أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سلطة النص















المزيد.....



قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سلطة النص


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 18:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بعد انتصار أهل الحديث المتمثل في تيار أحمد بن حنبل، في معركة خلق القرآن، اكتسب القرآن قداسة مطلقة على أساس أنه نص أزلي يمثل "كلام الله" غير مخلوق.. ثم مع مرور القرون امتد التقديس من الكلام إلى الورق، أي المصحف، واستدل القائلون بتقديس المصحف بقول القرآن (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون (فاختلف المفسرون، هل الضمير يعود إلى القرآن أم إلى الكتاب المكنون؟ على المعنى الأول يكون المراد أن القرآن لا يفهمه إلا ذوو القلوب المطهرة من الشهوات والأمراض، وهو معنى صوفي جميل، وعلى المعنى الثاني يكون المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر من الجنابة، وكالعادة انتصر التفسير الفقهي المادي السطحي، في عصور التأخر الحضاري، وأضيف إلى قائمة المحرمات: مس المصحف إلا مع اغتسال من حنابة، ومع الجهل تم تشديد التحريم عند العامة فرأوا أنه لابد من الوضوء حتى مع الطهارة. وأما غير المسلمين، فهم لا يمكن علاج نجاستهم إلا باعتناق الإسلام، وبناءً عليه لا يجوز للكفار لمس القرآن أبدًا وفقًا لرأي الأغلبية.
Koran A Very Short Introduction))
هذا القديس المفرط للنص المقدس والقول بأزليته، نجده عند الوثنيين واليهود، يقول د. مايكل كوك: كان الجدل الدائر حول مسألة ما إذا كانت الفيدا أبدية أم مخلوقة أكثر بروزًا في الثقافة الهندية. ويذكر البِيروني خلافًا بين الهندوس حول إمكانية تأليف أي شخص لنصٍّ على وزن الفيدا؟ كذلك ظهرت فكرة أن التوراة وُجدت لألفي عام قبل خلق العالم بين حاخامات اليهود؛ ولكن بالمقارنة مع أزلية القرآن، يُعدّ هذا الادعاء تواضعًا بحد ذاته.
(Koran A Very Short Introduction)
والصواب في معركة القول بخلق القرآن، كان مع المعتزلة، لأن الله لا يتكلم بحرف وصوت كما هو مقرر عند الأشاعرة أيضاً، والقرآن حرف وصوت، وهي أمور مخلوقة، فطالما أن القرآن قد انتقل من عالم الإطلاق إلى عالم الأعيان الكونية المخلوقة، ولبس ثوبها كالحرف والصوت، فقد تحول إلى مخلوق، لا يستحق كل هذا التقديس. بل يرى البعض من القدماء والمعاصرين، أن القرآن هو كلام النبي محمد، يظهر هذا في مثل قوله: (لتدخلن المسجد الحرام "إن شاء الله" آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين) الله يقول "إن شاء الله"..؟ لا يستقيم. إذن هذا دليل على بشرية هذا الكتاب.
ولم يكن القرآن هي أذهان الصحابة هو "كلام الله" المطلق كما هو عندنا اليوم، وإنما كان مكتوباً بلهجاتهم الدارجة. يُروى أنه «لما أراد عمر أن يكتب «المصحف» الإمام أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن قد نزل على رجل من مضر»،٧ فإن الأمر قد اختلف مع خليفته عثمان الذي يُروى عنه أنه قال: «إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلغة قريش، فإن القرآن أُنزل بلسانهم.»٨ وللغرابة، فإن هذا التحوُّل من «الأوسع» — أو «لغة مضر» — إلى «الأضيق» — أو «لغة قريش» — قد ترافق مع ما كان يتنامى في ساحة السياسة — وعبَّر عن نفسه صريحًا مع ولاية عثمان — من التحول إلى اعتبارها (أي السياسة) شأنًا قرشيًّا خالصًا، بعد أن كانت قبله ساحة مفتوحة يشاركها فيها غيرها.. إن الانتقال في القرآن من «لغة المسلمين»، على تعدد قبائلهم، إلى «لغة قريش» وحدها، إنما يعكس تحولًا كان يجري في مسار السياسة من كونها شأنًا عامًّا يخص «المسلمين» جميعًا، إلى كونها شأنًا يخص «قريش» وحدها، أو يخص حتى مجرد بيت من بيوتها بحسب ما سيجري لاحقًا مع بني أمية وبني العباس. لكنه، وبالرغم من هذا التضييق النازل من «لغة القبائل» إلى «لغة قريش»، فإنها تظل في الحالين من قبيل اللغة ذات الأصل الإنساني، وهو الأمر الذي سرعان ما سيختفي تمامًا مع اعتبار لغة القرآن هي «كلام الله»، بدل أن تكون هي لغة الإنسان. (نصوص حول القرآن، علي مبروك)
وماذا بعد تقديس القرآن والمصحف تبعاً له؟ هل يستحق القرآن هذا التهويل؟ إنه لم يكن كتاباً بهذا الشكل في زمن النبي محمد، ولكن كان آيات متفرقة نطق بها النبي نفسه، وهناك آيات لا معنى لأن توجد في نص مقدس، مثل (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) ومثل (ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم)! ومثل (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) ومثل (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) الخ من نظائر وأشباه تلك الآيات.
وقد يقول قائل: ما علاقة شئون النبي الشخصية بالقرآن، ولماذا يتم تدوينها فيه؟ هذا السؤال لا ينحل إشكاله إلا إذا علمنا أن القرآن هو كتاب النبي محمد الشخصي، ومشروعه الروحي الخاص، وليس كتاباً للعالم كله.
وأما الآيات التي تتحدث عن عالمية القرآن، فالمراد بالعالمين فيها هو عالمي زمان نزول القرآن، والمشكلة أن التيار الأصولي المتطرف يسوق المصطلحات المعاصرة على معنى آخر لم يكن مراداً للآيات التي يستدلون بها. قال أبو الفرج بن الجوزي: (يقال فلَان خير الْعَالم. وَيُرَاد بذلك أهل زَمَانه.. وَذكر بعض الْمُفَسّرين أَن الْعَالم فِي الْقُرْآن على سِتَّة أوجه (ذكر منها): عالموا أزمانهم. ومنه قوله تعالى في البقرة: {وأني فضلتكم على العالمين}. والأضياف، ومنه قوله تعالى في سورة الحجر: {أولم ننهك عن العالمين}) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر ص 445-446
هذا هو غاية ونهاية ما يمكن أن يصل إليه القرآن، عالمي زمانه من الوثنيين. وما حدث بعد ذلك من فتوحات كان أولها غزو فارس والروم، فلم تكن بأمر من النبي محمد، وإنما كان من عمل الخلفاء. وأما حديث (أنفذوا بعث أسامة) فهو الكعادة كذب على النبي ص، ذكره الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" برقم 4972 قال: (أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عنه. وكرر ذلك) . منكر أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في "كتاب السقيفة" عن عبد الله بن عبد الرحمن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار؛ منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأمره أن يغير على مؤتة (قلت: فساق الحديث فيه) . وقام أسامة فتجهز للخروج، فلما أفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنهم يتجهزون، فجعل يقول ... فذكره. اهـ.
وأما الشعار الذي اتخذه جماعة الإخوان المسلمين يشيرون إلى عالمية دعوتهم وهو (أستاذية العالم)! فهذا في نظر العقلاء والمثقفين، بلَه وعطب عقلي ودروشة متدينين، لا زالوا يظنون أنهم يمكنهم أن يسيطروا على العالم بالجهاد، ولا يفهمون عوامل التقدم والنهوض الحضاري، وليس مستغرباً أن يخلو برنامجهم وكتبهم من أي ثقافة، وأن يتكأوا – في أطماعهم السياسية – على ما فهموه من عالمية الرسالة، التي لم يفهموا أنها لا تصلح إلا لزمانها.

أقوال علماء الأصول في أن الصحابة كانوا يحكمون بالعقل
1- قال الشافعى رحمه الله: من سير أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الأسوة والقدرة لم ير لواحد منهم تمهيد قياس على ما يفعله القياسيون بل كانوا يخوضون في وجوه الرأى من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن. قواطع الأدلة في علم الأصول 2 / 260 أبو المظفر السمعاني.
فهذه شهادة الإمام الشافعي على أن الصحابة كانوا يأخذون بالرأي (أي بالعقل).
2- يقول إمام أهل السنَّة أبو المعالي الجويني: «إنْ سُبِرَ أحوال الصحابة رضي الله عنهم، وهم القدوة والأسوة في النظر، لم يُرَ لواحدٍ منهم في مجالس الاشتوار (أي المشاورة) تمهيد أصل أو استثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه كما فعل اللاحقون عليهم، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفاتٍ إلى الأصول كانت أو لم تكن … فإن أصحاب رسول الله ﷺ ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه، إنما كانوا يرسلون الأحكام، ويعلقونها في مجالس الاشتوار (المشاورة) بالمصالح الكلية». البرهان في أصول الفقه، دار الأنصار، القاهرة، ١٤٠٠ﻫ، ص١١١٨، ٨٢٨.
وهذه شهادة إمام الحرمين بأن الصحابة كانوا يحكمون بحسب المصالح الكلية، ولم يكونوا يعقدون الأمور ويضعون أصولاً للفقه والقواعد الفقهية ولا يسألون بعضهم عن وجود الدليل من عدمه، في كل خطوة يخطونها.
