أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - نسيج البلبروق ج1 كتاب كامل















المزيد.....



نسيج البلبروق ج1 كتاب كامل


كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي


الحوار المتمدن-العدد: 8487 - 2025 / 10 / 6 - 17:46
المحور: الادب والفن
    


نسيج البروق ج 1

ما كتب عن البريكان


كاظم حسن سعيد
2025



مقدمة كتابي نسج البروق ج 1
(وبينما يستقطر الشاعرحكمة الاجيال


، ويسبر أغوار الحزن والفرح، ويطلق جناحه في أبعاد الكون، تترجمه الصحف اليومية إلى اعلان، وتلتقطه عدسات التصوير موضوعا للفضول.وعندما يذهب، يبدا المثالون عملهم. البريكان).
بعد مناشدات متكررة لجمع ما كتب عن البريكان لاتحادات ادبية وجهات ثقافية ، لم تلق استجابة، قررت ان اتحمل المسؤولية واشرع منفردا بالاتفاق مع صديقي المبدع مهدي نقوس مؤسس موقع ( انطولوجيا السرد العربي ).
هكذا بدأنا قبل سنتين نرفد ما اسميناه بملف البريكان بكل ما نستكشفه من مقالات وشهادات وبحوث وعناوين كتب تناولت سيرة الشاعر وادبه.
وبعد ان تجمع لدينا اكثر من 700 منشورا ،فكرت ان اكمل المهمة واصدره في اجزاء متسلسلة.
اخبرت صديقي مهدي نقوس بنيتي فرفض المشروع بسبب حذره من المسائلة القانونية. واذ انشر هذه السلسلة اقدم اعتذاري للكتاب الذين اخترت من كتاباتهم حول البريكان، لصعوبة الوصول اليهم واخذ اذن منهم.
فكرة الكتاب تأثرت بما دعى اليه طه حسين في الذكرى الالفية لابي العلاء المعري لجمع ما كتب عنه والذي صدر بسبعة اجزاء.
ان هذه المقالات والبحوث والشهادات ، رسمت كما هي رغم افتقار بعضها الى دقة المعلومات.
بسبب شروط البريكان الثقافية وعزوفه عن النشر والحضور في المحافل الادبية، خلقت حول ادبه خطوط حمراء،لكنه كان واثقا من نفسه وقال لي يوما ( اعلم سيصنع لي تمثال وستكتب عني اطاريح،وربما ستعيش بعدي وتشهد ذلك).
لقد نعى بعض النقاد شاعرية البريكان ،وان ليس لديه اضافة لمنجزه الشعري، لكنه فاجأهم بعد سنوات من الصمت بنشر قصائده بملف / عوالم متداخله) فاعترف بعضهم( لقد خدعنا البريكان).
الادب العظيم مثل المعدن الثمين، قد يتوارى تحت طبقات صخرية لكنه لابد ان يظهر يوما،فينتشر اكثر اشعاعا واشد نقاوة.لان للتاريخ سطوته وحقائقة التي لا بد ان تترشح يوما.

كاظم حسن سعيد
2025





















جمال جاسم أمين - لحظة البريكان

ليس من السهل أن أقفز على استفزاز العنونة : هل للشاعر البريكان لحظة خاصة ؟ ما نوعها مثلا ؟ يتبادر الى الذهن اولا انها مرتبطة بفترة الريادة التي افتتحها السياب و نازك وأمدها البريكان بجرعات شعرية نشطة و مميزة ، الجواب : لا ، لحظة البريكان هي لحظة وعي متقدم بمفهمة الشعر ، ويمكن ايضاحها كالتالي : يبدأ الشاعر _ أي شاعر _ جماليا و مهموما بمطاردة الصور البلاغية و اقتناص الموضوعات التي تثبت جدارته في سوق الشعر اذا صح القول خاصة واننا نشهد عبر عصورنا الادبية كافة تنافسا شديدا في باحة هذه السوق ! الشاعر في هذه المرحلة بلاغي جمالي ، واقعه المقولة و قلما يشغله الواقع الحي ربما الا اذا وفّر مناسبة لقول شعري يتوخاه و يتصيده ، بعض الشعراء يمكث في هذه المنطقة و لا يغادرها حتى موته و بعضهم يكتشف أن الدفاع عن الجمال المخبوء فينا و المهدد ابدا أهم من صناعته في الشعر ، إنقاذ الانسان أهم من الغناء له وهو خلف القضبان ! الشاعر البلاغي يغنّي للسجناء و شاعر المشروع يصرخ لأجل تحريرهم ، ما جدوى الغناء للعبيد ؟ هنا ينتقل هذا النوع من الشعراء من الجمال الى الحكمة بل من غنائية الجمال الى نكد الحكمة ، الى الأسئلة الوجودية عبر الشعر ، بلاغته في فك لغز المصائر المجهولة و منصته الروح ! الشاعر الحكيم شاعر مشروع وهو لا يزهد في البلاغة ولا الجمال بل يعيد تصويب البوصلة نحو موضوعات اكثر جدوى ، بعد هذا الشوط تشيخ السيقان في الركض ويذبل لمعان الجوائز في عين الشاعر ، يعتزل الاشياء و الاشياء تعتزله ايضا بعد ان تدرك ان لا فائدة منه ! لا يصلح للإعلام و لا للتهريج و لا للتسليع ، هذا الرجل نخرت روحه الحكمة واستبد به المعنى ، لا يصلح سوى للتحديق بصمت ، النوم احيانا ، و النوم هنا درجة من درجات الموت ! ما يعني ان الموت هو اليقين الاخير الذي يشبع نهم الحكمة ، وحده القادر على هذه المهمة وهو الانتقال ا الاهم و الأفدح في تحولات الشاعر من الجمال الى الحكمة ثم اخيرا الى الموت صمتا ! ليصرخ على حين غرة : لا مجد في المجد .. فخذ يا ضياع ، هذه هي كلمة البريكان الفاصلة و لحظته الباذخة التي ودّع فيها الجوائز و المجد و سطوة الحضور على منصات لا مصير لها سوى الزوال .. لحظة البريكان لحظة وعي تنقّل من الطموح الى الزهد عبر رواق الحكمة وهي ليست تشاؤما او نكوصا بل هي صرخة مطالبة بحياة أعلى وتيرة ، حياة تليق بالشعر و الشاعر .. هذه هي اللحظة !

جمال جاسم أمين

يناير 2017











سامي علي المنصوري - البريكان في الذكرى السادسة لوفاة السياب
الكاتبمحمود البريكان تاريخ الإنشاءJan 27, 2024
عن الدكتور محمد راضي جعفر في يوم (24 كانون الثاني 1971) مرت الذكرى السادسة لوفاة السياب، واقيم احتفال بالمناسبة في البصرة. حضر المشاركون، وكان البريكان ابن البصرة يتصدر قائمة المتحدثين. في ليلة الخميس اول يوم الاحتفال اتصل محمد راضي جعفر بالبريكان ليتأكد من اعداد كلمته، والبريكان دائما في حالة شك وتردد، إذ
يعرف أن السلطة ستحاسبه على ( الخروج عن النص)، ووجد محمد راضي جعفر ترددا في موقف البريكان من المشاركة، ولانه ابن البصرة ايضا، أدرك ما يجول في بال البريكان:
- لماذا التردد ولم يبق الا ساعات على بدء الاحتفال؟
- لاتحرجني!
قالها البريكان مطمئنا من قلقه، وادرك محمد راضي سر التردد:
- ألق كلمتك وأنا أطمئنك وازيل قلقك!
في يوم (24 كانون الثاني) كانت الجلسة الاولى، وتحدث البريكان، وكانت كلمته بعد كلمة شفيق الكمالي ومحافظ البصرة وممثل رئيس الجامعة د. عبد المنعم الزبيدي( وما ادراك ما منعم الزبيدي)!!!
قال البريكان:
((وبينما يستقطر الشاعرحكمة الاجيال ، ويسبر أغوار الحزن والفرح، ويطلق جناحه في أبعاد الكون، تترجمه الصحف اليومية إلى اعلان،وتلتقطه عدسات التصوير موضوعا للفضول.
وعندما يذهب، يبدا المثالون عملهم.
انه يستشهد مرتين.
هل يشعر جميع الشعراء بالحزن أمام التماثيل؟
هل يشعرجميع الشعراء بالتيه امام الاضواء البراقة، والقاعات الباذخة؟
هل يشعرجميع الشعراء بالغربة امام المنابر، ومكبرات الصوت ؟
....
وأية هزيمة للشعراء أكبر من هذه :
أن تمجدأسماؤهم وتدفن رسالاتهم ناقصة؟
أن يحولوا الى اوثان ، ويبقى الحقد والشر والفزع وكل شيء قبيح ..؟!...))
(ويبفى الحقد والشر والفزع وكل شيء قبيح....!!!)
وجد البريكان من يطمئنه...فكانت كلمته قصيدة هجاء للسلطة التي تحتفي بشاعر مات قبل ست سنوات وقد ترك ( انشودة المطر) ولم يحصل على شيء..تركنا نختصم وذهب يشكو ظلم الوطن والناس..
لوبقي البريكان على خشيته لما حصلنا على هذه الكلمة الشعرية وهي اقوى من كل قصيدة هجاء قيلت...
لو كان محمد راضي استسلم لتردد البربكان لخسرنا اقوى كلمة قيلت...موقف مسؤول من رجل مسؤول...
والانسان موقف...كما يقول محمود امين العالم...!!!
















صدام فهد الاسدي- - الشاعر محمود البريكان بين العبقرية والصمت-



الى الادباء الذين يعرفون البريكان ثروة بصرية كبيرة وشاعرا عملاقا قتل الصمت وانتصر عليه
,شاعرا للقناع الذي لبسه طوال عمره ولم يفصح عن سر ضياعه,شاعرا ظل مجهولا حتى على ابنه ماجد؟؟؟لو منحني الادباء شرف الخلافة لصمت هذا الشاعر؟فقد قررت الصمت الصمت ليس عن القراءة ولا النشر بل عن السقوط في دائرة الدروايش وقماقم السفهاء


---------------------------------------------


انه شاعر امتهن الاعتزال النفسي والكتابي والصمت الشديد آخر لحظة من حياته,مال الى العزلة حتى ارهق العزلة ولم ترهقه , شاعر امتهن الاعتزال ليس عبثا ولاهربا ولاضعف قدرة بل حول صمته الى صرخة احتجاج على عالم عفن فجاءت العزلة لفظا وتطبيقا في شعره قال :
غرف المسرح الساكنة
ألقت من السكينة عزلة أشيائها
عزلة الجسم والهياكل عن روحها
البريكان يحتاج الى شاعر ناقد وليس ناقدا فقط لفهم مضامين شعره فالبحث عن البريكان وعزلته يعني البحث عن الوعي الباطن قل انه معري العصر الحديث بأسلوب جديد والبريكان أذن موسيقية عجيبة يتذوق الموسيقى ويتحدث عن ابعادها والبريكان كان محرضا فكريا للشعراء لكي يتمردوا مطالبين بحقهم الفكري قبل أربعين عاما من رحيله في أحياء ذكرى السياب ألقى كلمة قال فيها ما جدوى كلمات الرثاء والأنين وفي كل يوم يموت شاعر ودعا الشعراء لتثبيت هويا تهم الإنسانية في عالم ضائع وتساءل من ينقذ الشاعر من الجوع ومن يمنع السلطة من إعدامه وهو يرفض الكرنفال التهريجي للشاعر كما سماه ,والشعراء نسوا عزلتهم وصبوا جام غضبهم بالبكاء على أنفسهم الممزقة من خلال ذكرى السياب فأين اتحاد الأدباء حتى اليوم لا يجدون مكانا يستقرون فيه والدولة تصرف وتبذخ وتلقي الشعراء على قارعة الطريق,نعم ستبقى العزلة اشد من الزمن السابق لان الشاعر كان ينتفض على جلاده واليوم ينتفض الشاعر ليحمي نفسه أولا من الخنجر من القتل المباح من الضياع العسير, والبريكان مبدع كبير ,هو عيسى ابن ازرق النموذج الإنساني المضطهد ,شعره عميق يحتاج الى التأمل لانه شاعر ذهني من طراز خاص ,لقد عاصرته وكنت امشي معه في العشار وكان لا يقول الا كلمتين( نعم /صحيح )يشتري ولا يبيع يخشى الناس بل ليس له ثقة حتى بالكلمة يحسبها مسمومة في التسعينات وهو أستاذ درس في معهد المعلمين فلا تتعدى محاضرته الموضوع وكان يخرج من المحاضرة متعبا من اسقاطات طلابه وهو يرى العربية تنتحر في المعهد لسوء نطق الطلبة وضعفهم في العربية,ان عظمة البريكان في صمته في رموزه في شعره الذهني في شخوصه التي ينتقيها بعد تفكير أقول انه شاعر حولي لا يجهض القصيدة الا بعد صبر طويل والسمة الغالبة على شعره؟؟اولها/ القناع ما أبدع به البريكان فقد اخذ شخصية عيسى بن ازرق والبسها ذاته ,ثانيها /شاعر رائد للقصيدة القرائية وليس المكتوبة فالإلقاء من البريكان ينقلك الى صخور وماء وعزله إنها الوطن الكوني للشاعر بإيحاءات متنوعة, ثالثها الماء عنده رمز للطهارة والخلود فالخلق بدأ من الماء ويوتبيا البريكان صفة القداسة للبحر والسفن انه حارس الفنار الكبير وكما جاء عند السياب بويب ووفيقة رديفين جاء الماء والمرأة ام ابنه ماجد أو غيرها,حيث قال:
ترك امرأة مطفأة الوجه وطفلا/يحلم في مرقده /يترك كلبا لا يعرفه وخزانة كتب لم تقرا
/ورابعها رقمه(96)واحد من رموزه الكثيرة كما قلت عيسى بن ازرق وحارس الفنار وشاعر الصمت وهذه القصيدة من اعمق ما كتبه البريكان عندما كان سجينا وهو يحمل هذا الرقم الذي ظل في ذاكرته طويلا لا ينساه,وفي قصيدة إنسان المدينة الحجرية نجد هذا السر مدفونا حيث يقول
في العالم المغمور تحت الأرض
/حيث يمد عنكبوت الخوف والضجر خيوطه/
في طرق الصمت ولامفر /أنت هنا تدور كأنما تلهث في لهاثك العصور
وقد أدليت دلوي؟ومن الذي لا يدلي بدلوه للبريكان وهو البحر وليس البئر,وكيف أنسى هذا الشاعر الكبير وقد عاصرته ورايته وسمعته وقد كتبت له الكثير في أطروحتي للدكتوراه عام 1998درست قصيدته الرائعة مصائر قال فيها :
السفينة راسية بجوار الرصيف تستقر بهيكلها المتآكل
تخفي بداخلها صدأ الأزمنة
الشاعر فيها يؤكد السمة المحلية للبصرة ام السفن وصيد السمك وقد حملت القصيدة ايحاءات واسعة وهو يرمز الى توقف التجارة في البصرة,وقد قدمت قصيدتي الخيمة لحظة سماعي خبر قتله :
ان خيمتي سقطت فما نفع الوتد
وإذا الحروف تنفست بالخوف ما نفع المدد
وإذا الحضارة حرفت مدور بابل او اكد
وإذا الكلاب تلاعبت بالغاب مادور الاسد
ونشرت في مجلة عربية قصيدتي(موت الشاعر)
الشعر مات ومات حتى الشاعر وعليك تحزن في العراق منائر
ونشرت في مجلة المواني العدد الثاني 2005قصيدة شهيد الصمت قلت فيها:
اعني لاقرأ فيك الفجيعة شعرا صريح
أعرني يديك اللتين كتبت لنا بهما لغة الصمت فوق الضريح
أحقا ذبحت بسكين هذا الزمان القبيح؟
وحزوك بالذبح والطعنات قتلا مريح؟
فموتك كان نذيرا الى الشعراء وسيصلب مثل المسيح""""
اتفتح عينيك لهذا الزمان العجيب اذن تستريح
وتعرف ان الطغاة لقد رحلت ,فلا تشرب الخوف في كل ريح
وقد درس البريكان في رسالة ماجستير عام 1991 للدكتور ضياء الثامري ونشر عنه الكثير من البحوث ودرس البريكان في رسالة ماجستير في كلية الآداب وكتب الدكتور فهد محسن فرحان الأستاذ في كلية الآداب في رسالته في الدكتوراه وكذلك الأديب البصري الأستاذ رياض عبد الواحد دراسة عنوانها البذرة والفأس عام 2000م وهي دراسة رائعة ونشر عن البريكان ملف خاص في مجلات عراقية واحتفل اتحاد الأدباء بالشاعر اكثر من مرة دون ان يقدم لي دعوة للمشاركة وأنا صوت بصري أذوب احتراقا بحب مدينتي وشعرائها ولكن هل اخذ البريكان حصته واستحقاقه لاحيا ولاميتا فما زال ابنه ماجد على قارعة النسيان











صباح الربيعي - البريكان والسياب وما بينهما –


في فترة الثمانينيات كنت رئيسا لقسم البرامج الثقافية في تلفزيون العراق وصادف ضمن جلساتنا الصباحية ان التقيت باحد الشعراء الشباب الذين يتعاملون مع برامج القسم ، وطلب مني ايضاحا وديا عن سبب ظهور اسمه مع قصائده مجردا،ويقصد بدون كتابة ” الشاعر الكبير ” ، واردف قائلا : ماهي مقاييسكم للشاعر الكبير والشاعر الصغير !، فقلت له إن الفرق واضح ولا يحتاج الى ايضاح ! فهناك اسباب اهمها الشاعرية والقدرة على قول ماهو مختلف ، فقال لي ليس هذا مهما ! ولم يقتنع بإجابتي ولم اقتنع بتعقيبه ! ومضى كل منا في حال سبيله متكدرا بعض الشيء ولم يفسد هذا الخلاف للود قضية مابيننا ، وبقيت اتابعه الى اليوم ولم اجد كلمة ” الكبير ” مع اسمه عند عرض قصائده في التلفزيون ! في الحقيقة يصعب تعريف الشعر وانواعه المختلفة بالرغم من وجود تعريفات جاهزة ، وقال البعض إن الشعر هو مايحمل علو الخاطر من كلام لم يقصد به الشعر بالاساس فلا يقال له شعر وان كان موزونا ، وقد عرَفه ابن خلدون بانه ” الكلام بليغ المعنى على الاستعارة والتوصيف ” اذن هو شكل من اشكال الفن الادبي في اللغة التي تستخدم الجمالية بالصفات ، اما من الناحية الموضوعية فإن الشعر هو العلم ، ومن هذه النماذج قول احمد شوقي :وما نيل المطالب بالتمني / ولكن تؤخذ الدنيا غلابا .. وقول المتنبي : انا الذي نظر الاعمى الى ادبي / واسمعت كلماتي من به صمم .. وقول الامام الشافعي : ولا خير في ود امريء متلون / اذا الريح مالت مال حيث تميل ..وقول الجواهري :حييت سفحك عن بعد فحييني / يادجلة الخير ياام البساتين / حييت سفحك ظمآنا الوذ به / لوذ الحمائم بين الماء والطين ! هؤلاء هم الشعراء الكبار !وهنا اتوقف عند شاعر كبير لم يأخذ حظه في الشيوع والانتشار هو محمود البريكان الذي انتقل مقتولا ،الى رحاب الله عن 61 عاما ، وكان ولد في مدينة الزبير بمحافظة البصرة وهو من الشعراء الرواد والمجددين في الشعر العربي الحديث مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وامل دنقل وغيرهم . وكان السياب من المقربين من البريكان وفي مرة وعندما كان السياب في زيارة لبيت البريكان بدآ يتناوبان قراءة قصائدهما ، قرأ عليه البريكان احدى قصائده ، تجلى السياب مع القصيدة ، وضرب بقبضته على الطاولة وصاح بصوت مرتفع : ” هذا هو الشعر ، هكذا يكون الشعر ” ! وفي عام 1951 كتب البريكان ملحمته الشعرية ” اعماق المدينة ” قرأها على السياب فاعجبته ، وبعد ذلك بثلاث سنوات قال له السياب إنه استلهم منها قصيدته الطويلة ” حفار القبور ” ، هكذا كان البريكان يمتاز بعظمة الإبداع الشعري وكان الَمَلمح الابرز في حياته هو : العزلة والتواضع !للبريكان دواوين عدة ، منها ” حارس الفنار ” و ” البدوي الذي لم ير وجهه احد ” وديوان “متاهة الفراشة ” اخترت منه السطور التالية : اعددت مائدتي وهيأت الكؤوس / متى يجيء الزائر المجهول / اوقدت القناديل الصغيرة / ببقية الزيت المضيء /فهل يطول الانتظار / انا بانتظار سفينة الاشباح تحدوها الرياح /في اعمق الساعات صمتا /كالنصل فوق الماء حين يخاف طير ان يطير / انا في انتظار الزائر الآتي/ يجيء بلا خطى !وله دواوين غير منشورة منها ” الرقص في المدافن ” و ” عوالم متداخلة ” وله ايضا مجموعة خاصة بالاطفال ومما يمكن ان يروى ، عن البريكان والسياب ، هو الجلسة الاستذكارية التي اقيمت في مبرة البهجة بالعشار ، وبحضور نخبة من الأدباء والمهتمين بالشعر والادب والسياب خاصة ، وعندما اعتلى البريكان المنصة اخرج ورقة من جيبه وبدأ يقرأ فيها عن الشاعر المحتفى به ، عن شعره وتميزه وتفرده ومحاولته التجديدية في الشعر العربي الحديث ، وعندما انتهى من قراءته طوى الورقة واعادها الى جيبه وهو يقول : هل تراني تحدثت عن السياب ، واوفيته حقه ؟ اعتقد ذلك ! لقد كانت كلمته خالية من اسم الشاعر السياب ، كيف تم ذلك ، كان يكتفي احيانا بكلمة الشاعر ” مجردة ” كيف تم ذلك ؟ تم لفرط الحميمية التي تجمعهما ، وتفهمهما المشترك للشعر وقيمته الانسانية .












