أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - صناعة المعنى في زمن التناقضات: رحلة الوعي بين الحرية والروح














المزيد.....

صناعة المعنى في زمن التناقضات: رحلة الوعي بين الحرية والروح


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 23:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

في عالم تتزاحم فيه التيارات الفكرية والفلسفية والعقائدية، تصبح صناعة المعنى واحدة من أكثر المهام تعقيدًا وإلحاحًا في حياة الإنسان المعاصر. لم يعد الفرد قادرًا على الاكتفاء بإرث تقليدي جاهز أو منظومة معرفية واحدة تسد حاجته إلى الفهم، لأن وفرة الطروحات وتناقض المرجعيات تجعل من الضروري الدخول في عملية تأمل عميقة تُمكّنه من التمييز والانتقاء وإعادة البناء. إن صناعة المعنى هنا لا تعني مجرد اختيار موقف أيديولوجي أو اعتناق عقيدة محددة، بل تتجاوز ذلك إلى بناء رؤية شاملة تنبع من وعي الذات أولًا، ومن قراءة نقدية للعالم ثانيًا، بحيث يصبح الإنسان شريكًا فاعلًا في إنتاج منظومة قيمية وفكرية تمنحه القدرة على العيش بسلام داخلي في وسط عاصف بالتشكيك والانقسام.

إن عملية البحث عن المعنى في ظل التناقضات الفكرية تشبه إلى حد بعيد عملية التنقيب في طبقات الأرض؛ فالمعادن النفيسة لا تُكتشف على السطح، بل في الأعماق، بعد جهد وصبر وتجربة. لذلك فإن من يريد صناعة معنى متماسك يحتاج إلى أدوات منهجية وفكرية متينة، مثل التفكير النقدي، والقدرة على التمييز بين الظاهر والباطن، والوعي بتاريخ الأفكار وتحوّلاتها. هذا الوعي لا يلغي التناقض، بل يعترف به ويحوّله إلى مادة للفهم، إذ يصبح التناقض نفسه فرصة لتوسيع المدارك، بدلاً من أن يكون مصدر قلق أو اغتراب. هكذا يتحول تعدد الأصوات إلى فسيفساء فكرية، يمكن للباحث عن المعنى أن يعيد صياغتها في لوحة أكثر انسجامًا مع تجربته الذاتية.

ولا شك أن صناعة المعنى تقتضي مواجهة سؤال الحرية. ففي عالم متعدد المرجعيات، لا يمكن للإنسان أن يصوغ معنى أصيلًا إذا ظل أسيرًا لسلطة مطلقة أو خطاب أحادي يختزل الحقيقة. الحرية هنا ليست فوضى، بل هي قدرة واعية على الموازنة بين الانفتاح على الأفكار المختلفة وبين الحفاظ على ثوابت قِيمية تمنع الذوبان في التيارات المتناقضة. إنها عملية دقيقة تشبه السير على حبل مشدود: أي ميلان مبالغ فيه نحو التعصب أو نحو الانفلات يؤدي إلى سقوط المعنى أو تشظيه. ومن هنا تظهر الحاجة إلى مرونة فكرية، قوامها الاعتراف بالآخر والتفاعل معه دون انصهار كلي، مع الحفاظ على نواة صلبة من المبادئ التي تشكّل هوية الذات وركيزة وجودها.

كذلك، لا يمكن صناعة المعنى بمعزل عن البعد الوجودي والروحي للإنسان. فالفكر وحده لا يكفي، والمنطق بمفرده عاجز عن الإجابة على أسئلة الألم والموت والمصير، التي تشكّل جوهر التجربة الإنسانية. لذلك فإن صناعة المعنى الحقيقية تتطلب تزاوجًا بين العقل والروح، بين التحليل النقدي والانفتاح على البُعد المتعالي الذي يمنح التجربة الإنسانية عمقها وسموها. إن إدراك الإنسان لقصوره وحدوده أمام أسئلة كبرى، ووعيه بحاجة ذاته إلى الارتباط بما يتجاوزها، هما ما يجعلان المعنى أكثر رسوخًا وأقل عرضة للانهيار أمام تقلبات الفكر والصراعات الأيديولوجية.