3- ويقول الفخر الرازي: من تتبع أحوال مباحثات الصحابة علم قطعا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة والشرائط المعتبرة في العلة والأصل والفرع ما كانوا يلتفتون إليها بل كانوا يراعون المصالح لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح. المحصول في علم الأصول 6 / 167.
فهذه أقوال كبار أئمة المسلمين في تأصيل علم الأصول وأعلم الناس بأحوال الصحابة في اجتهاداتهم، يقولون أن الصحابة لم يكونوا يلتفتون لما فعله اللاحقون بهم، بل كانوا أبسط من ذلك بكثير، يأخذون بالرأي والعقل والمصلحة، لأن الأحاديث لم تكن وضعت بعد وذاعت بهذا الشكل، حتى لو وجدت فما كانوا يبحثون عنها لعلمهم أنها ليست بوحي كالقرآن، وقد كان فيهم محدثون مكثرون مثل أبي هريرة، ولم يثبت أنهم كانوا يأتون به يسألونه هل سمع من النبي حديثاً يؤيد مسألة كذا وكذا، يقول عَمْرو بن إِسْحَاق: لمن أدْركْت من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر مِمَّن سبقني مِنْهُم فَمَا رَأَيْت قوما أيسر سيرة وَلَا أقل تشديدا مِنْهُم. ولي الله الدهلوي، الإنصاف في بيان أسباب الخلاف ص 18

أمثلة من عمل الصحابة والأئمة في عدم التقيد بالنص
ليس الأمر كما يظن الكثيرون أن العلمانيين وحدهم هم من ينادون بمناقشة النصوص المقدسة والتعامل معها تعاملاً عصرياً، بل على العكس من ذلك، فهناك تيار قوي ينادي بالإجتهاد مع النص في حالة عدم ملائمته للزمان والمكان، وتقديم العقل عليه، نعم ولكن هناك تعتيم على هذه الظاهرة من قبل التيار المتشدد. ولا أعني بهذا التيار المنادي بالإجتهاد: تيار المعتزلة، ولكن فيه صحابة وأئمة مذاهب:
1- الصحابي عمر بن الخطاب: اشتهر عنه أنه أبطل سهم المؤلفة قلوبهم، من سهام الزكاة، مع أنه ذكر في القرآن، وكذلك لم يعمل بالنص في أمور أخرى، يقول الأستاذ علي مبروك: ويكاد عمر بن الخطاب يكون الأبرز بين الصحابة في بناء الأحكام الشرعية عبْر تغليب المبادئ الكُبرى والأصول على الأخبار والنصوص. وتبلغ هذه الغلبة حد إمكان قراءة فقهه كله من خلال جملة القيَم الكُبرى، التي أسند إليها تقريراته الفقهية. فإنه لا معنى لنهيه عن القطع في عام المجاعة مع أن النص (على قطع يد السارق والسارقة) شاملٌ لجميع الأوقات، إلا أنه يجعل «قيمة الحياة» مقدَّمة على «حق الملكية». وبطبيعة الحال، «لو كانت الأحكام، ومنها الحدود، يُتبع فيها النص المجرَّد لَما ساغ له أن يخالف قول الله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (المائدة: ٣٨)» من جهةٍ أخرى، كان في رفضه تقسيم الأرض المفتوحة في العراق على فاتحيها يقدِّم مصلحة عموم المسلمين (في حاضرهم ومستقبلهم) على الحق الخاص الثابت للبعض منهم بنص القرآن، وكان يؤكِّد، برفض دفع سهم المؤلَّفة قلوبهم، وجوب إسقاط التمييز بين الناس على أساس المكانة والامتياز الاجتماعي؛ حيث كان المؤلَّفة قلوبهم «من أشراف الناس». وقد سلك عمر على هذا النحو المجاوِز للنص إلى ما يقوم وراءه مع السُّنة أيضًا؛ حيث «يروي مسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وسنتَين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وهكذا، خرج عمر على المستقِر بمقتضى النص (عن النبي) من اعتبار طلاق الثلاث واحدة. وقد كان دافعه في ذلك أن يتريَّث الناس في إيقاع الطلاق لما يترتب عليه من مَضارَّ تفسد ما يقوم عليه الزواج من قيَم المودة، والرحمة، والسكن، التي يقرِّرها القرآن ذاته. (علي مبروك، مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره)
وتعطيل عمر لسهم المؤلفة قلوبهم وإيقاف حد السرقة في مجاعة عام الرمادة بالذات، أمر أحرج رجال الدين المعاصرين، لا سيما المتطرفين منهم، لذكرهما في القرآن، فجعلوا يتخبطون ولا يدرون ما يقولون، إلا ما نقوله نحن، وهو: أن عمر عطلهما لأن الظروف اختلفت، وليس هذا تعطيل للنص في حد ذاته، ولكن مراعاة لسنة التطور، ولكنهم لم يسيروا على خطى عمر. ومنهم من حاول أن يبرر فعل عمر بأن شريحة المؤلفة قلوبهم قد اختفت في زمانه، وهذا كذب قبيح من المشايخ الأتقياء، لأنهم كانوا موجودون، ومنهم عباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وأبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، فلما ولى الصديق جاءوه يسألونه سهمهم هذا، فكتب لهم بذلك إلى عمر فمزق الكتاب وقال لهم: لا حاجة لنا بكم؛ فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فلما رجعوا إلى الصديق يستثيرونه ويسألونه: والله لا ندري أنت الخليفة أو عمر؟ قال: بل هو إن شاء. وأمضى ما فعله عمر. إذن الإجتهاد مع وجود النص لم يكن حكراً على عمر فقط، ولكن أقره عليه أبو بكر الصديق كذلك.
2- السيدة عائشة: سلكَت، بدَورها، نحو ما سلك عمر من مجاوزة النصوص. فإذ «يروي أبو داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليَخرُجن تَفِلاتٍ [أي غير متطيِّبات]. فإنه يروي هو نفسه عن عائشة قولها: لو أدرك رسول الله ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن كما مُنعَت نساء بني إسرائيل».
3- الصحابي عثمان بن عفان: روى مالك في الموطّأ عن ابن شهاب يقول: (كانت ضَوالُّ الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً مؤبَّلة تنََاتج لا يمسها أحد حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أُعطي ثمنها). فقد رأى عثمان رضي الله عنه أن التقاط ضالة الإبل أولى من إرسالها ترعى الشجر وترد الماء لأنه رأى في زمانه تبدلاً في حالة الناس أورث خوفاً على أموال الرعية من أن تمتد إليها يد الخيانة، فكانت المصلحة في أمره بالتقاطها وتعريفها كسائر الأموال. رفع الحرج في الشريعة الإسلامية للدكتور يعقوب الباحسين ص 362
هنا يقول علماء أصول الفقه أن الحكم يدور مع العلة، فإذا زالت العلة زال الحكم، يقول الأستاذ أحمد أمين في "فيض الخاطر" : ومجلس الشورى كان يفعل مثل ذلك في الأندلس؛ فقد واقع عبد الرحمن الناصر زوجته في رمضان، فأفتاه بعض العلماء بتحرير رقبة كما هو الترتيب في الكفارة، فأبى يحيى بن يحيى الليثي رئيس جماعة الشورى عليه ذلك؛ نظرًا لأنه أمير وغني ومن السهل عليه أن يحرر رقبة، فلا بد من عقوبة رادعة، وهي أن يصوم ستين يومًا بدل اليوم الذي أفطره؛ تحقيقًا لمقصد الشريعة، فالاجتهاد الذي نريده من هذا القبيل. اهـ.
4- الإمام أبو حنيفة: اشتهر عنه تقديم العقل على النص، الذي عرف في اصطلاح التراث الإسلامي بالرأي، حتى ضعفه أهل الحديث وأئمة الجرح والتعديل، بسبب تلك الميزة التي فيه. قال محمد بن سعد صاحب الطبقات: أبو حنيفة واسمه النعمان بن ثابت، وهو ضعيف الحديث وكان صاحب رأي. (الطبقات الكبرى ج٧ ص٣٢٢). وأطال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من ذكر ذم أهل الحديث فيه، مثل قول حسّان الحلبي: سمعت الأوزاعي ما لا أحصيه يقول: «عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضها عروة عروة» ونقل عن الأوزاعي ومالك وغيرهما قولهم: "ما ولد في الإسلام أضرّ على الإسلام من أبي حنيفة" وعقد الخطيب البغدادي في ترجمته فصلاً بعنوان: (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن) ورد فيه عن سفيان الثوري قوله: قال لي حمّاد ابن أبي سليمان وهو أستاذ أبي حنيفة : « أبلغ عنّي أبا حنيفة المشرك أنّي بريء منه حتّى يرجع عن قوله في القرآن » وكان الثوري ينهى عن مجالسة أبي حنيفة وأصحاب الرأي. وسئل أحمد بن حنبل ـ عن أبي حنيفة وعمرو بن عبيد، فقال: «أبو حنيفة أشدّ على المسلمين من عمرو بن عبيد، لأنّ له أصحاباً». وعمرو بن عبيد من أئمة المعتزلة القائلين بخلق القرآن. أنظر تاريخ بغداد 15/531 وما بعدها
5- الإمام الشافعي: اشتهر عنه أن له مذهبان، مذهب في مصر ومذهب في العراق، مع أن معه نفس الأدلة والنصوص هي هي لم تتغير، ولكن تغير البلد والمكان. فيقول أتباعه حين ينقلون عنه: (قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد) يعنون بالقديم مذهبه القديم حينما كان يعيش بالعراق، وبالجديد مذهبه في مصر حين انتقل إليها، غير مذهبه مع أنه لم يفارق عصره، فكيف بنا نحن؟ لا شك أننا أولى.
