|
هل تحتاج نظرية الفاشية إلى تجديد؟
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 13:32
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أليكس ديميروفيتش* ترجمة: حازم كويي
نحن نشهد اليوم موجة فاشية عالمية. فما الذي تشترك فيه هذه الموجة مع تلك التي ظهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين؟ وكيف يمكننا فهم الطابع الجديد لهذا التطور؟ قد يبدو طرح السؤال بهذه الطريقة منحازاً بعض الشئ،إذ إنه يفترض ـ في ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية الأخيرة ـ الإجابة مسبقاً: نعم، نحن بصدد فاشية،وعلى الأرجح لا تقتضي الحاجة إلى تجديد النظرية فقط بسبب التحولات التاريخية، بل أيضاً بفعل التغيرات البنيوية داخل نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه. في النقاشات السابقة داخل أوساط اليسار والحركة المناهضة للفاشية، كانت التوقعات من النظرية كبيرة. كان يُعتقد أن الفاشية لا يمكن منعها أو وقفها إلا إذا جرى فهمها نظرياً.من كلارا زيتكن وإغناسيو سيلونه، مروراً بليو تروتسكي وبيرتولد بريشت، وصولاً إلى تيودور دبليو. أدورنو، شهدنا محاولات جادة لصياغة نظرية تشرح الديناميكيات السلطوية والفاشية التي تنشأ داخل المجتمع الرأسمالي. وفي سبعينيات القرن العشرين، كان من الممكن القول إن صعود اليمين يعود بدرجة كبيرة إلى نقصٍ في إنتاج النظرية داخل اليسار،ذلك لأن هذه النظرية كانت ـ إلى حد بعيد ـ ذات طابع اقتصادوي ضيق. لكن كل تلك النظريات والدراسات الواسعة حول البنية الاجتماعية، وكتل رأس المال، والناخبين وسلوك التصويت، والوضع الاجتماعي للعمال أو القاعدة الانتخابية، والأخلاق الجنسية، وتنظيم اليمين وأيديولوجياته، لم تتمكن من منع صعود القوى السلطوية. كيف ينبغي لنا إذن أن نفهم هذا النجاح لسياسة معادية للديمقراطية، باردة، وعنصرية اجتماعياً؟ في الواقع، هذه الظواهر قد تجاوزت كل النظريات ـ إن لم تكن قد دحضتها، فإنها على الأقل أفرغتها من فاعليتها. وهي تشير إلى حالة من الارتباك والعجز داخل الطيفين الديمقراطي والاشتراكي. فإذا لم تكن النظريات خاطئة، فإن نجاح اليمين السلطوي يشير إلى أن المشكلة ليست في صحة النظرية بحد ذاتها. لقد قدمت النظريات النقدية- المادية للفاشية والسلطوية رؤى مهمة جداً.لكن مع ذلك، هناك شيء ما ناقص أو غير كافٍ: إذ إن هذه النظريات لا تمنع القوى المهيمنة (البرجوازية، الحاكِمون، النخب) من تنظيم سيطرتهم بهذا الشكل،كما أنها لا تمسك بالجماهير (المقهورين، الكتل الشعبية، الشعب، البروليتاريا) بما يكفي لتحويلهم إلى قوة مقاومة مستمرة وبديلة. ربما كانت التوقعات المرتبطة بهذه النظريات أكبر من اللازم أو حتى خاطئة من الأساس. مع أن الموقف الذي اتخذته نظريات الفاشية النقدية لم يكن ـ في الغالب ـ عقلانياً صرفاً. لم يكن الأمر يتعلق بتنوير بسيط بالمعنى الإنساني للكلمة،ولا بنداء إلى العقل أو إلى القيم البرجوازية مثل الحرية والمساواة أو الديمقراطية،ولم يكن مجرد الإشارة إلى "الحقائق" كافياً. لقد كان بإمكان الحركة المناهضة للفاشية أن تستند إلى "قوة البنادق" لدى قوات الحلفاء المنتصرة وحركات المقاومة،وأن تؤمن بأن التمرد السلطوي للفاشية قد جرى سحقه عسكرياً. فالديمقراطية لم تكن ـ ولا تزال ـ ضعيفة.وقد تمثّل التعامل مع الفاشية والنزعات اليمينية المتطرفة والسلطوية في جهود التنوير بالإشارة التالية: انظروا ماذا ستكون العواقب:الدمار، الفقر، الجوع، تدمير التعليم، الأحكام المسبقة والعنصرية، العنف والقتل. أما الفاشية اليوم، فقد تعلمت من هزيمتها التاريخية.إنها تسعى إلى النصر على المدى البعيد، لكنها مستعدة أيضاً لقبول فناء البشرية. ومن خلال استراتيجية ميتاسياسية (أي تتجاوز السياسة المباشرة) تسعى الفاشية إلى إضعاف أو تدمير القوى التي قد تكون قادرة على الدفاع عن الديمقراطية وتقف في وجه القبول بالعدمية. سأقوم فيما يلي بطرح حجة تقوم على ما يلي: أولاً، أن من المفيد التفكير في تجديد نظرية الفاشية؛ثانياً، أن هذا التجديد وحده لا يكفي؛وثالثاً، أن الوضع الراهن لا ينبغي اعتباره فاشيةً بالمعنى الدقيق.