د. سلمان كاصد - بنية التوازي الدلالي في قصيدة «حارس الفنار»


يعد‭ ‬البناء‭ ‬الفني‭ ‬للقصيدة‭ ‬هاجس‭ ‬الشاعر‭ ‬الأول،‭ ‬إذ‭ ‬تتجلى‭ ‬براعته‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬نمط‭ ‬بنائي‭ ‬مختلف،‭ ‬يصوغ‭ ‬المتن‭ ‬ضمن‭ ‬آلية‭ ‬مغايرة،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬يجري‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬العناصر‭ ‬الدالة‮»‬‭ ‬في‭ ‬التركيب‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬المداليل‭ ‬أو‭ ‬المعاني‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك‭ ‬تنقسم‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬إلى‭ ‬رئيسة‭ ‬وثانوية،‭ ‬فأما‭ ‬الأولى‭ ‬فهي‭ ‬مساند‭ ‬البناء‭ ‬الأساس‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تحريكها،‭ ‬وإن‭ ‬حصل‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المتلقي‭ ‬يشـــعر‭ ‬بفراغات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬وأما‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬ثانوية‭ ‬فإنها‭ ‬المنطقة‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يتلاعب‭ ‬بها،‭ ‬بالحذف‭ ‬والإضافة‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تتعاضد‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬لتشكل‭ ‬بنية‭ ‬كاملة،‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ ‬بصورتها‭ ‬الكلية‭. ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬كيف‭ ‬يتم‭ ‬ترتيب‭ ‬هذه‭ ‬العناصر؟‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭: ‬أين‭ ‬تكمن‭ ‬الجمالية؟‭ ‬وهل‭ ‬يكسب‭ ‬ترتيب‭ ‬العناصر‭ ‬القصيدة‭ ‬شكلها‭ ‬الحيوي،‭ ‬المختلف‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ذلك‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬الشهيرة‭ ‬المتداولة‭ ‬لسانيًّا‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يتمظهر‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬الدالة‭ ‬المبنى‭ ‬عبر‭ ‬المتن،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬يجري‭ ‬وفق‭ ‬أنماط‭ ‬تشي‭ ‬بما‭ ‬يراد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مدلولًا،‭ ‬التأخير‭ ‬والتقديم،‭ ‬الفراغات،‭ ‬تأجيل‭ ‬الفواعل‭ ‬أو‭ ‬الأفعال،‭ ‬المضمر‭ ‬اللفظي،‭ ‬القطع‭ ‬المفاجئ،‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يبنى‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬اعتباطيًا‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

قلت‭ ‬إن‭ ‬العناصر‭ ‬في‭ ‬تشكّلها‭ ‬المتنوع‭ ‬تخلق‭ ‬بنى‭ ‬متنوعة،‭ ‬وربما‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬التلاعب‭ ‬بعنصر‭ ‬واحد‭ ‬فحسب،‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬نموذج‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬مغايرة،‭ ‬هذه‭ ‬المغايرة‭ ‬هي‭ ‬بؤرة‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬وتجديداتها‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إن‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم،‭ ‬فيما‭ ‬لو‭ ‬تصفحنا‭ ‬تاريخ‭ ‬الحداثات‭ ‬المتوالية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬هل‭ ‬نجد‭ ‬علاماتها‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬اختيرت‭ ‬بلا‭ ‬قصدية‭ ‬مسبقة؟‭ ‬وهل‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬رموزًا‭ ‬لحداثة‭ ‬متحولة؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬



القصيدة‭ ‬الأنموذج‬‬‬‬‬‬‬

وفي‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬لمحمود‭ ‬البريكان،‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ ‬الأنموذج‭ ‬لحداثة‭ ‬متحولة‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬امتلكت‭ ‬سمات‭ ‬وخصائص‭ ‬استحوذت‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬إبان‭ ‬ستينيات‭ ‬وسبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إن‭ ‬أهم‭ ‬عنصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الزمن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬بيئتها‭ ‬في‭ ‬استهلالها‭ ‬وخاتمتها،‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬العنصر‭ ‬الدائري‮»‬‭ (‬الروندو‭) ‬الذي‭ ‬يصاغ‭ ‬المبنى‭ ‬في‭ ‬ضوئه‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يبدأ‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬القصيدة‭ ‬بـ‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬متى‮»‬‭ ‬و«الانتظار‮»‬‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬الساعات‭ ‬قبل‭ ‬توقف‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير‮»‬‭ ‬و«في‭ ‬أعمق‭ ‬الساعات‭ ‬صمتًا‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يبدو‭ ‬الزمن‭ ‬هنا‭ ‬مستحوذًا‭ ‬على‭ ‬استهلال‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬بما‭ ‬يوازي‭ ‬ويقابل‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬القصيدة‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬الوقت‭ ‬أدرك‮»‬‭ 𔆻‭ ‬مرات،‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬اللحظة‭ ‬العظمى‮»‬،‭ ‬و«الساعة‭ ‬السوداء‭ ‬سوف‭ ‬تشل‮»‬،‭ ‬و«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‮»‬‭ ‬قلق‭ ‬الساعة‭ ‬المتأرجحة‭. ‬هناك‭ ‬يبدو‭ ‬الاستهلال‭ ‬متحركًا‭ ‬أو‭ ‬يكاد‭ ‬في‭ ‬بُعد‭ ‬زمني‭ ‬طويل‭. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬الخاتمة‭ ‬ساكنة،‭ ‬مطبقة‭ ‬في‭ ‬اختفاء‭ ‬زمني‭ ‬قصير‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا‭ ‬التقابل‭ ‬قاد‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬اعتباره‭ ‬نصًّا‭ ‬تأمليًّا‭ ‬ضمن‭ ‬مكان‭ ‬افتراضي‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬عوالم‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬رحابة‭ ‬فضائها‭ ‬‮«‬البحر،‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬يصرح‭ ‬بها‭ ‬البريكان‭ ‬منذ‭ ‬الاستهلال‭ ‬الأول‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬أوقدت‭ ‬القناديل‭ ‬الصغار‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ببقية‭ ‬الزيت‭ ‬المضيء‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فهل‭ ‬يطول‭ ‬الانتظار؟‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

نلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬صغر‭ ‬القناديل‭ ‬يوازي‭ ‬قلة‭ ‬الزيت‭ ‬الذي‭ ‬سيضيء‭ ‬أمام‭ ‬طول‭ ‬الزمن‭ ‬الآتي،‭ ‬المعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بأداة‭ ‬الاستفهام‭ ‬‮«‬هل‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬البريكان‭ ‬يستخدم‭ ‬‮«‬إنكار‭ ‬العارف‮»‬‭ ‬بلاغيًا،‭ ‬كي‭ ‬يدلل‭ ‬إرصاديًّا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬سيتوقف،‭ ‬مادامت‭ ‬القناديل‭ ‬صغيرة،‭ ‬وهي‭ ‬بالضرورة‭ ‬لا‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬زيت‭ ‬سيمتد‭ ‬نفاده‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬الطويل‭ ‬الآتي‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬القناديل‭ ‬الصغار‭ = ‬بقية‭ ‬الزيت‭ ‬المضيء‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬



اللعبة‭ ‬السردية‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬السردية‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬ثانوية‭ ‬داخل‭ ‬مقطع‭ ‬واحد‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬العناصر‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬خصائص‭ ‬وسمات‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬سيتناوله‭ ‬الشاعر‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تبدو‭ ‬العناصر‭ ‬الثانوية‭ ‬فواعل‭ ‬نشطة‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭: ‬إنها‭ ‬طرائق‭ ‬سردية‭ ‬متحركة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬الشاعر،‭ ‬والتي‭ ‬تبدأ‭ ‬حكايتها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬سفينة‭ ‬الأشباح‭ ‬تحدوها‭ ‬الرياح‮»‬‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬التوصيف‮»‬‭ ‬من‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬في‭ ‬آخر‭ ‬الساعات‭ ‬قبل‭ ‬توقف‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

في‭ ‬أعمق‭ ‬الساعات‭ ‬صمتًا‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حتى‭ ‬يصل‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬القصيدة‭ ‬عند‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬سقطت‭ ‬فنارات‭ ‬العوامل‭ ‬دون‭ ‬صوت‭ ‬الرياح‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هي‭ ‬بعد‭ ‬سيدة‭ ‬الفراغ‭ ‬وكل‭ ‬متّجه‭ ‬مباح‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حتى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السقوط‭ ‬بدا‭ ‬متجليًّا‭ ‬في‭ ‬استذكار‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬للموتى‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬أتذكر‭ ‬الموتى‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولون‭ ‬عيونهم‭ ‬في‭ ‬الزمهرير‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭(‬ولعلهم‭ ‬كانوا‭ ‬جميعًا‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أبرياء‭)‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لم‭ ‬يهلكوا‭ ‬جوعًا‭ ‬ولا‭ ‬عطشًا‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬ظماء‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ماتوا‭ ‬بداء‭ ‬الوهم‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولعل‭ ‬‮«‬أبرياء‮»‬،‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬السابق،‭ ‬تقابل‭ ‬دلاليًا‭ ‬الطائر‭ ‬الجميل‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬التالي،‭ ‬و«الوهم‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬يقابل‭ ‬لا‭ ‬ينزف‭ ‬في‭ ‬الثاني‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬لطائر‭ ‬البحر‭ ‬الجميل‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

شكل‭ ‬وقد‬‬‬‬‬‬‬

لا‭ ‬ينزف‭ ‬الدم‭ ‬من‭ ‬قتيل‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أي‭ 𔆹‭/‬أبرياء‭ = ‬الطائر‭ ‬الجميل‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬و2‭/ ‬الوهم‭ = ‬لا‭ ‬ينزف‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثم‭ ‬يتدرج‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نصه‭ ‬دلاليًّا،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬بعد‭ ‬تذكّر‭ ‬الموتى،‭ ‬يأتي‭ ‬تذكّر‭ ‬العرف‭ ‬الخفية،‭ ‬ثم‭ ‬تذكر‭ ‬الســفن‭ ‬الغريقة،‭ ‬ثم‭ ‬تذكر‭ ‬سبائك‭ ‬الذهب،‭ ‬ثم‭ ‬جدائل‭ ‬الشعر،‭ ‬ثم‭ ‬أصابع‭ ‬الأيدي،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬‮«‬التجريد‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬تحسس‭ ‬الرائحة‭ ‬المباغتة‭ ‬‮«‬المحسوس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬ثالثة‭ ‬إلى‭ ‬المشاهدة‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬‮«‬شاهدت‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬وكنت‭ ‬الشاهد‭ ‬الحي‭ ‬الوحيد‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬رابعة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬أتأمل‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تحمرّ‭ ‬كان‭ ‬اليوم‭ ‬عيد‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬الصوت‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬‮«‬ومكبرات‭ ‬الصوت‮»‬‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وهذه‭ ‬التحولات‭ ‬الخمسة‭ ‬تقابلها‭ ‬عناصر‭ ‬دلالية‭ ‬خمسة‭ ‬هي‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الرؤية،‭ ‬الشعور،‭ ‬الفزع،‭ ‬التعجب،‭ ‬ثم‭ ‬الصراخ‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ويعود‭ ‬البريكان‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬حكاية‭ ‬حارسه‭ ‬المنتظر‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬ثانية‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬الوقت‭ ‬أدرك‭ ‬لســت‭ ‬وحدي‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭..............................‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ .............................‬‬‬‬‬‬‬‬

أنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬اللحظة‭ ‬العظمى‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ويتجلى‭ ‬التوازي‭ ‬هنا‭ ‬بين‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬التجريد،‭ ‬المحسوس،‭ ‬المشاهدة،‭ ‬التأمل،‭ ‬الصوت‮»‬‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يوازيها‭:‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬الرؤية،‭ ‬الشعور،‭ ‬الفزع،‭ ‬التعجب،‭ ‬الصراخ‮»‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬



المفهوم‭ ‬النسقي‬‬‬‬‬‬‬

هذا‭ ‬التوازي‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬البريكان‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يراكم‭ ‬تقابلًا‭ ‬وتوازيًا‭ ‬دلاليًّا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نسقي‭ ‬جديد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬‮«‬التنضيد‮»‬‭ ‬بمفهومه‭ ‬النسقي‭ ‬عند‭ ‬تودوروف،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تراكم‭ ‬كمّي‭ ‬للصور‭ ‬الواحدة‭ ‬فوق‭ ‬الأخرى،‭ ‬بما‭ ‬يخلق‭ ‬نصًّا‭ ‬متحركًا‭ ‬لا‭ ‬يتمثل‭ ‬فيها‭ ‬المتلقي‭ ‬ذهنيًا‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬استقبل‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬مغايرة‭ ‬ومكملة‭ ‬للأولى‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

من‭ ‬الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬القصيدة‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬أعددت‭ ‬مائدتي‭ = ‬وهيأت‭ ‬الكؤوس‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وأعددت‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬هيأت،‭ ‬لكن‭ ‬الفارق‭ ‬بينهما‭ ‬أن‭ ‬الأولى‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬شروع‭ ‬وحركة،‭ ‬بينما‭ ‬امتلكت‭ ‬الثانية‭ ‬حركة‭ ‬وتحفيزًا،‭ ‬وامتازت‭ ‬الأولى‭ ‬بالمضي‭ ‬التام،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬دلت‭ ‬الثانية‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬المتضمن‭ ‬معنى‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حين‭ ‬يذهب‭ ‬الشاعر‭ ‬بعيدًا‭ ‬نراه‭ ‬يقابل‭ ‬الأشياء،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التشبيه،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬المشابَهة‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حين‭ ‬ينكسر‭ ‬الصباح‭ = ‬حين‭ ‬يخاف‭ ‬طير‭ ‬أن‭ ‬يطير‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬تتكرر‭ (‬حين‭) ‬في‭ ‬القسمين‭ ‬أولًا،‭ ‬وما‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬هو‭ ‬الانكسار‭ ‬في‭ ‬الأولى‭. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعمّق‭ ‬هذا‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هو‭ ‬المماثلة‭ ‬المغايرة‭ ‬المتناقضة‭ ‬بين‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حين‭ ‬ينكسر‭ ‬الصباح‭ = ‬في‭ ‬ظلمة‭ ‬الرؤيا‭ (‬تناقض‭ ‬دلالي‭)‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‭ ‬يجيء‭ = ‬بلا‭ ‬خطى‭ (‬تناقض‭ ‬دلالي‭)‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬استخدم‭ ‬عدة‭ ‬بنى‭ ‬متقابلة‭ (‬مماثلة‭ ‬ومتناقضة‭)‬،‭ ‬ولكننا‭ ‬نتساءَل‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬يورد‭ ‬الزوائد‭ ‬هنا،‭ ‬وهي‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬له‭ ‬حدود‮»‬‭ ‬و«دقته‮»‬‭ ‬و«وأغيب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الظلمات‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬حدود‮»‬‭ ‬و«ويدق‭ ‬دقته‭ ‬على‭ ‬بابي‭ ‬ويدخل‭ ‬في‭ ‬خفوت»؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولو‭ ‬حذفنا‭ ‬تلك‭ ‬الزوائد‭ ‬لقلنا‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬وأغيب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الظلمات‮»‬‭... ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬يكفي؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬ويدق‭ ‬على‭ ‬بابي‮»‬‭... ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬يكفي؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولنسأل‭: ‬ما‭ ‬ضرورة‭ ‬مجيء‭ ‬تلك‭ ‬الزوائد؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬تجميلية،‭ ‬أي‭ ‬عناصر‭ ‬ثانوية،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬تكوينية،‭ ‬أي‭ ‬عناصر‭ ‬رئيسة‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الصورة؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬داعمة‭ ‬للصورة‭ ‬نحو‭ ‬آفاق‭ ‬تمثيل‭ ‬مضاعفة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الغياب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الظلمات‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يوصف‭ ‬بعدم‭ ‬تناهي‭ ‬الحدود،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تحدها‭ ‬رؤية،‭ ‬وإن‭ ‬الدقّ‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يخصص‭ ‬بالدقة‭ / ‬الطرقة‭ ‬كي‭ ‬نسمع‭ ‬صوتها‭. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تبدو‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬تجريدية‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬السطحية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بنيتها‭ ‬العميقة‭ ‬الدلالية‭ ‬تشي‭ ‬بعناصر‭ ‬من‭ ‬الغضب‭ ‬والسخط‭ ‬والموت،‭ ‬والسكون‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أتبعت‭ ‬الدفائن‭ ‬في‭ ‬السكون‭ = ‬وأشم‭ ‬رائحة‭ ‬السكون‭ ‬الكامل‭ ‬الأقصى‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ألّا‭ ‬أقطّع‭ ‬بالتوتر‭ = ‬أو‭ ‬أسمر‭ ‬بالحضور‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ويحصل‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هنا‭ ‬في‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬السكون‭/ ‬الغائب‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

و«السكون‭/ ‬الحاضر‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

و«أقطّع‭/‬الغياب‭ = ‬وأسمر‭/‬الحضور‮»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬



التداخل‭ ‬النصي‬‬‬‬‬‬‬

ويقلب‭ ‬البريكان‭ ‬العنصر‭ ‬الواقعي‭ ‬تمثّلًا‭ ‬لمجمل‭ ‬دلالية‭ ‬قصيدته‭ ‬إذ‭ ‬يقلب‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮«‬المتهم‭ ‬بريء‭ ‬حتى‭ ‬تثبت‭ ‬إدانته‮»‬‭ (‬واقعية‭ ‬بلا‭ ‬دلالة‭)‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إلى‭ ‬‮«‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬مجرم‭ ‬حتى‭ ‬يقام‭ ‬على‭ ‬براءته‭ ‬الدليل‮»‬‭ (‬شعرية‭ ‬بدلالة‭ ‬الاحتجاج‭).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا‭ ‬القلب،‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬سولير‮»‬‭ ‬في‭ ‬التداخل‭ ‬النصي،‭ ‬يذكّرنا‭ ‬بالقلب‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬كروزو‭ ‬المتحضر‭ ‬معلمًا‭ ‬لجمعة‭ ‬المتوحش،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬يمابيس‭ ‬يصبح‭ ‬جمعة‭ ‬الإنسان‭ ‬البريء‭ ‬معلمًا‭ ‬لكروزو‭ ‬الشرير‭ ‬الذي‭ ‬أفقدته‭ ‬الحضارة‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬سولير‭ ‬القلب‭ ‬والتحويل‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا‭ ‬التقابل‭ ‬الدلالي‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬كشف‭ ‬عالم‭ ‬الشاعر‭ ‬البريكان،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬كشف‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬القصيدة،‭ ‬حيث‭ ‬الشرور‭ ‬والتوحش‭ ‬والإنسانية‭ ‬المضاعة‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬اللامُجدي‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬يأتي،‭ ‬بينما‭ ‬بدأ‭ ‬الزمن‭ ‬ينفد‭ ‬بنفاد‭ ‬الزيت‭ ‬المتبقي‭ ‬في‭ ‬القناديل‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬رقاص‭ ‬الساعة‭ ‬القلق‭ ‬إلى‭ ‬السكون‭ ‬في‭ ‬‮«‬تأرجحه‭ ‬يسارًا‭ ‬ويمينًا‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬الدلالة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البريكان‭ ‬لن‭ ‬يصل‭ ‬بقصيدته‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬مقنعة،‭ ‬وإلى‭ ‬قرار‭ ‬أكيد،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أولًا‭ ‬متى‭ ‬يقف‭ ‬رقاص‭ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تلك‭ ‬هي‭ ‬الحيرة‭ ‬التجريدية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬حارس‭ ‬الفنار‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يبثها‭ ‬في‭ ‬تقابلات‭ ‬دلالية‭ ‬متناقضة،‭ ‬جعلته‭ ‬يصور‭ ‬عالمنا‭ ‬الكوني‭ ‬المهشم‭ ‬بالانسحاق‭ ‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬













كلمة البريكان في الذكرى السادسة لرحيل السياب ١٩٧١:٠٠



الكاتب محمود البريكان
((وبينما يستقطر الشاعرحكمة الاجيال ، ويسبر أغوار الحزن والفرح، ويطلق جناحه في أبعاد الكون، تترجمه الصحف اليومية إلى اعلان،وتلتقطه عدسات التصوير موضوعا للفضول.
وعندما يذهب، يبدا المثالون عملهم.
انه يستشهد مرتين.
هل يشعر جميع الشعراء بالحزن أمام التماثيل؟
هل يشعرجميع الشعراء بالتيه امام الاضواء البراقة، والقاعات الباذخة؟
هل يشعرجميع الشعراء بالغربة امام المنابر، ومكبرات الصوت ؟
....
وأية هزيمة للشعراء أكبر من هذه :
أن تمجدأسماؤهم وتدفن رسالاتهم ناقصة؟
أن يحولوا الى اوثان ، ويبقى الحقد والشر والفزع وكل شيء قبيح ..؟!...))
.















د. حيدر الكعبي


ثمة مسألتان لايمكن لحديث عن البريكان أن يتجاهلهما: موقفه من النشر ورؤيته للعالم. ربما كانت هناك علاقة متبادلة بين هاتين المسألتين، بل ربما أمكن النظر اليهما بوصفهما وجهين لعملة واحدة. ولكن حتى يتم إثبات ذلك، ولتيسير البحث، لابد لنا من معالجتهما بشكل مستقل بوصفهما ميزتين بارزتين تسمان معالم تجربة البريكان الشعرية. هذه المقدمة مخصصة للمسألة الأولى.

لقد بقي البريكان يقود إضراباً فردياً عن النشر لعقود من الزمن. كان صمته الطويل قد انقطع مرتين أو ثلاثاً بنشر قصائد له في المثقف العربي و الكلمة، وهو أمر يبدو أن الشاعر قد لمح له فيما بعد بوصفه تجاوزاً. وإذا اعتمدنا هذه الملاحظة، المشار اليها في هامش أضافه البريكان الى مجموعة قصائد له نشرت في مجلة الأقلام في التسعينات تحت عنوان مشترك هو عوالم متداخلة، فسيكون لدينا سبب للظن بأن بعض، إن لم يكن كل، القصائد التي ظهرت في المثقف العربي أو الكلمة أو كليهما، كان قد نشر دون موافقة الشاعر. إن نشر تلك القصائد يجب أن لا يقودنا الى الإعتقاد بأن الشاعر كان متذبذباً في موقفه من النشر.