6- القاضي المالكي أبو الوليد بن رشد، قاضي قرطبة، يقول: "فإن أدي النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود ان يكون قد سكت عنه في الشرع، أو فرق به فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدي إليه البرهان فيه أو مخالفا . فإن كان موافقاً فلا قول هناك وإن كان مخالفاً طلب هناك تأويله. ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ". ومن شأن التأويل أن يخرق الإجماع. إذ لا يتصور فيه إجماع علي حد قول ابن رشد، ولهذا يمتنع تكفير المؤول. ولهذا نقد ابن رشد الغزالي عندما كفر هذا الأخير الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابي وابن سينا.
"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال" ص32
7- الإمام المالكي شهاب الدين القرافي، يقول: (إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 112
8- الإمام ابن عابدين، يقول في دور العادة والعرف في الفتوى: (اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلاً فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة). لذلك فإن العلماء جعلوا قاعدة (تغير الفتوى بغير الزمان والمكان) متفرعة عن قاعدة (العادة محكّمة).
9- الشيخ محمد أبو زهرة، له كلام قيم يفيد أن هناك نصوص نبوية لا تفيد الإلزام، حتى لو وردت على سبيل الأمر من النبي ص، يقول: لقد قسم العلماء أفعال النبى صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاثة أقسام (ذكر منها): القسم الثالث: أعمال يعملها بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية في بلاد العرب، كلبسه صلى الله عليه وآله وسلم وأكله، وما يتناوله من حلال، وطرق تناوله، وغير ذلك فهذه أفعال كان يتولاها بمقتضى البشرية، والطبيعة الإنسانية، وعادات قومه، ومن الأمور ما اختلف فيه بعض العلماء، من حيث كون فعل النبى صلى الله عليه وآله وسلم أو تلبسه به كان من قبيل بيان الشرع أو من قبيل العادات؛ كتربية لحيته بمقدار قبضة اليد، فكثيرون على أنه من السنة المتبعة، وزكوا ذلك بأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قصوا الشارب وأعفوا اللحى) فقالوا: هذا دليل على أن بقاء اللحية لم يكن عادة، بل كان من قبيل حكم شرعى ـ والذين قالوا: إنه من قبيل العادة لا من قبيل البيان الشرعى قرروا أن النهى لا يفيد اللزوم بالإجماع، وهو معلل بمنع التشبه باليهود والأعاجم الذين كانوا يطيلون شواربهم ويحلقون لحاهم؛ وهذا يزكى أنه من قبيل العادة، وذلك ما نختاره.
10- الإمام محمد عبده: قدم في تفسيره الذي كتبه عنه تلميذه محمد رشيد رضا، رؤى عقلانية وتفسيرات معاصرة، ترد كل الخرافات القديمة. وله فتاوى كثيرة كلها اجتهاد مع النصوص، منها مسألة نصب التماثيل، فبينما كان تلميذه محمد رشيد رضا يرى أن نصب التماثيل مُحرَّم في الإسلام، ولأن فيه إضاعة كثير من مال الأمَّة في غير مصلحة، كان في المقابل، أستاذه الإمام محمد عبده يرى «أن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصور قد مُحي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك، بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالًا إلى «المُفتي»، وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردتَ عليه حديث «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون»، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببَين، الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من تُرسَم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالَين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به. فإذا زال هذان العارضان، وقُصدَت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر من المصنوعات» الأعمال الكاملة، ج٢ ص١٩٩٢٠٠.
11- الدكتور عبد المنعم النمر، يقول: الإجتهاد له تعريفات متعددة حسب وجهة نظر الذي يعرفه ويحدده .
• فترى بعض الأصوليين يعرفه بأنه: استنفاد الفقيه المجتهد وسعه وطاقته فى استنباط حكم شرعي لم يأت به نص من كتاب أو سنة ولم يأت به اجماع.
• وترى بعضهم يعرفه : بأنه استنفاد الفقيه وسعه وطاقته الفكرية في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
والتعريف الأول هو المشهور ولكن لى عليه ملاحظات حول ما قيل فيه : (لم يأت فيه نص من كتاب أو سنة أو اجماع)، لأن الاجتهاد يقوم وقام فعلا حول نصوص من الكتاب والسنة واختلف المجتهدون في الاستنباط منها ... فليس كل نص بعيدا عن الاجتهاد، بل نصوص مخصوصة هى التي يؤخذ بها دون اجتهاد في معرفة الأحكام، لأنها كافية وقطعية في بيان الحكم، لا تحتاج الى اجتهاد، وتسمى نصوصا « قطعية الدلالة، بينما هناك نصوص من القرآن، تحتاج الى تفكير، لاستخراج الحكم الشرعى منها . لأنها مع كون ثبوتها من عند الله قاطعا لاشك فيه، فان معناها ليس قطعيا، لأنها تحتمل وجهين أو أكثر من المعاني وهنا يكون الاجتهاد لتحديد المعنى المراد حسب ما يتيسر لكل مجتهد من أدلة وهذه النصوص هي التي يقال عنها انها : "ظنية الدلالة".
من هنا ترى أن قصر مجال الاجتهاد على أنه يكون فيما لم يات به نص قول يحتاج الى تحفظ وقيود عليه، حتى يكون التعريف صحيحاً، فنقول مثلا: "ان مجاله فيما لم يأت فيه نص قطعی الدلالة"، فلا يحتمل وجهين، مثل توحيد الله وفرضية العبادات، وتوزيع الميراث، والوفاء بالعقود والتراضي في البيوع، وتحريم الربا الى مثل ذلك، مما وردت فيه النصوص القطعية الدلالة.
ومن هنا أيضا يمكن أن نزن ونناقش العبارة المشهورة، التي تتردد كثيرا على الالسنة "لا اجتهاد مع وجود النص"،، لأنها عبارة واسعة، وثوبها فضفاض، يحتاج الى «تضييق» .. لأن الاجتهاد يكون أحيانا كثيرا جدا، فيما فيه نص ظني الدلالة، وهذا سبب من اسباب اختلاف المجتهدين في الأحكام بالاضافة الى الاجتهاد فيما لا نص فيه أصلا، فالقول بأنه "لا اجتهاد مع وجود النص"، غير مسلم على اطلاقه، وان كان عامة الأصوليين يرون أن الاجتهاد يكون فيما فيه نص ظني الدلالة، وفيما لم يأت فيه نص ودرجة الاجتهاد متفاوتة فى الجهد المبذول، فما فيه نص ظني قد يكون الجهد المبذول في استخراج الحكم المراد منه، أقل من الجهد المبذول في استخراج حكم لا نص فيه، وهذا لا ضرر فيه، فالكل اجتهاد .. والكل استخدم الفقيه فيه طاقته الفكرية في استخراج الحكم, هذا من حيث نصوص الآيات القرآنية في الأحكام، وهي آيات قليلة بالنسبة لآيات القرآن كله،
اما نصوص السنة :
فهي أيضا لا تخرج عما قيل في نصوص القرآن من ناحية الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعى منها.
لكن هناك أحاديث وسنن كثيرة، تتصل بمعاملات الناس في الحياة، فى البيع والاجارة، والرهن واللقطة، والقراض، والتجارة وطرقها، والحرب والسلم، والغنائم والتصرف فيها في غير ما نص عليه القرآن، كسلب القتيل في الحرب والمعاهدات ما يقبل منها وما يرفض وفي الزراعة، وفى الطب، وفي الطعام، وما يحبه الرسول، وما يكرهه وكيفية مشى الرسول، ونومه، ولبسه الى غير ذلك من الأمور العادية الجبلية أو الطبيعية . هل هذه تأخذ حكم الأولى التي يمكن أن نقول عنها : انها بوحى مباشر أو سكوتى واقرارى، أو أنها باجتهاد . على أساس ما قدره صلى الله عليه وسلم من مصلحة للناس، أو أنها صادرة عن العادة ؟ وهذا يقتضينا ان ننتقل لبحث مهم آخر هو :
هل أحاديث الرسول كلها عن وحى ؟
یعنی : هل كل ما نطق به الرسول أو فعله، أو أقره، انما كان بناء عن وحي، أو حراسة وحي ؟ بحيث لو كان غير سليم أو . ينزل الوحي عليه ليصححه، كما حصل في بعض الأمور ؟ • صحيح بعض العلماء قال بهذا، مستظلين أو مستدلين بقوله تعالى مدافعا عن رسوله: (والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى علمه شديد القوى). واعتبروا النطق عاما، فهو لا ينطق ولا يقول قولا، الا عن وحي يوحى اليه، ومثله الفعل.
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد برأه الله من الميل الى الهوى والغرض الشخصي في كلامه وفعله اجماعا، الا أنهم أرادوا في أنه لا ينطق الا عن وحى فى أى موضوع يتكلم فيه . ولو في شأن من شئون الحياة العادية، ولو كان في الزراعة، أو الطب أو الحكم في أمر من الأمور .. كل كلامه الذي ينطق به عن وحى أو الهام من الله, هكذا تصوروا استنادا لهذه الآية.
