أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط















المزيد.....

الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 14:06
المحور: الادب والفن
    


في رواية نزوة الاحتمالات والظلال لمازن عرفة


حين نتناول رواية "مازن عرفة" الجديدة "نزوة الاحتمالات والظلال " الصادرة عن" دار الخياط " ، قد نظن في البداية أننا أمام عمل آخر عن الطغيان، على غرار ما اعتادت الرواية العربية أن تنتجه منذ منتصف القرن العشرين. غير أن القراءة المتأنية تكشف أن الرواية لا تكرر نفسها، بل تنفتح على أفق آخر هو أفق الاحتمال والظل، أفق الإنسان حين يتحول إلى كائن مُبرمج في لعبة أكبر منه، وأفق العالم حين يغدو مجرد انعكاسات وصور بلا أصل. هنا تكمن فرادة الرواية وجِدّتها.
السارد يبدأ اعترافه بجملة تقلب الموازين: «انبثقتُ إلى الحياة في حكاية جديدة… مبرمجاً ببرنامج محاكاة». هذه العبارة لا تصف ولادة طاغية تقليدي، بل تؤسس لولادة افتراضية، كائن يظهر فجأة كما يظهر ملفّ في شاشة الكمبيوتر. ليس له ماضٍ، ولا طفولة، ولا نسب. وجوده مشروط بسطر كود، بخوارزمية كبرى، كأن الواقع نفسه لم يعد أكثر من برنامج يعيد إنتاج البشر وأقدارهم وفق ما يشاء. هنا يكمن الجديد فالطغيان ليس شخصاً، بل احتمالًا يتكرر كلما توفرت الظروف. وهكذا الرواية تتحول إلى مختبر فلسفي قبل أن تكون نقداً سياسياً.
لكن الاحتمال وحده لا يكفي لتفسير هذا العالم. عرفة يضع أمامنا الوجه الآخر أي الظلال. نحن لا نعيش الواقع مباشرة، بل نعيش وسط الصور والرموز والتماثيل التي تتكاثر إلى درجة تفوق البشر. يقول السارد: «آلهة لليوم الواحد… للفعل الواحد… للصمت، والصدى، والظلال، والألوان… حتى كاد يغلب عددها البشر». هذه الجملة، التي قد تبدو ساخرة للوهلة الأولى، تفضح جوهر عصرنا، ففي كل يوم ننتج آلهة جديدة، لا بالضرورة طغاة سياسيين، بل آلهة الاستهلاك، آلهة الشهرة، آلهة المنصات الافتراضية. إننا نعيش في عالم من الظلال، حيث الأصل غائب والانعكاسات وحدها حاضرة. الرواية بهذا المعنى ليست عن الحاكم وحده، بل عن حياتنا المعاصرة حين تتحول إلى سلسلة من الرموز الفارغة.
في لحظة مفصلية من الرواية، يصرخ السارد: «ما هذا الإله الفارغ، إلا من الخواء؟ كأنني تحولتُ إلى أحد تماثيلي المنتصبة في الساحات». هذه العبارة تختصر مغزى الرواية كلها. فالإله الفارغ ليس صورة الحاكم فقط، بل صورة الإنسان المعاصر الذي يغرق في رموز بلا جوهر. نحن أيضاً نصنع لأنفسنا تماثيل يومية، على الشاشات، في الإعلام، في صورنا المصقولة التي نعرضها للآخرين. نعيش بين التمجيد والفراغ، بين الانتفاخ الرمزي والعدم الداخلي. إن عرفة يمدّ سؤال الطغيان ليشمل وجودنا الشخصي بمعنى ، هل نحن أيضاً طغاة صغار على أنفسنا، نصنع أصناماً نعبدها ثم نكتشف خواءها؟
لغة الرواية تكشف عن هذا التوتر بين الامتلاء والفراغ. الجمل تأتي متخمة بالصور الحسية عبر القصور المذهبة، الأريكة-العرش، المغاطس الممتلئة بالشراب المميز، لكن كل هذا البذخ ينتهي إلى العدم ، ضجر، ملل، إحساس خانق بالفراغ. المفارقة أن النص الروائي يوظف التضخم اللغوي ليكشف خواء المعنى، كأن البلاغة نفسها تتحول إلى تمثال أجوف. إنها لعبة ذكية فالنص الروائي يتورط في إنتاج الظلال ليكشف عبثها في النهاية.
الرواية أيضاً تقدّم جديداً على مستوى الحواس. فالقمع لا يمارس عبر السجون والرصاص فقط، بل عبر الشمّ والجوع. مشهد النساء اللواتي يقفن أمام الأفران بانتظار الخبز قبل أن يقتلهن القنّاصون يلخّص هذا البعد: «الخبز هو ملك لشرفاء الوطن فقط…». هنا يتحول الخبز من حاجة بيولوجية إلى أداة سياسية، ويتحول الشمّ إلى سياسة سيطرة. الشعب يشمّ الخبز لكنه لا يناله. الرائحة تصبح وعداً مؤجلًا، أداة إذلال أشد قسوة من الرصاص. بهذا، تكشف الرواية بعداً جديداً قلّما تناولته الكتابة العربية، سياسة الحواس، حيث تتحول الرائحة والذوق إلى أدوات حكم.
