا الزمن ذاته. كان هو، لم يتغير قط، أحمد كنعاني، الصوت الذي ظنّ الجميع أنّه دفن مع موت الأيام.

حين خرج، رافقته نسمة باردة تحمل رائحة المطر المختلط بالتراب والملح. وسمع همساً من بين القبور:

“عُد، يا أحمد… الأرض تتوق لصوتك.”

ظهر الطنطل من الظلام، ذلك الكائن الأسطوري الذي كانت تروي عنه الجدّات القصص في ليالي العواصف:

“لقد طال نومك، يا فنان الأرض والظلّ. المسرح يناديك، لكنه لم يعد كما تركته.”

ثم تقدمت خضرة أمّ الليف، تتلوّن بين الطين والماء، ومعها عشبة صغيرة.

“كُلْ منها، فبها تعود روحك كاملة، ويعود صوتك إلى الأرض.”

أخذ أحمد العشبة، وارتجفت أوصاله، وسمع صدى الدفوف القديمة، صوت المدينة التي كانت تحتفل بالفن قبل أن يبتلعها النسيان. عاد الدم إلى وجهه، وقال:

“أنا حيّ… لقد عاد التمثيل إلى قلبي.”

سار في شوارع الطابوگ، حيث المطر يغسل تراب المدينة، والقمر يتأرجح على نهر كارون كمرآة ندية. وكل ظلٍّ مرّ به همس له:

“ارجع، يا أحمد… لا تتركنا في النسيان.”

على الطريق، جلس علوان الشويّع على عتبة بيت قديم، يعزف على ربابة صدئة، قال له:

“لقد انتظرناك طويلاً، يا رفيق الفنّ. فرقة إشراق تنتظرك، تلك التي تحمل بقايا الحلم.”

اقترب أحمد، وعانقه بصمت، ثم رفع رأسه وقال:

“هل عاد الفنّ؟ هل ما زالت القاعات تضجّ بالحياة؟”

ضحك علوان بمرارة:

“القاعات… المسرح الآن يعيش في القلوب المتعبة، لم يبقَ سوى القليل من يؤمن أن الفنّ خلاص.”

ثم ظهر حسّان اگزار، بعباءة سوداء ومعه ناي قصير قديم:

“عد أنت، وأشعل المسرح من جديد… لا في أشرطة مسجّلة، بل على الخشبة الحقيقية.”

تأثر أحمد حتى دمعت عيناه

“إذا كانت الأرواح تشجعني، فماذا يمنع الأحياء؟”

وصل إلى مدينة الأهواز، إلى “إشراق للمسرح”. دفع الباب فصرّ صريره كصرخة ضائعة. في الداخل، شباب وبنات يُجهّزون مشهداً بسيطاً، الإضاءة باهتة، والديكور من الورق المقوّى.

اقترب أحدهم، نحيف يرتدي نظارة سميكة، وسأل:

“من أنت يا عمّ؟”

ابتسم أحمد قائلاً:

“أنا ممثل قديم… كنت أغني وأمثل في عبادان قبل أن تخلقوا أنتم. اسمي أحمد كنعاني.”

ضحك الشاب ظانّاً أنه يمزح:

“كنعاني؟! ذاك الذي مات منذ ثلاثين سنة؟”

هزّ أحمد رأسه:

“الموت مجرد استراحة. عدت لأنني سمعت أن المسرح بحاجتي.”

تبادلت فتاة صامتة تحمل دفتر النصوص النظرات معه، وقالت بخفوت:

“نحن نعرف اسمك من الآباء و الأمهات، ومن التسجيلات القديمة. جدّي كان من معجبيك. يا ليتك كنت معنا حقاً.”

نظر إليها أحمد بعينين تلمع فيهما الدموع:

“أنا معكم الآن.”

جلس معهم يراقب البروفات، وكان الممثلون يخطئون كثيراً ويضحكون من تعبهم. اقترب أحمد من الخشبة، ولمست قدماه الخشب العاري، فارتجفت روحه:

“يا لهذا الخشب! كم اشتاق إليّ!”

رفع صوته وقال:

“في زماننا كنّا نصنع التمثيل من لا شيء، لكننا كنّا نؤمن أنه قادر على إحياء مدينة بأكملها. كنّا نحول الحزن إلى أغنية، والعذاب إلى ضحكة. والآن… ماذا تفعلون؟”

ردّ المخرج الشابّ بتنهيدة:

“نحاول، يا عمّ… نحاول أن نقنع أحداً بأن الفنّ ليس ترفاً. لا قاعات، لا تمويل، لا جمهور. المسرح يعيش من الصدفة.”

جلس أحمد على طرف الخشبة، رفع يديه نحو الضوء الباهت، كأنّه يخاطب السماء:

“يا ربّ المسرح، أعِد حبّه الأول لهذه المدينة. اجعل صوت الممثل صدى للحقّ، واجعل الخشبة منبراً للحياة.”