الفاشية اليوم قومية متحالفة عبر الحدود هناك على الأقل جانب واحد ذو أهمية يمكن من خلاله مقارنة الموجة الحالية بالموجة الفاشية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين: وهو تصاعد القوى المعادية للديمقراطية. وقد ساهمت التطورات في عدة دول، بوتيرة مختلفة، في ذلك منذ فترة طويلة. لكن هذه التطورات لا تحدث بشكل معزول:فهناك أحزاب قومية وسلطوية- شعبوية يلتقي ممثلوها، ووسائل إعلام يمينية محافظة، ودوائر فكرية تتبادل التأثير،إضافة إلى جماعات نازية جديدة مسلحة جزئياً تنشط في عدة دول وتتعاون فيما بينها،ومشهد ثقافي يشمل الموسيقى والملابس ودور النشر والمجلات. إن الاستراتيجيات اليمينية والفاعلين اليمينيين ـ وبعضهم فاعلون نازيّون جُدد أو فاشيون جُدد ـ يعززون بعضهم البعض،ويتواصلون مع قوى داخل الكنائس، والدوائر الحكومية،والإعلام، أو حتى في الجريمة المنظمة،ويجدون في تلك الدوائر تعاطفاً ودعماً وهم يعملون على إضعاف الحدود بين النشاط المؤسسي القانوني، والمجتمع المدني، والعمل السري. الديناميكية السلطوية لا يمكن تفسيرها فقط من خلال الوضع الاجتماعي لشريحة من السكان، أو التطورات السياسية، أو أنشطة الأحزاب اليمينية داخل دولة قومية بعينها. بل إن هناك تطابقاً برامجياً واضحاً بين الأحزاب اليمينية، على الرغم من نزعتها القومية المعلنة. نشهد تنسيقات، وتحالفات، وتعاوناً، ودعماً متبادلاً، وزيارات ومؤتمرات مشتركة. أحدث مثال على ذلك هو الانتقاد الذي وُجِّه للحكم القضائي ضد مارين لوبان، التي استغلت أموال الاتحاد الأوروبي لحساب حزبها حين كانت نائبة في البرلمان الأوروبي. فبُعيد صدور الحكم، أدلى أوربان وميلوني وترامب بتصريحات علنية ينتقدون فيها هذا الحكم السياسي المزعوم. وهذا بمثابة فضيحة متعددة الأوجه: تدخل حكومات أجنبية في السلطة القضائية لدولة أخرى، تجاهل تام للقانون الفرنسي،دعم سياسي واضح لسياسات سلطوية، في حين لا تُوجَّه انتقادات مماثلة لحكومات أخرى مثل التركية أو الروسية. وقد تكرر الأمر نفسه عندما أعلن جهاز حماية الدستور الألماني (الاستخبارات الداخلية) أن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) يمثل تطرفاً يمينياً مؤكداً.حينها، تحدث ممثلون عن الحكومة الأمريكية عن "استبداد في ألمانيا". وهذا يشبه أسلوب الدعاية النازية، حيث يجري قلب الأدوار بين الجلادين والضحايا، والمضطهِدين والمضطَهَدين. ونشهد مشهداً غير متوقع: جزء من النخب الحاكمة يقوم بتجريحٍ جذري لأجهزة السلطة نفسها ـ الإعلام، القضاء، الشرطة ـ ويرفض شرعيتها. لا بد أن تكون هناك أسباب عميقة لهذه العمليات المتزامنة. وهذه الأسباب لا تكمن في أنشطة الجماعات القومية اليمينية أو السلطوية،ولا في الآراء الشائعة التي ترصدها استطلاعات الرأي،ولا في الفقر الاجتماعي وحده.بل هناك نزعة سلطوية عابرة للحدود،تحظى بدعم قوى مؤثرة داخل البرجوازية. بعض تلك المجموعات قد لا ترغب صراحة في حكومات يمينية، أو أنها تقف منها موقفاً متردداً،مثل جيف بيزوس أو إيلون ماسك بعد عام 2017، أو الموقف المتحفظ لاتحادات رجال الأعمال الألمان من حزب البديل AfD)). لكن يُحتمل أنهم ينجرفون هم أنفسهم في ديناميكية سلطوية،تتحول تدريجياً إلى علاقة قسرية يصعب الفكاك منها. لقد غرقوا في خطاب عدائي بشكل متزايد: ضد النوع الاجتماعي (الجندر)، ضد "الصواب السياسي"، ضد ما يُسمى بسياسات الهوية، ضد عبء دولة الرفاه، وضد البيروقراطية. ومن شعارات مثل "الأجانب إلى الخارج" التي رُفعت في حزب (الديمقراطي المسيحي الألماني CDU))،ومن التآكل المستمر لقانون اللجوء،ومن ادعاءات مثل "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا"،ينبثق الطلب الصريح على الترحيل الحازم،ومنع الهجرة بشكل قاطع. وحقيقة أن شخصيات مثل وولفغانغ شويبله، وكريستيان فولف، أو هورست زيهوفر(سياسيون محافظون ألمان.المترجم) تراجعوا عن تصريحاتهم العنصرية بعد ترك مناصبهم،ولم تعد لها أهمية تُذكر. فنحن بصدد قوى يمينية حاضرة باستمرار داخل وسائل الإعلام،وفي الأحزاب المحافظة،وفي الجمعيات.هؤلاء يُمارسون هذه السياسة، أو يتبنون ديناميكيتها بوعي،ويعملون بها بشكل استراتيجي،ويتّخذون مواقف حاسمة ضد ما يعتبرونه تردّداً ونفاقاً من الأحزاب الحاكمة.إنهم يُرَكّزون ويُرَسّخون مواقف شائعة أصلاً داخل ما يسمى بـ"الوسط الديمقراطي" لنأخذ مثلاً: (ساركوزي"فرنسا"، كورتس"النمسا"، زيهوفر،و شّبان"المانيا"). وبسبب وجود تردّد داخل الأوساط البرجوازية ـ في الأحزاب، والإعلام، والكنائس ـ بشأن المدى الذي يمكن الذهاب إليه،وحول التنازلات الممكنة،وبسبب الصراعات السياسية والاستراتيجية حول ما يجب كبحه أو فتحه،تنشأ عمليات تطرف وانشقاق بين أفراد ومجموعات. وهذا ما حدث مع حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) ،الذي نشأ من ليبراليي السوق ومن كوادر يمينية داخل الحزب الديمقراطي المسيحيCDU. أحياناً يُطلِق بعض الفاعلين في الأحزاب اليمينية على أنفسهم صراحةً صفة "الفاشيين"، ويستندون إلى نماذج تاريخية مثل هتلر، و"قوات الإس إس" و"قوات العاصفة إس إيه" (مثل شعار "كل شيء من أجل ..." ـ كما يقوم بهAfD) )، يعبرون بوضوح عن عدائهم لليهود،ويُنكرون الهولوكوست،ويقومون باقتلاع أحجار الرصيف التذكارية(حجر ينقش بإسم الشخص الذي أغتيل من قبل النازية أمام الدار الذي كان ساكناً فيه.المترجم)،ويخربون مواقع الذكرى، أو يدنسون المقابر اليهودية ـ ثم، بعد لحظات فقط، يهددون خصومهم بأنهم سيفعلون بهم ما ينكرونه هم أنفسهم،مثل التهديد بالقول: "من عُلّق معهم، يُعدم معهم" غالباً لا يكون الأمر بهذا الوضوح،بل يتم التلميح فقط إلى نوع من التعاطف أوالاستمرارية مع الفاشية التاريخية .لكن سرعان ما يتم التراجع عن هذه التلميحات. ويُبرَّر الأمر بخطاب مراجعة تاريخية، أو بتقليل من الخطورة،أو يُدّعى أنه سوء فهم لا أكثر. ومع ذلك، هناك أيضاً جهود واضحة للتبرؤ من الماضي الفاشي أو النازي. فالأحزاب الشعبوية السلطوية تطرد أعضاءها الذين يبدون مواقف معادية للسامية أو يصرّحون بتأييدهم للنازية.ويميل ممثلو هذه الأحزاب إلى زيارة إسرائيل،ويبحثون عن التقارب مع الحكومات والسياسيين الإسرائيليين اليمينيين. العلاقة مع اليهود علاقة ملتبسة.فترامب، على سبيل المثال، يحارب المؤسسات الأكاديمية باسم مكافحة معاداة السامية في الجامعات الأمريكية،لكن وقاحته تتجلّى في أنه يصف النازيين الجدد في شارلوتسفيل ـ الذين أعلنوا أنهم لن يسمحوا لليهود باستبدالهم ـ بأنهم "وطنيون طيبون"،ويمنح عفواً لليمينيين المتطرفين.