إذا نظرنا الى الأمر من الخارج، فإن رفض النشرهذا قد يبرر تصوير البريكان على أنه مجرد شخص زاهد، عاشق للعزلة، ناكر للذات. ومع أن هذا قد يكون صحيحاً، فنحن لا نمتلك الحق بافتراض قدرتنا على اختراق عالم الشاعر الداخلي، والتحدث بلسانه. لكن هذا المدخل الى البريكان يزداد إغراء حين نقتبس الشاعر نفسه في قصيدته المعنونة ""في الرياح التاريخية"، والمؤرخة في 1962:

"حين تلاشت جثث الأموات
واتضح المشهد
تكشفت فضاعة المأساة
عن إرثنا الأسود

ميراثنا المشؤوم، جوع القبور
عار ضحايانا
ميراثنا، كل عقاب العصور
عن كل ما كانا

أنا تخليت أمام الضباع
والوحش عن سهمي
لا مجد للمجد فخذ يا ضياع
حقيقتي واسمي"

القصيدة السابقة هي أعلان عن استقالة تمت في إثر مأساة. إن لسان حال الشاعر يعلن انسحابه مما بدا أشبه بمشهد معركة خاسرة زخرت بـ "جثث الأموات" و"الضحايا". ولسنا نعرف على وجه التأكيد الي أية أحداث يحيلنا الشاعر، لكن القصيدة إجمالاً تأخذ شكل أعلان عن انسحاب، ربما كان إشارة البدأ للصمت الطويل الذي سيأتي. الأمر كله يعتمد على ما إذا كانت هذه القصيدة هي فعلاًً التمهيد لانقطاع الشاعرعن النشر طيلة عقود. إذا كان هذا هو الأمر، فإن رفض الشاعر للنشر يمكن أن يفسر بوصفه احتجاجاً سياسياً، أو بعبارة أدق، يأساً سياسياً.

ربما كان من المفيد أن أضمن هنا شهادتي الشخصية للطريقة التي أجاب بها البريكان عن سؤالي حول الأسباب التي دعته الى رفض نشر أعماله. كان هذا في عام 1990، في مقهى بالعشار، مركز مدينة البصرة. كان معنا أصدقاء آخرون، ويمكنهم أن يدعموا، أو يعترضوا، أو يضيفوا الى هذه الشهادة. غني عن القول أنني هنا أعتمد كلياً على ذاكرتي، وأن من المستحيل استعادة الحوار الذي دار بيننا حرفياً. ومما له أهميته أن نأخذ في الحساب أنه لم تكن هناك وسيلة لمعرفة الى أي حد كان البريكان منفتحاً معي في أجابته. وباختصار، فالبريكان لم يجب عن السؤال إجابة واضحة وضوحاً كافياً. وإنما افترض أن تلك الأسباب هي من الوضوح بحيث لا نحتاج الى البحث عنها. قلت له إنه لا بد قد سمع السؤال مرات عديدة، من أناس عديدين، وأنه لا بد قد أجاب عليه مرات عديدة، وسألته إذا لم يكن لديه مانع من الأجابة عليه مرة أخرى. فقال ما معناه "أحقاً؟ ألا ترى ما يجري؟ لم لا تنشر أنت أذن؟" حاولت أن أذكره بأن أمره مختلف، فهو شاعر متميز، معروف، ومن جيل أسبق، وأنه سيفتقد إن لم ينشر، والى آخره، ولكنه قاطعني قائلاً "أعرف، ولكنك تكتب منذ، لنقل، عشرين سنة، فلم لا تنشر؟" فأجبت بأنني ربما كانت لي أسبابي، ولكن ما رغبت فيه هو معرفة أسبابه هو. فتحدث عن ظاهرة المحاكاة الواسعة الإنتشار حيث تستنسخ التجربة مراراً حتى تفقد جدتها وتقتل. مع ذلك ، أود أن أسجل هنا انطباعي الشخصي وهو أن البريكان ربما كان يتحاشى النقاط الأشد حساسية في الموضوع بدافع الحذر. فالأسباب ذاتها التي دفعته الى عزلته الإختارية ابتداء كانت، في الوقت الذي كنا نتحدث فيه، ماتزال قائمة. وواصلنا الحديث عن موضوعات مختلفة، كالموسيقى مثلاً، ثم عدنا الى موضوع النشر. قلت له "إن النشر هو القاعدة، وعدم النشرهو الإستثناء، وإنني على قناعة أنني لو كنت متأكداً مائة بالمائة، لا تسعة وتسعين وتسعة بالعشرة، بل مائة بالمائة، بأن ما أنوي كتابته الآن لن يقرأه أحد على الأطلاق، فلن أكتبه أبداً" ولم يعترض على ذلك، ثم، فيما كنا نستعد لتوديع بعضنا، كنا نناقش الترتيب الذي يجب أن ينشر فيه شعره، إذا قرر النشـر، هل تنشر القصائد الأقدم أولاً، أم يبدأ بنشر مجموعة تضم مختارات من مراحل مختلفة من حياته؟ وهكذا.

بوصفه شاعراً حقيقياً، فالبريكان يدرك جيداً أن الحرية هي أوكسجين الشعر. أو بعبارة أدق، هي أوكسجين كل عمل أبداعي رفيع المستوى كما هو الحال في سائر الفنون الجميلة. وقد ذهب في اعتزازه بحريته الى مدى وجد نفسه معه مغترباً داخل محيط ديكتاتوري شامل. وهذا واضح في قصيدته "عن الحرية" المنشورة في المثقف العربي ضمن مجموعة قصائد تحت عنوان "قصائد تجريدية":

"قدمتمولي منزلاً مزخرفاً مريح
لقاء أغنية
تطابق الشروط
أوثر أن أبقى
على جوادي وأهيم من مهب ريح
الى مهب ريح"

العلاقة بين الشعراء والناشرين، التي تجسد قضية البريكان مثالاً واحداً لها، وحلاً شخصياً واحداً بين حلول شخصية أخرى، لا بد أن يسلط عليها الضوء في النهاية، وأن تعالج بالتفصيل، وبنزاهة وشجاعة. مشروع كهذا يتجاوز في مداه المساحة المخصصة لهذه المقدمة. فالكشف عن الحيثيات التي هيمنت على عملية النشر في بلادنا، وبلدان أخرى تربطنا بها خلفية تاريخية مشتركة، سيمس بالتأكيد عصباً مؤلماً في الجهاز العصبي لميراثنا الأدبي كله. مشروع كهذا قد يتضمن، دون أن يقتصر على، معالجة للدور المفترض للشاعر في تاريخنا، ولمفهوم الشعر، أي للطريقة التي تم تعريفه بها، وبالتالي للمعايير التي قيست قيمته وفقها، ومن ثم للمعايير التي تم في ضوئها اختيار النماذج الشعرية التي احتوتها كتب الأدب المدرسية، الى آخر السلسلة. إن الحاجة ماسة الى دراسة توضح، بلغة بسيطة، متواضعة، متحررة من الرطانات، قضايا مثل: لماذا دأب شعراء محافظات ومدن العراق الأخرى على الذهاب الى بغداد لنشر نتاجهم في مجلات ودوريات وصحف يفترض بها أن تستلم تلك النتاجات بالبريد؟ الى أي مدى اختلفت النسخ المنشورة عن النسخ الأصلية؟ ما هو حجم الحرية التي سمح المحررون لأنفسهم بها في الحذف، والإضافة، والتعديل، والتقصيب باسم التصحيح، ناسين أو متجاهلين حقيقة أن المحررين نادراً ما اختيروا، إن اختيروا أصلاً، حسب مبدأ الكفاءة؟ ومالذي يفسر الصمت الواعي عن تلك الظواهر وغيرها من الأمور بالغة الحساسية، من جهة، والهدير المفتعل حول توافه وسفاسف وأمور مختلقة، من جهة أخرى، في عملية متضافرة تستهدف حجب حقيقة المشهد الثقافي عن الجمهور خلف ستائر كثيفة من الغبار؟

على المستوى العسكري، رأينا كيف يقفز الديكتاتور من حيث لا ندري، فيستولي على وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة، ثم يصبح فجأة فريقاًً وقائداً عاماً للقوات المسلحة، قبل أن يمر بمرحلة العريف، أو نائبه، أو حتى مرحلة الجندي البسيط، وشعاره في ذلك هو "القوة تصنع الحق". ومن موقعه الجديد يمكنه أن يحاضر في فوائد الديمقراطية ومباديء العدالة، وربما هنأ شعبه على امتلاكهم رئيساً للدولة مثله، هو الذي وضع حداً للطغيان، والى آخره، والى آخره، والى آخره. أما على المستوى الثقافي، فرأينا كيف يستهدف ذيول الديكتاتور، من الإنتهازيين والوصوليين، وزارة الثقافة، بغض النظر عن درجة قرابتهم للثقافة، ثم، ما إن يؤمّنوا لهم فيها موطيء قدم، حتى يصبحوا هم بدورهم سلطة، وحتى يشكلوا البيئة الثقافية كلها على هواهم. في منتصف هذه الفوضى، هذا السرك الهائل، مالذي نتوقع من شاعر حقيقي أن يفعل، شاعر يمثل الشعر لديه "ملح الأرض"، الملح الذي لولاه لتعفنت الأرض؟

البريكان يلمّح لنا بأنه كان سينشر لو كان هو نفسه ناشر أعماله. ذلك في الأقل كان ما فعله في العددين الوحيدين اللذين أصدرهما من مجلة الفكر الحي، إذ نشر فيهما معاً. لكن توقف المجلة بعد صدورعددين فقط يثير بدوره المزيد من الأسئلة: الى أي حد يمكن لنا أن نمارس العزلة؟ الى أي مدى يمكن للفرد أن يكون حراً في مجتمع يفتقر للحرية؟ وقدر تعلق الأمر بالشعر، الى أية درجة نحن محقون في اعتبار أنفسنا أحراراً أثناء عملية الكتابة ذاتها؟ ربما عثرنا على الجواب في الحركة الأولى للسمفونية الخامسة لبتهوفن، التي تمثل ضربة الختام في موت الشاعر. هنالك من يقرع الباب، يقرع، يقرع، يقرع الباب، بلا هوادة، يقرع الباب. هل ينبغي فتح الباب، أم ينبغي ترك الباب يكسر؟

"ولم يكن السيف رهن يدي
حينما اقتحم الآخرون
مداخل حصني الأخير"



2005/17/09

* هذه هي ترجمتي عن الإنكليزية للمقال الذي كنت قدمت به كتاب (محمود البريكان: قصائد مختارة) الصادر عن دار المأمون بوزارة الثقافة العراقية عام 2005.حيدر الكعبي - محمود البريكان ومسألة النَّشْـر"
















علي حاكم صالح محمود البريكان من خلال/حسن ناظم/

شتاء 2002 كان النهار من فضة ٍ دفيئة، حين أوقفتْ عيناي قدميّ عند مكتبةٍ من مكتبات رصيف شارع الكويت في مدينتي البصرة، تسمرت العينان على كتاب ٍ يهمني (نصيّات بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية) تأليف ج. هيوسلفرمان (ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح) . كانت جيوبي شبه نظيفة، هرعت إلى أديب كانت دكانته خلف شارع الكويت بمسافة عشر خطوات بيننا علاقة طيبة وطلبتُ منه..... وهذه المرة الأولى أطلبُ منه أو من سواه، وأخبرته سأعود عصراً وأعيد له المبلغ : ............. عدت ُ لبائع الكتب وقلت له لا تبع هذا الكتاب ياكريم سأذهب إلى البيت وأجلب لك المبلغ . بكل حنو قال لي بائع الكتب كريم : أستاذ خذ الكتاب.. (عفه عليك) من يومها وعلاقتي تتواصل مع هذين المعرفيين العراقيين الكبيرين من خلال ترجماتهما الفذة فهما زودا المكتبة العربية بعشرات المصابيح .
في كانون الثاني 2010 كان بحوزتي ترجمتهما للكتاب الشيّق (القارئ في النص) تحرير سوزان روبين سليمان / إنجيكروسمان.. وحين لم أحصل على ترجمتهما لكتاب غادامير (طرق هيدجر) اتصلت ُبالصديق الأستاذ الدكتور مجيد حميد جاسم . واتصل بالدكتور علي حاكم صالح، عرفتُ من العزيز مجيد حميد: لايملك علي حاكم غير نسخة واحدة . بعد شهور اشتريت نسخة من (طرق هيدجر) .
في 2018 أبحرت في كتاب من ترجمتهما للناقد غادامير (مَن أنا ومَن أنت / تعليق حول باول تسيلان) وكانت متعتي لا توصف وأنا أغوص في كتبٍ من تأليف الناقد علي حاكم صالح (الوقوف على حافة العالم) و(استعارة الرخام) و(شعرية العابث) و(مفاهيم الشعرية) للناقد الدكتور حسن ناظم وكتابه الماتع (النص والحياة) .
(*)
لا خلاف على المكانة الكبيرة التي نالها الشاعر محمود البريكان فهو صنعها بشعره . أما شخصيته الفذة فقد خدشتها المخيلة الجمعية التي هي في الغالب لم تقرأ من شعره إلّا القليل. أقول ذلك من خلال زياراتي له برفقة الأديب الكبير محمود عبد الوهاب في مساءآت معظم أيام الجمع، منذ 1991 وكانت زيارتنا أقل من ساعة بقليل، كنت أشعر أن ثمة ساعة بيولوجية لدى أستاذي محمود عبد الوهاب، في زيارتنا أكون مصغيا لا مشاركا في تحاورهما . لمستُ في البريكان تواضعه ورقته وأناقة التحاور بنبرته الخفيضة الحيية، وعرفتُ منه أنه يتابع نصوصنا المنشورة في الصحف والمجلات..
(*)
تفرد الشاعر محمود البريكان بعزلة مبصرة مؤتلفة، وهكذا تحول البيت الذي يسكنه في شارع الجزائر: محجة للمثقفين وأصحابهم ولم يكن يتبادل الزيارات، لكن ذلك لم يبعد الناس عنه بل ازدادوا التصاقاً به . من هنا كان بعض الزائرين يمتلك خيالاً خصباً في التحدث عن البريكان أو عن مكانته لدى الشاعر!! وحده الشاعر الفقيد رياض إبراهيم بشفافيته العذبة استطاع أن يهبنا كنزاً من كنوز البريكان الشعرية، وينشرها بموافقة الشاعر في مجلة الاقلام / شباط/ 1993 ثم نُشرت قصائد للبريكان في الأقلام أيضاً في 1998 وهكذا يكون البريكان قد نشر ثلاث مرات في مجلة الاقلام . المرة الأولى كانت كانون 1970
(*)
لماذا البريكان.. ؟
هل بسبب شهرته الشخصية التي سبقت مكانته الشعرية ؟ أم القارئ يعود إليه بسبب نهايته المأساوية ؟ كما فعل القارئ العراقي مع الروائي القتيل علاء المشذوب حيث ازداد الطلب على كتبه بعد الحادثة ؟ هل علينا : كن قتيلا ً لتكون مشهوراً !!
(*)
تركة البريكان تنشطر إلى: نصية ومجتمعية والثانية لا تعنينا في معالجة النصوص، فهي (مؤشرات تقع خارج نصه يمكن تسميتها مؤشرات لا نصية . وإدراج هذه المؤشرات اللانصية في قراءة البريكان ليس مطلباً حتمياً لمن لا يريد أن يرفع ناظريه خارج النص /26 / علي حاكم محمد) .
(*)
والسؤال الآن هل يمكن التعويل على هكذا نوع من القراء ؟ ربما نجد بعض الإجابة فيما يقوله الناقد الدكتور حسن ناظم : (قصائده ذات اللغة التي تبدو لأول وهلة أشدّ مباشرية لكي تصلح لتجسيد قصيدة، وذلك جليّ في جملة من القصائد التي اعتمد فيها على ما للغة العادية من لغة شعرية مختلفة / 22/ شعرية العابث) .
(*)
المؤشرات اللانصية، كانت لها جاذبية لا يمكن التملص عنها، وبخصوص هذه المؤشرات نسأل : هل مسرَح َ البريكان شخصه بنوع شعري من البونتميم ؟ وقد صانت هذه المسرحة شخصية البريكان من التجاذبات العقائدية، في عراق يتماوج دائماً ولا ينال ومضة راحة أو استراحة . ولقد فشلت كافة أنواع الصمت والعزلة والتحاشي التي استعملها البريكان ولقد كسرت أفق توقع الشاعر: الجريمة النكراء . أما تأويلنا لهذه القصيدة أو تلك كفعل استباقي لمقتله، فهذا تأويل بعضنا بعد مقتله وهنا نقترض من المعرفي الكبير محمود أمين العالم من خلال (الوقوف على حافة العالم) للناقد علي حاكم صالح ونقول على لسان العالم (أن مصادرة الخبرة الشعرية لشعر الحداثة تكون ثقافية قرائية، معرفية أكثر مماهي خبرات إنسانية حية/30/ علي حاكم صالح) .
(*)
لا أحد ينكر التأثير الكبير للسياب في القصيدة العراقية والعربية، وهذا التأثير بسبب حضورين للسياب أعني حضوره المزدوج في الحركة الوطنية العراقية والريادية الشعرية العربية، والشاعر البريكان آنذاك كان معروفاً من لدن السياب وسواه وهما من جيل واحد وبصرة واحدة : السياب 1926 والبريكان 1929 وكانت للبريكان قصائده منذ 1957 ولديه قصائد بنكهة يسارية مثل (قتيل في الشارع) مكتوبة في 1954(المرصود) نفس السنة و(عندما يصبح عالمنا حكاية) 1957 و(حادثة في المرفأ) 1957 و(رقم 96) في السنة نفسها وهذه القصائد حداثية تتجاور مع حداثية السياب وفي عام 1958 تألقت شعرية البريكان في قصيدته (هواجس عيس بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة) وهو في هذه القصائد يتماهى مع المغلوبين الكادحين والمناضلين و(أغنية حب من معقل المنسيين) 13/6/ 1958 أي قبل ثورة 14 تموز بشهر واحد . والسؤال هنا هل هذه القصائد التي ذكرناها هنا نُشِرتْ في حينها ؟ أم.... بعد فترة من الزمن ؟ نستعين هنا بما يقول الناقد الدكتور حسن ناظم (يُكتشف بعض الشعراء بعد حين، في زمان غير زمانهم. قد يغط بعضهم في سبات عميق طويل، ثم تستنهضهم حقبٌ جديدة ٌ لاعتبارات جديدة وقد ينتفضُ بعضهم فجأة دون أن يدع النسيان يلف عالمه لوقت طويل /22 ) لكن عدم تصدر البريكان المشهد الريادي يبقى هو السؤال .
وقد اشتغل الدكتور الناقد حسن ناظم على هذا السؤال من كتابه (الشعرية المفقودة) الصادر عن دار الجمل في 2009 وعنوان الكتاب يعني أن شعرية البريكان (بقيت بعيدة عن التأثير في حركة الحداثة الشعرية العربية).. شخصيا أرى أن مقتل البريكان انفتح على تحويل الفضاء البريكاني إلى حيز الجريمة، وهكذا تأطرت قصائده بهذا الحيز، لكن قصائد البريكان تتمرد على كل الأطر وتكسرها، محلقة ً في رحابة الفضاء .
وهنا نتساءل مع الناقد حسن ناظم (أهي الميتة العنيفة، تقوم فاصلاً، وعلامة فارقة، أم أنها الكلمات البريكانية وقد صارت كنزاً من ذهب، مطموراً في ضباب التفلسف وغموض،، العوالم المتداخلة،،؟ / 23) شخصيا ومن خلال كتاباتي عن قصائد البريكان أرى أن البريكان يتحصن بجغرافية الأقنعة ليستعيد حريته ويحرر أحلامه من قفص الذاكرة وقيود أنظمة السلوك الجمعي وبالطريقة هذه ينأى عن عقلانية السرد الصارمة التي لاتؤدي إلاّ.. إلى عرقلة اتصالات الناس لكن ما الذي يقدر أن يفعله الشاعر في (عالم من ظلال يتفكك في الريح) هل يطلب (الصفح من الأموات؟) هل ينشد (الكلمة في معترك الرايات؟) في (المدن المطمورة الخالية؟) ومن جراء عمق وعي شاعرنا يرى أن (حارس الفنار) هو المسؤول الأول عن جمال الوجود فتدفعه رهافة الحس إلى قلق الأسئلة:(هل أحمل وزر المجازر؟) (هل أتأمل تلك الدماء؟ تلطخ كلتا يدي؟ هل أستطيع افتداء العبيد؟ هل أتجاهل جوع العبيد؟ وهكذا يتواصل الشاعر مع الوجود ويواصل اشعال الأسئلة وهو يرى أفقاً من ذئاب في ليل القنوط وفي كل أسئلته ُ ينتج سؤالاً.. (هو في غاية السرية والوضوح في آن/32/ علي حاكم صالح) والبريكان وهو ينتج أسئلة شعرية عن الوجود والأنوجاد (لا يتوقع أية إجابة في الحقيقة) لأن الشعر ليس وصفة جاهزة فالشعر لدى البريكان (لا ينتظر إجابات معينة عن تساؤلاته وإن غامر في هذا الانتظار فلا بد من أن يكون هو لا غيره مصدر هذه الإجابة) بشهادة المعرفي علي حاكم صالح . والأمر نفسه أكده المعرفي حسن ناظم بقوله (يحاول محمود البريكان أن يفكّر في الوجود شعراً، يدخل إلى هذا العالم الغامض ليؤسس بالشعر أنطولوجيا تقيم أسئلة، وتنأى بنفسها عن تقديم إجابات نهائية25).
(*)
يفهمنا البريكان شعريا أننا كبشر نتواصل عبر الزجاج وهكذا لا نتجاور فيما بيننا ولا نتباعد (والزجاج كما هو معروف يوفر رؤية صقيلة عندما يكون لامعاً كما هو الحال في قصائد البريكان، لكنه لا يوفر اتصالية بين الذين يفصل بينهم الزجاج وهنا تكمن الوظيفة الاشارية لمفردة (زجاج) فهي توفر للعين رؤية واضحة لكن تحرم اليدين من نعمة التلامس 12 اتصالية الزجاج/ مقداد مسعود/ الأذن العصية واللسان المقطوع) .
(*)
يكتشف الناقد الدكتور حسن ناظم قارة شعرية جديدة هي من تخليق محمود البريكان . قارة البريكان هي قارة لغوية تتملص من أطواق الآيدولوجيا، قارة روضّها البريكان وتحديداً الذات البريكانية في حركيتها بين الوجود والإيجاد، وهكذا انسحبت هذه الذات المتقدة من حركية الشارع في (محاولة الذهاب إلى عمق الظواهر والأشياء بقصد الكشف عن طبيعتها الحقة وليس المصطنعة والمنحولة 102/ بنسالم حمّيش) في قصيدة البريكان (قصيدة ذات مركز متحول) نكون مع صوت شعري بمديات كونية، فالبريكان من أكبر أمراء المنفى مثله مثل الشاعر سان جان بيرس في قصيدته الكونية (أولئك هم أمراء المنفى) وفي تساؤلات البريكان الشعرية يكون الشاعر منهمكا في صوغ أسئلة الوجود والإيجاد وعلينا كقراء أن نصوغ أسئلة من كل سؤال يصوغه البريكان. وعلى حد قول مثقف عراقي من بيئة البريكان (لا بد للشاعر أن يكشف عن النهايات القصوى.. ليفتح أمامنا الطريق/ نجيب المانع ) .
(*)
الناقد حسن ناظم وهو يثمّن التجربة البريكانية، يسلط ضوءاً جديداً عن الكشوفات اللغوية الشعرية لدى البريكان وسنعمد إلى ترقيمها لأهميتها :
(1)
(بمثابة مسار آخر في تجديد الشعر العربي يوازي المسارالذي أختطه السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري) .
(2)
مسار لم يُكتب له الانتشار ولا التأم حوله جدل يغذّي عوده الطري ولا كان له تأثير بين الشعراء العرب .
(3)
إن الشاعر نفسه لا يكاد يعرفه العرب على نحو يليق بمكانته الحقيقية .
(4)
الأغلبية الساحقة عرفته بطريقة أن هناك شاعراً عراقياً قُتل بالبصرة في العام 2002 .
(*)
شخصيا أقول أن ما قاله الناقد العراقي حسن ناظم هو الحق– الحقيقة، لكن للأسف هذا القول الجديد المنصف بشكل متميز لشعرية البريكان: تأخر كثيراً .
ثانيا : أرى أن النقد العراقي الذي عاصره البريكان منذ الخمسينات إلى مقتله.. أن هذا النقد يعاني من أزمة ضمير نقدية ولم يعترف بتقصيره بحق البريكان.. استثني بذلك كتب ثلاثة : كتاب عبد الرحمن طهمازي (سيادة الفراغ) 1989 وكتاب الشاعر والناقد والمترجم رياض عبد الوحد (الفأس والبذرة) في تسعينات القرن الماضي . وكتاب الدكتور فهد محسن فرحان (الإبلاغ الشعري المحكم : قراءة في شعر البريكان/ 2001 .
ثالثا : يتحمل البريكان جزيئة من ذلك فهو بسبب دماثة خلق الكريم وتواضعه الجم، وذاته الزاهدة، لم يروّج لنصوصه كما فعل الكثيرون الذين لم ينوشوا قامة البريكان ونالوا شهرة ً عربية وعالمية ً بالمجان .
رابعا: أن وزارة الثقافة لحد الآن لا تتكفل تصدير المطبوع العراقي الصادر عن دار الشؤون الثقافية . فالمطبوع العراقي يتورط به المؤلف.. فهو يوزع كتابه في المهرجانات التي تعقد في المحافظات، ومن خلال تجربتي تبقى معظم الكتب المهداة في غرف الفنادق !!
(*)
حسن ناظم / شعرية العابث/ دار التنوير/ بيروت/ ط1/ 2019
علي حاكم صالح/ الوقوف على حافة العالم/ منشورات الجمل/ ط1/ 2012
بنسالم حميّش/ الذات بين الوجود والإيجاد/ المركز الثقافي للكتاب/ الدار البيضاء/ ط1/ 2019
مقداد مسعود
(*) الأذن العصية واللسان المقطوع/ دار الينابيع/ دمشق/ ط1/ 2009/ (اتصالية الزجاج : نوافذ البريكان/ ص9- 23)
(*)القصيدة بصرة/ دار ضفاف / العراق / بغداد / دولة الامارات المتحدة/ ط1/ 2012 (حرائق الأسئلة في ليل القنوط) الشاعر محمود البريكان في (قصيدة ذات مركز متحول)/ ص72
(*) من الأشرعة يتدفق النهر/ قراءة في الحداثة الشعرية العراقية/ ط1/ بغداد/ من اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية/ 2013 (التمويل الذاتي في قصائد البريكان)/ ص127 .