وهو استناد خطا، غفلوا فيه عن سياق الآية وسبب نزولها. فالآيات مسوقة للرد على المشركين، الذين ادعوا أن محمدا يكذب ويفترى، ويقول قولا يدعى أنه من عند الله، وأنه القرآن وهم في هذا الادعاء يتجنون ويتجاوزون ما عرفوه عنه طول حياته، من أنه لا يكذب، وأنه الصادق الأمين ولذلك حين أراد الله نفى اتهامهم له بالافتراء في القرآن أومأ الى هذه التجربة في حياته وقال (مـــا ضــل صاحبكم وما غوى)، فهو صاحبكم ومعاشركم منذ الصبا والشباب ولم تجربوا عليه كذبا قط، فكيف تتهمونه بالكذب الآن، وبعد كل هذا النضج .. وسارت الآيات ترد عليهم فهو ما ينطق بكلام يقول عنه : انه قرآن لهوى في نفسه ولكنه الحقيقة من عند الله، وهو وحى (ان هو الا وحي يوحى) الآيات.
فهذه الآية، وما قبلها، وما بعدها، واردة في شأن نطقه بالقرآن خاصة، لا بكل ما ينطق به، واخواننا برأيهم هذا في جعل المراد بالنطق النطق العام، يهملون السياق الذي يحدد المغنى المراد، ويحملون الآية مالا تحتمل، فلا دليل لهم فيها على أن كل أحاديث الرسول موحى بها اليه، أو محروسة من الله، يقر منها، ولا يقر. بل الصحيح أن منها ما هو كذلك عن وحى مقدما أو محروسة بوحى، ومنها ما ليس كذلك، كما تدلنا الوقائع الكثيرة في حياة الرسول، التي تفيد بأنه كان يجتهد في بعض الأمور، ويشير بها، ثم يتبين أنها ليست سليمة متفقة مع المصلحة، كما حصل في تأبير النخل، والعمل بمشورة الرسول فيها لمدة سنة حتى أظهرت التجربة العملية أنها ليست في صالح الزراعة دون نزول وحى في الحال للتصحيح : وكما حصل في أثناء الحرب وفي بعض المعاهدات . التي صرح فيها بأن تصرفه بناء عن رأي خاص له، لا عن وحى .. وكما قال : "إنني بشر. وانكم تختصمون إلى ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من البعض الآخر، فأقضي له - أي بناء على الحجة لا على وحى - فمن قضيت له من حق أخيه شيئا - أي خطأ - فلا يأخذه . فانما أقطع له قطعة من النار"، " فكل هذا يدل على أنه كان يتكلم أحيانا ويحكم باجتهاده والا لو كان عن وحي مباشر، أو لا عن وحی يصحيح له في وحى من الله .. الحال، لما حصل ذلك. ونتيجة هذا كله أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتهد احيانا، ويقول باجتهاده، وكان اجتهاده قائما على القواعد العامة في القرآن، وعلى هدف تحقيق المصلحة للناس، ولم تكن كل أحاديثه عن وحى فمثل هذه الأحاديث الاجتهادية التي حكم بها في بعض المعاملات التي وجدها جارية في المدينة، لا تمنع أحدا من الاجتهاد فيها، اذا وجد أنها لم تعد تحقق المصلحة التي أرادها الرسول، لتغير الناس والأزمان والأمكنة.. فنصوص هذه الأحاديث اذن - لا تمنع الاجتهاد، ولا يجوز لنا أن نقول معها : "لا اجتهاد مع وجود النص".
لأن الرسول نفسه اجتهد فيها ثم غير فيها، كما حصل في موقع الجيش في بدر، وكما حصل في الخروج لمقابلة الكفار خارج المدينة في أحد، نزولا على رأى أصحابه تاركا رأيه، وكما حصل في مفاوضته مع قريش وغطفان التي تآزرت مع قريش وحاصرت معهم المدينة في غزوة الأحزاب، فاتفق الرسول معهم اتفاقا مبدئيا على أن يرجعوا، على مقدار من تمر المدينة يأخذونه نظير ذلك، ولما سأله الأنصار : هل هذا عن وحى أو رأى له ؟ قال : بل هو عن رأي أصنعه لمصلحتكم، فأبدوا رأيهم بعدم الموافقة على ما اتفق عليه غطفان، ونزل على رأيهم . ولم تتم المعاهدة فلم يمنع نطقه وحديثه بعض صحابته من أن يعارضوه، ولو كان عن وحى لما عارضوه،، ولو كان محروسا بوحی لمنعه من هذه الاتفاقية. بل انه - صلى الله عليه وسلم - أبدى رأيا ناتجا عن اجتهاده أثناء حجة الوداع حين نوى الحج والعمرة معا، وساق معه الهدى باجتهاده في تنفيذ هذه الشعيرة، ولكن بعضهم لم يسق هديا معه فأشار على من لم يسوقوا هديا - لما وجد المدة الباقية على الحج طويلة نوعا ما ـ أن يحولوا الحج الى عمرة ويتحللوا، ثم في مكة ينوون الحج لأنه من ساق الهدى معه لا يحل له أن يجعلها عمرة، ثم حجا، وقال لهم: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) فحتى فى هذه الكيفية في أداء العبادة، اجتهد فيها برأيه، اذ لو كان تصرفه هذا عن وحى أو محروسا بوحى لما صح منه أن يقول "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت"، بل ما وقع ذلك أصلا، ولأشار الوحى عليه، من أول الأمر أو بالأنسب أو صحح له. وقد ذكر ابن القيم أنه "تأسف له على كونه لم يفعله"، أى التمتع من أول الأمر، ولم يسق معه الهدى. ثم ترى من بعده الصحابة والتابعين، كيف اجتهدوا للمصلحة حتى في بعض أقواله، وغيروا بعضها طلبا للمصلحة .
فالقول بأن نصوص القرآن كلها، ونصوص السنة كلها تمنع من الاجتهاد، وأنه لا اجتهاد مع وجود النص، قول واسع جدا وغير دقيق، ولا يتفق مع الواقع، سواء في أيام الرسول أو فيما بعدها.
د. عبد المنعم النمر، الإجتهاد ص 29-41

تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
يقول د. عبد المنعم النمر: هناك قضية أرساها الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون، ولكنا أغفلناها، وهى أن ما أصدروه من آراء اجتهادية حول القضايا والأحداث التي جدت في زمانهم، كان يحكمهم فيها عاملان:
الأول: الأخذ بالنصوص القطعية العامة
الثاني: مراعاة المصلحة العامة للمجتمع، والقواعد الشرعية في الموضوعات التي جدت، أو كانت قديمة وتغيرت الظروف حين اجتهادهم لاستخراج أحكام شرعية لها.. بحيث يأتي الحكم غير مصادم لنص أو مخل بقاعدة شرعية مع تحقيقه للمصلحة العامة للمجتمع لها.. • وفي ضوء هذا تحركوا. وغطوا الأحداث الجديدة بأحكام شرعية، بحيث لم توجد قضية من قضايا الحياة المستجدة الا كان لها حكم شرعي، لم يتركوا قضية معلقة، دون ايجاد حكم لها، بل وصــــــــل ثراؤهم العقلى الفقهى الى حد أنهم افترضوا فروضا غير واقعية، ووضعوا لها أحكاماً بل الأحكام التي سبق صدورها من السابقين، ولكن تغيرت الظروف، حتى صار الحكم السابق غير متناسب مع الظروف الجديدة، والمتغيرات المستجدة. وغير محقق للمصلحة كما كان من قبل، هذه الأحكام، اجتهدوا في أن يوجدوا بدلها ما يحقق المصلحة، ويدرا الفساد وكان منطقهم الشرعى العقلى فى هذا: ان الذين اجتهدوا وأصدروا هذه الأحكام السابقة، راعوا الظروف التي حولهم، وأصدروا أحكامهم على ضوئها، ولو كانوا موجودين الآن، وفي ظل هذه الظروف والمتغيرات الجديدة، لاجتهدوا في ظلها، وحكموا بمثل حكمنا الجديد، تحقيقا حتى وجدنا أم المؤمنين السيدة عائشة نفسها، وقد امتد بها العمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفيت في رمضان سنة ٥٨ هـ وقد تغيرت ظروف الحياة كثيرا عما كانت في أيام الرسول، تقول السيدة عائشة فيما أجازه الرسول من خروج المرأة للمساجد: (لو أدرك الرسول ما أحدث النساء لمنعهن المساجد) وقول السيدة عائشة هذا - وهى من هي - وبصدد حكم اجتهادي للرسول صلى الله عليه وسلم، ترى تغييره، مراعاة للظروف التي تغيرت عن ذي قبل، قولها هذا أكبر سند للقول بتغيير الحكم الاجتهادي، حسب تغير الظروف وأن الفقيه لابد ان يراعى الظروف التي حوله حين يصدر حكما، ولا يتمسك بحكم سابق اجتهادى كانت له ظروفه، وتغيرت، وفقد فعالیته و بهذه النظرة العقلية الشرعية، كان التحرك لايجاد أحكام جديدة سواء كان في أيام الصحابة أو أيام التابعين.
