سليم يونس الزريعي
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 10:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طفت في السنوات الأخيرة؛ في الكتابات والمناظرات والترويج الدعائي والسياسي، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهم، وحتى أولئك الذين بلا لون فكري أو سياسي، يقفز تعبير "الدولة المدنية" كمنتج معلب يحاجج به الجميع في مواجهة الجميع، معتبرين أنه يكفي لأن يرفع أيا كان لافتة "الدولة المدنية" ليصبح ديمقراطيا ومع دولة بمواصفات قانونية ديمقراطية تحفظ حقوق الجميع، دون استثناء بسبب إثني أو ديني أو فكري أو مناطقي أو الجنس؛ على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.
هذا الحديث عن الدولة المدنية من قبل الجميع، ربما يخفي حالة من عدم الفهم أو الالتباس أو حتى التحايل السياسي، لأن هذا المصطلح يتناقض حد النفي، مع رؤية البعض السياسية والفكرية وتجربته العملية، وقد يُغفر لهذا البعض أن مصطلح أو فكرة الدولة المدنية، لم يرد في أدبيات العلوم السياسية، كونه مصطلحا حديثا لم يظهر في المشهد العربي إلّا في وقت متأخّر، وخصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، وبشكل لافت وملح بعد موجة ما سمّي بالربيع العربي.(1)
وبسبب جدة المصطلح وربما التباسه، جعلته يثير هذا الجدل بين القوى السياسية والاجتماعية والنخب الفكرية، لأنه لم يتم تبْيِئته أو توطينه بعد في دولنا ومجتمعاتنا، بما يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية .(2) حتى وبدا وكأننا أمام مفهوم جديد يجب أن نبحث له عن تعريف علمي يعبر عنه شكلا مضمونا.
ومع أن القاسم المشترك بغض النظر عن الفهم المعرفي الموضوعي لمفهوم الدولة المدنية في كليته، هو أن التبشير بالدولة المدنية، هي دعوة للديمقراطية، إلا أن هذه الدعوة تخفي حالة من ضعف الوعي الاجتماعي والسياسي وربما الفهم المعرفي، هذا لو توفرت حسن النية لدى المنادين به، كون الديمقراطية ليست "حبة دواء" يمكن لأي فرد أن يتناولها ليصبح ديمقراطيا، لأن "الدمقرطة" هي في الأصل عملية اجتماعية تتفاوت درجاتها وعمقها- بتراكم مكاسب على صعيد الحريات بفضل النضالات الاجتماعية- وفق شروط محددة (اجتماعية واقتصادية وسياسية) في كل بلد ومجتمع. (3)
ولذلك فإن الباحث يلمس أن تبني القوى السياسية لمفهوم "الدولة المدنية الحديثة" كمخرج لا جدال فيه، من الأزمات المتعددة التي تنهش المجتمعات العربية أخذ أشكالا متفاوتة لديها وبمضامين مختلفة ومتناقضة، هذا التفاوت خلق ضبابية سياسية وفكرية، أكثر مما قدم توضيحاً لمفهوم الدولة، نتج عنه تشوش سياسي وبرنامجي وعملي للقوى التي تطرحه نفسها.(4)
والمتابع لمقاربات المثقفين العرب لمفهوم الدولة المدنية الحديثة يجد أنه يتضمن بشكل أساسي دولة تقوم على الانتخابات "الحرة" وعلى فصل السلطات الثلاث مع تعددية سياسية وحزبية. وهو ما يعني بكلمات أخرى أبسط، وأقل زخرفة وأكثر دقة إنها الدمقرطة، أو التحول الديمقراطي. وبذلك تكون سيرورة تقوم على نتائج وواقع الصراع الاجتماعي، وليست أمرا مرهونا فقط برغبة دوائر الحكم.(5)
لكن المفارقة بمعناها السياسي والفكري والعملي تبرز وبشكل فج، عند الحديث عن الدولة المدنية في مجتمعات ريعية؛ بكل ما يعنيه ذلك على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ذلك أن عقلية الاقتصاد الريعي بسماته القيمية والثقافية تتعارض مع مقومات الدولة الديمقراطية"(6) ابتداء وهذا يعكس حالة من الانفصام السياسي والفكري لدي هذه القوى، التي تنادي بالديمقراطية دون أن تمتلك هي بيئتها المناسبة.
ليكون السؤال كيف يمكن إقامة دولة مدينة، التي عمودها الفقري الديمقراطية والتداول السلمي المدني للسلطة، أي لا مَلكية ولا عسكرية ولا ديكتاتورية ولا جمهورية شكلية لزعيم أبدي، كون المدنية تعني إجبارية أن يتم التداول السلمي المدني للسلطة بشكل دوري عبر الديمقراطية. في ظل مجتمعات مسكونة بالثقافة الريعية والسلوك الريعي؟ الذي يجتهد في تبرير واقع تلك المجتمعات المجافي لقيم الديمقراطية التي أساسها المواطنة والحريات، متجاهلا أن من أهم مكونات ومقومات المجتمع الديمقراطي، مبادئ المواطنة والمشاركة السياسية وحكم القانون، وأن مبدأ المواطنة يمثل حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة.