وبالنهاية، فإن صناعة المعنى في عالم مليء بالتناقضات ليست مشروعًا يُنجَز دفعة واحدة، بل هي مسار طويل من البحث الدؤوب، والتجربة، والمراجعة المستمرة. إنها عملية حية، تنمو وتتطور مع الإنسان، ولا تتوقف عند نقطة ثابتة. وفي هذا الوعي بأن المعنى ليس جاهزًا ولا نهائيًا تكمن قوته؛ فهو يظل متجددًا، قادرًا على مواكبة التغيرات، ومحصنًا ضد الجمود والتصلب. بهذا الشكل، يصبح الإنسان في عالم الأفكار المتناقضة كمن يمارس فنًّا صعبًا ودقيقًا: فنّ تحويل التعدد والتباين إلى مصدر غنى، وصياغة رؤية متماسكة تتيح له أن يحيا بوعي ومسؤولية، لا ككائن مفعول به وسط الضجيج، بل كفاعل حرّ في صناعة وجوده ومعناه.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب النفسية ضد الإسلام: معركة العقول والقلوب في زمن الهيمن ...
- الفلسفة والدين: من العقل إلى الوجود، انعكاسات الفكر الأوروبي ...
- بيتر هيجز: العقل الذي كشف سر الكتلة وأعاد صياغة فهم الكون
- العقل بين التأسيس والنقد: تحولات المفهوم في الفلسفة الأوروبي ...
- الذكاء الفائق كحاكم خفي: إعادة تشكيل منظومات الحوكمة الاسترا ...
- الهيمنة الرقمية: الإنسان بين التقدم وفقدان المعنى
- من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وج ...
- كوبرنيكوس: حين تحدّى الإنسان مركزية الكون فاهتزت عروش اليقين
- المستعربون العرب: جسرٌ مُزيّف يعيد إنتاج السردية الإسرائيلية ...
- العدالة الاقتصادية في عصر الذكاء الفائق: نحو عقد اجتماعي جدي ...
- النفوذ الرقمي: إعادة تشكيل خرائط القوة في القرن الحادي والعش ...
- الوجودية: من قلق الفرد إلى عبء الحرية وصناعة المعنى
- إسرائيل كذراع استراتيجية للولايات المتحدة: بين المصالح العمي ...
- القيادة التحويلية في زمن الأزمات: من احتواء التحديات إلى صنا ...
- هندسة الجاذبية: إدارة القوة الناعمة كرافعة للنفوذ الدولي
- الجغرافيا الجديدة للنفوذ: أمن الطاقة وإعادة تشكيل التوازنات ...
- المؤثرون: بين بناء الثقة وتحديات الشهرة
- ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث
- السيادة في عصر الشبكات: الأمن الرقمي كدرع للأمن القومي
- أشباه الموصلات وصياغة ملامح القوة في القرن الحادي والعشرين


المزيد.....




- توم هولاند يأخد استراحة من تصوير -Spider Man- بسبب إصابة
- ماكرون يعلن اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية
- -كيف وصلت من القاعدة لرئاسة سوريا؟- هكذا رد الشرع على سؤال م ...
- القسام تبث فيديو رهينة إسرائيلي يهاجم نتنياهو.. وإسرائيل تحذ ...
- وسط خلاف تجاري مع واشنطن.. كوريا الجنوبية تحذر من أزمة مالية ...
- مناورات -بحر الصداقة-: مصر وتركيا تعيدان تشكيل المشهد في شرق ...
- دولة فلسطين: كيف سيترجم الاعتراف بها عمليا؟
- السعودية تعتمد ضوابط جديدة للمحتوى الإعلامي والرقمي لحماية ا ...
- قطر: الهجوم الإسرائيلي يهدد كل الاتفاقات المبرمة بالمنطقة
- إسرائيل تتوعد أسطول الصمود


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - صناعة المعنى في زمن التناقضات: رحلة الوعي بين الحرية والروح