أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الوبش… حين يمرض المعنى ويغدو الجسد مرآة الوعي قراءة فلسفية عميقة في رواية -الوبش- لجميل السلحوت















المزيد.....

الوبش… حين يمرض المعنى ويغدو الجسد مرآة الوعي قراءة فلسفية عميقة في رواية -الوبش- لجميل السلحوت


رانية مرجية
كاتبة صحفية وموجه مجموعات

(Rania Marjieh)


الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 08:50
المحور: الادب والفن
    


. تمهيد: حين يصبح الواقع أسطورة والعجز ديانة

في مجتمعٍ يقدّس المظهر ويخاف من الجوهر، تتحوّل الحكاية الصغيرة إلى مرآةٍ لمرضٍ كبير.
من هنا يبدأ جميل السلحوت روايته الوبش: من بيتٍ بسيطٍ في قريةٍ فلسطينيةٍ، لكنه يفتح بابًا على الذاكرة الجماعية للألم العربيّ.
ليس في الرواية حدثٌ خارق؛ العجز الجنسيّ، الطلاق، الخرافة، الأمّ، الساحرة، القرية...
كلها أشياء مألوفة.
لكن السلحوت يجعل من المألوف فاجعة كونية، لأنه يكشف كيف يختبئ القهر في تفاصيل الحياة اليومية، وكيف يتواطأ الجميع على تسميته “قدَرًا”.

2. موسى... الرجل الذي يخاف ظله

موسى ليس شخصية، بل تجلٍّ للذكورة المريضة في ثقافةٍ تمجّد القوة وتخاف الضعف.
يُربّى منذ صغره على أن الرجولة إثباتٌ في الفراش، وأن الحبّ ضعف، وأن المرأة امتحانٌ للشرف لا شريكٌ في الوجود.
وحين يواجه جسده في أول ليلةٍ مع زوجته، ينهار النظام كله، لا لأن الجسد خانَه، بل لأن الوعي نفسه مشلول.

إن عجز موسى ليس بيولوجيًا، بل أنطولوجيّ؛
هو فقدان العلاقة بين الروح والجسد، بين الوعي والغريزة، بين الإنسان ونفسه.
يعيش موسى في منطقةٍ رماديةٍ بين الإيمان والخوف، بين الرغبة في الالتحام والرغبة في الفرار، فيختار الهروب، كما يهرب الإنسان العربيّ من مواجهة أسئلته الكبرى.

3. ليلى... الأنثى التي فضحت العالم بصمتها

ليلى لا تصرخ، ولا تلعن.
إنها السكوت الذي يوجع أكثر من الصوت.
في صمتها تكشف كلّ شيء: قسوة الرجال، هشاشة النساء، زيف الإيمان، وتواطؤ القرية.
تتحوّل من زوجةٍ إلى تهمة، ومن امرأةٍ إلى جسدٍ مستباحٍ للشكوك.
يبحث الناس في جسدها عن “الجنّ” كي لا ينظروا إلى “الجنون” في عقولهم.

هي ليست ممسوسة، بل الآخرون هم الممسوسون بخوفهم منها.
الجسد هنا ليس خطيئة، بل ساحةُ صراعٍ بين الإنسان وما خُلِق عليه وبين ما فُرض عليه.
ليلى تمثّل الأنثى التي تُصلب مرتين: مرة في السرير، ومرة في المحكمة الاجتماعية التي لا تحكم بالعدل بل بالعار.
ومع ذلك، تبقى أطهر من مجتمعها لأنها لم تكذب على نفسها.

4. مبروكة... تجسيد السلطة حين تلبس عباءة الغيب

شخصية الحاجّة مبروكة هي قلب الرواية النابض بالرمز.
هي ليست امرأة تمارس الشعوذة، بل النسخة الأنثوية من نظامٍ أبويٍّ متكلّس.
تعيش على خوف الناس وتقتات على ضعفهم، وتقدّم لهم الوهم بثمنٍ من الكرامة.
في حضورها يرى القارئ كيف يُدار العالم بالخوف لا بالإيمان، وكيف يمكن للدين حين يُفرّغ من جوهره أن يتحوّل إلى سلاحٍ يحكم لا إلى نورٍ يحرّر.