الدينامية الفاشية في الولايات المتحدة يشير هذا إلى مشكلة التسمية: كيف يمكن تسمية هذه القوى وهذه التطورات؟ هناك العديد من المحاولات النقدية ـ وغالباً المتضاربة ـ لإعطاء هذه الظواهر اسماً مناسباً:الشعبوية، القومية، الشعبوية السلطوية، التطرف اليميني، الفاشية، السلطوية، المحافظة المتطرفة،الليبرالية المتأخرة أو ما بعد الليبرالية، الفاشية المتأخرة أو ما بعد الفاشية، الفاشية الدقيقة أو الفاشية الانفصامية، القومية السلطوية اليمينية. بعد ما جرى خلال الأسابيع الأولى من رئاسة ترامب،بات بعض المفكرين في الولايات المتحدة يتحدثون ببساطة ووضوح عن فاشية. لقد حدث انقلاب إداري ودستوري بفعل أنشطة وزارة العدل (DOJ) وجِهات تنفيذية،أُقيل على إثره العديد من الموظفين الحكوميين بشكل فوري. تعرّض أشخاص للاعتقال والترحيل بطرق أشبه بممارسات الشرطة السرية. لم تُحترم الإجراءات القضائية،بل تجاهلت الحكومة أحكام المحاكم العليا.تعرضت وسائل الإعلام للإقصاء،ورُفعت ضدها دعاوى قضائية هدفها ترهيبها مالياً وقانونياً. مكاتب المحاماة التي تمثل منتقدي الحكومة فقدت عملاءها أو أصبحت هي نفسها معرضة للملاحقة. حرية البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث تُنتَهك بشكل منهجي.وتُوجَّه التهديدات للسياسيين. هذا الانقلاب الإداري يترافق مع أزمة سياسية ودستورية،إذ لا توجد مؤسسة سياسية تُطبّق الحقوق أو تحترم قرارات المحاكم،ولا توجد وسيلة للمتضررين لمراجعة تصرفات الدولة أمام القضاء. ومع ذلك: فإن اللجوء إلى مصطلح الفاشية يخلق صورة تاريخية خاطئة. الفاشية كانت تسمية ذاتية،وُظفت لوصف شكل معين من العنف، والتعبئة الجماهيرية، وفهم الدولة. غالباً ما استند اليسار في تفسيره لها إلى نظرية ماركس عن البونابرتية.وقد ربط هذا اليسار في عشرينيات القرن الماضي بخيال تاريخي(مثل دعم مجموعة كبيرة من الفلاحين المعزولين)،مما حال دون التعرف بشكل كافٍ على واقع النازية: تحطيم الحركة العمالية،والتعبئة الدائمة للجماهير الكبيرة،وتوحيد المجتمع عبر الزي الرسمي،وإنشاء ميليشيات شبه عسكرية وجيوش سرية للشرطة. كان الكثيرون يعتقدون أن هتلر لن يظل طويلاً في السلطة،وأن الجماهير ستدرك أن وعد الاشتراكية لن يُنفذ.كان يُتوقع الحرب، والانتصارات العسكرية السريعة،والغزو ونهب أجزاء كبيرة من أوروبا،لكن لم يكن يُتوقع السياسة العنصرية للإبادة،وهي سياسة تسببت أيضاً في تدمير ذاتي لألمانيا والنمسا. بسبب حكم النازية، كان اليسار يتبنى بسرعة تقديراً بأن هناك عودة للفاشية أو فاشية جديدة في التظاهرات خلال السبعينيات ضد حرب فيتنام، الانقلاب في تشيلي، أو الإمبريالية الأمريكية، لم يكن من غير المألوف أن يهتف المشاركون بشعارات مثل "USA-SA-SS". أيضاً، توسع وتسلح قوات الشرطة،وهيمنة أجهزة القضاء في السبعينيات،والعديد من الهجمات اليمينية في إيطاليا،والوظيفة المعادية للشيوعية للنشاطات السرية للناتو ضد الجماعات اليسارية أو المنظمات غير الحكومية،كل ذلك دعا إلى الحديث عن "فاشية" ودولة سلطوية. كانت هناك مثل هذه الاتجاهات، لكنها لم تتبلور في شكل جديد لحكم استثنائي. من المفاجئ أنه في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يوجد دستور ديمقراطي منذ أكثر من مئتي عام، والديمقراطية البرلمانية متجذرة إلى حد ما ومستقرة في الظروف الاجتماعية، ويتم فيه تداول السلطة بشكل منتظم، تنشأ ديناميكية فاشية تحظى بدعم شريحة واسعة من السكان. هذا يعني أن المحاولات التي تفسر نجاح النازية في عشرينيات القرن الماضي بضعف ترسيخ المؤسسات الديمقراطية في المجتمع الألماني، أو بقلة معرفة السكان بالعادات الديمقراطية وقلة خبرتهم بالديمقراطية، تبدو غير مقنعة إلى حد كبير. كما أن الخبرة الطويلة والمجتمع المدني النشط لا يوفران حماية واضحة من ذلك. وربما يكون الأمر عكس ذلك تماماً،فالتناقضات التي يعيشها السياسيون داخل المؤسسات الديمقراطية تُعتبر بالنسبة لهم نفاقاً. كما أن تمسكهم بالقواعد الديمقراطية يحول دون تصور أن ممارسات سلطوية يمكن أن تنشأ من داخل الديمقراطية ومن خلالها. التطورات الفاشية لا تعتمد بالأساس على الآراء أو المواقف السائدة في أوساط السكان. في الأربعينيات، جادل ممثلو النظرية النقدية، بناءاً على تجارب شخصية، بأن معاداة السامية كانت أكثر انتشاراً في مواقف سكان الولايات المتحدة مما كانت عليه في ألمانيا قبل عام 1933. بالنسبة للنظرية النقدية، كانت هذه الفكرة ذات أهمية كبيرة من الناحية الاجتماعية للسلطة. فالآراء السائدة بين الجماهير لا تسمح بالتنبؤ بالتطور السياسي لأي بلد. ما يهم فعلاً هو ما يريده الحكام أو الطبقة الحاكمة. هم من يخلقون، من خلال الضغوط الاقتصادية، والتهديد، والعنف، والبروباغندا، والكذب، جواً من الطاعة والتوافق،بحيث ينضم الكثير من الناس إلى الجماعة السلطوية ويصبحون جزءاً منها.وأبحاث الرأي العام تؤيد هذه الفكرة.
