حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 16:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لم يعد التهديد الحقيقي للحضارة المعاصرة يتمثل في الحروب أو الفوضى المادية كما كان الحال في الماضي، بل أصبح يتجسد في صورة أكثر خفاءً وأشد تأثيرًا، وهي الهيمنة الرقمية. فالتقنية الحديثة، حين تنفصل عن القيم الإنسانية والثقافية، تتحول من أداة خادمة إلى قوة مهيمنة تعيد تشكيل وعي الإنسان ونمط عيشه. وعندما يُختزل العالم إلى معطيات رقمية ومؤشرات كمية، يُسلب الإنسان جوهره الداخلي، ويغدو الوجود مجرد بيانات ومعادلات باردة بلا معنى روحي أو قيمي. وهكذا يتحول التقدم نفسه إلى عملية إفقار للإنسانية، رغم ما يمنحه من وفرة مادية.
إن خطورة الهيمنة الرقمية تكمن في طغيان العقل الأداتي الذي يحصر كل شيء في الحسابات النفعية ويُقصي الأبعاد الأخلاقية والجمالية. في هذا السياق، يغدو الإنسان ذاته مادة قابلة للقياس، وتُختزل كرامته إلى إنتاجية واستهلاك، بينما تتحول الثقافة والفنون والفكر إلى منتجات قابلة للتسويق. لم تعد التقنية مجرد وسيلة بين يدي الإنسان، بل غدت سلطة تحدد خياراته وسلوكياته وتوجه إدراكه للعالم، فتخلق اغترابًا عميقًا بين الإنسان وذاته، وبين الفرد ومجتمعه.
وعلى المستوى الاجتماعي، تؤسس الهيمنة الرقمية لمجتمعات تُدار بدقة متناهية لكنها فاقدة للحيوية الإنسانية. فالخوارزميات تسيطر على أشكال التواصل، وتحدد ما يراه الأفراد وما يفضلونه، بل وتوجه قراراتهم في الاستهلاك والسياسة وحتى العلاقات الشخصية. بمرور الوقت، تتلاشى حرية الاختيار الحقيقية، لتحل محلها حرية مُصطنعة تصوغها الآلة الرقمية. وهكذا يعيش الإنسان في عالم يبدو مفتوحًا لكنه في الحقيقة محكوم بقيود غير مرئية تفرضها بنى تقنية معقدة.
أما مستقبل هذه الظاهرة فيبدو أكثر إرباكًا، إذ قد تمتد الهيمنة الرقمية إلى جميع مجالات الحياة: من الصحة والتعليم إلى الأمن والسياسة. وإذا استمر هذا المسار دون ضوابط أخلاقية صارمة، فإن الحضارة البشرية قد تجد نفسها في عالم أكثر تنظيماً وثراءً، لكنه يفتقر إلى العمق الإنساني والمعنى الداخلي. سيغدو الإنسان مجرد "مورد بيانات" أو "مستهلك مبرمج"، ويذوب تفرّده وإبداعه الفردي داخل منظومة خوارزمية شمولية.
إن التحدي الأكبر أمام الإنسانية اليوم هو القدرة على إيجاد توازن بين مكتسبات التقدم الرقمي وبين الحفاظ على القيم التي تجعل الإنسان إنسانًا: الحرية، الكرامة، والقدرة على الإبداع والمعنى. فلا يكفي أن نتقدم تقنيًا، بل يجب أن نعيد وصل هذا التقدم بأفق قيمي وثقافي قادر على صيانة الروح الإنسانية. وبدون ذلك، ستبقى الهيمنة الرقمية تهديدًا صامتًا يقوض أساس الحضارة من الداخل، ويحوّل التقدم إلى مسار نحو فقدان الجوهر الإنساني.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