قتل مبروكة في الرواية ليس قتل إنسانة، بل محاولة فاشلة لقتل الفكرة.
فالوهم لا يموت بالموت، بل يتكاثر في العقول التي تخاف أن تفكّر.
ولهذا يستمر الوبش بعد رحيلها، لأن الوبش ليس جسدًا، بل عقلية متوارثة.

5. الأمّ... الخوف الذي ربّى أبناءه على الطاعة

الأمّ في الوبش ليست رمز الحنان، بل رمز السلطة التي تخفي نفسها تحت اسم الحبّ.
تحبّ ابنها بصدق، لكنها تقتله بخوفها عليه.
تغرس فيه منذ الطفولة أن الحياة خطر، وأن المرأة فخّ، وأن الله يراقب كلّ لذّةٍ ويعاقب عليها.
بهذا الحبّ المريض تخلق جيلاً مخصيًّا روحيًّا، يختبئ وراء الطاعة لأن الحرية تخيفه.

إنها تمثّل النموذج الذي تكرّس به المرأة خضوعها لنظامٍ ذكوريٍّ لا يحتاج إلى رجلٍ ليحميه،
لأن المرأة نفسها صارت حارسه.
وهذا هو أخطر أشكال الوبش: حين يصبح القهر ذاتيًا، ينفّذه الضحية باسم الواجب والحياء.

6. الوَبش... من الطين إلى الوعي

في اللغة، الوَبش هو الطين الأسود الذي يلتصق بالأرض بعد المطر، أو داءٌ جلديّ يلوّث البشرة.
لكن في الرواية، الوَبش ليس مادّةً بل حالة وعي.
هو ما يلتصق بالعقل حين يخاف النور، وما يغطي القلب حين يتكلّس بالعادة.
كلّ شخصيّةٍ في الرواية ملوّثة بهذا الوَبش:

موسى بالعار،

ليلى بالظلم،

الأمّ بالخوف،

مبروكة بالجهل،

المجتمع بالصمت.

الوبش في الحقيقة هو نظام حياةٍ عربيٍّ مأزوم، يعيش على سطح الطين ويخاف المطر لأنه يذكّره بقدرته على التطهير.

7. اللغة... جرح الذاكرة وصدق التراب

لغة السلحوت هنا لا تكتب، بل تشهَد.
كأنها حفنة ترابٍ تُسكب على الطاولة لتفوح منها رائحة الإنسان.
تجمع بين العاميّ والفصيح، بين بساطة القول وعمق المعنى، فيتحوّل الكلام الشعبيّ إلى وثيقةٍ أنثروبولوجيةٍ عن الوعي القرويّ الفلسطينيّ والعربيّ.

ليست اللغة حيادية؛
إنها منحازة للحقّ، للفقراء، وللأنثى التي صودرت باسم الفضيلة.
وفي كلّ مثلٍ شعبيّ، وفي كلّ جملةٍ بسيطة، يلمح القارئ خلف الكلمات نقدًا عميقًا للبنية الأخلاقية التي تحكمنا.

8. ما وراء الرواية: الوبش كفلسفةٍ في الإنسان

"الوبش" ليست حكاية، بل أطروحة فلسفية في هيئة سردٍ شعبيّ.
تسأل: ماذا يحدث حين يُحبس الجسد ويُمنع العقل من السؤال؟
تجيب الرواية عبر مصائر أبطالها أن الإنسان حين يُمنع من المعرفة، يخلق الخرافة لتبرّر جهله.
وحين يُمنع من الحبّ، يخلق الفضيلة لتبرّر قسوته.
وحين يُمنع من الحرية، يخلق الله على صورته، إلهًا خائفًا وغاضبًا مثل قلبه.

بهذا المعنى، الوبش ليس مرضًا في الأفراد بل مرض في مفهوم الإنسان نفسه.
والسلحوت، من خلال بساطته الظاهرة، يقدّم عملاً يوازي فلاسفة الوعي والوجود:
يقول إن الخلاص لا يكون في محو الألم بل في الاعتراف به،
وإن النقاء لا يُنال بالطقوس بل بالصدق مع الذات.