أنا أفكر إذن في إتجاه مختلف. فنحن لا نتعامل مع ظواهر جديدة تماماً، ولا مع تكرار تاريخي بحت.فأنماط السياسة الاستبدادية وممارسات السلطة تمثل اتجاهاً طويل الأمد، وهي جزء جوهري من أسلوب الإنتاج الرأسمالي ومن عمليات تشكيل المجتمع البرجوازي. وفي هذا السياق، أتبع فكرة ماركس التي طرحها في الجزء الثالث من كتاب رأس المال.ما كان يحاول تحديده هو "المعدل المثالي" لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. ماركس اقترح في نظريته التركيز على القوانين الإحصائية والانتظامات لفهم التغيرات المستمرة، والاضطرابات، والأزمات، والتحولات الثورية الذاتية في تكوين المجتمع البرجوازي. لا شئ يبقى ثابتاً أو متطابقاً بالكامل،لكن بعض الممارسات تعود بشكل منتظم، في شكل متطابق ومتغير في آنٍ واحد. وهذا لا يشمل فقط العمليات الاقتصادية وتقلباتها، التي تؤدي بقدر معين من الاحتمالية إلى فائض ونقص في الإنتاج، وإلى وفرة وندرة في قوة العمل، وإلى الفقر والغنى في الوقت نفسه، وإلى النزاع بين الحرية الاقتصادية والتجارية الحمائية (المركانتيلية). كان ماركس في أبحاثه غير متأكد تماماً من الظواهر التي يجب أن تُحسب ضمن المعدل المثالي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي،لكنه أخذ في الاعتبار خاصية الحداثة في المجتمع البرجوازي:فالأسلوب الرأسمالي هو الوحيد الذي يتميز بتوزيعات إحصائية، وإنتظامات، وإحتمالات، ومتوسطات،وذلك مرتبط بشكل أساسي بتحديد القيمة من خلال العمل المجرد، الذي هو نتاج التبادل السوقي للأعمال المفيدة الملموسة. هذا التفكير يشمل أيضاً الدولة الرأسمالية والاستراتيجيات السياسية المختلفة للسلطة البرجوازية. في تحليلاته، توصل ماركس إلى نتيجة مفادها أن الجمهورية البرلمانية هي في "المعدل المثالي" الشكل الطبيعي للدولة البرجوازية الرأسمالية. وهذا "المعدل المثالي" يعني أنه في الواقع، تم تنظيم السلطة البرجوازية بطرق مختلفة وغالباً في أشكال غير دولة: مثل المدن، والسلطات الإقطاعية-النبلاء، والإمبراطوريات،أو تم ممارستها في أشكال استبدادية: الملكية، الدكتاتورية الاستعمارية، الديكتاتورية العسكرية، البونابرتية، الفاشية. تشكّلت السلطة البرجوازية منذ نهاية القرن الخامس عشر،وفي هذه الصراعات ضد الفلاحين الذين كانوا يرغبون في التخلص من الإقطاع والكنيسة الكاثوليكية، لعبت أشكال الحكم الاستبدادي دوراً مهماً، مثل:إبادة حركة تحرير الفلاحين وحركات المدن،الإصلاح المضاد (المقاوم للإصلاح الديني)،سحق الحركات الشعبية للاستيلاء على ملكية الأراضي الزراعية،المستعادة بعد الثورة الفرنسية مع ممثلين فكريين مثل دي ميستر وبونالد أو أجزاء من الرومانسية الألمانية،محاربة الحركة العمالية الناشئة،الثورة المضادة الكاثوليكية بعد عام 1848 مع ممثل مثل دونوسو كورتيز،وظهور معاداة السامية،وبعد الحرب العالمية الأولى جاءت الفاشية والنازية. كانت هذه جهوداً واستراتيجيات للحفاظ على السلطة وإعادة إنتاجها على مراحل متصاعدة، أي ليس فقط محاربة الحركات الشعبية بعد ظهورها،بل العمل بشكل مضاد للثورة وبشكل وقائي،حتى لا تنشأ مقاومة أو احتجاجات أو حركات اجتماعية أصلاً. وبذلك أعادت السلطة تنظيم نفسها على أساس احتمال نشوء المقاومة والحركات الشعبية. لقد نظمت العمليات السلطوية البرجوازية نفسها بشكل خاص مع حركة اجتماعية شاملة وجديدة تاريخياً، وهي حركة العمال، التي لم تكتفِ فقط بتنظيم مستمر وواسع النطاق جغرافياً، بل طورت أيضاً معرفة علمانية حول العلاقات الاجتماعية الواقعية، ووضعت خططاً ملموسة لبديل للعالم البرجوازي وطريقة العيش فيه. هذا أجبر الطبقة البرجوازية على تبني الواقعية، أي التوجه نحو البُعد الملموس للعلاقات الاجتماعية، وتطوير معرفة، عن السلطة والنضالات،وكذلك على بناء آليات وقائية (Préventivdispositiven) لضمان الأمن والنظام، ولمراقبة الأحداث الاجتماعية ومدى تأثيرها على العادات الثابتة والأنماط المستقرة. لذلك كانت الفاشية ممارسة مضادة للثورة. وليس الهدف الأساسي فيها فرض مصالح فصيل برجوازي مُحدد، كما اقترح ديميتروف، الذي رأى الفاشية كديكتاتورية إرهابية صريحة لأشد عناصر رأس المال المالي رجعية وشوفينية وإمبريالية. لكن مع غرامشي وبولانتزاس، يمكن تفسير الفاشية كنتيجة لأزمة شاملة في تكتل السلطة البرجوازي،أزمة اقتصادية، أزمة هيمنة، أزمة سياسية، وأخيراً أزمة الدولة،أي عملية زعزعة توازنات التوافق السابقة بين القوى الاجتماعية.