ناظم عبدالوهاب المناصير - حارس الفنار ـــ محمود البريكان ــ



لا أدري مـن القائل :
"بعض اللحظات ، لا نعرف قيمتهـا ، إلاّ عنـدما تعود لنـا على شكل ذكريات"
، تأتي تلك اللحظات ، أو طالما تكون دقائق أو ساعات ، وقـد تكون أياما" وشـهورا" ،الخ.
الذكريات تفتح الأبواب التي طواها النســيان ، لكنـنــا قـد نعود إليهـا بحســــــرة وألم أو
بفرح غامـر ، لندخل في عالم ســبق وأن كان حاضـرا" بكل ما يمتاز به ، .. نعود ونتذكر
.. نفتح دفاترنا .. نقرأ .. ’نعيـد كل حرف بين سـطورهـا ، ’تعزز الأوقات مـن قدرتنا فـي
الأســتماع أو نشاهد أو أننـا نشــعر بآلامهـا وفرحهـا وشــــجونهـا وتهاويم زهـوهـا أو فـي
الكره أو في الحب .. أو حتى قـد نشــبع طربا" وتمايلا" بالآهـات والأحلام والتمنـي ... !!
... عادت بي الأيــــام ،.. والذكريـات عادت ’تقلـدنـي وشــاح الأنطلاق مـن كبوتي ، وأنـا
أجلــس على مكتبـي ، في داري .. الجو كان حارّا" ، لكن التكنولوجيـــــــا ، فتحت علينــا
هواء" باردا" منعشــا" ، ممّـا زادنـــــي حب التطلع إلى الماضي القريب !! ... الذكـريـات
تأخذنـي فـي ســـلســـلـة ، توحـي لـي بعض حلقاتهـــــا فـي الدخول على أعتاب الكلمــات
الرائـدة والحروف الجميلـة ..
ذكرى الشــــــاعر محمود البريـــــــكان ،.. إذ كانت داره ليس بعيـدا" عـن داري ، فهو
يجاورنـي منذ ســنين ... فـي أكثـر الأوقات أرى بعض أصدقائـه مـن الأدبـاء يقفون علـى
باب داره وقتـا" طويـلا" ... ثمّ يفتح لهم البـــــاب ، برضـى أو بغير رضى منـه ... وإنّـي
لأتـذكـر حكايـة أحد الأدباء حيـنمـا قال " أنـه كان مع مجموعـة مـن الأدباء ، طرقنـا بابـه
ذات يوم ، لكنـه لم يفْتحـه’ لنــا ، رغم أنـنـا نعلم أنـه كان فـي داخل الدار " ..وإذا ما دخلوا
، فهم قـد يألفون الجلوس معــه...
في كثير من المرّات أقف معه في طابور فـرن أبـي مهنـد بمنطقـة الجزائر ؛ يتكلم معـي
بصوت خفيض ، أحيانـا" لا أفهم ما يقول ، ما عـــدا أنـه يتذمر في آنتظـار حصولـه علـى
( الصمون ) ..
ذات مرة حصلنـا على ( الصمون ) ســـويـة ، .. في الطريق قال لي :
ــ هل أنت جار لي ؟
ــ قلت’ له : نعم أنا جارك منذ سنين ... ألاّ تعرفني ؟ .. بينما أنا أعرفك وأقرأ لك قصائــد
جميلـة منذ سنوات على صفحات مجلـة الآداب اللبنانيــة !!..
ونحن’ نسـير، ومرة نقف ، يحدثني عن شــعرالسـياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح
عبدالصبوروعبدالباسط الصوفي وغيرهم .. إلى أن وصل إلى داره ، فقال لي تفضل معي
نكمل الحديث ، فأنّي أظن أنك شــــغوف بالشعر والأدب ...
ــ قلت له : يسرني ذلك ، لكنّي لا أســــــتطيع في هذا اليوم ، نلتقي بوقت آخر ، كأن يكون
غدا" !!
ــ قال : غدا" أراك ..لا تنس الموعـد ، قالها بلطف وأبتسامة جميلة ظهرت على محياه ..
ــ ودعتـه وأتجهت إلى داري ...
(( مع كل أسف إنّي بوقتها لم أســـتفد مـن علاقتي بـه كجار وشـاعر كبير في تلك الفترة ،
لأنّ شــهرتـه لم تصل لي بعد ، ما عدا أنّـي أعرف عنه أخبارا" قليلـة ، إلاّ أنه بعد سنوات
من وفاته أصبح شـــــعره ؛ ’يكتب عنـه دراســـات وبحوثـا"أدبيــة وأكاديمية ، وهناك مـن
نال في شــعره الشـــهادات العليـا ... ))...
ففي اليوم الثاني ، رأيتـه صدفـة واقفا" على باب داره ، ينتظر عامــــلا" كان يحرث له
أرض الحديقــة ... فيها نخلتـان ســـامقتان .. !
ــ قال لي : تفضل ..
صعدنا سوية إلى غرفة نظيفة في الطابق الأول تحتوي على مكتبــــة ضخمـــة بالــكتب
والمصادر والمراجع ؛ .. أدار قرص المســجل لنســتمع موســـــيقى غربيـة هادئــة ــ كان
مولعا" بشـــدة في الســماع إلى الموســــيقى ــ ثمّ جلســنا ..
ــ قال : ماذا تحبّ مـن الشــعر ؟
ــ قلت’ : أحبّ أن أقرأ قصائد السياب ، كأنشــودة المطر وقصيدة أخرى تدمع عيناي حين
قراءتها ..قصيدة ( في المغرب العربي ) .. وإنّي أكاد أســــمع قصيدة دجلة الخير للشـاعر
الكبير محمد مهدي الجواهري ، تلك القصيدة تســتفزني ، طالما تأخذني بعيــــدا" وكـأنّــي
أغفو على جدائـل الفراتين الخضــر ..
ــ قلت’ لـه : يقولون عنك ، قليل الثقـة بالآخرين ، وأنعزاليـا" عن الوسـط الأدبي ، والناس
أيضــا" !! ... ألا تطلب الشــهرة ؟
ــ قال : دعهم ما شــاء لهم أن يقولوا !! .. وأنا لا تهمني الشــهرة ..فقط أريد أن أواســـــي
نفســي بأحرفي !
ــ قلت’ له : متى تكتب الشعر ، وما رأيك بالشـــعر الحر ؟
( ملاحظـة : خلال هذه الجلســة ، ’أســجل كل ما يدور من حديث معه بدفتر ملاحظـــات
صغير أحمله معي دائما" ... وإلى اليوم أحمل دفترا" صغيرا" لكل الندوات واللقاءات التي
أحضرها ) ..
ـــ قال : ليس لدي الوقت المحدد بكتابة الشـــعر .. وإنّمـا ، متى ما أســتحكمت الفكرة لدي
، ترانـي انســى كل شــيء ، وكأنّي أذوب معهـا بأقصى حالة قد تكون جنونية ، وأخيــرا"
أرى أنّ قصيدة قد أكتملت ، وحينئذ أجري عليها بعض التعديلات .. أمّـا الشــعر الحر ،هو
ضرورة ملحـة في عصرنا الحالي للأنفتاح الأكثر وعدم التقيد بأطار الشـــــــــعر العمودي
...كما أنّ الشــــعر الحر ليس الخروج من التفعيلة .. والشــعر قاطبــة كما يبدو لي هو فـنٌ
، بعيد عن تســخيره للمجاملات أو المناسبات أو لمدح أو ذمّ .. أنا شخصيّا" أكتب’ الشــعر
العمودي ، ومجلـة الآداب اللبنانية خير شـــــاهد لي .. وأنا كذلك لي خصوصيتي في نظـم
الشـــعر ، فلمّـا نشــرت مجلة ( المثقف العربي ) قصيدة ( أســـطورة الســـــائر في نومه)
لم تعجب بعض الشــعراء وإنّمـا الشــعراء الشــباب كانوا معجبين بهـا ، وكذا قصــيــدة (
رحلة الدقائق الخمــس ) ..
جزء من قصيدة ( أسطورة السائر في نومه )
أروي لكم عـن كائن يعرفـه الظلامْ
يســير فـي المنـام أحيانا" ، ولا يفيقْ
أصغوا إليّ أصدقائي ! وهو قـد يكونْ
أيّ أمريء يســـير فـي الطريقْ
وســـــــط الزحامْ
وقـد يكون بيننـا الآن ، وقـد يكونْ
في الغرفة الأخرى ، يمطّ حلمـه العتيقْ !
أعتاد أنْ ينهض حين تقرع الساعةْ
دقاتهـا السبع ، ويعلو صخب الباعةْ
يفتح مذياعهْ
يصلح شــاربيه أو يدهن عارضيهْ
على زوايا شــفتيـه ، ثمّ في عجلْ
يمضي إلى العملْ
يمرّ بالناس الكثيرين وبألأشــــجارْ
فلا يرى شــيئا" ، وقد يبتاع فـي الطريقْ
جريدة يقرأ منها آخر الأخبارْ
وهو غريق بعد في سباته العميقْ
أعتاد أن يقوم من منامه الطويلْ
بعض الليالي ، ثمّ ينســـل إلى مكان
يشـــرب في عتمته ما شاء من خمـرة ْ
ثمّ يعود وهو لا يذكـر كم مرة ْ
أضاعت الكأس لعينيه ، وفي الصباحْ
لا يذكر السكرةْ
******************
( وفي يوم قاس سمعت’ بمقتلـه من قبل صبيين .. وحزنت’ حزنا" عميقا" عليه بالرغم أنّي
لم ألتق بـه إلاّ مرّات قليلـة ) ..
الشاعر محمود البريكان ، يمتاز شــــعره بلغـة قوية رنانة تغازل أحرفها الفكــــرة فـي
سردية لآخر حرف ، نستطيع أن نقول أنه كان منفردا" بها من النص المحتـدم فـي بـلاغـة
متصاعـدة ، وأحيانـا" يمتلك فيها همومـا" فكريــة ناضـجة ، طالما يكتنفها بعض الغموض .. كان يروق له أن يكتب في عمق فلسفي خاص به متأثرا" من وحدتـه وسلوكه المجافـــي
للحيـاة العامــة .. وفي بعض قصائده تحتدم لديه المشاعر ليحدثنا شعرا" في لغــة قصصية ســـــردية كما نطقت به قصيدته ( حادثــة فـي مرفـأ )..
كان يقول : ينحصر عندي مفهوم الحداثـة بمدى مقدرتـــي علـى أســــتيعاب كل شــــأن
بشــموليــة ، طالما تكون فضاءاتهــا أقرب إلي ، ولا أنســــى إنّي إنســـان مركب من لحم
ودم ...
يقول عنه الكاتب رشــيد ياســـــين فـي مقالة له بعنوان ( البريكان كمــا عرفت ) : قـرأ
البريكان لنا قصيدة مطلعهـا :
فاضت على سمعي ضراعاتهـا
وأطلقت مأســــاتهـا مدمعي
كان عنوان القصيدة ( خرافـة روح ) ومن يتأمل عناوين قصائده يرى أنهـا عناوين مبتكرة
، وهذا الجانب يمكن يبني بدراســة أكاديميــة ، فالبريكان لم ينشـــر سـوى ( 89 ) قصيدة
في حياته ونشــرت ( 4 ) قصائد بعد وفاته ..
( حارس الفنار )
أعددت’ مائدتي وهيأت’ الكؤوس
متى يجيء
الزائر المجهول ؟
أوقدت’ القناديل الصغار
ببقيـــة الزيت المضيء
فهل يطول الأنتظار ؟
أنا في أنتظار ســـفينة الأشــباح تحدوها الرياحْ
في آخر الساعات صمتا" ،
حين ينكسر’ الصباحْ
كالنصل فوق الماء حين يخاف طير أن يطيرْ
في ظلمة الرؤيا
سأركب’ موجة الرعب الكبيرْ
واغيب’ في بحر من الظلمات ليس له حدودْ
أنا في أنتظار الزائر الآتي
يجيء بلا خطى
ويدق دقته على بابي .. ويدخل في برودْ
أنا في أنتظار الغامض الموعود تحماه الرعودْ
والريح ..
يوشــك أن يحل الوقت’
والأفق الطويل ..
خال وليس هناك ظل سفينة
يبدو الوجودْ ( جزء من القصيدة )
***********************
البريكان تأثر في صباه بجده لأمه الحاج أحمد الخال ، إذ كان يقضي أكثـر أوقاتـــه في
مكتبتــه الكبيرة التي كانت تحوي على كتب ومراجع ومصادر ومجلات ودوريـــات ممــا
أستحوذ الكتاب عليــه ..
نظريته ( الشــعر فنٌ لا يقبل التســخير ) ، شاعت عند بعض الشــــــعراء أو حتى لـدى
أدباء السـرد الروائي والقصصي .. لكن لو نظرنا في شعر بعض من الشعراء لوجدنا أنهم
ســـخّروا نفثات شعرهم أو كلماتهم في الرثاء أو المدح ، فالشاعر محمد مهدي الجواهري
قال شعرا" في رثاء أخيه جعفرا" :
أتعلم’ أم أنت لا تعلم’ ..... بأنّ جراح الضحايا فم’
فمٌ ليس كالمدعي قولـة ...... أو ليس كآخر يسترحم’
أو أنّ له قصيدة في رثاء جمال عبدالناصر :
أكبرت’ يومـــك أن يكون رثاء’.... الخالدون عهدتهم أحيـــــــاء’
لا يعصم المجد’ الرجال وإنّمـا ..... كان العظيم المجد والأخطاء’
أو أنه رثى محمد أبن الرئيـــــس البــــــــكر ، عندما توفاه الله بحادث سـير.. أو أنه مدح
الملك الحسن الثاني وآخرين .. إذ لم ’يسخر شـعره للوقوف على باب أي أحد منهم لغرض
حصوله على المكاســــب أو لنيلـه بعض المزايا ، وإنّمـا كان ينفعل لموقف أو حدث ما ...
فتأتي الملكة الشعرية طوعا" ..
*****************
( حادثة في مرفأ )
سفنٌ وضوضاءٌ وصفٌ من صناديق ثقيلـة
والرافعات تمـدّ في الجوّ الهجيريّ العنيفْ
وتدير أذرعهــا الطويـلـة
سوداء مثقلة" ، يئـزّ صريرهـا الصلب المخيفْ
ويذوب أناتٍ عليلـة
الرعب يلمع في العيون وصيحة ويـد تشـــيرْ
الواقفون برعبهم يتدافعون هـي الذراع ْ
تهوي توحّشــت الذراع وجنّ وأنفجر الصريرْ
كابوس ثانيتين ، تقـلّـب فـي أرتيـاع ْ
كتلا" من الصلب الصدىء ، وهيكلا" ، ودما يسيلْ
من يعرف الآن القتيلْ ؟
لا يعرفون ..
إلاّ أســمه ، حتى إســمه بتمامه لا يعرفونه ْ
ويقال إنّ له بنات في مكان يجهلونـه ْ
ناء ، وليس لـه بنونْ
في جيبـه ظرف عتيقْ
ورسالتـان ، وفي جيوب ردائـه الخلق الرقيقْ
وجدوا نثارا" من نقودْ
هي كل ما أســتبقاه من أيام غربته الطويلة
ومن المهانـة والضياع ْ
قطعا" مدورة صقيلـة
بيضا" ســوى نقط بلون الجمر ، من دمه المضاع ْ
*******************
يقول البريكان :
أنا لا أكتب شــعريـة ســائدة أو بشــعرية خاليــة من المغامرة الفنية ، وينحصر عندي
مفهـوم الحداثـة بمدى مقدرتـي على أســتيعاب المواقف الشــاملـة .
وكما يقول :
لا ’تلبي كثيـر مـن نصوصي حاجــــــات المتلقي العادي ، لأنّـي لا أكتب للأجـابـة عـن
التســاؤلات ، وإنّمـا لطرحهــا ..
قصيـدة الصـوت
صوتٌ لا يشــبهـه’ صوتٌ
يأتي مـن اقصـى البرّيـة ْ
صوتٌ كنداء إلـه هالكْ
’يطلق’ لـعنتـه ْ
كتحشــرج وحش مقتول
كتناوح ريح ،
ليســـتْ من ْ هـذا العـالمْ
صوتٌ يطعن’ قلب الليل ،
فـي البدء
ما كان ( ثمّ ) أحـد
يســـمعه ْ
ثمّ أعتادوا
أن يمرق في أفق مدينتهمْ
لا يلتفت’ إليــه أحـد ْ
لا يتساءل عنـه أحــد ْ
( جزء من القصيدة )
ـــ أصدرت مجلـة ( الأقلام ) ملفا" كاملا" عن الشاعر عام 1993 ...كما كتب عنـه :
ماجـد الســامرائي ــــ قاســم راضي ـــ حاتم الصكر ـــ الدكتور فهـد محسن ســرحا ن
ـــ باســم المرعبـي ..
وأصدر عبدالرحمن طهمازي كتابا" عنـه ..
وحصل ( أســامـة الشــحماني ) على شــــهادة الماجســتير ، عن أطروحتـه في شــــــــعر
البريكان ، ’قدمت في كلية الآداب / جامعـة البصـــرة ..
ـــ نشــر نتاجـه الشــعري في عديد من الصحف والمجلات العراقية واللبنانيـة ..
ـــ ولادتـه بمدينـة الزبير ســنة 1931 ..
ـــ حصل على شــهادة الحقوق من جامعـة دمشــق بســوريا ، وعمل مدرسا" للغة العربيـة
في مدارس العراق والكويت ..
ـــ توفاه الله ســنة 2002 ... وجدوه مقتولا في داره ..
ـــ بقي يعيش أعزبا" منذ أنفصاله عن زوجتـه ، التي أنجب منها ولدين .. أحدهما أســــمـه
ماجد ( أعلامي ) ..
ـــ ضاع كثير من شعره بعـد وفاته ..
ـــ كان رحمـه الله قليل الثقة بالآخرين ، كما عزل شــعره عن التفاعل مع حركة الشـــــعر
العراقــي في الوقت المناســب .
ـــ نشــر كثيرا" من قصائده العمودية في مجلة الاداب اللبنانية، وأخرى في مجلة الفكــــــر
الحي ومجلـة ( المثقف العربي ) ..
ـــ أســمه الكامل : محمود داود سليمان البريكان ..
ـــ بعـد ســنة من وفاته ، أطلق أسمه على مدرسة حكوميــة تقع في منطقة ( حي الحسين )
كمـا ’أطلق أسمه على مركز حكومي للشــباب والرياضـة في قضاء الزبير ..
ـــ في عام 2009 ، أعلنت بلديــة محافظـة ميســان عن أطلاق أسمه على أحد شـــــوارع
المديــنـة الرئيســـة ، تكريما له وتخليدا" لذكراه ..
ـــ له ديوان واحد صادر بعنوان ( متاهة فراشـــة ) ، عن دار نيبور ..
يبقى أسم محمود البريكان ، متألقـا" من خلال شعره الثّر الغني بالتعابير التي تحتفــــي
بالأنسـان والأرض والموانيء ، كما تستنبط اللوحات الفريدة من أندثارات السنين فيمســـك
أهتزازاتها لتتمحور بخصوصية رائدة في شعره وبلوغ أسمى ما تنتظره الذات الأنسانية ..
*******************
قبل ثلاث سنوات تقريبا" رأيت’ صديقا" لي أمام باب دار الشــــــاعر محمود البريكان ،
ســلمت’عليه وأستفسرت’ عن سبب وقوفه هنا !! .. قال : إنّـي قمت’ بصيانة الدار بالأتفاق
مع شــقيقـة محمود البريكان ـــ التي كانت تعمل مدرســـة في ثانوية العقيدة للبنات ، تروم
تأجيرها كمذخر طبي ، علما" بأنّ الدار هي دار ورثـــــة ـــ ودخلت’ معه بداخلها وصعدنا
سوية إلى الطابق العلوي وشـــــاهدت’ نفـــس الغرفـة التي دخلتها سابقا" قبل وفاة الشاعر،
لكنهـا مقفلة ..، وفكرت’ مليــــا" بالموضوع ، وبعد أيام قليلة ، طلبت’ من ذلك الصديق أن
يتمّ الأتفاق مع شقيقة الشاعر في الأطلاع على محتويات المكتبة وكتابة بحث أو دراســــــة
مســتفيضة عن شعره وأدبه ، لكنها مع كل الأســــف لم توافق رغم الألحاح الشديد .. وفي
شهور قليلة أعلمني صديقي على نقل كافة محتويات المكتبة من الدار ..
الشاعر محمود البريكان يقص علينا قصة سلسة بعيدا" عن التهويمات والغموض فــي
قصيدة رائعــة بعنوان ( البدوي الذي لم ير وجهه أحـد ) :
لعلك يوماط سمعت عن البدوي العجيب
الذي كتب الله أن لا يرى وجهه أحـد
وجهه الأول المستدير البريء
الذي غضّنته’ المهالك وأفترســته الحروب
وخطت عليـه المآسي علاماتها .
نمت طبقات الزمان
على جلده .. فهو لا يتذكر صورته
صورة البدء
مستغربا" في مرايا المياه ، ملامحه الغامضة
أنا هو ذاك
أنا البدوي الغريب يجوب البوادي
ويطوي العصور ويعبر جيلا فجيلا"
إلى آخر الأزمنـة
أنا البدوي الذي لفظته الصحارى
الذي رفضته القصور
الذي أنكرته الشموس
الذي أنطفأت جذوات النجوم
على محجريه
أنا البدوي المحمل بالأوبئة
بذكرى الجنان التي أندثرت
والبراري التي دفنتها الرياح
( جزء من القصيدة )
وليس هناك غير كابوس واحد ، هو مشـــهد الدم عندما يسيل على الأرض جراء خنجر
غادر من يـد ذليلة ، طالما الشاعر أكرمها بالعطاء والعطف والشفقة ..!!

