ولذلك وجدنا الأئمة المجتهدين - رضوان الله عليهم - يقررون لتلامذتهم، أنه لا يصح لهم أن يأخذوا كلامهم قضية مسلمة دون فحص لدليلهم، بل لا بد أن يعرفوا الدليل الذى استند له امامهم، ليكون لهم رأيهم ووجهة نظرهم، وافقوهم أو خالفوهم.. ولذلك وجدنا بعض هؤلاء التلامذة الكبار، يخالفون أحيانا رأى أمامهم وأستاذهم، وهذا دليل على أن التلامذة لم يأخذوا رأى امامهم قضية مسلمة يرددونها دون بحث، ويلتزمون بها، بل بحثوا في حرية، وكان لهم ما رأيهم، سواء وافقوه أم خالفوه، على حسب یرونه هم في الدليل.. فلم تكن مدارس الأئمة في طبقتها الأولى مدارس تقليد، ولم يرضوا هم من تلامذتهم بالتقليد، بل دعوهم الى الفحص والنظر المستقل لتكوين آرائهم. ولم يكن هذا مصدر قلق للأئمة، ولا مظهر خروج وتمرد عليهم، بل كان مصدر سرور وفخار لهم جميعا، ولمدارسهم الفكرية، ولكل ذوى العقول والرأى من بعدهم.. بل كانوا أحيانا يرجعون لرأى تلامذتهم، أو يرجعون اذا وجدوا دليلا أقوى، أو ظروفا غير الظروف التي حكموا في ظلها من قبل ورأوا أن الرأى الجديد أنسب، كما فعل الامام الشافعي رضي الله عنه حين جاء الى مصر. وهذه النظرة الفقهية الأصيلة الحرة هي التي جعلت الامام ابن قيم الجوزية يقول: "ان الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد. وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، ومن الحكمة الى العبث، فليست من الشريعة، وان أدخلت فيها بالتأويل. والشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله أتم خلقه، دلالة واصدقها" ويقول في ضرورة مراعاة الظروف والعرف في الفتوى "فمهما تجدد العرف فاتبعه، ومهما سقط فالغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل اذا جاءك رجل يستفتيك من غير اقليمك، فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده، فأجره عليه دون عرف بلدك، والمذكور في كتبك. قالوا: فهــذا هـو الحق الواضح".
"والجمود على المنقولات أبدا ( أى المبنية على الاجتهاد ) ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"، ثم قال: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وأزمنتهم، وأمكنتهم، وأحوالهم، وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم جناية ممن طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم، وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب". "وهذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتى الجاهل، أضر ما يكون على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان". ا هـ
وقد بلغت ضرورة مراعاة مصلحة المجتمع الى حد أن امامين كبيرين من ائمة الفقه والفكر الاسلامي، وهو الامام الطوفى الحنبلي المتوفى سنة ٧١٦ هـ وحجة الاسلام الامام أبو حامد محمد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥هـ ١١١١م يقرران: أنه اذا عارضت مصلحة حكما ثبت بالنص والاجماع. فان هذا فى الحقيقة تعارض بين مصلحتين: مصلحة حكم النص والاجماع والمصلحة العارضة، فاذا ترجحت المصلحة المعارضة بمرجحاتها المعتبرة، روعيت المصلحة المعارضة، وعدل عن النص والاجماع. وقد ضرب لذلك مثلا، فيما لو تترس الأعداء بالأسرى المسلمين، ليمنعوا الجيش المسلم من فتح النار عليهم حتى لا يقتلوا مسلما، فيؤدى هل يمتنع الجيش المسلم عن فتح النار على ذلك الى انتصار الأعداء الأسرى المسلمين وقتلهم، لأن قتل المسلم حرام بالنص والاجماع. أو ان المصلحة حينئذ تقضى بفتح النار عليهم، وقتل جيش الأعداء، والحيلولة دون انتصارهم بهذه الخديعة ؟ والحكم الشرعي في هذه الحالة هو جواز قتل هؤلاء المسلمين الأسرى لتحقيق مصلحة المسلمين في الانتصار، وحفظ مصلحة المسلمين ودولتهم.
فهذه مصلحة معارضة للنص والاجماع، نغلبها ونعمل بمقتضاها، ولا نتمسك بالنص والاجماع. المسلم وهكذا تدور الأحكام الشرعية حول المصلحة العامة للمجتمع.
لا أدعو الى اباحة شيء ممنوع شرعا بأدلة قاطعة، ولكني أدعو الى. البحث وموازنة الأمور فى ظل القواعد، والحاجة والظروف التي تتحكم في سير الحياة الآن لا أدعى أن هذا رأيي وحدى، ولكنه رأى كثير لاسيما من اخواني العلماء، ولكنهم واقعون تحت مطرقة الخوف على مراكزهم من شغب أنصاف العلماء، والعامة، والمزايدة عليهم، بدعوى التمسك بالدين ولكن الى متى نظل واقعين تحت هذه الرهبة، والناس لا يجدون الفتاوى التي تحل مشكلاتهم والفجوة واسعة بين الأحكام التي جمدنا عليها وبين مطالب الحياة التي لابد أن تلبيها شريعة الله، ولا تقف أمامها ونحن دائما تقول: "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان".
هناك قضايا فكرية وأحداثا واقعية، جدت بعد عصر الأوائل القدامى، ولو عرضت عليهم، أو جابهوها في أيامهم، لاستطاعوا أن يأتوا لها بحلول وهذا أمر مؤكد - فلا أتجاوز حدى الآن، وأقول: لات بما لم يستطعه الأوائل، بل لكي أكون صادقا، أقول أيضا: أو بما لم يفعله الأوائل.. وليتنا نقول، ونفعل!!
وقضيتنا الجديدة أساسها أن نتخلص أولا من وهم: أننا عاجزون عن النظر والاستنباط، متوهمين أنه: ما ترك الأوائل للأواخر شيئا ولم يكن في الامكان أبدع مما كان وان نشعر بواجبنا ازاء شريعتنا ومجتمعنا.. ثم ننظر في صلب القضية، وهي ذات شقين:.. الشق الأول: الأحكام الفرعية الاجتهادية التي قررها السابقون الكرام على ضوء ظروفهم، والمصلحة في أيامهم، لابد أن ننظر فيها من جديد على ضوء ظروفنا: والمصلحة في أيامنا، ولا نأخذ كل قول قضية مسلمة، حتى ولو كان مخالفا لظروفنا، ومناقضا للمصلحة في أيامنا.. أعنى أن ننظر فيما حكم به السابقون في هذه النوعية من الأحكام مع ظروفنا ومصالحنا أخذنا به، وما كان غير ذلك تركناه، وأتينا بحكم يناسبنا، ويناسب مصالحنا، كما فعل السابقون ونغربلها، فما كان متفقا من الصحابة والأئمة في هذا الشأن.
الشق الثاني: الأحداث الجديدة التي لم يسبق لهم قول فيها أو في موضوع يشبهها شبها تاما، ولا يمكن الحاقها به، فهذه تحتاج لحكم شرعى جديد، وعلينا أن نعمل عقولنا، ونجتهد على ضوء الأصول المعروفة، لاستنباط حكم لها ولا يجوز بحال من الأحول أن نرضى بالعجز عن الاتيان بحكم لها، أو نلحقها تعنتا - بحكم سابق لمجرد وجه من وجوه الشبه بينهما.. اذ لا يمكن أن أقول عن انسان: انه أخي لمجرد تشابه بيننا في بعض الملامح، ولا يمكن أن يدعى هو ذلك ويطالب بالاشتراك معى في الميراث !! " ونحن خلال نظرنا في هذه القضية بشقيها، لابد أن يكون سلاحنا الوحيد هو الحجة والدليل، والتأدب بأدب الاسلام، والاقتداء بالأئمة في حسن أخلاقهم، في مناظراتهم، وتناولهم لآراء الغير التي يخالفونها. كما نحب الاقتداء بهم وتقليدهم في عملهم " فقد اختلفت الصحابة والأئمة فى آرائهم، ومع ذلك لم يوجه أحد كلمة نابية لمخالفيه، واذا تجادلوا فبالتي هي أحسن، وأوفر أدبا وتوقيرا، لأنهم متأدبون، ولديهم سلاحهم العلمي منهم.. هذه ناحية مهمة أركز عليها هنا، ليتنبه لها اخواني العلماء، حين يختلفون فى الرأى، حتى لا ينهالوا على مخالفيهم بالتجريم والاتهامات لهم، فى دينهم واخلاقهم، مما يعتبر عادة سلاح العاجزين، وأسلوب المنحرفين.