حتى لو لم تكن لحركة العمال أية آفاق للنجاح الثوري،كان البرجوازيون محبطين، يشعرون بالتهديد، وغير متأكدين من كيفية التعامل مع مشكلات إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي وحلها. كان لا بد من منع حركة الاشتراكيين والشيوعيين من تنظيم أنفسهم بما يُمكنهم من تقويض السياسة الوطنية والعسكرية من الداخل،وتغيير علاقات الإنتاج،وتأميم الإنتاج الاجتماعي وإعادة إنتاجه. شكّلت الفاشية التاريخية في إيطاليا، وأكثر في ألمانيا، مجموعة متكاملة من الممارسات السلطوية التي طوّرتها السلطة البرجوازية على مدى قرون. كانت الفاشية شكلاً جديداً من العنف السلطوي- الدولتي غير المعروف من قبل. لقد دمجت الفاشية الصناعة الحديثة، ووسائل الاتصال، والقانون، والعلوم، والتطورات التكنولوجية،لكي تفرض السيطرة على جماهير ضخمة، وتديرها، وتضطهدها، وتبيدها على أساس معايير عنصرية. كانت الوقاية تستهدف قمع كل انحراف على مستوى الحياة البيولوجية بحيث تسود فقط "طبيعية" عنصرية نقية ومجتمع شعبي متجانس. وشمل ذلك إبادة الماركسية وحركة العمال، واليهود في أوروبا، والسلاف، والسنتي والروما، والمثليين، والمعوقين،أي كل من لا يتناسب مع صورة "العرق المتفوق" الذي تمت تربيته. حتى وإن كان هناك أحياناً أعتراض على تحديد الفاشية من خلال نوع من قائمة تحقُق، أجد أنه من المفيد تحديد مجموعة من الخصائص التي تميز الشكل الفاشي من الحكم السلطوي. من بين هذه الخصائص: الاستعداد للعنف كممارسة يومية وعشوائية للسلطة، الاحتقار النخبوي للجماهير، الجماعة الوطنية ورفض الفرد الحر، العدمية والتشاؤم الفلسفي التاريخي (انحطاط الثقافة)،الشعبوية والقيادة التي تصور نفسها كمقاومة، وذلك لاستخدام الجماهير المُحشدة لفرض مصالح الحكام، القومية، المحافظة، العنصرية ومعاداة السامية، التمييز الجنسي، وكراهية النساء ومعاداة الأقليات الجنسية، رفض الديمقراطية، رفض التحضر والمثقفين والعقلانية العلمية. كانت الفاشية محاولة في المجتمع البرجوازي للبحث عن اللحظات الجوهرية للمعارضة والانحراف بالقوة العلمية والشرطة والقضاء عليها، مقرونة بالاعتقاد الهَوسي بأن أي ممارسة للاختلاف أو وجهة نظر بديلة يجب القضاء عليها نهائياً. كان الهدف تحقيق نصر نهائي وتدمير مطلق للعدو. بالمقابل، أظهرت الهزيمة العسكرية على يد قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة أن ممارسة الحكم البرجوازي عبر الديمقراطية، والانتظامات الإحصائية المفتوحة، والمسارات الطبيعية غير المستقرة أكثر نجاحاً. لقد تم دحض الاعتقاد الهَوسي بتفوق الألمان، العرق الآري. ولكن في شكل عنصرية أسرية، والاعتقاد بالاختيار الخاص والتفوق العائلي، والاعتقاد بمعرفة الحقيقة حول الجنس والاقتصاد ورفاهية الولايات المتحدة، يظهر هذا الخيال مجدداً على المسرح السياسي مع ترامب وماسك. وهما يمنحان أنظمة أخرى، رغم أنها قومية وعنصرية، لكنها تفتقر إلى مثل هذه القوة، الدعم لتوسيع مصالحها واستغلال الآخرين. اتخذت الفاشية شكل حكم استثنائي. كانت بمثابة تكثيف لكل تلك اللحظات السلطوية. وفي نهايته وقعت جرائم مروعة من قتل عدد كبير من الناس، والإبادة الجماعية، والدمار، وتحركات سكانية في أوروبا، وتفكك الإمبراطوريات الاستعمارية، مما أدى إلى زعزعة اليقين في تفوق الأوروبيين الإثني. عندما يُتحدث عن الفاشية، يُقصد في كثير من الأحيان هذا النوع من النهاية في الدينامية الاجتماعية، أي الحكم الشمولي والتبعات المدمرة. لذلك، كانت الإشارة إلى الطابع الفاشي أو المعادي للسامية لقناعات أو تصريحات أو أفعال عامة بمثابة خط سياسي-أخلاقي يرسم حداً. فقد كانت تكفي الإشارة إلى الدلالات المعادية للسامية في تصريح سياسي لفرض اعتذار أو استقالة أو تغيير في السلوك. لأن أغلبية الطبقة البرجوازية، بعد تجربتها للعنف العنصري المفرط والقضاء على الديمقراطية، كانت تتراجع عن كل محاولات إعادة تجربة حكم استبدادي على شكل فاشي. لم تكن البرجوازية ضد تطبيق ممارسات سلطوية، لكنها لم تكن تريد أن تُعرض نظام الحكم نفسه للخطر، أو أن تؤدي إلى دمار غير مسبوق، وهزائم، واضطرابات في التوازنات ومسارات إعادة التطبيع. هذا الأمر تغير في السنوات الأخيرة بسبب الاستراتيجية الميتا- سياسية للتيار اليميني. فهم لا ينكرون الهولوكوست، لكن يمكنهم تخفيف أهميته، والعمل على الغموض، أو التراجع عن الإيحاءات، أو الاعتراف بسخرية: "إذن أنا فاشي." تفقد الحجج التنويرية تأثيرها. ويظهر ضغط متزايد لتجربة أشكال جديدة من الحكم السلطوي والعمل بها.