لكن ربما أخطر ما تكشفه الرواية هو أن الطغيان ليس حادثة تاريخية نادرة، بل نزوة احتمالات وظلال تتكرر في كل عصر. الطاغية يسقط في النهاية، لكنه يسقط ليترك وراءه فراغاً يُملأ بآخر. يقول السارد في لحظة مواجهة مع ذاته: «أنا... العظيم... لكنني مع كل هذه العظمة أشعر بالضجر والسأم والملل». هذا الاعتراف ليس سقوطاً سياسياً فقط، بل سقوط وجودي. الطغيان في جوهره نزوة عابرة، ظلّ يمرّ، لكن الكارثة أن الناس أنفسهم يعيدون إنتاجه، لأنهم يجدون في الأصنام عزاءً وفي الأوهام ملاذاً.
وهنا يتجلى الاكتشاف الكبير الذي تقدمه الرواية.إذ ليست المشكلة في الحاكم وحده، بل في القابلية الجماعية لصناعة الأصنام. من اللات والعزى إلى التماثيل البرونزية الحديثة بمعنى التقديس، من الزعيم القائد إلى نجم الشاشة، تظل الآلية واحدة وهي أن البشر يحتاجون إلى إله يصنعونه، حتى وإن كان فارغاً، ليملأوا خواءهم الداخلي.
بهذا المعنى، نزوة الاحتمالات والظلال لا تضيف رواية جديدة عن الجنرالات، بل تكتب بياناً أدبياً عن الإنسان في زمن الظلال. إنها تضع القارئ أمام نفسه وتطرح العديد من التساؤلات هل نعيش حيواتنا حقاً أم نعيش احتمالات يكتبها برنامج خفي؟ هل نمتلك جوهراً صلباً أم نحن مجرد تماثيل في ساحات واسعة؟ هل نعيش الضوء أم نكتفي بالظلال؟
الجديد في رواية مازن عرفة أنها تفتح باباً لم يُفتح في الرواية العربية وهو باب التفكير في الإنسان كاحتمال، وفي الواقع كظلّ. لم تعد الرواية مجرد نقد سياسي، بل تحولت إلى مختبر فلسفي وجمالي، يعيد طرح السؤال القديم بعبارة جديدة! من نحن؟ بشر أحرار، أم كائنات افتراضية عالقة بين نزوة وظل؟
رواية مازن عرفة هذه تليق بمرحلة ما بعد الإيديولوجيات، حيث لم يعد يكفي أن نقول إن الحاكم مستبد. الجديد هو أن نكتشف أن الاستبداد يسكن داخلنا أيضاً، وأننا نصنع ظلالنا بأيدينا ثم نُفتَن بها. ولهذا بالذات تستحق نزوة الاحتمالات والظلال أن تُقرأ لا كرواية سياسية فحسب، بل كنص وجودي يضع الرواية العربية أمام تحدٍّ غير مسبوق، أن تكتب عن الإنسان في زمن الاحتمالات والظلال، فهل يكتب مازن عرفة الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط.؟ وهل سنشهد ظلال كتابة المانغا عربية ؟
بيروت -لبنان في 29 ايلول 2025 الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل ما بين الكراهية والإعتراف عقدة نقص ؟
- ميغيل ميهورا في مجموعة قصصية بعنوان رجل واحد
- فن الطبخ في مسلسل -هنيبعل-: الجمال الملوث بالدم
- فلسفة هنيبعل وتفسير النفس البشرية
- هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
- جدلية الشفاء والعجز في لقاء نيتشه وبروير في فيلم حين بكى نيت ...
- سردية التيه والوعي في هامش العالم العربي
- رحلة في عمق الحب والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي
- الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.
- التطور القادم من التخابر
- السرد الرمزي العربي في رواية- الولد الذي حمل الجبل فوق ظهره ...
- هل التحليل الجيومتري الديناميكي في لوحة جبران طرزي يعزز الإي ...
- مأزق الكاتبة في مجتمع متصلب
- هل يُمكن لشعب أن يرث نبياً دون أن يرث رؤيته؟
- الكوميديا السوداء في مواجهة القمع الأنثوي في عصر تيك توك ويو ...
- كم يمكن أن نُفرّط في حرياتنا مقابل الشعور بالأمان
- ما بين قوانين النقد الصارمة و- لعبة العفريتة-
- هل من رسائل مخفية يمكن استنتاجها في رواية أوراق شمعون المصري ...
- سردية اعترافية لراوٍ عاشق ومقاوم في رواية
- عبء الماضي ومهمة المستقبل في قصة الشامة ل ميخائيل شولوخوف


المزيد.....




- فاضل العزاوي: ستون عامًا من الإبداع في الشعر والرواية
- موسم أصيلة الثقافي 46 يقدم شهادات للتاريخ ووفاء لـ -رجل الدو ...
- وزير الاقتصاد السعودي: كل دولار يستثمر في الثقافة يحقق عائدا ...
- بالفيديو.. قلعة حلب تستقبل الزوار مجددا بعد الترميم
- -ليس بعيدا عن رأس الرجل- لسمير درويش.. رواية ما بعد حداثية ف ...
- -فالذكر للإنسان عمر ثانٍ-.. فلسفة الموت لدى الشعراء في الجاه ...
- رحيل التشكيلي المغترب غالب المنصوري
- جواد الأسدي يحاضر عن (الإنتاج المسرحي بين الإبداع والحاجة) ف ...
- معرض علي شمس الدين في بيروت.. الأمل يشتبك مع العنف في حوار ن ...
- من مصر إلى كوت ديفوار.. رحلة شعب أبوري وأساطيرهم المذهلة


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط