صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 13:33
المحور:
الادب والفن
مقامة رماد القدر :
نشر الدكتور البعقوبي عبارة تقول : (( هو كثير رماد القدر )) , وأعقبها بشرح يقول : (( هذه الجملة لها معنى اول هو ان الرجل كثيرا ما يشعل النار التى تنتج رمادا تحت القدربيد ان المعنى المراد ان صاحب القدر سخي كريم , ان المعنى الاول قادنا الى المعنى الثاني , وهذا ما يعبر عنه فى الانجليزيةThe meaning of meaning )) , والعبارة ألأنكليزية تعني (( معنى المعنى )) بما يعني لب اللب , وظاهر العبارة بعيد في معناه عن المعنى المقصود به , ويستدعي إعمالاً للعقل وربطاً ليفهم السامع المعنى المُراد , وقد تكون الكناية قريبة وواضحة , مثل : فلانة بعيدة مهوى القرط , والقرط هو الحلق , حيث تُقال كنايةً عن طول رقبة الأنثى , وتُفهم بتأويل المعنى الظاهر مباشرة.وتعدّ هذه الكناية من حيث النوع كناية عن صفة وهي صفة الكرم , حيث قالت العرب فلان كثير الرماد أو (( كثير رماد القدر )) , وذلك كنايةً عن الكرم , أي كثير القِرى , فالرجل المضياف الكريم الجواد يَكثر مجيء ضيوفه عليه ممّا يستدعي منه إكرامهم والترحيب بهم بالطهي في القدور الكبيرة , والتي تحتاج إلى إشعال النار بالحطب بكثرة فينتج الرماد الكثير, فربطت العرب منذ القدم كثرة الرماد بالكرم والجود وهذا ما قصده دكتورنا المحترم .
الكناية : هي إطلاق لفظ وإرادة لازم معناه مع قرينه لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي , وعلى هذا فيكون الفرق بين المجاز والكناية أن القرينة في المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي وفي الكناية لا تمنع , وقد أورد الجرجاني أمثلة توضح تعريفه منها : (( هو طويل النجاد )) يريدون طويل القامة , وفي المرأة يقولون هي : (( نؤوم الضحى )) , والمراد أنها مترفة مخدومة , تجد من يخدمها وذلك أن المعروف عن العرب أنهم لاينامون الضحى لأنهم يشتغلون في الصباح إلا من عنده خادم ويجوز إرادة المعنى الأصلي وهو الحكم عليها بكثرة النوم أما المجاز فقرينته مانعة بمعنى أن المعنى الأصلي لا يمكن تقديره , وقول الشاعر : (( وما يك فيّ من عيب فإني جبان الكلب مهزوم الفصيل )) , فيها كنايتان كلاهما عن الكرم , الأولى : جبان الكلب والمقصود أن الكلب إذا تعود كثرة الضيفان فإنه يترك النباح وبهذا نستدل على أن المراد ليس الصفة المذكورة بل المقصود الكرم , والثانية : مهزول الفصيل والمقصود أنه من كثرة الضيفان وما يشربون من اللبن أو ما يتسببون به من ذبح لأم الفصيل لإطعامهم يحصل بذلك هزال وضعف للفصيل.
ثم لدينا قول المتنبي : (( فمساهم وبسطهم حرير وصبحهم وبسطهم تراب )) , فالشطر الأول : كناية عن العز وهي كناية عن صفة , والشطر الثاني كناية عن الذل والفقر وهي كناية عن صفة أيضاً , وعدما نقول (( فلان منخرق الجيب )) , فهو كناية عن الإسراف والتبذير , وفلان كثير الإخوان لين الجانب : كناية عن حسن الخلق , و قوي الساعد مفتول العضلات : كناية عن القوة , وفلان عضّ على نواجذه كناية عن الصبر, أما فلان يمشي على ثلاث فهي كناية عن التقدم في السن , وأطلق رجليه للريح , كناية عن السرعة والخوف , فلان يشار إليه بالبنان , كناية عن الشهرة , فلان عريض القفا : كناية عن الغباء والخمول , والذي يمشي على بيض فهي كناية عن البطء .