النظر في الدينامية عندما أجادل بأن الفاشية التاريخية كحكم استثنائي تتكون من مجموعة من الممارسات،فإنني أستخلص من ذلك أنه لا يجب بالضرورة أن يكون هناك هذا المصير النهائي. أتصور الأمر كنوع من المنشور: كل العناصر السلطوية موجودة. في الصراعات الاجتماعية وتوازن القوى، يمكن لكل ممارسة أيديولوجية وسياسية محددة أن تتقدم إلى الأمام: المحافظة السياسية والاقتصادية، معاداة الجندر، الشعبوية السلطوية، العنصرية، معاداة السامية، الدولة المركزية، الفاشية (المتميزة هنا، كما يقترح أدورنو وسكوراتي، بالعنف والدعاية). يمكن لأحد هذه اللحظات أن يلقي على جميع الآخرين لوناً معيناً ويهيمن عليهم. لا يجب أن تتكثف هذه اللحظات ديناميكياً إلى شكل حكم استثنائي فاشي بحيث تصبح الفاشية هي الجانب السائد. يمكنها أن تتصلب مع أشكال الديمقراطية القائمة، وتتكامل فيها، وتخترقها. قد يظل هناك برلمان، أحزاب، جمهور إعلامي، دستور، قوانين، ومحاكم. لكن هذه المؤسسات الرسمية وممثليها تتعرض للانقسام وتتحول إلى حقل قوى مفتوح ومشحون بالأزمات: يصبح القضاة، والمُدَّعون العامون، والشرطة جزءاً من شبكات فاشية، ويتواصل الصحفيون والكتاب تدريجياً بشكل عضوي مع اليمين ويصبحون ناطقين باسمه. وفي الوقت نفسه، يُلاحظ أن القضاة والسياسيين والعلماء والصحفيين وأفراد عائلاتهم يتعرضون للإهانة، والتهديدات القانونية والجسدية، والهجوم، وأحياناً حتى القتل. تستمر هذه العملية بشكل مستمر، وتتعرّض المؤسسات والأفراد غالباً لهجمات فردية، وتبدو هذه الهجمات مُهدِدة، مُدمِرة، ومُحبِطة، لأنه لاتوجد رؤية حل واضحة. الشرطة والنيابات لا تستطيع فعل الكثير حسب القانون القائم، أو قد لا ترغب في فعل شئ. يتبين أن النموذج القضائي في مواجهة التهديد والعنف الفاشي (أكثر بكثير من حالة الجريمة المنظمة) غير صالح. حتى التعبئة الواسعة ضد اليمين بالكاد تستطيع منع الإرهاب ضد أفراد محددين، والتهديدات، والإهانات. بدلاً من الحديث عن الفاشية كمفهوم ثابت، قد يكون من المفيد النظر إلى العملية الديناميكية للفاشية أو "الفاشية المتصاعدة". ولكن ماذا يعني هذا بالضبط؟ يشير ذلك إلى ديناميكية خطيرة، لكنها لا ينبغي أن تُفهم كعملية هادفة أو نهائية ينتهي بها المطاف إلى الفاشية الكاملة. بل يجب التفكير في التشكيلات التي تضم تلك اللحظات التي ذُكرت سابقاً. العناصر الفاشية هي لحظات موجودة باستمرار ضمن جهاز السلطة البرجوازي (مثل العنصرية، مجموعات النازيين الجدد، المراجعة التاريخية، عبادةالعسكر)، لكنها تبرز فقط بشكل ظرفي مؤقت، وتضفي على باقي الأوضاع السلطوية هالة خاصة. إذا كانت "الفاشية المُتصاعدة" هي لحظة مهمة في السياق الراهن، لكنها لا تتحول حتماً إلى حكم استثنائي فاشي، فهنا يطرح السؤال عن تحديد الشكل الفعلي للحكم السائد. في مكان آخر، طالبتُ باستخدام مصطلح الشعبوية السلطوية لوصف هذا النوع من الحكم. وكان الأساس لهذه الممارسة الحكمية هو إحباط أجزاء مهمة من الطبقة البرجوازية بعد الأزمة المالية، وظهور موجة كبيرة من حركات الاحتجاج. كان يُتوقع أن تؤدي هذه الدينامية إلى التوصل إلى "الصفقة الخضراء الجديدة" (Green New Deal). ولكن الأزمة المتعددة الأوجه استمرت وتفاقمت. في العديد من الجوانب، تم تجاوز نقاط التحول الحاسمة: ذوبان الأنهار الجليدية والغطاء الجليدي في القطب الشمالي، ارتفاع حرارة البحار وتدمير السواحل، انبعاثات عالية من ثاني أكسيد الكربون والميثان، انقراض الأنواع، التلوث بالميكروبلاستيك والنانو بلاستيك، فقدان المياه الجوفية، الجفاف وتآكل التربة، وحركات نزوح جماعية كبيرة. أدى نقص الموارد والطاقة، خاصة مع الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي، إلى تهديد أمن البنى التحتية والاستعداد العسكري، بينما أصبح الفضاء العميق والمحيطات مناطق صراع سياسية وعسكرية جديدة. التحول الضروري الذي يجب أن يبدأ فوراً لا يدر أرباحاً كافية مقارنة بالاستثمارات، كما أنه يمثل بداية لعملية تُبعد