د. حاتم الصكر - أقاويل الجملة الشعرية وتأويلها



من بين منجزات الحداثة غير المنظورة، أو المحتسبة إيجابا لها، اعادتها هيبة علامات الترقيم داخل الملفوظ الشعري، واستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة، وبالمغيب أو المسكوت عنه خارج النص، من جهة أخرى.
إذ لم يكن لهذه العلامات قبل التحديث الشعري الذي بدأ بشعر الرواد - النصف الثاني من أربعينيات قرننا تحديدا - أي وجود. فقد اختصت بالنثر، وهُمشت شعريا لصالح سياق القصيدة البيتي. أي المنبني على أساس وحدة البيت واستقلاله. فليس من مكان لوقف أو استفهام أو تفصيل أو فاصل صمت أو تعجب، إلا ضمن وقفة البيت العروضية والتقفوية التي جلبت معها - لتقوية كيانها البيتي المستقل - وقفة معنوية بمعنى أن جرس القافية إيذان بانتهاء وحدة شعرية مستقلة وزنا وإيقاعا ومعنى. وما يظل من تدوير أو ترابط هو في بعض التصنيفات الموسيقية التقليدية ليس إلا خطأ فادحا يدل على عجز الشاعر أو غفلته أو خروجه على المألوف، لما يمثله اعتداؤه على استقلالية بنية البيت الشعري من تجاوز للذائقة. وهي ذائقة تكونت في ظل حاضنة شفافية، كان مبررا تماما على وفق نظامها السمعي على مستوى التلقي والإلقائي على مستوى الإرسال والبث، أن تحتاج لما يسور وحدة البيت ويصونها كي يصبح استيعاب المعنى والألفاظ ممكنا، ومتفقا مع الوظيفة العضوية لعاملي الإرسال والاستقبال (اللسان - الأذن).
وبهبوب رياح التحديث، تغير موقع المتلفظ والمتلقي معا. وصار للعين مسرح ضاج حافل بالموجودات المكتوبة على سطح الورق. وكان الامتداد المعنوي، بسبب سعة الدلالة ولا نسقيتها ومفاجآت القصيدة النامية بلا نظام صارم، يفيض عن وحدة البيت، ليقترح بناء سطريا جديدا، يتطور لاحقا الى الجملة الشعرية بنوعيها: الكبرى ذات الهيمنة على البناء والدلالة والايقاع والتركيب، والصفري ذات الوجود الفرعي الخادم لوجود الجملة الكبرى، والمتنوع على وحدتها، والمتعدد على مركزيتها أو بؤرتها المولدة. بهذا التراتب التاريخي الذي هو حصيلة تطور نوعي لا زمني وناتج وعي لا تقليد أو وراثة، صار للشكل الشعري ثلاثة تشكلات رئيسية تتدرج كالأتي:
وصار لزاما على القاري؟ المتعين كتابة لا مشافهة، أن يجدد لا ذائقته فحسب، بل ذخيرته النصية. فيهجم على النصوص لاحتوائها واستيعابها بما يجهز به نفسه من عدة كتابية تناسب السطح الذي تطالعه عليه القصيدة. صار على هذا القاريء البصري أن يتأمل دلالات علامات الترقيم وأن يجدد نظرته الى التقفية والتكرار، والمطالع والخواتم وما بينها، ليتسع أفقا كي يلتهم أبعاد النص ويتمثلها قراءة وفحصا وإدراكا.
وإذا كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد نقطة النظر الى شعر البريكان ضمن سياق الحداثة التي ينتمي اليها في ذاكرة الشعر العراقي وخارطته، فإن شعر محمود البر يكان - وهذه مناسبة ثانية - هو شعر قراءة بصرية لا مشافهة وسماع. وعلى هذا الأساس سوف نتفحص عنايته بتوزيع الأسطر الشعرية لصالح الجملة الكبرى وتفريقاتها الصغري، ولكيلا نفترض التقاويل والتلفظات سنعمد الى مسودة إحدى قصائده (غياب الشاشة) 1990 - ونتأملها بخطه لنرى وعيه بالمكتوب ومادية الورقة وصلتها بالعبارة الشعرية.
ما يتيحه (غياب الشاشة) إذن هو اتصال بصري بنص حديث لنرى قصائده وحبائله وملاطفاته ونكته وحكمته ونزقه.. لنرى وجوده طه مختبئا وراء الصوغ الشعري المتقدم في جمل حية ذات فواصل ونهايات ومتن وبدايات واعتراضات واستطالات وقطع بالغ الحدة واستئناف غريب المبتدأ.. غريب المنتهى غريب المسار.
في قصيدة (غياب الشاشة) لمحمود البريكان، يطالعنا الوجه السطحي المقروء للنص، أو هيئته الخطية بثلاثة مقاطع تفصل بينها نقطتان سوداوان أرادهما الشاعر علامتين على الانتقال من المقطع الأول الى الثاني ومن الثاني الى الثالث. وهذا البناء المقطعي بعض أقاويل التحديث وفذلكاته سواء أجاء كما في هذه القصيدة من دون ترقيم، أم جاء مرقما بأرقام أو مسلسلا بأحرف وما شابه. وليس البناء المقطعي هنا عبثيا. إن النقطة السوداء تعلن نهاية حركة وموقف يشملها المقطع، وتمهد لحركة وموقف يليانه، ولابد أنهما متغايران على مستوى التركيب والدلالة، وهذا ما حققته قصيدة البريكان. فقد كان مقطعها الثاني تثبيتا يقدم مشهدا حاضرا. بينما كان الأول ينقض كذلة تصوير على كسرة مشهدية ليرينا المكان أو مسرح الأحداث بجملة صغري تمتد على خمسة أسطر، ثم يذهب الى الماضي مسترجعا ماضي القاعة كلها من خلال الشاشة (التي كانت.. وسط هذا الدار). أما المقطع الثالث فهو استعادة لفراغ الشاشة من المعروضات والخروج الى الدلالة الصريحة (انطوى مهرجان الحياة).
على هذا الأساس تنقسم القصيدة الى ثلاثة مقاطع ظاهريا. لكن تقنية جملها الشعرية التي لا تلتزم بحدود السطر الشعري ترينا وجود أربعة انتظامات مقطعية واضحة التباين هي:
1- مقطع المكان - مسرح الأحداث والاستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية. ويبدأ من
(مخزن الأمتعة) الى (كغبار).
2 - مقطع الحضور الغيابي أي استحضار الشاشة الغائبة الآن، لتحول القاعة السينمائية الى مخزن عاديات قديمة. (هاهنا كانت الشاشة الساطعة) الى (والدموع).
3 - مقطع تثبيتي يهدف الى تكريس مقطع المكان، لكنه يتنوع على فراخ فلسفي أو وجودي (للمكان روحه الصامتة) الى (متعلقة بالدار).
4 - مقطع السؤال المصيري الذي يبدأ دلالة في السطر الخامس (من يرى يتذكر؟) الى (حين تضاء المصابيح ثانية). فالشاعر قدم اللحظة على السؤال بنائيا.
إن المقاطع الأربعة المستنبطة بالقراءة الثانية المدققة بالعلاقات والارتباطات وكذلك بالانقطاعات والفصل البنائي والدلالي تجسد كلها ثنائية (الماضي / الحاضر) التي هيمنت على النص كله. وسنرى أن الجملة الشعرية الكبرى وتفريعاتها موظفة هي الأخرى لتجسيد دلالات هذه الثنائية التي بهظت روح الشاعر ووجوده حتى جعلته يتخلى عن حيادية التصوير التي عرف بها وخروجه من المشهد الشعري وتغييب الأنا - أنا الشاعر - لصالح أنا النص ووجوده ؟ وهي أسلوبية خاصة بالبريكان لازمت تعبيراته الشعرية منذ البدء. فدوما هناك راو أو سارد أو مصور مختف وراء الروي والسرد والتصوير. إنه يعرض علينا ما يرده سينمائيا دون تعليق. وهذه الميزة جعلت البريكان متناسق الأداة والهدف في هذا النص، مجافيا - كعادته - أية غنائية من لوازمها هيمنة الذات وعائدية الضمائر والأفعال لها. لكنه في هذه القصيدة بالذات يتخل عن حياد يته في الأسطر الشعرية الثلاثة الأخيرة حين تساءل خارج سياق الشاشة ووجوهها المضيئة ومشاهديها عن الناس هل غادروا (أحلامهم) لا مكان العرض وحده.. وفسر ذلك بالسؤال أيضا عن تلاشي مهرجان الحياة كتلاشي الظلال على شاشة خالية. وكأنه جاء بالمعادل الرمزي المساوي لخلو الشاشة وفراغ القاعة فصار:
تلاشي ظلال الشاشة الخالية
انطواء مهرجان الحياة ومغادرة الناس
إن هذا البوح الدلالي ربما أضر بإيقاع النص المعتمد على حيادية إيهامية. فالشاعر لا يقف محايدا ازاء الحياة والموت، امتلاء الشاشة وفر اخ القاعة. لكنه اكتفى بالتستر وراء المويتفات الحزينة والجارحة، الحادة بفعل التذكر ويقظة الذاكرة. أما النهاية فقد جاءت اقتحامية اقحامية. هجم الشاعر على المشهد وسأل سؤاله الحاد فأقحم وعيه في صمت الأشياء وغبارها ورمادها.
تعرفنا حتى الآن على ثنائية وثلاثة مقاطع ظاهرية وأربعة مقاطع دلالية. ونصل عند هذه النقطة الى التعرف على الجمل الشعرية. لنجد أن العنوان (غياب الشاشة) هو من النوع المباشر المعبر عن المحتوى. إنه عنوان استباقي أي انه يحكي ما سيجري ويرشدنا الى بؤرة الحدث فكل ما سنقرأ هو عن (غياب الشاشة). وجمل النص الأخرى هي تفريعات تنويعية لهذا الغياب. إن الشاشة ذات وجود محير. فظلامها انتهاء وضوؤها إعلان عن بدئها وحياتها.لكنها لا تضيء إلا وسط ظلام القاعة. إن الظلام المطبق إشارة الى بدء توهج الشاشة. فهل أراد البريكان باستحضار هذه الثنائية أن يذكرنا بخروج الحياة من العدم أو لزوم العدم لوجود الحياة وانبثاقها؟
لقد تسبب هذا الازدواج بأزدواج دلالي محير. فالشاعر يعد الفراغ التالي لانتهاء العرض مساويا للإضاءة التي تعني النهاية. فخروج المشاهد مقترن بالضوء الذي ينتزعه من تماهيه بالمرئيات على الشاشة. فتحقق على مستوى الترميز شيء مزدوج هو:
■ إضاءة القاعة = فراغ الشاشة + غيابها
بمقابل: · عتمة القاعة = امتلاء الشاشة + حضورها
يترتب على ذلك سؤال يتصل بالتلقي: أيكون غياب الشاشة وفراغها بالضوء مساويا لغبار القاعة وتحولها الى رماد من الذكريات والأشياء العادية ؟
إن الجمل الشعرية التالية للعنوان كلها تجيب على هذا السؤال وتكرس الثنائية الكبرى أعني ثنائية الماضي /الحاضر أو الحياة / الموت أو الحضور /الغياب.
تعرفنا هنا على ثنائية كبرى إذن وتنويعاتها الداخلية الثانوية. كما تعرفنا على جملة كبرى يلخصها العنوان وتشتغل القصيدة كلها من أجل تكريسها منذ السطر الأول حتى علامة الاستفهام التي ختمت السطر الأخير من القصيدة وصار المخطط التجريدي للنص واضحا بتعيين الجمل الصغري وهي بالتتابع:
- جملة (مخزن الأمتعة..)
- جملة (للمكان روحه الصامتة..)
- جملة (هاهنا كانت الشاشة الساطعة)
- جملة (من ترى يتذكر؟ لحظة تتصاعد..)
- جملة الختام - السؤال الذاتي الإقحامي: وهل غادر الناس.. وانتهوا وانطوى مهرجان الحياة ؟ تتخللها كلها وتخترقها وتطوها جملة النص الكبرى (-جملة العنوان): غياب الشاشة. إن البناء الجملي الحقيقي (- النحوي/ مؤسس على الاسمية. فالجمل لدى البريكان اسمية أي أنه يتخذ هيئة المخبر عن الأشياء لا الفاعل وهذا يناسب مقام الدلالة، فالتلفظ بالاخبار يوافق تماما موضع الشاعر كسارد للنهاية: نهاية الشاشة والقاعة والحياة والماضي. هنا لن تقوم الأفعال إلا بدور ثانوي لذا نجدها مكملات لا أساسيات. أي أنها تستخدم لصوغ الخبر أو الحال أو الصفة لا لتترأس الصياغة وتتقدمها لبناء الحدث.
حتى البناء الجملي الفعلي يأتي ناقصا أي بالفعل (كان). أما البناء الفعلي التام فهو تابع للاسم مثل:
1- الشعاع الذي يتراقص...
يموج... [صلة الموصول + خبر]
2- السكون
وحده يتنفس [خبر]






