أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية العربية : فكر بلا وطن ولا وجدان














المزيد.....

العلمانية العربية : فكر بلا وطن ولا وجدان


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 12:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


د. حمدي سيد محمد محمود
لقد كشفت العقود الأخيرة عن إفلاسٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ عميق تعانيه العلمانية العربية، تلك التي دخلت إلى المجتمعات العربية لا بوصفها مشروعًا معرفيًّا نقديًّا يسعى إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسسٍ حديثة، بل كقالبٍ فكريٍّ مستوردٍ من التجربة الأوروبية أُسقِط إسقاطًا على واقعٍ مختلفٍ في تاريخه وثقافته وهويته. لقد ظنّ روادها الأوائل أن العلمانية يمكن أن تكون طريقًا مختصرًا نحو التقدم، غير أن ما تبيّن مع مرور الزمن أن هذا المشروع لم يستطع أن يقدم قراءةً عميقةً لطبيعة المجتمع العربي، ولا أن يصوغ خطابًا يتفاعل بصدق مع هموم الإنسان العربي واحتياجاته الروحية والاجتماعية.

فالعلمانية العربية لم تكن في حقيقتها مشروعًا للإصلاح الاجتماعي بقدر ما كانت ردّ فعلٍ ثقافيٍّ على هيمنة التراث والدين في المجال العام. ولهذا، ظلت محصورة في نطاق النخبة الفكرية، عاجزة عن التواصل مع الجماهير أو عن بناء قاعدة اجتماعية تُؤمن بمقولاتها. كانت ترفع شعارات التنوير والعقلانية، لكنها في الواقع مارست نوعًا من الانفصال عن واقع الناس، واختزلت التقدم في تقليد النماذج الغربية دون أن تُدرك أن النهضة لا تُستنسخ، بل تُبنى من داخل المجتمع نفسه، من خلال فهمٍ دقيقٍ لمعادلاته النفسية والتاريخية والثقافية.

ولأن العلمانية العربية لم تنشأ من رحم المجتمع، بل فُرضت عليه من فوق، فقد بقيت طوال الوقت مشروعًا نخبويًّا هشًّا، يعيد إنتاج أزماته بدل أن يقدم حلولًا لها. حينما انهارت الشعارات الكبرى، وبدا الفشل الاقتصادي والسياسي في معظم الدول العربية، لم تجد هذه العلمانية ما تقوله سوى الاتهام المتكرر للدين أو للمجتمع "المتخلف"، وكأنّ المشكلة ليست في عجزها عن بناء نموذجٍ إصلاحيٍّ واقعي، بل في الناس أنفسهم الذين لم "يفهموا" الحداثة بعد. هكذا تحوّلت من فكرٍ إصلاحيٍّ محتمل إلى خطابٍ فوقيٍّ متعالٍ يُحمِّل الشعوب مسؤولية إخفاق النخب.

إن مأزق العلمانية العربية يتجلّى في عجزها الدائم عن تقديم مشروعٍ متكاملٍ للحكم أو للإصلاح الاجتماعي. فهي لا تملك رؤية واضحة لمسألة العدالة، ولا موقفًا محددًا من قضايا الهوية والانتماء، ولا تصورًا واقعيًا لإدارة العلاقة بين الحرية والمسؤولية أو بين الفرد والجماعة. وحتى حينما وصلت بعض التيارات العلمانية إلى السلطة، كما في تجارب القومية العربية أو الليبرالية الرسمية، سرعان ما تحوّلت إلى أنظمة سلطوية تستخدم خطاب الحداثة لتبرير الاستبداد، فأفرغت المفهوم من مضمونه الأخلاقي والإنساني، وأدخلت المجتمعات في دوامة من القهر والفساد والتبعية.

وما يزيد هذا الإفلاس وضوحًا أن العلمانية العربية لم تنجح حتى في بناء نموذجٍ ثقافيٍّ بديلٍ قادرٍ على منافسة المرجعيات الدينية أو الفكرية الأصيلة في المجتمع. فخطابها ظلّ متناقضًا بين الدعوة إلى الحرية الفكرية من جهة، وممارسة الإقصاء لكل من يخالفها من جهة أخرى. ولم تُنتج مؤسساتٍ فكرية أو تربوية تُغذّي الوعي النقدي الحقيقي، بل اكتفت بالخطاب الإعلامي والشعارات السياسية. ولهذا، تآكل تأثيرها تدريجيًا، وبدت عاجزةً عن مخاطبة الأجيال الجديدة التي تبحث عن معنى أعمق للوجود والهوية والكرامة الإنسانية.

