أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وجه الإنسانية














المزيد.....

من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وجه الإنسانية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 14:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
حين أزاح كوبرنيكوس الأرض عن مركز الكون ووضع الشمس في موضعها الحقيقي، لم يكن يكتب سطراً عادياً في علم الفلك، بل كان يفتح الباب أمام أعظم التحولات الفكرية التي عرفها التاريخ. لقد كان العالم قبل كوبرنيكوس أسيراً لرؤية كونية مغلقة، ترسخت بفعل سلطة الكنيسة التي جعلت الإنسان مركز كل شيء، وربطت صورة الكون برؤيتها اللاهوتية. غير أن هذه الثورة الهادئة التي أعلنها كوبرنيكوس كانت الشرارة الأولى التي أشعلت سلسلة من الانقلابات المعرفية التي نقلت العقل البشري من دائرة التبعية واليقين المفروض إلى فضاء النقد والتجريب والاكتشاف.

سرعان ما جاء غاليليو ليحوّل الفكرة النظرية إلى شهادة بصرية دامغة. كان التلسكوب بين يديه نافذة على أسرار لم تُعرف من قبل: أقمار المشتري التي تدور حوله، ومراحل الزهرة التي تؤكد مركزية الشمس، وبقع الشمس التي تكسر صورة السماء النقية الكاملة. لكن أعظم ما أنجزه غاليليو لم يكن في تلك الاكتشافات ذاتها، بل في ترسيخ المنهج التجريبي والدفاع عن حق العقل في مواجهة السلطة. لقد كان صراعه مع محاكم التفتيش رمزاً للصدام بين المعرفة الحرة والوصاية الدينية، وصدى مبكر لمعركة طويلة خاضها الفكر الإنساني من أجل استقلاله.

وفي أعقاب ذلك، أتى يوهانس كبلر ليمنح الثورة الكوبرنيكية صرامة رياضية، فبرهن أن مدارات الكواكب إهليجية وليست دوائر مثالية، واضعاً بذلك قوانين كشفت عن انسجام رياضي كوني عميق. بهذا الإنجاز، تحوّل الكون إلى كتاب مكتوب بلغة الأعداد، وامتلك العقل ثقة جديدة بقدرته على فك ألغاز الطبيعة. هذه الثقة مهدت الطريق لإسحاق نيوتن، الذي جمع الخيوط كلها في منظومة كونية واحدة، فجعل من قوانين الحركة والجاذبية إطاراً موحداً يفسر سقوط التفاحة ودوران القمر في معادلة واحدة. لقد كان إنجاز نيوتن تتويجاً لمسار كامل من الثورات، وبداية إيمان عميق بأن العالم محكوم بقوانين ثابتة يمكن للعقل اكتشافها وتوظيفها.

لكن هذه التحولات لم تقتصر على مجال العلوم الطبيعية. فقد انتقلت العدوى إلى الفلسفة، حيث أعلن ديكارت أن الشك هو الطريق إلى اليقين، مؤسساً لعقلانية جديدة تستند إلى الدليل والبرهان. وجاء من بعده فلاسفة التنوير ليجعلوا من نجاحات العلم نموذجاً للتحرر من قيود السلطة السياسية والدينية. لقد أفضت هذه الروح الجديدة إلى انبثاق عصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ارتفعت أصوات تطالب بالحرية والمساواة، وانتشرت أفكار العقد الاجتماعي والسيادة الشعبية، مما مهّد لاندلاع الثورات السياسية الكبرى، مثل الثورة الفرنسية التي قلبت أنظمة الحكم وغيرت شكل المجتمعات الأوروبية.

وفي الاقتصاد أيضاً انعكست هذه الثورات المعرفية، إذ وجد آدم سميث في قوانين السوق الحرة ما يشبه قوانين الطبيعة في صرامتها ونظامها، فأسس بذلك لعلم جديد منح البشرية أدوات لفهم العلاقات الاقتصادية بعيداً عن تدخل السلطات المطلقة. وهكذا، تداخلت الاكتشافات العلمية مع الأفكار الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لتشكل جميعها لوحة كبرى لنهضة متكاملة نقلت العالم إلى الحداثة.