صلاح نيازي محمود البريكان محاولة أولية للتعرّف عليه


وُلِدَ محمود البريكان عام 1931 بمدينة الزبير لأبوينْ نجدييْن. كان والده تاجرَ أقمشة، ومعروفاً بثرائه. امتلك بيتيْن فخميْن واحداً بالبصرة وآخر بالزبير. لمحمود ستة أخوة، وترتيبه الثاني بينهم، بعد الأخت الكبرى خاتون، وكانت أوّل معلمة زبيرية بالزبير. أُعْجِب محمود في صباه، بجدّه لأمّه، واسمه «أحمد الخال». كانت له مكتبة بيتية كبيرة تضم بالإضافة إلى المراجع، المجلاّت والدوريّات. إلى ذلك كان عضواً في مكتبة الزبير الأهلية. تعرّف محمود في الغالب، أوّل ما تعرّف، على الكتاب عن طريق جدّه. طالما تردّد على هذه المكتبة، وطالما استشهد بأقوال جدّه.
لا نعرف إلاّ النزْر القليل عن سنوات دراسة محمود بالبصرة، ما عدا ما ذكره محمود عبد الوهاب عنه، يوم كانا في الصفّ الثاني المتوسط. قال: انتزع المدرّس عن قصدٍ مسبق، دفتراً بغلاف أنيق من بين مجموعة دفاتر الإنشاء التي بين يديه، ونادى:
– محمود داود البريكان
«نهض من مقعده في الزاوية اليسرى من الصفّ، طالب معتدل القامة، يتدثر بمعطفٍ خفيف. مشى نحو المدرس إزاء السبورة. ناوله المدرّس الدفتر، وطلب منه أن يقرأ الإنشاء الذي كتبه. فجأة أصبح الصفّ مكاناً آخر، وارتعشت في وجوهنا كلماتُ محمود وصورُهُ وجملهُ كأنها تتواثب تحت جلودنا…»
قد نقرأ فيما ذُكِر أعلاه نبوغاً صغيراً مبكراً، ولكنْ مما يلفت النظر، ما ورد في وصف دفتر الإنشاء بأنّه ذو «غلاف أنيق». هل كان البريكان يهتمّ بالشكل اهتمامه بالمضمون وربّما أكثر؟ سنرى ذلك فيما بعد. ما بين عام 1950-1951، أُصيبت تجارة الوالد بنكسة. هل لهذه الحادثة أثرٌ في شعره؟
هل كانت منعطفاً نفسيّاً في حياته، بحيث جعلته ينكبّ على الكتاب؟
ما علاقة الابن بالأب؟ هل كان الأب ذا سطوة مستبدة داخل البيت، بحيث أصبح القصر – على فخامته- سجناً من نوعٍ ما؟ ولماذا ألحّ البريكان على تصوير السجناء، وهو لم يدخلْ سجناً؟ يقول رشيد ياسين:»شغلتْ مسألةُ السجن، والأهوال التي يلاقيها المسجونون فكرَ البريكان إلى الحدّ الذي جعله يعود إليها ليعالجها في شعره مرّةً بعد مرّةً حتّى بدا وكأنّ الأمر من الاستحواذ المضني. ومَنْ يقرأْ قصائد البريكان حول هذا الموضوع والمنولوجات الدرامية الفريدة التي كتبها على ألسنة بعض السجناء يصعبْ عليه أنْ يُصدّق أنّ هذا الشاعر لم يدخل السجن، وأنّ هذا الوصفَ الدقيقَ الموجع لمعاناة السجين وأحاسيسه وأفكاره، إنّما هو نتاجُ قدرةٍ فائقة على استبطان مشاعرالآخرين وتمثّلها…» للبريكان، لا شكّ، «قدرة فائقة» على استبطان المخلوقات الحيّة، وقد تطوّرت في سنوات النضج الثقافي، إلى استبطان الجمادات. لكنْ هل كان البريكان يصوّر سجناً وسجناء، أم بيئة مغلقة، وحصاراً نفسياً، وإحباطاً؟ المعروف أنّ البريكان درس القانون في كلية الحقوق، لمدّة سنتيْن، على غير رغبة منه. انصبّ همّه على دراسة الفلسفة، ولكنّه أذعن إلى مشيئة والده، في البداية، ثمّ ترك الدراسة. يبدو أنّ كشف علاقة محمود بأبيه ضرورية في أية دراسة أكاديمية، لأنها تلقي ضوءاً جديداً على معظم المفهومات الغامضة التي تشيع في قصائده المهمّة.
قبل الانتقال إلى مرحلة تالية، ينبغي ذكر أمر يبدو ذا أهميّة خاصّة. فقد كان لمحمود مكتب فخم نسبياً ومنعزل داخل البيت. في هذا المكتب، عُدّة كاملة من أدوات الخطّ والرسم. كان محمود خطّاطاً ورسّاماً. نما إلى علمي، إنّه كان ينسخ من كبار الخطّاطين، ويقلّد أو يعيد رسمَ أشهر اللوحات العالميّة الأجنبيّة. قيل لي كذلك، إنه في هذا المكتب كان ينعزل عن ضوضاء أخوته الصغار في الطابق الأسفل. هل كان المكتب يا تُرى صومعة تعلّم فيها محمود الجَلَد والتدرّب على الاتقان؟ هل تعلّم فيه الصمت الخلاّق وما أكثره في شعره. ربما هو الشاعر العراقي الوحيد الذي جعل مادّة الصمت لغة أساسيّة في القصيدة. هل لهذا السبب كان الصخب في شعره لا يعني الضجيج بقدر ما يعني فوضى ناشزة تقطع الانسجام؟
لكن ما ثقافة البريكان؟
ربّما لم يذكرْ أحدٌ من الذين اعتنوا بالبريكان وشعره، شيئاً عن الكتب الأدبية العربية التي كان مولعاً بها، كما لم يسألْه أحد من الذين أجروا معه مقابلات عن ذلك. كلّ ما أخبرونا به بأنّه كان مهتمّاً بالفلسفة، وبالموسيقى الكلاسيكية، وكان معجباً أشدّ الإعجاب بالشاعر الهندي طاغور، الذي يقول عنه : «شاعر حقيقيّ عميق الروح والذين يظنّون أنّه مجرّد وصّاف ينظرون إلى صوره الظاهرة ولا ينفذون إلى روحه». ومن الشعراء الذين أعجب البريكان بهم: «ريلكه يتميّز بتعبيره عن قلق الروح، لوركا لشعره نكهة خاصّة، وطريقته في استعمال الصور بديعة. تي. أسْ. إليوت شاعر يعي موقفه، وفي النماذج الجيّدة من شعره فنّ خاصّ. ومسرحيّته الشعريّة: «مقتل في الكاتدرائيّة» عمل فريد في ميدان صعب للغاية. بابلو نيرودا وناظم حكمت في أفضل حالاتهما يخلقان شعراًّ له أبعاده على بساطته الظاهريّة (وإن كانا في بعض حالاتهما يجنحان إلى النثريّة)، وهناك آخرون. الشاعر الاسباني خمينث الذي يلفت النظر بغنائيته في زمن يكاد يودّع الغنائية. فروست الحميم الرحب كالسهول. باسترناك المنتفض في ثلوج الوحدة. ييتس، باوند، أراغون وغيرهم، وشعراء ما بعد الحرب مثل يفتشنكو. والحقيقة إنني أميل إلى الشعراء الذين يمثلون نوعاً من عظمة الروح الإنسانية، ولا يبهرني التأنّق والاصطناع…» (حوار أجراه حسين عبد اللطيف).
يمكن الاستدلال من التصريحات أعلاه على تنوّع قراءات البركان الشعرية الأجنبية في مرحلة لاحقة في حياته، ولكنْ ما من ذكر لمكوناته الأولى. بالإضافة فالآراء التي طرحها تلذذية مثيرة ولكن قد يصعب علينا أن ندخلها في أيّ باب من أبواب النقد. أما جنوح نيرودا وناظم حكمت «في بعض حالاتهما إلى النثريّة»، فلا يمكن أن يصدر رأي كهذا إلاّ ممن يعرف اللغتين الاسبانية والتركية، لأن السبب قد يعود إلى الترجمة. . بالإضافة إلى ذلك فليست النثريّة عيبا بالمطلق، وإنما قد تكون سبباً أساسياً في جودة النص كما عند شيكسبير وأليوت مثلاً. على أيّة حال، أوّل ما يثير الانتباه في شعر البريكان وكذلك في نثره، عباراته المثقلة برنين سحيق لا يتأتّى إلى أحد إلاّ بعد طول تأمّل وتنقير في الأساليب القديمة، وإلاّ بعد تشبّع بها. يبدو أنّ البريكان، ولا أدري هل كان متديناً أمْ لا، قد استلف من القرآن ثلاثة عناصر أساسية، هي :
1- الظلمات. 2- النور. 3- الرياح.
تكرّرت «الظلمات» و«النور» مرات عديدة جداً في شعر البريكان، وفي كلّ مرّة تقوم بنفس الدور. أي أنها بقيت خاماً لم يصنّع منها شيئاً جديداً. يقول في قصيدة : «عندما يصبح عالمنا حكاية»:
«على الظلمات كانت أرضهم تطفو لغير مدى/ تعاف الشمس دكنتها ويكره جدبها القمرُ/ وعصر النور كان زمانهم، لم تشهدِ «العُصُرُ» / من الظلمات ما شهدا»
(لا يفوتنا أنّ الظلمة في القرآن تقوم بمثابة الرحم الذي يولد منه النور، أو الانبعاث عموماً) أمّا الرياح فقد تطوّرت في شعر البركان من قوّة دينية تدميرية مسيّرة، إلى رمز لانفتاح الجهات ومعها انفتاح الحريّة : «أوثر أن أبقى|على جوادي. وأهيم من مهب ريح| إلى مهبّ ريح» ( من قصيدة عن الحريّة)، وإما أن تكون أمارة من أمارات الخراب الكلّي، كما في قصيدته :
«سقطتْ فنارات العوالم دون صوتٍ. الرياحْ/ هي بعدُ سيّدة الفراغ. وكلّ متجه مباحْ»
المعروف بين النقّاد أنّ أسلوب البريكان في بعض قصائده المجوّدة ذو خصيصة مختلفة عن الشعراء المجايلين له، بغضّ النظر عن أفضليّته على غيره أم لا. من أين جاء هذا الاختلاف؟ من الرسم؟ من الموسيقى؟ من السينما؟
ذكر لي أحد أقرباء محمود المقرّبين، المقيمين بلندن أنّ محمود كان يبعث إليه برسائل، ربما يحتفظ ببعضها الآن، يطلب فيها كتباً فلسفية باللغة الإنكليزية، وكتباً أخرى عن حياة الرسّامين والموسيقيين العالميين، وضمن القائمة أيضاً أعمال موسيقية، وأوبرات مع نصوصها. ذكرنا في أوّل هذه المداخلة، أنّ محمود كان رسّاماً يحاكي لوحات عالمية. كيف استفاد البريكان من الرسم في بناء الصورة الشعريّة؟ في قصيدة :»خطّان متوازيان» يقول البريكان:
«يندفع الرصيفْ/ إلى المدى، حافته الدكناء صخريّهْ
تعكس أضواء رصاصيهْ/ ترسم خطّاً ذاهباً عنيفْ
إلى المدى/ يندفع الرصيفْ/ مندفعاً بألف مصباح لها رفيفْ/ وخضرة في جنّة الليل الخرافيّهْ/ ترسم خطّاً غامضاً خفيفْ/ إلى المدى/ وفوق أرض الشارع الكبير/ ظِلٌّ، وإنسان وحيد يسير»
عالج الشاعر هذه القصيدة _ كما لا يخفي _ كمعالجة لوحة رسم. وهذا سرّ وقوفها بين بين. ما يهمنّا هنا لا نجاحها النسبي ولا إحباطها، وإنّما طريقة البريكان في المحاكاة.
من حيث الألوان استخدم الشاعر: «الحافة الدكناء»، «الأضواء الرصاصية»، «المصباح»، «خضرة في جنّة الليل» «خطّاً غامضاً خفيف»، و«ظلّ».
أمّا التعابير التي تدلل على أنّ الشاعر تعامل مع القصيدة كلوحة في أتّون التشكّل، فهي مثلاً: «يندفع الرصيف، إلى المدى». الرصيف لا يندفع، ولكنّ الخطّ المرسوم على اللوحة هو الذي يمتدّ باندفاع إلى عمق المدى. وما انعكاس الأضواء الرصاصية على حافة الرصيف الداكنة، إلاّ تفاعل الألوان وتداخلاتها داخل اللوحة. بالإضافة إلى تعبيري: «ترسم خطّاً ذاهباً»، و«ترسم خطّاً غامضاً خفيف». تحرّكت اللوحة برفيف المصابيح لأنّ برفيفها ستتغيّر الأشكال والظلال، ويسير الإنسان الوحيد.
ازدادت الأبيات غموضاً، والغموض عنصر أساسي في كلّ عمل فنيّ عميق، في جملة: «في جنّة الليل الخرافيّة». هكذا أدخل الشاعر عنصراً تأريخيّاً بدائياً، فتوسّعت الحيرة، ولا سيّما أنّ القصيدة تنتهي بإنسان وحيد يسير. لماذا كان وحيداً؟ من أين جاء؟ وإلى أين ذاهب؟ وهل عنوان القصيدة: «خطّان متوازيان»، يدلّ على طول المسافة، وإلى أنّه لن يصل إلى شيء؟.
ما تقدّم أعلاه مجرد افتراضات، مع ذلك لا بدّ من إضافة افتراض آخر. ما علاقة هذه القصيدة بلوحة الرسّام الهولندي Miendert Hobbema (1638-1709) المعنونة: «الطريق في ميدلهامس» التي وُصِفتْ بأنها: «من أكثر اللوحات شهرة في العالم». في هذه اللوحة طريق تصطفّ على جانبيه أشجار عالية نحيفة الجذوع بلا أغصان ولكنّ رؤوسها متعرّشة بالأوراق الداكنة الخضرة. الطريق يواجه المشاهد بخطّينْ متوازييْن. الخطّان عريضان في البداية ولكنهما يوهمان أنهما يقتربان من بعضهما كلّما ابتعدا وكأنهما سيلتقيان في النهاية، ولكن هيهات. شَبّه النقّاد، انحدار اصطفاف الأشجار بانحدار أعمدة التلغراف. هذه اللوحة معروضة في الـ NATIONAL GALLERY بلندن، وهي موجودة عادة في دليل المتحف.
الاختلاف بين قصيدة البريكان وهذه اللوحة هو الاختلاف بين ثقافتين أو بيئتيْن. جعل البريكان الرصيف صخريّاً لا تدري من أين يبتدئ ولا أين ينتهي وكأنّه شارع مبلّط في صحراء. ما من مخلوقات لحميّة أو نباتية، ما من وبر أو شعر أو ريش، وحتى ما من سماء، لأنّ البريكان عتّمها بدليل وجود المصابيح. رفيف المصابيح ذاته يذكّر برعب مصابيح هيتشكوك المتحركة في المواقف المفزعة. بهذه المثابة قلّص البريكان المشهد حتى يزيد من وحدة ذلك الإنسان السائر، وكأنّ الدنيا ستطبق عليه.
أمّا لوحة «هوبيما» فمعنية بمادّة الحياة والإخصاب والسموّ الروحي. إنها قبل كلّ شيء، معنيّة بالنموّ. في هذه اللوحة تقف أنت كمُشاهد في وسط شارع ترابي طازج إنْ صحّ التعبير، عليه بقايا نداوة. النداوة بحدّ ذاتها إخصاب من نوع ما، بعكس قصيدة البريكان المعنية بالتقلّص. إلى يمين اللوحة رجل، يشذّب أشجاراً، أقصر من قامته، إنّه بلا شكّ يهيّئها لحياة أفضل، وفي الوقت نفسه يجدّدها. بعد ذلك، نرى منعطفا ًإلى اليمين يقف في بدايته فتى وفتاة في حوارهامس عميق، لأنّ رأسيهما متقاربان وخلفهكم بيت. إلى الشمال نرى من بعيد كنيسة، وبها أعطى الرسّام قيمة روحية للمشهد. هذه القيمة الروحية تمثلت بثلاثة عناصر. أوّلاً علو الأشجار الذي دلّل على علوّ السماء، ذلك لأن الأشجار المتوازية على الجانبين قريبة من المُشاهد فلا بدّ له أن يرفع رأسه ألى أعلى حتى يراها. وثانياً ما أن يرفع راسه حتى يرى غيوماً بيضاء متفرقة عالية جدّاً، ومعها نوارس شاهقة وصغيرة فوق سمت الرأس تقريباً. لوحة تتغنى بالإخصاب بأعمق هارمونية، وأثرى تواشجاً. قبل أن ننسى، في الشارع الترابي النديّ يقابلك من بعيد رجل يمشي بتوءدة مع كلبه. الكلب لا ينظر إلى الأمام وإنما هو ملتفت إلى شماله صوب الفتى والفتاة. ولأنهما سيمرّان بك فلا بدّ أن الطريق الترابي سيمتدّ خلفك أي أنّه طريق مفتوح، وكأنّ الحياة لا نهاية لها.
يمكن القول إنّ السينما هي المصدر الثاني لثقافة البريكان. المعروف أن معظم الشعراء العراقيين الشباب في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، تأثّروا، بصورة أو أخرى، بالأفلام السينمائية. كان على رأسهم عبد الوهاب البياتي. ولأن البياتي لم تكن التقنية من همومه، لذا اقتصر تأثره على المشاهد البصرية. بمعنى آخر لم تكن تعنيه صناعة الفيلم : إخراجاً وتمثيلاً، وتصويرا. البريكان على العكس. كان يتابع – بفضل لغته الإنجليزية – المجلاّت الأجنبية، ويقرأ آراء النقّاد في مختلف صناعة الفيلم. يقول عيسى مهدي الصقر : «أتذكّر جلساتنا في السينما. الصالة المعتمة ومحمود يجلس بجواري صامتاً، أو يتكلّم همساً حتّى لا يزعج الآخرين…وكان إذا اثارته إيماءة بارعة لممثل أو ممثلة، أو مشهد ينمّ عن ذكاء في الإخراج تحرّكت يده، لتضغط على يدي معبراً بحركته الصامتة الخفيّة هذه، عن إعجابه بما يرى». وهذا شاهد آخر من أهلها، يوم كان البريكان يسكن بالكويت لمدة ثلاثة أعوام مع أقربائه، وله جناحه الخاص. روى الشاهد لكاتب هذه السطور، قائلاً :»بأننا كنّا نتحلّق حوله صغاراً وكباراً، لا ليروي قصة فيلم، وإنّما ليحلّل كلّ صغيرة وكبيرة في الفيلم، ويعلّق بدقّة على اللقطات المهمّة فيه». كيف انعكس هذا التدقيق التحليلي في صوره الشعرية؟ لننظرْ قليلاً في قصيدة «حارس الفنار» التي تعتبر من أهمّ قصائده، ومن أكثرها غموضاً. لكنْ قبل ذلك لنتعرّفْ على بعض ما قاله بعض النقّاد عنها.
يرى عبد الرحمن طهمازي في كتابه: «محمود البريكان دراسة ومختارات»، أنّ ما قاله البريكان في تضاعيف هذه القصيدة من أنّ: «الرياح/هي بعد سيّدة الفراغ»، «تطلّب أن يكون المشهد مرئيّاً من الذروة :الفنار تجهّزنا بشعور لا يقلّ هيبة عن عزلة الرقيب المعاقب، هو زمهرير الوحشة. ففي الذرى يظهر الشاعر الحديث وحيداً لا يتقبّل المواساة، ولا تعنيه المسامرة، متمكناً من المشهد المتوالد حتّى أقصاه، وبصيراً بما هو حيّ، وبما كان حيّاً، وبما تطبخه الظلمات من أحياء لمستقبل ظالم الشهيّة…»
هذا كلام فيه استطرادات لفظيّة بعيدة عن النصّ المبحوث.
أمّا حاتم الصكر فيعتبر «صورة (حارس الفنار) قناعاً للرائي المنتظر وهو يراقب الأفول القادم. لكنْ مراقب ومستهدف في آن واحد. أراد أنْ يعتصم بعزلته ليرى. تاركاً للرياح (السيادة على الفراغ) بينما يتلهّى هو بإعداد المائدة وتهيئة الكؤوس متسائلاً:
. . متى يجيء / الزائر المجهول؟
ولا يمكن أنْ تُخطئ العين هذا الزائر (الآتي) الذي يجيء (بلا خطى) ويدقّ على الباب ليدخل (في برود). إنّه (الغامض الموعود)الذي يناجيه الشاعر بغنائية حادّة تشف عنها الصفات الكثيرة، الزائدة أحياناً أو المسوقة بهاجس التوكيد الذي يعكس الخوف من عدم الخوف أو التشخيص».
أوّلاً لم يكن حارس الفنار مراقباً وإنما كان ينتظر. ما من لفظة تدلّ على المراقبة، ولكن يبدو أن الجوّ البوليسي الذي كان الناقدان يعيشان تحت وطأته هو الذي أوحى لهما بالمراقبة. ثمّ إنّ القصيدة ليلية تنعدم معها الرؤيا. الظلام هنا كالظلمة القرآنية بمثابة رحم وكأن مجيء الزائر أشبه ما يكون بمخاض عظيم ولكنّه لا يخلو من مخاطر.
يقول الصكر كذلك: «تاركاً للرياح (السيادة على الفراغ) بينما يتلهّى هو بإعداد المائدة وتهيئة الكؤوس». كيف يتلهّى؟. الراوية انتهي من إعداد المائدة وتهيئة المائدة أوّلاً ثمّ راح ينتظر بعد ذلك:
«أعددت مائدتي وهيّأت الكؤوس متى يجيء؟
من ناحية أخرى، فإنّ توقيت: «متى يجيء»، دقيق. أي أن إكمال عدّة الضيافة يدلّل على تلهّف حارس الفنار لوصول الزائر. بهذه الحيلة الفنّية شدّ البريكان قارئه معه بالترقّب.
يقول حاتم الصكر أيضاً : «ومن فناره يراقب الحارس حركة العالم وهذا تلخيص فذّ لموقف الشاعر وهو يطلق كائناته الشعريّة في بحر غامض ويراقب حياتها المحفوفة بالخطر، مكتفياً بعزلته، نادماً على أنّه أسلم مولوداته لهذا المصير المجهول، فراح يعاقب ذاته بتذكيرها بمصيرها». قبل كلّ شيء، ما من «حركة للعالم في القصيدة/ وثانياً ما هي الكائنات الشعرية التي أطلقها حارس الفنار؟. وما دامت غير موجودة فكيف يراقب حياتها المحفوفة بالخطر؟ أكثر من ذلك ليس في القصيدة ندم، وما من عقاب.
حاتم الصكر –على اجتهاده – ضحية بيئته. بيئة عدوانيّة مدعاة للهلع. راكدة. متطيّرة. تأثّر بمصطلحاتها فأفسدت عليه نظراته النقديّة. هذه قبصة مما استعمله من مفردات: يراقب، الهاجس، الخوف، يطلق، حياة محفوفة بالخطر، مكتفياً بعزلته، (إذنْ لماذا كان يراقب حركة العالم)، المصير المجهول، يعاقب ذاته…» تلك مصطلحات تنطبق أكثر ما تنطبق على بيئة سياسية متردية، لا على حارس فنار رمزي، ذي موقف فلسفي.
وجد طرّاد الكبيسي «في (شخوص) قصائد البريكان شخوصاً «مهزومة بالمعنى الاغترابي». ما المعنى الاغترابي؟ ثمّ عدّد أنواع الانهزامات في جملة من القصائد، سياسياً، واجتماعياً، ومدنياً أو مدينيّاً، أو مهزومة في غربتها. وحينما وصل إلى قصيدة حارس الفنار قال: «مهزومة في انتظارها، انتظار الذي يأتي».
لكنْ ليس في قصائد البريكان انهزام من أيّ نوع كان. لو ألقينا نظرة على نهايات قصائد البريكان/ لوجدناها في الغالب مفتوحة، وكأنّ قلقها مستمر وحيرتها متواصلة. ربما الأقرب إلى الصواب القول إنّ راوية القصيدة البريكانية :محبط بمعناها الإنجليزي Frustration وهي حالة اليأس الذي ما يزال فيه أمل، أو أمل يشوبه يأس.
قبل الدخول إلى مقوّمات هذه القصيدة المجوّدة، لا بدّ من الاعتراف، بأنّها تذكّرني، بقصيدة مشهورة عنوانها: «بانتظار البرابرة Waiting for the Barbarians للشاعر الإغريقي C. P. Cavafy. وفيها انتظار غريب من نوعه، يشترك فيه حتى الإمبراطور الذي استيقظ فيه مبكّراً لاستقبال أعدائه. ها هو الإمبراطور يجلس عند بوّابة المدينة الكبيرة، على كرسيّ عرشه، ويلبس تاجه رسميّاً. المستشارون كذلك، يرتدون حللهم الحمراء في انتظار البرابرة. لا يتغيّب من حفل الاستقبال هذا إلاّ الخطباء، لأنّ البرابرة يملّون من البلاغة وإلقاء الخطب. إلاّ أن الناس ينفرطون إلى بيوتهم مهمومين، لأنّ الليل قد حلّ، ولأن الرسل عادوا من الحدود وذكروا أنّ البرابرة غير موجودين. تُختتم القصيدة بهذيْن البيتيْن :
«والآن ما الذي سنكون عليه بدون البرابرة؟ –
كان هؤلاء البرابرة حلاّ من نوعٍ ما»
في قصيدة البريكان حارس الفنار انتظار لشبح يكون حلاّ من نوعٍ ما. ولكنْ مَنْ هذا الشبح؟ هل هو من مادة بشرية؟ أم ماذا؟ يبدو أنّ حارس الفنار رمز للشاعر الذي يهدي الآخرين، ولكنّه الآن هو نفسه على وشك الانطفاء كغروب آلهة فاغنر، وهولدرلين. تبدأ القصيدة على إيقاع بحر الكامل. جليلَ التفاعيل فخماً. إيحاءً بجلال المناسبة وفخامة الضيف:
أعددتُ مائدتي. . وهيّأتُ الكؤوس. . متى يجيء
الزائرُ المجهولُ؟
أوقدتُ القناديل الصغارْ
ببقيّة الزيت المضئِ
فهل يطول الانتظار؟»
قد نسمع موجاً بإيقاع أعددتُ مائدتي،ولاسيّما بتكرار حرف الدال، ولكنْ من وراء ستار أو جدار، لأنّ القناديل لا تصمد أوّلاً أمام الرياح لصغرها، وثانيا لأنّ الزيت على وشك النفاد. بهذه المثابة وضعنا الشاعر في حالة تأزّم وترقّب. أي أن الشاعر أدخل هنا، بحذق، عنصر الزمن الذي ارتبط بالقناديل وزيتها. من هنا تأتي أهميّة قوله: «فهل يطول الانتظار؟»
ما الذي يريد البريكان قوله في هذه القصيدة؟ هل حلّ الخراب التام في المدينة أو في الحضارة عموماً، بحيث لم يعُدْ للشاعر من دور، وها هو ينتظر سفينة الأشباح : «ليغيب في بحرٍ من الظلمات ليس له حدود». في تلك اللحظات الحاسمة تمرّ في ذهن حارس الفنار مشاهد مرعبة لما مرّ في هذا العالم من خراب. لكنْ في المقاطع التالية ينفضح أمر حارس الفنار لأن له صفات خارقة لا يتمتع بها بشر:
«أبصرتُ آدمَ في تعاسته، ورافقتُ الجيوشْ/ في أضخم الغزوات، نُؤتُ بحمل آلاف النعوشْ/ غنّيْتُ آلاف المواسمِ. همتُ في أرض الجمالْ/ ووصلتُ أطراف المحالْ/ ورأيتُ كيف تُدَمّرُ المدنُ المهيبة في الخفاءْ/ شاهدتُ ما يكفي. وكنتُ الشاهدَ الحيَّ الوحيدْ/ في ألف مجزرة بلا ذكرى/ وقفتُ مع المساءْ/ أتأمّل الشمس التي تحمرّ. كان اليوم عيدْ/ ومكبّرات الصوت قالت : كلّ إنسانٍ هنا/ هو مجرمٌ حتى يُقامَ على براءته الدليلْ»
يبدو أن البريكان يتحدّث عن مفهوم الشاعر الذي لا يموت. الشاعر ساعة يكون شاهداً في كلّ العصور. حتى في ًالمدن الخفيّة في البحار». يتحدث عن الأموات، كما يتحدث عن النياشين وأسلحة القراصنة، وسبائك الذهب، وجدائل الشعر والأصابع المحطمّة النحيلة. هذه الرحلة البحرية أشبه برحلة فاغنر البحرية، ولكن بدون التفتيش عن الخاتم. (يبدو أنّ البريكان متأثر ببحار فاغنر وهي بلا شك أغرب بحار) قد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند نهاية القصيدة :
«أنا في انتظار اللحظة العظمى/ سينغلق المدار…/ والساعة السوداء سوف تُشَلُّ تجمد في الجدارْ/ أنا في انتظار/ والساعة السوداء تنبض – نبض إيقاعٍ بعيدْ/ رقّاصها متأرجحٌ قلِقٌ يميل إلى اليمينْ/ إلى اليسارْ/ إلى اليمينْ/ إلى اليسارْ/ إلى اليسار»
كان راوية القصيدة في البداية، قد أعدّ المائدة، وهيّأ الكؤوس، فلا بدّ أنّ حاسّة سمعه كانت في أقصى تركيز بفضل الظلام. أمّا في المقطع أعلاه فتخفت مع: «يشلّ» و«يجمد»، ثمّ بتشبيه نبض الساعة بنبض إيقاعٍ بعيد. بهذه الوسيلة الفنيّة تصعد حاسّة البصر، وهي قلِقة ومستوفزة. إنّها الآن متسمرّة على رقّاص الساعة. الزمن بكلمات أخرى هو سيّد الفراغ في نهاية المطاف، ومن قبل كانت الرياح سيّدة الفراغ. لكنْ لماذا كرّر : «إلى اليسار» مرّتيْن؟ هل تعبت عيناه من ملاحقة رقّاص الزمن، فترك نقطة اليمين وركّز في نقطة واحدة. (هذا إذا لم يكنْ في الصورة دلالة سياسية).
قبل الانتقال إلى أخطر مرحلة شعريّة في حياة البريكان، قد يكون من المفيد، رسم صورة شخصيّة له من خلال ما كتبه عنه بعض الذين عرفوه شخصيّاً.
ذكر رياض إبراهيم :»منذ البداية كان البريكان متألّقاً ضاجّاً بالشعر والحياة، حتى وهو في ملكوت الصمت والاعتكاف… جمعتني وإيّاه جلسات طويلة وكثيرة. كنت أرقبه خلالها فأجده قلِقاً لا يعرف الاستقرار، مرهفاً حسّاساً تؤرقه كلمة في نهاية شطرٍ ما من إحدى قصائده، منشغلاً دائماً بهندسة الفراغ الأبيض للقصيدة لِتُشكّلَ بالتالي نقطة واحدة في كينونة الشاعر المتوحّد…» (الملف، ص91).
يذكر رشيد ياسين : «كان البريكان يوم التقيته أوّل مرّة، فتى نحيفاً، أدنى إلى الطول منه إلى القِصَر، في نحو الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة… ولكنّه كان بجبهته العالية ونظّارته الطبية وبأدبه الجمّ ونبرته الدافئة، يبدو أكبر من سنّه بسنوات…كان محمود ودوداً، متواضعاً، بعيداً كل البعد عن التصنّع، وإن يكنْ من الواضح أنّه كان ذا ثقةٍ عالية بنفسه وقدراته الخلاّقة». يعقد رشيد ياسين بعد ذلك مقارنة طريفة بين شخصيّتي السيّاب والبريكان : «كان السيّاب – بلغة علماء النفس – شخصية انبساطيّة، فيها شيء من عفويّة أهل الريف وانفتاحهم، وشيء من خبث الطفولة ومرحها الصاخب، أمّا البريكان فقد كان – وأظنّه ما زال – شخصاً خجولاً، هادئاً، ميالاً إلى الانطواء، لا يتخلّى عن تحفظه حتى مع أقرب أصدقائه. ولم يكنْ للسياب – رحمه الله – من أسرار شخصيّة، فقد كانت شؤونه الشخصية، حتى تلك التي تتعلّق بحياته العاطفية والجنسية، مادة حديثه المفضلة مع جلسائه على مائدة شرابه الليلية المعتادة في حانات أبي نواس أو شارع الرشيد آنذاك. أمّا البريكان فقد كان دوماً كجبل الجليد العائم لا ترى منه العين سوى سطحه الظاهر، بينما تظلّ تسعة أعشاره محتجبة تحت الماء».
يضيف رشيد ياسين شيئاً مهماً عن شخصيّة البريكان: «لا يشكو ولا يتذمر أمام أحد من أصدقائه، ولا يتخلّى عمّا درج عليه في علاقاته مع الناس من أدب، وسماحة خلق…من دواعي الإنصاف أن أضيف إلى أنّ محموداً لا يدانيه في رفعة خلقه أحد مما عرفتُ، فطوال هذه السنين التي امتدّت من ربيع العمر حتى خريفه المكفهر الموحش، لا أذكر أنّه تفوّه أمامي بكلمة تخدش الحياء، ولا أذكر أنّه تجنّى في حكمه على أحد، أو ذكر أحداً بسوء».
أمّا مهدي عيسى الصقر فيقول : «محمود البريكان قليل الكلام. هو النقيض لبدر شاكر السيّاب الذي يتدفّق في الحديث، وأنه يشرب ويلهو ويروي النكات اللاذعة عن شخصه وعن الآخرين، والذي يترك نفسه عرضة للأهواء – أهوائه وأهواء الغير – تطوّح به كيف تشاء، وتؤرجحه نزوات وغرائز تلتهب وتنطفئ في تتابع يبعث على الحيرة والذهول… كان بدر يحبّ نصب الفخاخ والمقالب لأصدقائه المقرّبين وكان محمود يتفادى هذه المقالب بذكاء. أذكر مرة كنا نزور فيها بغداد (كنت وقتها بالبصرة) وجلسنا في أحد النوادي، فاستغلّ بدر انشغال محمود والضوء الخافت في المكان وعمد إلى سكب مقدار من (العرق) من كأسه في كأس (العصير) امام محمود، على أمل أن يراه ثملاً في نهاية الجلسة، إلاّ أنّ البريكان اكتشف اللعبة، ولم يتحققْ لبدر ما أراد» (الملف – ص 107)
لننظر الآن في الأساليب الشعرية التي يستخدمها البريكان، وربما تمثّل المراحل الفنّية التي مرّ بها. لا يمكن تحديد المراحل زمنيّاً لأنها متداخلة. المرحلة الأولى بدا فيها أسلوب البريكان سردياً، وتنحو قصائده منحى الحكاية، مثل قصائده المعروفة : «أسطورة السائر في نومه»، و«أغنية حبّ من معقل المنسيين» و«عندما يصبح عالمنا حكاية» و«هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقّة».
من خصائص الشعر الحكائي، أنّ تأثيره يتضخّم ويتسع من توالي الصور ومراكماتها. أيْ قلّما يعتمد على مفاجأة في صورة أو إيقاع، أو تركيب مبتكر. الزمن فيها ينتقل من لحظة إلى أخرى بصورة عاديّة طبيعية. الأفعال في قصائد كهذه، تأخذ صيغة الفعل الماضي المقطوع الصلة بالحاضر والمستقبل. زمن راكد في مكانه، لا يأتي إليك، والطريقة الوحيدة للالتقاء به هو الذهاب إليه. زمن له صفات الطلل. تمثّل هذه المرحلة نزعة البريكان إلى كشف الحياة الاجتماعية، وبالضرورة الظروف السياسية. اتخذ أسلوب البريكان في المرحلة الثانية، صيغ المباشرة، بحيث أصبح حتى الفعل الماضي لا يشير إلى ماضٍ منقطع، بل إلى حدث لا يزال قائماً في مراحل التكوين، كما في «قصائد تجريدية»، ولا سيّما في قصيدته الثالثة «عن الحرّية» :
«قدّمتمولي منزلاً مزخرفاً مريح/ لقاء أغنيّهْ/ تطابق الشروط/ أُوثر أن أبقى/ على جوادي وأهيم من من مهبّ ريحْ/ إلى مهبّ ريحْ»
هنا الفعل الماضي: «قدمتمولي»، متواصل مع الحاضر بدليل : «أوثر أن أبقى». بكلمات أخرى فإن ما عرضتموه لي ما يزال قائماً، وأنّ رفضي ما يزال قائما. ً
في هذه المرحلة كما يبدو تميّز أسلوب البريكان باستخدام الأسماء على حساب الأفعال، وهذا شيء طبيعي في كلّ شعر ذهني أو منطقي، أو حينما يصل الشاعر إلى قناعات جاهزة كالبديهيّات. قال المتنبي :
جيرانها وهم شرّ الجوار لها/ وصحبها وهم شرّ الأصاحيب/ فؤاد كلّ محبّ في بيوتهم/ ومالُ كلّ أخيذ المال محروب/ ما أوجه الحضر المستحسنات به/ كأوجه البدويّات الرعابيب/ حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب/ أين المعيز من الآرام ناظرة/ وغير ناظرة في الحسن والطيب»
المقطع أعلاه كما لا يخفي خال من أيّ فعل. أمّا البريكان فيقول في قصيدة : «في السقوط الجماعي»:
«دموع الحبّ جاهزة ومختومهْ/ بأنواع القواريرِ/ عيون الله في كرّاسة التشريح مرسومهْ»
خلت الأبيات أعلاه من الفعل. إذ ما من تفاعل بين الحاكم والمحكوم، فالسلطة قررت وما على المواطن إلاّ الطاعة والتنفيذ. لنتابع القصيدة قليلاً :
«دم الأحبار ممزوجاً بأصنافٍ من الخمر (ولا يكشف عن سرّ المقاديرِ)/ خلاصات من الأحلامِ –/ في صورة أقراصٍ شرابٍ، حقن في الدم تحت الجلدِ/ أصوات الصراصيرِ/ مسجّلة لمَنْ يرغبُ/ مجاناً/ فخذْ ما شيءت من سوق الأساطير»
في المقطع أعلاه ثلاثة أفعال فقط: «ولا يُكشَفُ عن سرّ المقادير». عدم الكشف هنا يثبّت كلا الزمن والحركة في الفعل فيجعله أقرب إلى فحوى الأسماء. الوصفة جاهزة ومختومة. لذا فهو فعل خارج عن أيّة عملية في تحضير تلك الوصفة.
الفعل الثاني : «لمن يرغب مجّاناً»، لا علاقة له بالوصفة كذلك.
الفعل الثالث : «فخذْ»، وهو فعل أمر يتشابه والاسم في البناء، أوّلاً، وما من دور له أيضاً.
في المقطع التالي من القصيدة :
«تماثيل من الشمع المظلاّت/ نباتات/ من الإسفنج في المتنزّه العام/ قوانين مثبتة بأطراف المسامير/ على الجماجم الصمّ/ تواريخ/ معاد صنعها من أحدث الآلات/ أخبار تقارير»
يخلو المقطع أعلاه من الأفعال بأيّة صيغة. مجرّد أسماء ذات جرس مخيف. إنّ هذا التماثل القاتل، يكون على أكثره وضوحاً، في البحر الشعري الذي اختاره البريكان بالصيغة الصعبة من بحر الهزج، وقد تراوح بين : مفاعيلن مفاعيلن، ومفاعلتن مفاعيلن. أمّا القوافي فقد تراوحت في ثلاث نبرات حازمة، تسكينها سرّ إرعابها : «مختومهْ، مرسومهْ»، و«قوارير، مقادير، صراصير»، و«مظلاّت، نباتات، آلات». تنوّعها قاتل كتنوّع التعذيب. على أيّة حال، لا تظهر الأفعال في هذه القصيدة، إلاّ في الأبيات الأربعة الأخيرة:
«عن الخبز الذي لم يُخترعْ بعد/ وإذْ يرتجف الإنسان في لحظة تفكيرْ/ يكون الأمر قد تمّ/ وهل للموت تبريرْ».
لا يمتلك هذا الإنسان الذي يعاد تصنيعه من جديد، حسب قالب مُعَدّ للجميع، إلاّ الأفعال الانعكاسية كالحيوان. يرتجف فقط. وحتى أثناء هذا الارتجاف القصير، يكون: «الأمر قد تمّ»، أي لا أهمية للارتجاف. بدأ البريكان قصيدته بالجانب العاطفي أو الغريزي من الإنسان، وهو الحبّ الذي يكون أكثر صدقاّ وتأثيراً إذا ترافق مع الدموع. ولكنّ الدموع هذه المرّة: «جاهزة ومختومة بأنواع القوارير». عاد الشاعر ثانية إلى الغريزة، في نهاية القصيدة أي بالفعل: يرتجف، ولكنّ الأمر قد تمّ. مرّت بنا لحدّ الآن مرحلة البريكان الاجتماعية، وبعد ذلك حلّ تفاؤله بثورة 1958 ثمّ خيبته بها، ولكن لكونه شاعراً تربوياً، بالدرجة الأولى، راح يمجّد الحرّية الفردية. ما من شاعر غيره في الشعر العربي كتب عن الحرية الفردية وبنفس العمق.
«جئتمْ بوجهٍ آخرٍ جديدْ/ لي متقنٌ حسب المقاييس المثاليهْ/ شكراً لكم. لا أشتهي عيناً زجاجيهْ/ فماً من المطّاط/ لا أبتغي إزالة الفرق. ولا أريد/ سعادة التماثل الكاملْ/ شكراً لكم. دعوه يبقى ذلك الفاصلْ/ أليس عبداً في الصميم سيّد العبيد».
في الوقت نفسه أمعن البريكان في اختبار جوهر الإنسان، فلعلّ العلّة كامنة فيه. فامتحن أوّلاً أنساق الحضارات وكيف بنيت، وكيف آلتْ إلى السقوط، فأصابه التشاؤم، وسرت إليه عدوى اللاّجدوى. ربّما هذا ما عناه مهدي عيسى الصقر: «وأظنّه مع مرور السنين انتهي إلى قناعة ترى بأنّه يكفي الإنسان أن يقيم له بيتاً متواضعاً آمناً يربّي فيه أطفاله، على أحسن وجهٍ ممكن بلا أحلام في المستقبل، ولا أمنيات بعيدة، ما دام كلّ شيء، في نهاية المطاف، عبثاً وقبض ريح» (الملف-ص 107)
ربما تواطن البريكان إلى هذه القناعة كإنسان، ولكن كشاعر لم يخمدْ له توق، فراح يصوغ عالماً جديداً ولكنْ بعقمٍ نيتشوي هذه المرّة. تمثّل قصيدة : «حارس الفنار»، هذه المرحلة خير تمثيل، وهي بلا شكّ من فضليات الشعر العربي الحديث. نرى أسلوب البريكان في هذه المرحلة، وقد أصبح ذا جرس عالٍ وقور، وفيه ثقة خطيب مصلح، كما أصبحت صوره الشعريّة أكثر كثافة وغموضاً. مع ذلك لم يأت ذلك الزائر الذي انتظره حارس الفنار، فشاخ الزمن في رقّاص الساعة السوداء فوقه، ولم يعدْ لدورانها معنى. الكلّ في انتظار غودو. الكلّ في انتظار البرابرة. من هذا القنوط المرّح، من هذا الإحباط المضني، كان البريكان يعدّ نفسه، لأخطر مرحلةٍ في حياته الشعريّة: مرحلة الاستبطان والتقمّص. ديوان «عوالم متداخلة» (قصائد1970 –1992)، يمثّل هذه المرحلة خير تمثيل.
يضمّ هذا الديوان حوالي ثماني عشرة قصيدة، نشرتها مجلة أقلام ضمن ملفّها مع مقدمة تقريبية لحاتم الصكر. في هذا الديوان استقطار لكلّ المراحل السابقة التي مرّ بها البريكان. فيه قناعات راكزة، كتلك القناعات التي يتوصل إليها الحكماء بعد طول تجارب. الجمل مفعمة بالحكمة إلاّ أنّها خالية من الوعظ. في هذا الديوان يتوسّع عالم البريكان، ليشمل المخلوقات الدنيا وحتى الجمادات. فيه أيضاً اكتشافات بصرية وسمعيّة لم يعرفْها البريكان من قبلُ. أنهار غامضة تحت الأرض، «لا صوت لها ولا شكلَ لها» و«لا أثرلها في أيّة خريطة، و«لا في أيّ دليل سياحي» كما يقول. من قبل، لم يكن البريكان يرى في الصخرة إلاّ وسادة عند التعب، ولكنّه في ديوان «عوالم متداخلة يعرّفنا على ستة أنواع من الصخور في قصيدته الغريبة: «دراسات في عالم الصخور». في هذه الصخور نقرأ فيزيائيّتها وأسرارها. نقرأ فيها حزنها وشعرها، ودفء أمومتها. يقول باسم المرعبي (في مقدمته لما اختاره من شعر البريكان): «إن قصائده مثل «دراسات في علم الصخور» – بشكل خاص – تذكّر بطبيعة البحث العلمي من حيث التقصّي والاستغراق، ربما بسبب مباشر من طبيعة الموضوع، كذلك بسبب من الحِرَفية العالية والإحكام حتى لَتأخذ القصيدة صفة «العلمية» لا أكثر».
أمّا في قصيدة «نوافذ»، فلا يركّز البريكان نظرنا على نافذة واحدة، أو على نوافذ متشابهة. ثماني نوافذ مختلفة. نافذة فتاة يلوح ظلّها مرّة أو مرّتيْن خلف الستارة، ونافذة كسيح يحاور الفراغ، ونافذة عجوز تمتدّ يدها المعروقة، لتعرف الوقت، وهل توارت الشمس. مشهد الطفل حيث يُسحب إلى الداخل…إلخ يختتم البريكان هذه النوافذ بـ «نافذة ا