عن علاقات الملكية والإنتاج الرأسمالية. فالتحديات الناجمة عن التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج كبيرة جداً يجب أن يكون هناك جدية في التخلي عن تراكم رأس المال على مستويات متزايدة، وإعادة هيكلة أو حتى إيقاف قطاعات إنتاج كاملة، وتطوير أنماط استهلاك جديدة، والتغلب على الاعتماد على الطاقة الأحفورية، وتحقيق توازنات اقتصادية عالمية جديدة. الطبقة البرجوازية العابرة للقوميات لا تنكر هذه المشاكل، فهي على وعي بالتحديات. تشهد النقاشات في الاجتماعات السنوية للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس على ذلك. لكن هناك جهداً يُبذل لمكافحة المعرفة وظهور ممارسات جديدة مناسبة لها. فلا يجب أن تصبح المعرفة قابلة للتطبيق العملي، ولا يجب أن تتبع السياسة الرؤية العلمية. للاختباء من المعرفة، يجب أن يجعلوا أنفسهم جهلاء، ويغلقوا آفاق العمل، ويردوا بنوع من اللامبالاة المستمرة: سيارات أكثر وأكبر وأفخم، تسليح أكثر وذكياً، استعادة أشكال الأسر التقليدية والممارسات الجنسية، تدمير مراكز الأبحاث والجامعات ـ كأنما لا وجود لكل هذه المعارف من بحوث نظم الأرض، ودراسات الجندر، أو بحوث العنصرية النقدية. ويتضمن ذلك أن يسيطروا على الكوارث الحالية أو المقبلة وممارسات التضامن التي تنشأ عنها، ويرفضوا تحذيرات الجيش أو شركات التأمين: لن يكون الأمر سيئاً إلى هذا الحد، كانت مجرد أحداث فردية. بعبارة أخرى: تعزيز اللحظات الفاشية هو محاولة لمنع التحول الاجتماعي- البيئي. المجتمع البرجوازي لا يريد أن يعرف شيئاً عن الوحوش التي خلقها، ويأمل أن يكبح أو يمنع تدفقات التواصل والممارسات المعارضة عبر قمع العلوم ("الجامعات كعدو")، ومضايقة وسائل الإعلام، والتحكم والسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
إقطاعية أجهزة الدولة تحدد طبيعة الاستحقاق الاقتصادي شكل الحكم الاستبدادي. وهذا ما يميز التشكيلة الراهنة عن أشكال الحكم الاستثنائي السابقة. فالذين يسيطرون على السلطة في الدولة ليسوا موظفين يمثلون طبقة البرجوازية وقواها المختلفة، بل هم أنفسهم من الطبقة الحاكمة مباشرة. هم رجال أعمال يسعون لتحقيق مصالح أوليغارشية. يحدث إقطاعية في أجهزة الدولة: تداخل السلطة، تغطية أو إلغاء الهياكل الهرمية. ويمكن أن يصل هذا إلى سلوكيات إقطاعية جديدة تُلاحظ عند شخصيات مثل ترامب، بوتين أو أردوغان. قد يُسهّل أو يُعقّد وصول ممثلي مصالح رأس المال الأخرى، لأنهم الآن يواجهون نظراء لهم، وليس أشخاصاً ملزمين بالقوانين (مثل المساواة أمام القانون) ومدربين عليها. تُعاد هيكلة وسائل الإعلام العامة ويتم حجب بعضها جزئياً (رفض الصحف، محاربة البث العام، ملاحقة الصحفيين)، كما تُقلص أهمية بعض منظمات المجتمع المدني بشكل كبير، ويقل تأثير المعرفة العلمية. يبدو أن الاستبداديين يشككون في أجهزة الدولة، في هيكليتها، وفي موظفيها. فهم يخترقون الدولة ويعيدون تشكيلها جزئياً، ويستبدلون قياداتها بأوليغارشيين، أصدقاء، وأفراد عائلاتهم. تتداخل المؤسسات الديمقراطية مع القيادة الاستبدادية، تبقى البرلمانات والأحزاب وحقوق التصويت، لكنها تُعيد تنظيمها بحيث تحافظ مجموعة واحدة على السلطة باستمرار، ويصبح تبديل المسؤولين في مراكز اتخاذ القرار صعباً للغاية، ويتحول الأمر إلى تمثيلات شبه أسرية. تشير التطورات في الولايات المتحدة إلى أن أجهزة الدولة يمكن تقليصها بشكل كبير، أو قد تُستخدم منظمات خارجية مثل "DOGE" لجعل بعض أجهزة الدولة (مثل الوزارات الاجتماعية، الخارجية، التعليم، مؤسسات البحث، الجامعات، وسائل الإعلام) غير فعالة أو لتدميرها. ربما تمارس هذه السلطة الاستبدادية مزيجاً من أشكال الحكم البرجوازي المختلفة. بالإضافة إلى الديمقراطية التمثيلية، قد تشمل شكل الدولة الشمولية، أو شكل تفكيك الدولة الحر في صورة مدن بحرية( (Seasteads، مدن ميثاقية (Charter Cities)، أو مناطق التجارة الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة.