في تلك اللحظة، بدأ الجدار الخلفي للمسرح يتهدّل، لتخرج منه ظلال كثيرة: ممثلون رحلوا منذ عقود. كانوا جميعاً يصفقون ببطء، كأنهم يشجعون من بقي. اقترب أحدهم من أحمد وهمس:

“أخبرهم، يا أبا الفنانين، أن الفن لا يموت ما دام في الأرض من يتنفس الحلم.”

وقف أحمد، وقد انحنى ظهره قليلاً، ورفع يديه نحو الضوء الباهت:

“الفنّ لا يموت… طالما أن الأرواح تتذكر، والقلوب تشتاق.”

ثم بدأت المدينة حولهم تتلوى: المباني القديمة تتشابك، ونهر كارون ينساب فوق الجسور وكأنه يصنع متاهة من الزمان، حيث الماضي والحاضر والموت والحياة يختلطون في دائرة لا تنتهي. رأى أحمد أصدقاءه القدامى على ضفاف النهر، بعضهم يمشي على الماء، وبعضهم يحلق في الهواء، يغنون أغانٍ منسية، وكأن المدينة كلها مسرح ضخم، وكل حيٍّ خشبة، وكل شارع ممثل، وكل نسيان استراحة.

دخل أحمد مع فريق إشراق في تلك المتاهة، حيث كان المشهد يغير نفسه كل دقيقة: الديكور يصبح شجرة، ثم جداراً، ثم نافذة تطل على مقبرة قديمة. ورغم كل ذلك، ظلّ صوتهم متناسقاً، وهم يتعلمون كيف يجعلون الخشبة تتنفس، كيف يجعلون الصمت يحكي قصة، وكيف تجعل الأرواح الميتة عرضا مسرحيا مهيبا.

أصبح أحمد جزءاً من المشهد، يغني مقطعاً من “العلوانية”، بصوته الذي يشبه صدى الزمن القديم. ارتجّت القاعة الصغيرة، وبكى الممثلون دون أن يعرفوا السبب. أراد أحمد أن يمسك بزمن المسرح، لكنه أدرك أنه الزمن الذي يمسك به، لا هو.

وحين انتهى العرض، اختفى أحمد كما جاء — بلا صوت ولا أثر. لم يبقَ منه سوى رائحة الطين ودفء الأغنية القديمة التي همست في أركان القاعة:

“الفنّ لا يُدفن، بل يعود متى ما احتاجت الأرض إلى الحياة.”

في الصباح، وجدوا على الخشبة ورقة بخطّ متعرج كتب فيها:

“يا إشراق… حافظوا على النور، فالعتمة لا تصنع فناً.”

ومنذ ذلك اليوم، صار المسرحيون في الأهواز، حين تُطفأ الكهرباء أو يغيب الجمهور، يسمعون من خلف الكواليس صوتاً خافتاً يهمس:

“أنا هنا… أحمد كنعاني لم يمت.”

🔹🔹🔹



#سيد_كاظم_القريشي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء (قصة قصيرة)
- حين تتدحرج اللحظات من الحلم
- *ظلّ الجسر* (قصة قصيرة)
- حين تصبح الصورة نمطًا: الأهواز بين الكاميرا والواقع الغائب
- المسرح بين الجوائز والوعي الجمعي: أي مسرح يُنبت شعباً مثقفاً ...
- النقد الأدبي والفني في الأهواز: سؤال الغياب وجدلية التراكم و ...
- أغنية الطين الأخيرة (قصة قصيرة)
- حين ابتسمت المراثي (قصة قصيرة)
- طائر الشقراق ( قصة قصيرة)
- منفى الأساطير (قصة قصيرة)
- انت
- لم يحن دورنا بعد!
- لا يسكب ضوءه القمر على الخيّين
- قصيدة نثرية
- لا تشرق الشمس علي ضريح سيد زكي (قصة قصيرة)
- شعر (صور فتوغرافية لحياة مابعد الحداثة)
- يأتي يوم الأحد بعد الثلاثاء (شعر)
- عبید الماء


المزيد.....




- من بينهم الفنّان خالد النبوي.. مهرجان -القاهرة السينمائي- ال ...
- شاركت في -العراب- وتألقـت في أفلام وودي آلن .. نجوم هوليوود ...
- -تانيت إكس آر-: منصة غير ربحية توثق التراث التونسي رقميا
- اكتشاف قلعة عسكرية على طريق حورس الحربي في شمال سيناء
- انطلاق الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح
- ظهرت في أكثر من 60 فيلما..وفاة الممثلة ديان كيتون عن 79 عاما ...
- حربٌ هزمت المجتمعَين وأسقطت كذبة وحدة اللغة والتاريخ المشترك ...
- ظهرت في أكثر من 60 فيلما.. وفاة الممثلة ديان كيتون عن 79 عام ...
- بيت المدى يستذكر الأديب الباحث الدكتور علي عباس علوان
- -كتاب الرياض- يناقش صناعة المحتوى الثقافي


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - حين تكلم النسيان (قصة قصيرة)