كاظم حسن سعيد - كتب صدرت عن البريكان
ـ سيادة الفراغ.. محمود البريكان دراسة ومختارات عبد الرحمن طهمازي/1989 2ـ
الإبلاغ الشعري المحكم/قراءة في شعر محمود البريكان/عن دائرة الشؤون الثقافية 20013ـ العراق على آنية الصمت/دراسة نقدية في شعر البريكان/ منشورات بابل 2006

4ـ محمود البريكان بين فلسفة الصمت وصمت الفلسفة/بيت الحكمة بغداد 20085ـ البذرة والفأس.رياض عبد الواحد 1991/الشؤون الثقافية6ـ كاتم اصوات الكلمات/مختارات وتقديم.عبد الرضا علي شرق غرب للنشر 20097ـ
5 متاهة الفراشة مختارات وتقديم باسم المرعبي دار الجمل /20088ـ ترجمة الدكتور شهاب أحمد الناصر مختارات من شعر البريكان الى اللغة الانكليزية /صدرت  عن دار المأمون 9ـ محمود البريكان في ملف خاص عن الشاعر وشعره في عدد مجلة الاقلام 2002
6الشعرية المفقودة حسن ناظم (دراسات وشهادات عن الشاعر محمود البلريكان |1939_ 2002)
7 الجملة الشعرية في قصائد البريكان د. ولاء محمود
8 الشاعر العراقي النجدي الكبير محمود البريكان ؟ دراسة ومختارات | اسامة الشحماني
9 البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة كاظم حسن سعيد
10محمود البريكان بين العزلة والتامل









ناجح المعموري - محمود البريكان.. اجمل ما في العالم ، مشهده العابر
هو كرس تجربته الشعرية حول الانطولوجيا وربما تبدو هذه الخاصية التي لها انعكاس ظاهر جداً ، متأتية من تنوعات قراءاته وعلاقته بالموسيقى ،

التي تقود الكائن الحساس نحو انشغالات ليست عامة ، بل هي خاصة جداً والولع الانطولوجي فيه رواسب التجارب عالمية . وطفر البريكان من الاهتمامات التي شاعت وتلبست ابناء جيله وتبدَى هذا الموقف الثقافي والمعرفي متلبساً كل تجربته وتشرب البريكان به، لذا اتضح ذلك عن سلوكه اليومي وليس تجربته الشعرية فقط . هو الذي قال :

اجمل ما في العالم

مشهده العابر

هكذا تعامل البريكان مع الحياة المغلقة بتفاصيل الانطولوجيا وغارقة وسط سوادات الحياة وغربة الكائن ، فيها حاملاً قلقه صليباً ، معلناً عنه ، متمسك به ، لأنه وريث المقتول بصليبه .