انني أعرف أن نحو ألف سنة قد مرت على المسلمين وعلمائهم. وهم جميعا عاكفون على التقليد والوقوف عند آراء السابقين المدونة في الكتب الى حد قد وصل بها في نفوسنا الى ما يشبه التقديس لها، واعتبارها كأنها نصوص القرآن والسنة !! مع أن الذين قالوها من العلماء وأئمتهم، قد حذرونا من الأخذ بها، ما لم تعرف دليلهم عليها، ونقتنع به، وهم لم يدعوا أن رأيهم هــــو الصواب الذي لا صواب غيره، بل قالوا: ان رأيهم صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرهم خطأ يحتمل الصواب، وتعرض كل منهم في حياته للمخالفة و ابطال رأيه، سواء من علماء مذهبه، أو من مخالفيه، بل انهم هم في حياتهم، رجعوا عن بعض آرائهم. ورأوا رأيا جديدا، وجدوا فيه الصواب أو الأصوب من رأيهم الأول فليس كلامهم وأراؤهم - اذن - كلاما مقدسا ومصونا لا يمس، علينا أن نتبعه ونقول به، كما نفعل الآن دون بحث أو مناقشة، حتى ولو وجدنا المصلحة في غيره واذا كان هؤلاء الأئمة الكرام، لم يعتبروا كلام الصحابة ورأيهم مقدسا يلتزمون به، دون بحث و مناقشة واقتناع، بل قالوا: هم رجال ونحن رجال، وقال الامام مالك: كل يؤخذ منه ويرد عليه الا صاحب هذا القبر، یعنی رسول الله... حتى فكيف ننزل نحن آراء الأئمة الاجتهادية، وآراء علماء المذهب منزلة التقديس فلا نلمسها ببحث. ولا نخالفها في رأى ؟ ولو ظهر ظهورا بينا أن رأيهم الاجتهادي هذا، لم يعد مناسبا لظروفنا ومصالحنا ؟. ونحن نعلم أنه حيث تكون المصلحة يكون شرع الله ؟. انني أعرف أيضا كما تعرف - أخي القارىء - أن من الصعوبة بمكان، اخراج الناس بسهولة عما ألفوه طوال هذه المئات من السنين، حتى أصدروا أحكامهم بغلق باب الاجتهاد، وأنه بدعة وكل بدعة ضلالة، وأنه ممنوع، مع أن الحكم الشرعى فيه هو أنه فرض ديني على المسلمين.
والاجتهاد ليس صعبا، وليس « غولا، كما يتصور بعض الناس. ويغشاهم الخوف منه ويرتعدون بل انه صار الآن أسهل مما كان في الماضي، حيث توفرت لدى الباحثين كل المراجع اللازمة لهم في مما لم يكن بعضه متوفرا زمن الأئمة المجتهدين مسيرة الاجتهاد ولكن يظهر أنه من طول ماقعدنا « وتربعنا » فأصبحنا ولا عذر لنا تیبست عظامنا حتى هبنا الوقوف والحركة، ولكن الى متى؟ ان الانسان منا يتهيب النزول الى المياه لبرودتها. حتى اذا نزل أحس الدفء، ونعم بها، حتى لا يحب الخروج منها، والذين يسبحون على الشاطئ وتلازم أرجلهم مياهه ورماله خوفا من البحر، يستصعبون العوم داخله، ويعتبرون السباحين أبطالا، حتى اذا تمرن أحدهم على العوم، اقتحم لجة الماء، وسبح طويلا الى العمق وبسهولة، واعتبر نفسه انسانا هايفا، وجبانا، حين كان يخاف البحر والعوم فيه، ولعل هذه حالنا مع الاجتهاد اليوم.
د. عبد المنعم النمر، الإجتهاد ص 8-16 و20-25

الأصوليات الدينية وسلطة النص
ظهرت الأديان في العالم القديم، عالم ما قبل الحداثة، وكانت ملائمة لظروف عصرها، في طريقة التفكير وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وعدم الإهتمام بالدنيا، بل ذمها ولعنها.. وكان الإنسان القديم عبداً للحاكم في الغالب، ولذلك كانت هذه النظرة للحياة ملائمة له.. ولما جاء العصر الحديث، وروعة الحداثة وحقوق الإنسان، والإعتراف بمكانته وقدرته على إدارة أمور حياته بنفسه، وقدرته على إصدار التشريعات الملائمة للدولة الحديثة، ثارت الجماعات الأصولية، التي تنادي بالعودة إلى الأصول، أي تحكيم سلطة النص المقدس على الحياة الحديثة والعودة إلى الماضي.. وهذه الظاهرة لم يعرفها المجتمع الإسلامي وحده، ولكنها ظاهرة عامة في جميع أنحاء العالم، مما يدل على أن الأصولية تفكير بشري متطرف مشترك في جميع الأديان.
وقد قامت الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم بدراسة هذه الأصوليات بتمويل من مؤسسة جون وكاثرين مکارثي تحت عنوان المشروع الأصولي ولمدة خمس سنوات ابتداء من عام ۱۹۸۸. وقد صدرت عن هذا المشروع خمسة أجزاء. تناولت الجماعات الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا. كما تناولت الأصولية المسيحية في الشرق الأوسط وأوربا وأمريكا اللاتينية والأصولية اليهودية في الشرق الأوسط، والأصولية البوذية في سري لانكا وبورما وتايلاند، والأصوليستين الهندوكية والسيخية في القارة الهندية. تناولت كل هذه الأصوليات في ضوء رؤاها الكونية، وفهمها الخاص للعلم، وأحكامها التي تصدرها علي التطبيقات التكنولوجية ورأيها في الأسرة، وفي القانون والدستور، وفي مدي تأثير الأصولية علي الاقتصاد. وتشير إلي رفض الأصولية للقسمة الثنائية بين الحياة الخاصة والحياة العامة إذ هما لابد أن يخضعا للتحكم. هذا بالاضافة إلى ضرورة تطبيق الشريعة أي القانون الإلهي. وخلاصة القول في هذه الأجزاء أن بزوغ الأصوليات ليست مجرد رد فعل ضد الرؤي الكونية الجديدة التي تهدد تراثها "المقدس"، بل هي تهدف إلي تشكيل العالم استناداً إلي مقولات ثلاث العنف والإرهاب والثورة، وإلي السيطرة علي التعليم والإعلام وتأسيس مدارس ومعاهد أصولية. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأن الأصولية، أيا كانت سمتها الدينية مسيحية أو إسلامية أو يهودية، أو أية ملة أخري تمزج المطلق بالنسبي، والحقيقة الأبدية بالحقيقة العابرة، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتية ماضوية، وكأنها رسالة أبدية موجهة ضد حقيقة لاهوتية راهنة، فتعجز عن التعامل مع الوضع الراهن، ليس لأنها مجاوزة لهذا الوضع ولكن لأنها تتحدث عن وضع ماضوي فتمنح مصداقية أبدية لرؤية نسبية. وفي هذا السياق تصبح الأصولية ممهدة لما أسميه صراع المطلقات). وأقول الأصولية من غير ذكر للسمة الإسلامية: لأن هذه هي الأصولية أيا كانت سمتها الدينية. (د. مراد وهبة، الأصولية والعلمانية ص 36-37)

سلطة الأحاديث من صنع الفقهاء
لو اقتصر الأمر على سلطة النص القرآني لكان الأمر هيناً، ولكان هناك متسع في حياتنا نتحرك فيه دون فتاوى تبين حكم الدين في كل خطوة وكل حركة وسكنة، ولكن المشكلة الكبرى في اعتبار الفقهاء السنة وحي مثل القرآن. وهذا هو سبب تحكم الدين في حياة المسلمين بشكل فاق تحكمه في الأوروبيين في العصور الوسطى، لأن كم الأحاديث التي تتدخل في تفاصيل الحياة اليومية وتفيض بالنهي والتحريم، يفوق الحصر، حتى أنه ورد أن الإمام أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث.
والسبب في كثرة الأحاديث بهذا الشكل، هو ما قاله جوستاف جرونيباوم في كتابه "حضارة الإسلام" أن معظم الأحاديث موضوعة على النبي إلا ما ندر، وظاهرة الوضع اضطر إليها المسلمون اضطراراً بسبب قيام الإمبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف والتوسع في الفتوحات، ودخول شعوب جديدة في المجتمع الإسلامي، وظهور قضايا ومسائل جديدة، لم تكن في مجتمع مكة والمدينة البسيط في زمن النبي محمد، وليس لتلك القضايا سند شرعي في القرآن ولا الحديث، ولذلك اضطر الفقهاء والمحدثون لوضع الحديث اضطراراً. يقول "جوستاف جرونيباوم" في كتابه "حضارة الإسلام": (ولم يكن للمسلم مندوحة إذن من أن يكون كل تفصيل من تفاصيل حياته متضمناً في السنة النبوية، وتلك حال استوجبت وضع كثير من الأحاديث، إذ لم يكن بد من تبرير التصرفات والأقضية الحديثة أو محاربتها، وكان الحديث هو السلام الوحيد لبلوغ أي من هاتين الغايتين. ولا يكاد أحد ينكر أن الأتقياء أنفسهم كانوا على أتم استعداد للتقول على النبي. ولتخفيف ذلك الفيض الطامي من الأحاديث الموضوعة، نقلوا عن النبي – في حديث موضوع – زجراً عن كل وضع من هذا القبيل، إذ يقول: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وكانت هذه التحذيرات في محلها تماماً، كما كانت غير ذات أثر في نفس الوقت، إذ أنه كان من المحال من الناحية النظرية إقامة أي رأي فقهي أو أي إصلاح ديني أو دعم أية قضية سياسية، إلا على دعامة من رأي صدر عن النبي، فالواقع أن اصطناع الحديث أمر لم يكن منه بُد.