إن فشل العلمانية العربية ليس ناتجًا عن "طغيان الدين" كما تدّعي بعض الأصوات، بل عن غياب المشروع الحضاري المتكامل الذي يربط بين القيم والواقع، بين الحرية والمسؤولية، بين الأصالة والتجديد. فالعلمانية لم تستطع أن تقدّم للإنسان العربي ما يُعيد له ثقته بذاته أو ما يُلهمه رؤية للمستقبل، بل ساهمت – من حيث لا تدري – في تعميق الاغتراب والانقسام، وفي تجريد الثقافة العربية من مرجعيتها الأخلاقية.

ولهذا، فإن ما نعيشه اليوم من أزمة هو في جوهره إعلان صريح عن إفلاس هذا النموذج، وعن الحاجة الماسّة إلى فكرٍ جديدٍ يتجاوز ثنائية “الدين والعلمانية”، فكرٍ يؤمن بضرورة الإصلاح من الداخل، وبأن النهضة لا تُصنع في معازل فكرية منعزلة، بل في رحم المجتمع نفسه، حين يُستعاد التوازن بين العقل والإيمان، بين الحرية والقيم، وبين التراث والتجديد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صناعة المعنى في زمن التناقضات: رحلة الوعي بين الحرية والروح
- الحرب النفسية ضد الإسلام: معركة العقول والقلوب في زمن الهيمن ...
- الفلسفة والدين: من العقل إلى الوجود، انعكاسات الفكر الأوروبي ...
- بيتر هيجز: العقل الذي كشف سر الكتلة وأعاد صياغة فهم الكون
- العقل بين التأسيس والنقد: تحولات المفهوم في الفلسفة الأوروبي ...
- الذكاء الفائق كحاكم خفي: إعادة تشكيل منظومات الحوكمة الاسترا ...
- الهيمنة الرقمية: الإنسان بين التقدم وفقدان المعنى
- من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وج ...
- كوبرنيكوس: حين تحدّى الإنسان مركزية الكون فاهتزت عروش اليقين
- المستعربون العرب: جسرٌ مُزيّف يعيد إنتاج السردية الإسرائيلية ...
- العدالة الاقتصادية في عصر الذكاء الفائق: نحو عقد اجتماعي جدي ...
- النفوذ الرقمي: إعادة تشكيل خرائط القوة في القرن الحادي والعش ...
- الوجودية: من قلق الفرد إلى عبء الحرية وصناعة المعنى
- إسرائيل كذراع استراتيجية للولايات المتحدة: بين المصالح العمي ...
- القيادة التحويلية في زمن الأزمات: من احتواء التحديات إلى صنا ...
- هندسة الجاذبية: إدارة القوة الناعمة كرافعة للنفوذ الدولي
- الجغرافيا الجديدة للنفوذ: أمن الطاقة وإعادة تشكيل التوازنات ...
- المؤثرون: بين بناء الثقة وتحديات الشهرة
- ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث
- السيادة في عصر الشبكات: الأمن الرقمي كدرع للأمن القومي


المزيد.....




- TOYOUR EL-JANAH TV .. خطوات تنزيل تردد قناة طيور الجنة على ن ...
- إنكلترا: حريق بمسجد يشتبه بأنه جريمة كراهية بعد أيام من هجوم ...
- مقال بجيروزاليم بوست: هل تفقد إسرائيل اليهود في الشتات؟
- يهود أمريكا ينتقدون إسرائيل: 61% يتحدثون عن جرائم حرب و39% ع ...
- TOYOUR EL-JANAH TV .. خطوات تنزيل تردد قناة طيور الجنة على ن ...
- الجماعة الإسلامية في باكستان تدعو للتمسك بحقوق الفلسطينيين
- بينها السعودية ومصر والأردن.. بيان مشترك لـ8 دول عربية وإسلا ...
- “حدثها بسهولة” تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات وا ...
- سوريا تنتخب أول برلمان بعد الأسد.. وترشح أول يهودي منذ 1967 ...
- الاحتلال يعتقل ثلاثة مواطنين من كفر الديك غرب سلفيت


المزيد.....

- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية العربية : فكر بلا وطن ولا وجدان