هذا مقطع شعري حساس جداً، كاف لتقديم كشوف ثقافية وانطولوجية ، تضع الشاعر في مغايرة للسائد في العام من التجارب العراقية والعربية قليلاً. وما عبر البريكان في هذا المقطع حساس وفيه قسوة ضاغطة، تضع الذات وجهاً لوجه مع المجهول من المصائر، التي لا يشك البريكان ما بها ستختار نهاية للانا، وتضع جداً لهمومه وشحنات القلق والعدمية التي اضاءت قصيدته «حارس الفنار» وقد اضاءها القاص والروائي يعرب السعيدي بالتماعات نقدية ذكية بوقت مبكر ولابد من التذكير بأن البريكان كتب عن مشهد الغياب والذهاب والفراغ والضياع كلها عبر عنها الفنار الذاهب الى اين؟ وعلى بقاء الفنار ماثلاً في البحر لزمن ليس قصير، لكنه يختصر الذهاب الى اين؟ الناظر لا يدري الى اي مكان هو يتحرك. وهذا ما اختصر المقطع الشعري «اجمل ما في العالم / مشهده العابر « والفنار صورة مثيرة بشعريتها. ما ذهب اليه البعض ضد موقف البريكان الانطولوجي بسبب سياسي كان حاضراً ومهيمناً، بينما قرأ الشاعر فوزي كريم تجربة البريكان بذكاء ملتمع ودقة، من شاغل البريكان الشعري، الذي بدا غريباً عن شاغل شعراء المرحلة، هو شاغل المعترك الداخلي والذي تبدو الوجودية ظلاً من ظلاله. لكن هذا لا يعني بأن الاحساس بالعدمية معدوم، لأنه يواجه مصيراً ليس فردياً، وانما هو مصير بشريته.

أضاف الشاعر فوزي كريم: أن الاعتقاد بعدمية البريكان ستضطرنا الى ايجاد مخرج تأويلي من قراءة قصيدة اخرى للبريكان تحت عنوان «احتفاء بالأشياء الزائلة» يبدو فيها الشاعر غاية في احتضان الكائن الانساني، والاحتفاء بمجده ومجد الارض التي يقيم عليها:

اربع أيد

تمتد الى دفء النار معاً

وعيون اربع

تتأمل طفلاً في مهدً

مائدة

من زاد الفقراء

وحديث هادئ

الليل و فيلم السهرة

انسام الفجر ترف رفيف جناح الفراشة

العشب اللين بعد الغيث

يبدو منتعشاً ونظيفاً

يتضح البريكان في هذا المقطع من نصه الشعري «احتفاء بالأشياء ، الزائلة» شعرية منفتحة على الحياة المعدمة، الفقيرة، لكنها سعيدة، لأنها ارتضت ما جعل من الحياة مسحة تستحق العيش .

ذهب فوزي كريم الى ان هذا الوضوح بقصيدة البريكان لا يلغي العدمية كموقف ثقافي ومعرفي، لان ذلك يمثل نتاجاً طبيعياً للصوت المرهق بالتساؤل الذي القاه في قصائد البريكان الاخرى. ما من تعارض الا اذا اخذنا معنى «العدمية» مأخذاً فلسفياً غير شعري. وهذا الامر يعيدني قليلاً الى اليوت ومعادلة الموضوعي «يقول في واحدة من» مقالاته المختارة «ان الشاعر الذي يفكر هو الشاعر الذي يملك ان يعبر عن المعادل العاطفي للفكرة لا غير: لكنه ليس بالضرورة معنياً بالفكرة ذاتها.

رسم الموقف الانساني المتسامي لنا اجمل النصوص الشعرية التي لا يمكن لأكثر التجارب المعنية بالواقعي من الدنو اليها... لكن هذا الموقف الفني لا يعني تأكيد قطعية مع الاحساس العدمي لدى الشاعر .

المناجاة العاطفية المعبرة دون وسيط عن فكرة والتي وقعنا عليها واضحة كمرآة مغسولة بماء في القصيدة السابقة ، نراها في بضعة قصائد ، منها «فقدان الذاكرة» حيث سيادة التوسل بالميتافيزيقيا وكأنه منكسر، ضعيف، خائف من مداهمة اضطر للإشارة لها، تعبيراً عن موقفه الانطولوجي وذاكرته الخازنة لما ينفرد به من مشاعر ومواقف جعلته شاعراً منفرداً بتجربته وصمته وتكتمه وكأن حياة الشاعر الحقيقي لا تختلف عن منجزاته الابداعية وسمات تجربته الفنية.

فلنتأمل هذا التضرع، مقارنة بالقلب الجسور الذي رأيناه في «حارس الفنار»

الهي ، اذا كان هذا عقابك

دعني اجتز عذاب الثواني سريعاً

اذا كان هذا اختبارك

هبني الشجاعة ان أتأمل وجهي الغريب اعني، لكي اتنفس ثانية في سمائي لكي استعيد روائح ارضي اعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة اعني، لكي اعبر الفاجعة.

توصل الشاعر فوزي كريم للتناص بين الشاعر الشهير ميووش وهذا النص للبريكان المشحون بالحزن والأسى والقلق، لأنه خائف من لحظة مداهمة المصير له، وهذا ما يثير الرعب لديه. الموت هو الحقيقة الانطولوجية الشاغلة لمحمود البريكان الذي تلاشت لديه رغبة الدنو من الانا/ والتعرف على الذات وما يمور فيها من توهان فهو الذي قال: هبني الشجاعة ان أتأمل وجهي الغريب.

الاهتمام الانساني الذي لا يقبل الجدل او يثير الشكوك في نص «احتفاء الاشياء الزائلة» قوة العلاقة والتفاني بالتعايش المشترك، وثنائية النوع التي لم يصرح بها، وتكتم عليها، هكذا هو البريكان لان الشعر لا يفصح عن اسراره ومخفياته، الاثنان هما اربع ايد، وعيون اربع، تتأمل طفلاً.

لحياتهما معنى، هو الذي لا يعطل الموقف المعرفي الذي اختاره البريكان. لذا لعب البرق دوره الرمزي والكشاف وما يؤديه الرمز ــ البرق ــ ذاته الذي فاض معنى عبر «حارس الفنار» وقدمته البروقط، لا تختلف كثيراً عن إضاءة الفنار المتسامي عالياً.

قبّةُ الليل في لحظة تتفطر

الارض بحرُ من الزرقة الساطعة

البيوت

فجأة تستحيل شواهد من مدن دارسة

البيوت

ثم تستأنف الكائنات تنفسها

وتواصل في العتمة القارسة

بنبضها

العدم غير مختف، بل معاين، صورته بطاقتها الحسية ملفته للانتباه فالكائنات تعاود تنفسها، بعد دمار علامات مهمة للمدن وبيوتها، تعني تدمير كامل لكن الامل الطفيف يلقح الحياة بفسحة من الحياة التي يستحق البقاء من اجلها. والبرق في هذا النص هو الامل والمرتجى بحصول متغيرات جوهرية.

المجهول يطرق المغلق ويثير نوعاً من الرعب، وتضيق تصورات الانا الملاحق بلحظة غامضة ، لكنها معلومة غير معروفة زمنيتها.

يعاين الكائن ذاته بلحظة تستدعيه وهو بقلق وريبة، لان الامتحانات دائمة الحضور في الحياة لان الحياة خالية من المصاعب، والامتحانات، لن تكون حياة. لذا فان حيرة البريكان ليست مؤقته والتفاؤل لم يكن مستمراً. هو شاعر ارتضى ان يتوزع بين هموم وآمال، لكن الاختبار ملاحق له، لا يعرفه بأي طريقة يحضر ويأتيه وتتحقق نهاية المجهول، المعروف .

الكائن / الفرد، غريب، مطرود، يرى ويتجاهل ويطفر من بين اكوام هي انهيارات، يجلس بها حاضرة بشكل بسيط، لان الشاعر منحها صفة التنفس. وللأسف فان اجمل ما في العالم مشهده العابر/ ومباهجه الصغرى/ طوبى لك/ ان كنت بسيط القلب/ فستفهم مجد الارض القلب / سحر الاشياء المألوفة/ ايقاع الدأب اليومي/ وجمال اواصر لا تبقى/ وسعادة ما هو زائل. نص فياض بضغوط وارتباك، كلها تفضي الى حياة لن تكون هي الحلم، فالفنار مفقود والبرق مؤقت السر يحتفظ بتكتماته، لأنه مجبول عنها.

ما قاله فوزي كريم رسم به توصيفاً عميقاً وبليغاً للبريكان الذي تعامل مع الانسان وشرط حياته ومصيره محوراً مركزياً في كل تجارب البريكان الشعرية. وهو بهذا المحور يقف على مبعدة من التيار الشعري العراقي الرائد جملة، باستثناء السياب، الانسان، لا لأفكار التي يولدها الانسان بفعل معتركه مع التاريخي، هو الذي يعني البريكان الشاعر، بالدرجة الاولى. حتى مشاهد الحيوان والشيء «السفينة/ النسر، الجواد القديم/ المدينة، الصخرة. لا انما تتأنسن داخل خبرة القصيدة.

بالإضافة لكل هذا فأن البريكان شاعر منشغل بالتاريخ ولكن فقط، لكي يحسن الانفلات منه.







البريكان : مجهر على الاسرار وجذور الريادة ج1

كاظم حسن سعيد



( مقدمة ):
((لست لغزا لكن فهمي بالغ التكاليف :محمود البريكان))
شرعت بوضع مسودة هذا الكتاب سنة 1992وكان مصمما ان يتضمن ثلاثة اجزاء : مختارات من شعرالبريكان .. وتسجيل ارائه ومواقفه ونقد لشعره .وخلال اكثر من عشرين عاما مر الكتاب بمحطات توقف وتشذيب وتطوير حتى وجدت حلولا فنية للكتاب .ولا يسندني الا ما اسميته وهو مسودة سجلت فيها ملخص ارائه بعد كل لقاء ..ولقد راعيت ان تكون الاراء بلغة بسيطة كما كنا نتحاور ووضعتها بين هلالين مهمشة بحرف اشارة الى اسمه ..وعلى القارئ ان يتوقع من شاعر مفكر عميق الثقافة لو عبر شخصيا عن تلك الاراء لاتت بلغة رصينة واكثر دقة .اتقبل من الاخرين ان ينظروا للمؤلف باعتباره كتابا خام ..لقد دفعني خوف مقلق من ضياع المعلومات ان اعجل باصداره ..وادرك مدى التشكيك الذي سيوجه لدقة المعلومات ..وما ستثيره من اعتراضات ..الاهم من هذا كله اشعر اني كتبت بضمير لا يؤرقني ..وعلى النقاد والقراء حرية الاختيار
كاظم حسن سعيد -البصرة
اب .. 2016
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اخبرتني زميلة لي بعدما استدعتني (للاسف ساخبرك بان صديقك البريكان قد قتل )...لقد كانت طعنة لا تحتمل وشعور يصعب وصفه..اتذكر ليلتها لم انم .. وانتابني جزع وحزن عميق ...حتى كتبت قصيدتي عنه قبيل الفجر.كنت ارقبه متارقا وربما صرخ .وكان يمر عليه يومان او ثلاثة بلا نوم ..حتى انه خاطب نجله الاكبر ذات ظهيرة, مؤنبا : (ابني انا في حالة من التازم لدرجة اتصورني استطيع ان اقتل . )...وقال لي مرة <هؤلاء مجرمون محترفون > ...كنا انا وهو نتوقع ان يمر بفاجعة.ولهذا حينما زارنى ابنه الاكبر ماجد في منزلي واخبرني بالحادث..قلت له هل القاتل الاكبر او الاصغر فحدد احدهما.
في الاشهر الاخيرة من حياته اقترحت عليه <ان يستقدم حارسا او يرحل لبغداد او الخارج..اجاب الخارج يحتاج مبالغ ..اما الرحيل الى بغداد فيصعب على الانسان ان يهجر منزله وبقيت فكرة استخدام حارس معلقة .وكان منزله لا يخلو ليلا فاما انا او ماجد نتواجد في المنزل.كنا نتناوب المبيت.فان الح نجله على المبيت عند امه فلا بد ان ابات انا.كنا نحاول ان نمنع سطوة الرعب من المنزل بما نستطيع.وان نحافظ على شاعر الموت حسب تعبيره (انا شاعر الموت م ).كان يستقل غرفة فاخرة في العلية,ولم يكن احيل على التقاعد.. هنالك في صباح ما صحونا..والقى نظرة مراجعة على درس القواعد ثم دسه بحقيبة بنية انيقة وغادرنا المنزل وافترقنا امام بناية المعهد لامضي لوجهتي ويعبر هو جسرا ضيقا ليلقي محاضراته في المعهد الذي يجاور دائرة الكهرباء حيث ينتصب عاليا خزان الماء <باور هوز>.
كان يضع صينية او معادن صغيرة على باب الهول من الاسفل ويقول (لعلني اسمع لو تسلل لص او معتد)..ويهتم بغلق الباب..ولم يتوقع مهارة < الطارق> بالتسلل.ولم يعد ذلك المدرس في بغداد يتناول الوجبات السريعة بلا حذر ويقضي ساعات في نفس الباص الحكومي..مستطلعا حركة الناس والاشياء..لقد تمكنت منه السنوات وصار شبه وحيد واشد حذرا على صحته. وفي ذروة الرعب من النهاية المفجعة كتب قصيدته <من الطارق >.. ((على الباب نقٌر خفيْف على الباب نقٌر بصوٍت خفيض ولكّن شديد الوضوْح يعاود ليلاً، أراقبه أتوقّعه ليلة بعد ليلْه أصيخ إليه بإيقاعه المتماثِل يعلو قليلاً قليلا ويخفت أفتح بابي وليس هناك أحْد من الطارق المتخفي؟ تُرى شبح عائدٌ من ظلام المقابْر؟ ضحيّة ماٍض مضى وحياة خلْت... اتت تطلب الثأر؟ روح على الافق هائمة ارهقتها جريمتها اقبلت تطلب الصفح والمغفرة ؟ رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضةومهرا لاجل الرحيل )). لقد نجا من الموت مرات باعجوبة ..(مرة صعقتني الكهرباء وهويت ارضا ..و كان احساسي الاول بعد نجاتي هو شعوري بالفرح لانني حي..م)..(في الحرب العراقية الايرانية قبيل وصولي منزلي على بعد امتار نجوت من سقوط قنبلة تجاوزت موقع سقوطها م). في اليوم الثاني من الحادث صحبني ماجد من منزلي الى قضاء الزبيرحيث اقيم له مأتم ..هناك ولاول مرة في حياتي شهقت ابكي..وقررت ان اقرأ لنفسي في ذكرى رحيله من كل عام قصيدته (قصيدة ذات مركز متحول).ولم تكن جريمة القتل الا تنفيذا ناجحا تمكن من اسكاته للابد..فقد تعرض لانتهاكات قاسية تمثلت بسرقة منزله مرات عدة ’ودس السم له <حسب ما اخبرني>..وتهديدات ..انتهاكات توجت بالتسلل الى نتاجه الادبي وسرقته بعد ان فارق الحياة في عملية فاجعة , غامضة التنفيذ والدوافع.لقد تفاجأت وانا افتح باب منزلي بظهور البريكان وصديق له فسالني :هل تعرف فلان قلت :لا ..اجاب (لا يهم اريد اصحبك لمنزلي)وفي الباص اخبرني (يا اخي لقد تعرضت الى سرقة .).ولما وصلنا منزله ادركت بانها سرقة غريبة ,فقد كانت قضبان شباك غرفته السفلية معوجة لتشكل فتحة صغيرة ..فيما كان باب الهول مغلقا.وافنينا ساعات نحاول تفهم طبيعة السرقة .وبسب توالي التعرضات كنت قلقا لا على حياته فحسب بل وعلى اعماله الادبية ,فاقترحت عليه ان ينسخ نتاجاته فلم انجح..لقد احس مثلي بالخطر ..فعندما اشتد القصف على البصرة اودع اوراقه في بريد في بغداد ولكنه سحبها فيما بعد..وهذا ما تاكدت منه حينما صحبني ماجد الى العاصمة ليناقش اطروحته لنيل الماجستير..فقد زرنا يومها احد اقربائه الذي سلم مفتاح بريده له وأكد لنا عدم وجود اوراقه الادبية هناك .في زيارتي الاولى لجيكورعبثا بحثت عن <بويب > فلم يعد مخلدا الا في شعر السياب..تجولت في بيته <الكوت>..وشعرت بان جيكور قرية بالغة البعد عن حركة الحياة ..نخيل وقناطر وانهار..موقع مثقل بالحزن والمطر الا انها جزء من مدينة عريقة (ابو الخصيب)..الزبير عكس ذلك ,مدينة تاريخية زاخرة بالتراث تلتصق بصحراء مترامية ..تستقطبك بيوتها الواسعة وترميك الى ذاكرة التاريخ..لكنها بعيدة ايضا عن مركز المدينة ..(كان السياب رجلا بسيطا جدا < حدثني وهو يبتسم ـ ربما تذكر البريكان مقالبه وطرائفه ـ >..وقد زج نفسه خطأ بمحرقة السياسة ..قلت له : يا بدر لا تنس انك شاعر ..وحين اراني بعض قصائده التي كتبهاعن تجربته في لبنان ..علقت (لو كنت مكانك لما ثبتها في ديوان )..واضاف :<اهم ما انتج السياب نغمة <فعل >في انشودة المطر ولكني سبقته وقرات له قبلها ( عَدَمْ..عدم ..
يدبُّ بين الرِّممْ
كأنّهُ قد قُدَّ من هيكل صخرٍ أصَمْ) قلت بنفسي ساثبتها بالكتاب عنه يوما ونسيتها الا كلمات..عدم ..عدم .. حتى وجدتها بمذكرات الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد .قلت له (في انشودة المطر ابيات لافتة مثل: <كأن صيادا حزينا راح يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر >فاجابني <ليست للسياب م>..واستغربت متسائلا مع نفسي : هل هي للبريكان اومن الشعر الانكليزي ..فيما بعد سالته عن البيت الوارد باحدى قصائد سعدي يوسف وقد وضعها بين هلالين <اسير مع الجميع وخطوتي وحدي > فتبسم وصمت ..لكنه صرح ذات يوم (من هذا المكان اطلق مصطلحات فتشيع والان وضعت مصطلح تجوهر اصبر قليلا ستراه منتشرا)..
كاظم حسن سعيد
2016






الفهرست


المؤلفون
جمال جاسم امين
سامي علي المنصوري
صدام فهد الاسدي
صباح الربيعي
د. سلمان الكاصد
كلمة البريكان بذكرى رحيل السياب 1970
علي حاكم صالح
ناظم عبد الوهاب المناصير
د. حاتم الصكر
صلاح نيازي
كتب حول البريكان كاظم حسن سعيد
ناجح المعموري
مجهر على الاسرار ج1



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة كتابي نسيج البروق ج 1
- شعرية الذات العميقة.
- كربلاء هي لا وليست طقوسا
- رقصات عابرة
- نظرة للامام مذكرات ج2 كتاب كامل
- قراءة في شهوانية رجل سبعيني
- كتاب تسجيل لحكايا برقية
- نظرة للامام مذكرات. ..الرملة
- منتدى افق البيان
- مذكرات ليست مهمة..فلفل بارد
- ظاهرة الالقاب
- كتاب حدائق الصمت نادية الابراهيمي
- كتاب مشاعر هشة نادية الابراهيمي
- اقنعة النقد
- مشاعر لم تشرق عليها شمس البوح يوما
- كتابات حول مشاعر هشة
- جسد الطوائف رواية تجسد العنف باسم الدين
- رانية مرجية تصدر روايتها الأولى الرملة ٤٠٠ ...
- كتاب جدلية الروح والكلمة لرانية مرجية
- الاغتيال والانتحار


المزيد.....




- اليونسكو تختار مديرا عاما يقودها في مرحلة بالغة الصعوبة
- فيلم تايلور سويفت يعتلي صدارة شباك التذاكر متفوقا على -معركة ...
- لوحاته تجوب أوروبا.. لماذا لجأ فنان من غزة للرسم على الكراتي ...
- لوحاته تجوب أوروبا.. لماذا لجأ فنان من غزة للرسم على الكراتي ...
- جغرافيون مجتمعون في فرنسا يناقشون ترامب و-إعادة كتابة الجغرا ...
- سوريا: تشكيل أول برلمان منذ إطاحة الأسد وسط انتقادات لآلية ا ...
- ثقافة الامتحانات.. أما آن الأوان لإعادة التفكير فيها
- الجبهة الثامنة.. حرب الرواية
- مسرحية لمحمد هنيدي و3 مسرحيات سورية في موسم الرياض 2025
- هل ينجح برلمان سوريا الجديد في اختبار الشرعية والتمثيل؟


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - نسيج البلبروق ج1 كتاب كامل