وما أعجب مشهد أولئك المسلمين وهم يتقاتلون في معاركهم بواسطة تبادل أقوال وأسانيد قدموا تالايخها، وتؤيد الطرفين المتنازعين كليهما، فهم يخيلون الحاضر في صورة موقف رآه النبي رأي العين وتنبأ به من زمن بعيد، حتى لكأن الرسول يلخص معالم المنازعات المعاصرة ويقضي فيها مقدما برأي، فما حدث اليوم إنما كان بوجه ما إعادة تمثيل لمسرحية مثلت أول مرة في قلب رسول الله المشفق على أمته) جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام ص 144-146
لقد كثرت الأحاديث وعمت تفاصيل الحياة كلها، وبني عليها الفقه الإسلامي وتوغل في أدق التفاصيل، وتغوّل الحديث والفقه والشريعة في حياة الناس حتى ظن المسلم أنه لابد أن يسأل المفتي عن حكم الدين في كل شيء كل شيء، وصار يشعر بالذنب تارة ويخاف غضب الله وانتقامه تارة أخرى.. كل هذا بسبب تدوين النص الديني الذي لم يفعله النبي نفسه.
إن الشافعي في مَجال أصول الفقه كان أول من وسَّع مفهوم «الوحي» بإدماج السُّنة في دلالة القرآن، وبتوسيع مفهوم السُّنة ذاته بإدخال «الإجماع» فيه، فإنه لم يترك لفاعلية «العقل» إلا مَجال «القياس» الذي اشترط له شروطًا تجعلُه نوعًا من «الاستنباط» المُقيَّد بحدود «الأصل السابق». هكذا يَتحدَّد دَور العقل في البحث عن أحكام موجودة بالفعل في النصوص وإن كانت خافيةً مُضمَرة لا تَحتاج إلا إلى البحث عنها واكتشافها فحسب؛ لذلك لا يجب أن ندهش من نُفور الشافعي من مبدأ «الاستحسان» الذي أَقرَّه أبو حنيفة (ت: ١٥٠ﻫ)، وإعلانه أن الاستحسان نوعٌ من التشريع الذي لا يجوز وقوعه إلا من الله أو من الرسول. ومثل الشافعي ناهَض أبو الحسن الأشعري عَقلانية المعتزلة وأسَّس بديلًا عنها سُلْطة «النقل»، ورفَض مثل سلفه مبدأ المعتزلة في التَّحْسين والتقبيح بالعقل مؤكِّدًا هيمنة «الشرع». وبعبارة أخرى كان كل من الشافعي والأشعري يُؤسِّسان سُلطة النصوص في مُواجَهة تيارات أخرى تُحاوِل أن تُؤسِّس سُلطة العقل، دون أن تُهْدِر بالطبع مَجال فاعلية سُلطة النصوص. ومعنى ذلك أن المعركة كانت أوسع من الخلافات الفقهية أو الخلافات الكلامية - نسبة إلى علم الكلام - لأنها كانت معركة صراع على صياغة قوانين الذَّاكرة الجمعية للأمة؛ أي قوانين تَشغيل تلك الذاكرة وصياغة الآليات التي على أساسها تُنْتِج المعرفة. وإذا كان الاستناد إلى سُلطة النصوص يعني أن الماضي هو الذي يَصوغ الحاضر دائمًا، فإن الاستناد لسُلطة العقل يعني قدرة الحاضر الدائمة على صياغة القوانين التي تُناسبه، والتي لا تُهدِر خبرة الماضي بقدر ما تستوعبها استيعابًا مثيرًا خلَّاقًا. إنهما في الحقيقة مَوقِفان من «التراث» يَلوذ أولهما به محتميًا من تَقلُّبات الزمن وحركة التاريخ؛ لأنها حركة في اتجاه الأسوأ دائمًا - خير القرون قرني … إلخ - بينما يهتم الثاني بالحاضر والواقع، بالحركة والصيرورة، دون أن يُغْفِل فعالية التراث أو يتجاهلها. وقد ظل الصراع محتدمًا بين الاتجاهين حتى حُسِم لصالح النقل والتراث ضد العقل، وكانت الفلسفة - وابنُ رشد خاصة - هي آخر خطوط الدفاع عن العقل ضد تقليد التراث والاستناد لسُلطة النصوص. وأكمل أبو حامد الغزالي (ت: ٥٠٥ﻫ) ما بدأه الشافعي والأشعري، فهاجم الفلسفة وكَشف عن «تهافت الفلاسفة».
هكذا تَحدَّدت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سُلطة النصوص، وأصبحت مُهِمَّة العقل مَحصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة. فإذا كان القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة؛ لأنه استوعب النصوص السابقة عليه كافَّةً فقد تَولَّد عنه نص «السُّنَّة»، الذي تم تحويله - بفضل الشافعي كما سبقت الإشارة - من نص شارح إلى نص «مُشرِّع». وعن النَّصَّين معًا تولَّد نص «الإجماع» - الذي صار نصًّا مُشرِّعًا أيضًا - ثم جاء «القياس» ليُقَنِّن عملية «توليد النصوص». وإذا أخذنا من مجال علم الفقه وحده شاهدًا على سيادة آلية توليد النصوص في الثقافة العربية، فسنجد أن عصر سيادة التقليد فيه بدأ في منتصف القرن الرابع الهجري تقريبًا. ولم يَنجُ من هذا المصير الفقه الحنفي ذاته على يدي تلميذي أبي حنيفة - أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني - اللَّذَيْن حوَّلَا المذهب عن عقلانية الأستاذ إلى الاستناد إلى النصوص، وذلك بحكم ارتباطهما بالسُّلْطة العباسية التي رفَض أستاذهما رفضًا قاطعًا التعاون معها أو مع النظام الأموي.
د. نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة.

سلطة النص تؤدي إلى الإرتداد إلى الوثنية
على مدار التاريخ الإسلامي كان هناك صراعات عديدة حول سلطة النص، صراع بين الدين والفلسفة، بين تيار ابن رشد وتيار الغزالي، بين تيار المعتزلة والحنابلة، بين "أهل الرأي" يتزعمهم الإمام أبو حنيفة، و"أهل الحديث" المجسمة الذين يأخذون بظواهر النصوص ولا يعملون عقولهم في فهم المراد من وراء النص. وقد أدى هذا إلى وقوعهم في التجسيم ووصف الله بأوصاف المخلوقات. فعلى سبيل المثال: حديث القرآن عن الله وصفاته التي تصرح بالتجسيم (ما منعك ألا تسجد لما خلقت بيديّ) (ثم استوى على العرش) وانظر كيف أخذ أئمتهم بظاهر هذه الآيات فوقعوا في التجسيم الصريح والكفر، كما قال شيخهم ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية) ج1 ص 568: (ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السماوات والأرض ولا من فيهن، ولو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض)!! وهو يقول هذا الهذيان نقلاً عن سلف له من أهل الحديث، وهو الإمام الدارمي صاحب السنن، في رده على الإمام بشر المريسي. فهل هذا إعجاز علمي تيمي في آية (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) ؟! أم أنه بسبب الأخذ بحرفية النص؟
لكي تصح عقيدتك في الله، يجب أن تتحرر من سلطة النص، وهذا ما اضطر إليه المعتزلة في رد النصوص التي لا تتوافق مع العقل، بل والأشاعرة في فهم آيات الصفات.

القرآن من عند النبي محمد
من المقرر عند علماء الإسلام بالإجماع، أن كلام الله كلام نفسي منزه عن الحرف والصوت، لم يخالفهم في ذلك إلا ابن تيمية وغلاة الحنابلة المجسمة، فالله لا يتكلم بحرف ولا صوت ولا بلغة عربية ولا غيرها إلا إذا كان له لسان وأعضاء مخلوقة وصوت صادر عن جسم وهذا تجسيم وجهل بالله. ولذلك قال المعتزلة بخلق القرآن وأنه صفة فعل لا صفة ذات (ما يأتيهم من ذكر من ربهم "محدث" إلا استمعوه وهم يلعبون) ونفوا أن يكون نصاً أزلياً.
ويرى الشيخ أحمد القبانجي أن القرآن هو كلام النبي محمد في أثناء لحظات الإرتقاء الروحي العليا والاتصال بالمصدر، ولما كان في القرآن أخطاء علمية، ويصور الله بصورة غير التي هو عليها في الحقيقة، وهو كتاب خطابي لا فلسفي يرتقي بعقل الإنسان المعاصر، الذي تجاوز زمن الطفولة البشرية، إذا تقرر هذا فإن القرآن ليس كلام الله المطلق، وإنما هو كلام النبي محمد المحدود، هو الذي صاغه بنفسه، تأمل قوله (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين) الله يقول إن شاء الله! هذا كلام النبي، ولذلك كان يسبق جبريل في النطق بالقرآن (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى ليك وحيه) (لا تحرك به لسانك لتعجل به)، ويعتقد بعض العلماء أن المعنى فقط من الله، وأما النص فمن النبي محمد.