ذلك أنه في السمات القيمية والثقافية والسياسية للاقتصاد الريعي تتجلي صعوبة الاقتناع بالتوافق والانسجام بينهما، ما يؤدي إلى تطبيق مشوه أو ناقص للمبادئ الأساسية للدولة الديمقراطية.(7)
ولعل ما يعرفه العالم العربي من أزمة على مستوى ترسيخ مقومات الدولة المدنية، حيث الهجانة بين مظاهر صورية أو شبه صورية للدولة المدنية، والبنيات العصبية والقبلية والطائفية الموروثة، وغياب الثقافة الديمقراطية على مستوى المؤسسات والنخب، وعلى مستوى الجماهير، وضعف تنظيمات المجتمع المدني، وسيادة التخلف في عدد من القطاعات.. عوامل مساهمة في الجمود الفكري- الديني، والصراعات المذهبية والطائفية، وتزايد تأثير التيارات الأصولية، والقوى العنيفة. وكانت هذه المعوقات التي تقف في وجه الدولة المدنية من جملة الأسباب التي كانت وراء مطالب الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها في2011، حيث رفعت مختلف القوى الليبرالية واليسارية والشبابية والدينية شعار الدولة المدنية بخلفيات وأهداف مختلفة.(8)
هنا يمكن الإشارة إلى أن الكثير من القوى السياسية والنخب الفكرية المختلفة تتجنب النقاش في التباين بين رؤية قوى الإسلام السياسي والقوى السياسية الأخرى، حول فهم كل طرف لموقع الدين في الدولة المدنية، لأن الكثير من القوى من غير قوى الإسلام السياسي تعتبر أن ممارسة السلطة والحكم قضية زمنية نسبية وليست إلهية مطلقة، وأن البديل الواقعي عن فكرة الدولة الدينية، هو الدولة المدنية التي أثبتت فاعليتها في حماية معتقدات الناس وتدينهم، وضمان حريتهم في ممارسة الشعائر الدينية، وضمان التعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب الدينية.
لأن الدولة المدنية حسب رأيهم نتاج للتطور السياسي الحديث، وهي قائمة على الفصل بين الدين والسياسة، باعتبار الأول مجاله مطلق، والثاني مجاله نسبي، وهو خاضع للتجريب والخطأ كما الصواب، وعلى المواطنة الحقة الضامنة لحقوق وواجبات متبادلة بين الدولة والمجتمع، أساسها تمتع الأفراد بجملة من الحقوق السياسية والاقتصادية التي تسمح لهم بالمشاركة الفعالة في المؤسسات والقرارات، والاستفادة من خيرات الدولة المادية بشكل متساوي، وتقاسم الأعباء، والفصل بين السلطات السياسية بشكل يمكن من إيقاف كل سلطة للسلطة الأخرى، والانضباط لحقوق الإنسان نصا وممارسة من طرف الدولة ومؤسساتها.. تسمح بتعزيز التسامح والمرونة، وتوفير مقومات التعايش والمساواة بين الفئات الاجتماعية والمواطنين لا أفضلية لفئة على أخرى.(9)
ومن ثم فإن أي مقاربة من قبل كل القوى في المشهد العربي لمفهوم الدولة المدنية لا تتحلى بالشجاعة والشفافية لتفكيك هذه المفهوم إلى عناصره المكونة بشكل نزيه ومسؤول بحيث تزيل اللبس وتوحد وتؤصل المفهوم، هي محاولة لا تخدم مستقبل شعوب المنطقة التي تطلعت إلى تغيير واقعها البائس إلى ما هو أفضل .
الهوامش
1. عبد الحسين شعبان، في النقاش حول الدولة المدنية ، رأي اليوم ، 15 نوفمبر 2017.
2. عبد الحسين شعبان، المرجع السابق.
3. غياث نعيسه، في إشكالية مفهوم الدولة.. المدنية الحديثة ، الخميس 26أغسطس 2010.
4. غياث نعيسه، المرجع السابق.
5. غياث نعيسه، المرجع السابق.
6. عبدالله جناحي، الاقتصاد الريعي يتعارض مع مقومات الديمقراطية، بيروت – رويترز،13 فبراير 2003.
7. عبدالله جناحي، المرجع السابق
8. محمد الرضواني، بين الدولة الدينية والدولة المدنية قراءة في كتاب من الدين إلى الطائفة، يناير 2018.
9. مجمد الرضواني ، المرجع السابق.
#سليم_يونس_الزريعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