9. الأنثى بوصفها نداء الخلاص

في النهاية، تبقى الأنثى هي الأمل الوحيد في هذه الرواية.
ليس لأنها ضحية، بل لأنها الوحيدة التي ما زالت قادرة على الحياة رغم الوبش.
في صبرها، في وجعها، في بحثها عن معنى، تذكّرنا ليلى أن التطهير لا يكون إلا بالحبّ الحقيقيّ،
ذلك الحبّ الذي يربط الجسد بالروح، والإنسان بالإنسان، والإنسان بالله بلا خوفٍ ولا قيد.

ليلى لا تنتصر بالزواج ولا بالانتقام، بل بالصمود الهادئ الذي يترك أثراً كالضوء على الجدار بعد انطفاء المصباح.
هي آخر شاهدٍ على أن الإنسان ما زال قادرًا على النهوض، حتى من تحت الطين.

10. خاتمة: الوبش فينا

الوبش ليس روايةً تُقرأ، بل مرآةٌ تُخيف.
حين نغلق صفحاتها، نكتشف أننا لم نكن نقرأ موسى ولا ليلى، بل كنا نقرأ أنفسنا.
كلّ واحدٍ فينا يحمل شيئًا من ذلك الطين، شيئًا من الخوف، شيئًا من التبرير، شيئًا من مبروكة تسكن فكرَه وتهمس له ألا يفكّر.

جميل السلحوت يضع إصبعه على الجرح ويتركه ينزف، لا ليؤلمنا، بل ليطهّرنا.
إنه يذكّرنا أن الأمم لا تنهض بالشعارات، بل بالاعتراف بمرضها أولًا.
وحين نجرؤ على القول: “نعم، فينا الوبش”،
حينها فقط يبدأ الشفاء.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)       Rania_Marjieh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 🕊️ توجيه المجموعات ثنائية اللغة في ظل الأزمات
- ذات مرة في غزة.. حين يصبح الوجع ذاكرةً جماعيةً للنجاة فيلم ف ...
- ‏قراءة أدبية في رواية -وجوه ناقصة- لرانية مرجية بقلم الدكتور ...
- قراءة أدبية في قصيدة -القصيدة التي تشبه شاعرها- لرانية مرجية ...
- دراسة أدبية لكتاب هلوسة للكاتبة رانية مرجية //بقلم الدكتور ع ...
- دراسة تحليلية لكتاب -كن أفضل صديق لنفسك: سفر الروح في مواجهة ...
- يا رب قصيدة ملحمية فلسفية وجدانية
- زهير دعيم… المعلم الذي علّمني أن الكلمة وطن
- حين يدفن الفلسطينيّ قلبه لئلّا يذوب في رواية برد الصيف لجميل ...
- قوياء بالمسيح
- صدور كتاب جديد بعنوان -طفل الطيف: رحلة في الحب والمعنى-
- بين الجليل والسويداء: قصة أمّهات لا ينهزمْن
- فلسطين… جرح الإنسانية المفتوح وفضيحة القرن
- هايكو
- كنَّ أفضلَ صديقٍ لنفسِك – سفرُ الروحِ في مواجهةِ الصِّعاب
- الموت الأخير
- التأرجح بين الزائلات والأبد قراءة وجدانية في كتاب بسمة الصبا ...
- “الأدب الصادق لا يعرف الشللية”
- قصيدتان وأغنية: شعرية الجرح والبحث عن المعنى قراءة نقدية في ...
- أنا إنسان


المزيد.....




- الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
- تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
- رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و ...
- الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة- ...
- انطلاق مهرجان زاكورا السينمائي في المغرب
- كل ما تحتاج معرفته عن جوائز نوبل للعام 2025
- -سلام لغزة-.. الفنانون العرب يودّعون الحرب برسائل أمل وتضامن ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الوبش… حين يمرض المعنى ويغدو الجسد مرآة الوعي قراءة فلسفية عميقة في رواية -الوبش- لجميل السلحوت