وإذا نظرنا إلى حاضرنا، فإن أثر تلك الثورات لم يتوقف عند حدود القرن السابع عشر أو الثامن عشر. فالثورات العلمية اللاحقة، من النسبية عند أينشتاين إلى ميكانيكا الكم، لم تكن إلا امتداداً لذلك المبدأ الكوبرنيكي الذي يعلّمنا أن الكون أوسع وأكثر تعقيداً مما نتخيل. واليوم، مع ثورة الذكاء الاصطناعي، نعيد اكتشاف حدود العقل البشري وإمكاناته، ونعيش لحظة معرفية جديدة تُذكّرنا بأن مسيرة العلم لا تعرف محطة نهائية، بل هي سلسلة لا تنتهي من الانفتاحات الكبرى.

لقد كانت ثورة كوبرنيكوس البداية، وما تلاها سلسلة من الانفجارات المعرفية التي زلزلت يقين العصور القديمة وأطلقت العقل الإنساني في رحلته الكبرى. وما تزال رسالتها قائمة حتى يومنا هذا: أن الحقيقة ليست ميراثاً ثابتاً، بل مغامرة مستمرة، وأن الإنسان لا يعرف ذاته حقاً إلا حين يجرؤ على مساءلة كل ما يظنه بديهياً.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوبرنيكوس: حين تحدّى الإنسان مركزية الكون فاهتزت عروش اليقين
- المستعربون العرب: جسرٌ مُزيّف يعيد إنتاج السردية الإسرائيلية ...
- العدالة الاقتصادية في عصر الذكاء الفائق: نحو عقد اجتماعي جدي ...
- النفوذ الرقمي: إعادة تشكيل خرائط القوة في القرن الحادي والعش ...
- الوجودية: من قلق الفرد إلى عبء الحرية وصناعة المعنى
- إسرائيل كذراع استراتيجية للولايات المتحدة: بين المصالح العمي ...
- القيادة التحويلية في زمن الأزمات: من احتواء التحديات إلى صنا ...
- هندسة الجاذبية: إدارة القوة الناعمة كرافعة للنفوذ الدولي
- الجغرافيا الجديدة للنفوذ: أمن الطاقة وإعادة تشكيل التوازنات ...
- المؤثرون: بين بناء الثقة وتحديات الشهرة
- ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث
- السيادة في عصر الشبكات: الأمن الرقمي كدرع للأمن القومي
- أشباه الموصلات وصياغة ملامح القوة في القرن الحادي والعشرين
- حدود العلم بين رؤية كارل بوبر وتأملات محمود كيوان: نحو فلسفة ...
- التخيل الاجتماعي في زمن الذكاء الاصطناعي: صراع السرديات وإعا ...
- اقتصاد الجليد: سباق القوى الكبرى على كنوز القطب وأسرار المست ...
- الحوسبة الاجتماعية: البنية الرقمية الجديدة لسلوك الإنسان الج ...
- من الإنسان إلى الإله: جدلية لاهوت المسيح في القرون الثلاثة ا ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد النفسي: عقل بشري في قبضة خوارزمية ...
- الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير ا ...


المزيد.....




- موقف طريف.. دب شَرِه يزور المستشفى بعد إفراطه في تناول الفاك ...
- زهران ممداني حول -حماية- نيويورك من الحرس الوطني: الشراكة با ...
- تعرّفوا إلى نداءات مخلوق -ساسكواتش- في مسابقة -بيغ فوت- السن ...
- بعد أكثر من 700 يوم من الحرب.. إليكم عدد الرهائن المحتجزين ف ...
- أحمد الشرع يثير تفاعلا خلال حضوره حفل تخرج زوجته لطيفة الدرو ...
- -الدولية للطاقة الذرية- تُحذر من عالم يضم 25 قوة نووية
- يديعوت أحرونوت: إسرائيل تسعى لتغيير اسم عملية -عربات جدعون 2 ...
- رغم التهديد بالإدانة.. توسع الاحتجاجات بلندن ضد حرب الإبادة ...
- اختطاف عمال صينيين جنوب نيجيريا ومقتل حراسهم
- واشنطن تعفي مؤقتا نائب رئيس غينيا الاستوائية من العقوبات


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وجه الإنسانية