يقول شوقي: (( ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشباب )) , وهذه الكناية عن الموصوف , و ضابط هذا النوع من الكناية أن نذكر الصفة والنسبة ولا نذكر الموصوف , فقوله (بين الضلوع دم ولحم) كناية عن موصوف وهو ( القلب) ولعلك تلحظ أن الموصوف لم يذكر وإنما ذكرت الصفة الدالة عليه وهي الدم واللحم والنسبة وهي كونه بين الضلوع , وقول المتنبي: (( ومن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خضاب )) , كناية عن الرجال في الشطر الأول , وهو موصوف , وأما الشطر الثاني فهو كناية عن النساء وهو موصوف كذلك , كما ان هناك الكناية عن نسبة , وضابطها أن نذكر الصفة والموصوف لكننا هنا لن ننسب الصفة إلى صاحبها , بل إلى شيء له تعلق بصاحبها فنقول مثلاً : فلان الكرم بين برديه : كناية عن الكرم , وذلك بنسبة الكرم إلى ثيابه وهذا يعني بالضرورة ثبوتها للممدوح , كما في قول الشاعر : (( إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج )) , فالسماحة وما بعدها نسبت للقبة , والمراد صاحبها فهي هنا كناية عن إثبات هذه الصفات للممدوح .
من بلاغة الكناية في القرآن والسنة , قوله تعالى : (( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين )) , كناية بديعة رفيعة عن النساء , وذلك أن الذي يتربى في الزينة والنعمة ولم يجرب الوقوف أمام الخصوم , فإنه لن يبين في موطن الشدائد , ولن يأتي بحجة ولا برهان وفي هذا إشارة إلى الرد على الكفار , الذين جعلوا الملائكة بنات الله إذ كان المفترض فيهم أن يختاروا الجنس الممدوح عندهم وإن كان كل ذلك ضلال في ضلال , وفي هذا إلماح إلى أن الرجل يجب أن يتجنب الزينة الزائدة التي تورث النعومة لأنها من صفات النساء وهي كناية عن موصوف , وقال تعالى ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) فهذه كناية عن الغيبة والنميمة وهي كناية عن صفة ولاشك , وهذه الكناية نقلت لنا صورة بشعة للغيبة قد لايتصور الإنسان قدر بشاعتها , إذ كيف يمكن للإنسان أن يأنس بتمزيق لحم آدمي مثله , ليس هذا فقط بل أخوه , بل ويأكله ميتا أيضاً , كل هذا لم يكن لو قيل لا تغتابوا , أما الكناية في السنة الشريفة , قول النبي : (( من يضمن لي مابين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة )) ف ( ما بين لحييه ) يقصد به اللسان و( ما بين فخذيه ) يقصد به الفرج وهي كناية عن موصوف , و ( المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة ) وهذه كناية عن العلو والرفعة وهي كناية عن صفة , ويمكن أن تكون حقيقة في طول أعناقهم.
وهكذا , نرى أن الكناية ليست مجرد أداة بلاغية لإخفاء المعنى أو تجميل الكلام , بل هي فنّ يثري اللغة ويمنحها عمقاً وبعداً آخر, إنها دعوة للتأمل وإعمال العقل , حيث يخرج السامع من المعنى السطحي إلى لبّ المعنى الحقيقي الذي يقصده المتحدث , فمن خلال الكناية , يمكننا أن نعبر عن الشدة بأرق العبارات , وعن القسوة بأجمل الألفاظ , وهو ما يفسر استخدامها الواسع في القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي على مر العصور, فكما أن (( رماد القدر)) يرمز إلى كرم لا تراه العين , تبقى الكناية دليلاً على أن أجمل المعاني وأقواها هي تلك التي لا تُقال صراحة , بل تُومَأ إيماءً وتُفهم من سياقها .
صباح الزهيري
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