الدفاع عن الإنجازات التحررية تواجه القوى اليسارية تحديات من نوع جديد. فالواقع أن الحضارة، وكذلك ترتيبات السلطة التي سادت لعقود بل ربما لقرون، أصبحت موضع تساؤل. ينطبق هذا أولاً على الاضطرابات البيئية التي تمس يقينيات استمرت لآلاف السنين ـ وبالتالي أيضاً على تصورات النظام التي كانت تعتقد أنها تستند إلى معطيات طبيعية مستقرة. ومع إدراك أن "قوانين الطبيعة" تظهر في عصر الأنثروبوسين كحقائق إنسانية وتاريخية، يُصاب أحد المحاور الأيديولوجية الأساسية للبرجوازية في الصميم: أي اللجوء إلى "طبيعة" الأوضاع الاجتماعية لتبريرها. فالدولة القومية، والهيئات القضائية، وآليات الديمقراطية البرجوازية، ووسائل الإعلام، والفضاء العام البرجوازي ـ وهي جميعها باتت مُنهكة أصلاً بسبب عمليات العولمة ـ وأصبحت الآن تحت ضغط شديد. أما الجوانب التقدمية التي أمكن تحقيقها منذ ستينيات القرن الماضي ـ أحياناً في تحالف مع ما يُسمى بـ"النيوليبرالية التقدمية" ـ فهي تتعرض لهجوم شديد من اليمين، يصل إلى حد فرض رقابة لغوية. ومن هنا، يتوجب على اليسار أن يدافع عن هذه المكاسب التحررية، وألا يَسمح بإضعاف نفسه من خلال تبني الفكرة التي تروج لها القوى المحافظة والسلطوية، والتي تزعم أن هناك تعارضاً بين التوجهات الاجتماعية وتلك المرتبطة بالهوية. لقد كانت هذه المكاسب، ولا تزال، إستباقاً لحضارة جديدة، يصبح فيها الاختلاف عن الآخر ممكناً دون خوف، وتصبح الحياة في حرية، وفي انسجام مع الطبيعة، أمراً متاحاً. الدولة الوطنية، المؤسسات القانونية، الإجراءات الديمقراطية البرجوازية، وسائل الإعلام والجمهور البرجوازي ـ التي تعرضت بالفعل للتآكل بفعل العولمة ـ جميعها تحت ضغط شديد.
هناك حاجة لممارسات تضامنية جديدة. لأن الاتجاهات الكارثية ستستمر: حرائق الغابات، الفيضانات، الجفاف، نقص الإمدادات بسبب اضطرابات في النقل. يتعرض الناس، وممتلكاتهم، والبُنى التحتية للتهديد. الدول لا تقدم المساعدة الكافية، والتأمينات تتنصل من التزاماتها. هناك حاجة إلى إرادة عامة جديدة تدفع التجديدات البيئية إلى الأمام وتنظم التضامن في حالات الطوارئ البيئية. أثناء حكومة الائتلاف «إشارة المرور» بين الحزب الأجتماعي الديمقراطي، الخضر، والحزب الديمقراطي الحر، تعرض ممثلو الحزب الاجتماعي الديمقراطي والخضر لانتقادات كثيرة ووُصفوا أحياناً بأنهم أسوأ حكومة شهدتها ألمانيا. هذا كان إستقطاباً خاطئاً، لأن العديد من المشاريع كانت مهمة، وإن لم تكن كاملة الصواب، مثل التحول إلى التنقل الكهربائي، وقف دعم الديزل أو بدائل التنقل، حظر استخدام المبيدات مثل الغليفوسات، قانون التدفئة، وزيادة أسعار انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كانت المشكلة في التنفيذ غير الكافي والفرصوية في التقييم، وفي الحقيقة أن المجتمع لم يتم تحفيزه لدعم تحولات اجتماعية- بيئية مناسبة. في الوضع الحالي، حيث تهدد الحكومة الائتلافية الصغيرة الكبيرة بالتسليح، الخدمة العسكرية الإلزامية، وتقليص أنظمة الضمان الاجتماعي، ومع وجود لحظات تشبه الفاشية تتجه نحو حكم استبدادي، يجب التفكير في تحالفات ديمقراطية جديدة. هناك حاجة إلى قطب اشتراكي. القوى التي تدعم هذا القطب تحتاج إلى موقف واضح. لكن من المهم أيضاً تطوير رؤية للتحالفات. نظراً لقوة الديناميات الاستبدادية، من الحكمة ألا تُبنى هذه التحالفات على الانتماءات التنظيمية أو الحدود الحزبية. نقطة البداية يمكن أن تكون (دون تكرار خاطئ للزمن) أفكار حركة الجبهة الشعبية، كما طورها فيلي مونزينبيرغ في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. مثل هذه السياسة لا يمكن أن تنجح إلا إذا استوفت مطالب الديمقراطية في علاقات الشركاء في التحالف ومشاركة الأفراد.
أليكس ديميروفيتش* فيلسوف وعالم اجتماعي. درّس في جامعات فرانكفورت وبرلين، وهو عضو في مجلس إدارة مؤسسة روزا لوكسمبورغ، وأحد المؤسسين لهذه المجلة. المصدر: مجلة ( LUXEMBURG) المطبوعة ورقياً، الصادرة في برلين.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنجلز: العقل المنظم وراء النظرية الماركسية
-
سر التجربة الصينية: من الفقر إلى أضخم طبقة وسطى في العالم
-
ماركس نصيرٌ للديمقراطية
-
-النرويج تشهد تقدماً لليسار الجذري-
-
حزب اليسار الألماني :نحن الأمل
-
كارل ماركس كسياسي: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ»
-
-نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-
-
قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»
-
حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA
-
حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
-
من يملك الكون؟
-
هتلر:سيرة إنهيار
-
الجامعات الصينية في صدارة العالم
-
حزب في مرحلة تحول
-
-تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
-
إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
-
التصنيع بدلاً من التسلّح
-
-تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
-
-رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
-
الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا
...
المزيد.....
-
إغلاق قناة -ناصر-.. وأسرة عبد الناصر تتحرك لإنقاذ الأرشيف
-
هتافات المتظاهرين في المغرب.. لا نريد كأس العالم، نطالب بتحس
...
-
الداخلية المغربية: أكثر من 70% من المتظاهرين قاصرون
-
اعتقال متظاهرين مؤيدين لفلسطين أمام مصنع للأسلحة في فرنسا
-
السودان: حوار مع المسؤول السياسي للشيوعي بالعاصمة القومية…
-
جيل العولمة الرأسمالية والثورة التقنية والرقمية والنضال المي
...
-
الجبهة الديمقراطية تثمن الموقف الكولومبي بطرد بعثة الاحتلال
...
-
الأحزاب الحكومية تعلن استمرار حرب الطبقة البورجوازية على ال
...
-
غوستافو بيترو.. رئيس كولومبيا اليساري القادم من -حلقة النار-
...
-
صوفيا ملك// الثورات لا تعلق على حروف
المزيد.....
-
كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية!
/ طلال الربيعي
-
مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
المزيد.....
|