يتضح هذا إذا فهمنا أن معنى الوحي هو الإيحاء دون كلام، يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية، في معنى الوحي: (هو ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة فإن العبارة تجوز منها إلى المعنى المقصود بها ولهذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست صاحب وحي ألا ترى أن الوحي هو السرعة ولا سرعة أسرع مما ذكرناه. فالوحي ما يسرع أثره من كلام الحق تعالى في نفس السامع ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهية). الفتوحات المكية 2/78
ويقول: (فإن عندنا من طريق الكشف إن الفرقان حصل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا مجملا غير مفصل الآيات والسور ولهذا كان يعجل به حين كان ينزل عليه به جبريل بالفرقان فقيل له ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الفتوحات المكية 1/83

القرآن كتاب خطابي لا فلسفي
والقرآن كتاب خطابي لا كتاب إقناع وعقل وفلسفة، ولعل السبب في هذا يرجع إلى نوع المعارف التي سادت الجزيرة العربية آنذاك، والتي اقتصرت على الشعر والقصص، دون الفلسفة والعلوم العقلية، وبالتالي كان من الطبيعي أن تكون معارف النبي محمد هي معارف بيئته التي عاش فيها، ولذلك يقول المستشرق جوستاف جرونيباوم: (ولم يكن للنبي عهد قط بطرائق الفلاسفة في التفكير) حضارة الإسلام، ص 111 يقول د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص): (لقد كان محمد جزءًا من الواقع والمجتمع. كان ابن المجتمع ونتاجه، نشأ في مكة يتيمًا، وتربى في بني سعد كما كان يَتربَّى أترابه في البادية. تاجر كما كان يُتاجر أهل مكة، سافر معهم وشاركهم حياتهم وهمومهم. وحين أراد بعض الأعراب أن يُعاملوه معاملة الملوك بعد البعثة رفض. وحين رأى أعرابيًّا ترتعد فرائصه وهو يستعدُّ للقائه هدَّأ روعه وقال قولته المشهورة: «إنما أنا ابن امرأة كانت تأكُل القديد بمكة.» هذا ما يَحكيه التاريخ عن الرجل والإنسان الذي شاء الفكر الدِّيني السائد - قديمًا وحديثًا - أن يُحوِّله إلى حقيقة مثالية ذهنية مفارقة للواقع والتاريخ، حقيقة لها وجود سابق على وجودها الإنساني العياني المادي. وشاء هذا الفكر في أشد مزاعمه إنسانية أن يجعل منه إنسانًا مغمض العينَين معزولًا عن المجتمع والواقع، يعيش همومًا مفارقة مثالية ذهنية، حتى حوَّله هذا الفكر إلى إنسان خالٍ من كل شروط الإنسانية).
هذا الذي يقوله جرونيباوم ود. أبو زيد حقيقي جداً، وليس فيه انتقاص من قدر النبي كما قد يظن الغوغاء الغارقون في عالم المقدسات والمطلقات، في غياب تام عن الواقع، وهو مرض خطير، شديد الخطورة على مستقبلنا، مادام كل شيء جاهز معلب، لا يحتاج إلى أي جهد أو سعي بشري نحو التمدن والتقدم العلمي، فالقرآن كله إعجاز علمي، والنبي محمد كان يعرف كل شيء كذلك، وبالتالي فالعلم كله في الدين، والتحضر في الدين، ونصر الله نستنزله من خلال التمسك بالدين، وهذا تفكير خطير يجب اجتثاثه من عقولنا قبل أن نكون ضحية للإستعمار الإسرائيلي، الذي يسعى الآن سعياً حثيثاً لإقامة دولته الكبرى من النيل إلى الفرات، وسيفعل بنا بنو اسرائيل ما نراهم يفعلونه في أشقائنا الفلسطينيين، وهم يصطادونهم كالعصافير، وهم يقفون يبحثون عن لقمة تسد جوعهم.. ولن ينفعنا شيوخ الدوهم والدراويش يوم أن نكون أثراً بعد عين.

خطورة القرآن على علاقتنا مع الله
ما المشكلة أن يرد المسلمون المستنيرون ما يتعارض مع العقل في القرآن، أو يؤولونه على الأقل، مثلما ردوا الأحاديث التي تتعارض مع العلم والأخلاق، مثل حديث بول البعير وحديث إرضاع الكبير الخ.
وعلى سبيل المثال فالقرآن مليء بالنصوص المخيفة والجبروتية التي تتعارض مع رحمة ولطف وعظمة الله وغناه عن العالمين، ما هو سر الخوف من عدم تصديق هذه النصوص التي تخبر عن إله يتفق الجميع على أنه فرعون سماوي؟ إنها سلطة النص، ولو كان النص يسيء إلى الله نفسه بشكل مباشر. هل يحتاج الغني العظيم الكبير أن يصرخ في عباده الضعفاء يوم القيامة قائلاً (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) ؟ والقرآن كله على هذه النغمة من التهديد والوعيد.. وهي نصوص تجعل الله في حجم أقل من حجمه وعظمته المطلقة بكثير، فنحن نرى الواحد منا كلما كانت منزلته ومرتبته الإجتماعية والأدبية أعلى، كلما لاحظنا أنه على درجة أعلى من التواضع واللطف، على غير ما جرت عليه عادة العامة وسوقة القوم من حب الكبر والتعالي وانتفاخ الذات واستخدام نبرة التفخم في الكلام، وما هذا إلا لأنهم يفتقدون للعظمة الحقيقية، فيستعيضون عنها بالكلام. وأما من يتمتعون بها في أنفسهم من الحكماء والفلاسفة والعلماء وصالحي الملوك، فإنهم يكونون أهل حب وتواضع ولين جانب وتنزل للناس، هكذا تكون أخلاقهم.. أفيكون العبد كذلك ويكون الله رب العالمين مثل العامة والدهماء؟
يقول فولتير بهذا الصدد عن إله التوراة الذي تبنته الكنيسة وتركت إله المحبة، ما يلي: "لقد صوروك كطاغية. وأنا أبحث فيك عن أب رحيم أنا لست مسيحياً، ولكن لكي أحبك بشكل أفضل" إذا كانت المسيحية هي الأصولية والتزمت، إذا كانت الإرهاب والتخويف وإشعار الإنسان بالذنب ليلاً نهاراً فإن فولتير لم يعد مسيحياً. أنه ولد في بيت مسيحي كاثوليكي مثله في ذلك مثل الأغلبية العظمى من أبناء الشعب الفرنسي، وصحيح أن أخاه الأكبر ارمان كان أصولياً متزمتاً، ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئاً فقولتير قرر أن يسلك طريقاً آخر. وقد ترتبت على هذا الخيار انعكاسات ضخمة لا تزال آثارها بادية للعيان حتى الآن. كل الحضارة الحديثة هي، بمعنى من المعاني وليدة هذا القرار، هكذا نجد أن نقطة الفصل بين تدين فولتير، وتدين الأصوليين المسيحيين في عصره تخص أهم مسألة في الدين. إنها تخص التصور الذي نشكله عن الله ذاته. هل هو مستبد، مخيف؟ أم أنه شفوق رحيم؟
مهما يكن من أمر فإن الانتقال من التصور الأول إلى التصور الثاني يعني الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. إنه يعني الانتقال من الإيمان القديم القائم على الخوف والتخويف على التعصب والتكفير، إلى الإيمان الجديد القائم على الثقة والطمأنينة، والاتساع، والحرية. (مدخل إلى التنوير الأوروبي د. هاشم صالح ص 226).
إن إله التوراة والقرآن ما هو إلا تجلي لبني اسرائيل ولعرب الجاهلية، فكلاهما لا يصلحهم إلا ذلك، وليس هو إله العالمين المطلق، ومن الضروري تفسير النصوص المقدسة تفسيراً يخدم الإنسان، والتخلي عن آيات التخويف والترهيب لأنها تشوه صورة الله المطلق.

التخلص من سلطة النص في فترات النهضة
في أوروبا: لما ابتدأت لأول مرة أعراض التوتر بين الإيمان المسيحي والمعرفة العقلانية، وذلك ضمن المنظور الذي سيتفاقم لاحقاً ويؤدي إلى محاكمة غاليليو من قبل الكنيسة وراح المسيحيون العقلانيون يلومون المسيحيون الجامدين (أو الأصوليين) لأنهم يأخذون النصوص المقدسة على حرفيتها بدون أي تفسير أو تأويل مناسب. عندئذ ظهر علم التيولوجيا أو اللاهوت في القرن الثاني عشر وتبلور على يد أحد كبار فلاسفة المسيحية الأوروبية بيير أبيلار (١٠٧٩ - ١١٤٢). ويُعتقد بأنه تأثر بأفكار الفيلسوف المسلم ابن باجة، وكان مشهوراً بعقلانيته وتحكيمه للمنطق العلمي والفلسفي. هكذا ابتدأ العقل يتخذ مسافة عن المعنى الحرفي للنصوص ويحاول تأويلها بشكل تتطابق فيه مع معطيات العلم بالطبع فلم يكن أحد يفكر آنذاك بإنكار التأكيدات الواردة في تلك النصوص، وإنما كانوا يريدون فقط القيام بتأويلها بشكل عقلاني (مدخل إلى التنوير الأوروبي ص 31).
ومن عبقرية القديس أوغسطينوس أو عقلانيته بمقياس عصره أنه كان يقول بإعادة تأويل الكتابات المقدسة إذا ما تعارضت مع العلم، وهذا ما سيكون عليه موقف ابن رشد لاحقاً. هذا في حين أن الكنيسة كانت تقول العكس: ينبغي تغيير العلم! وهذا هو موقف الأصوليين الظلاميين في كل الأديان. (مدخل إلى التنوير الأوروبي ص 35).
في العالم الإسلامي: في القرن الثاني عشر في قرطبة دعا ابن رشد إلي حق الفيلسوف في المجازية". وهو يقول ذلك في شأن العلاقة بين الشريعة والبرهان العقلي. يقول: "فإن أدي النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود ان يكون قد سكت عنه في الشرع، أو فرق به فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدي إليه البرهان فيه أو مخالفا . فإن كان موافقاً فلا قول هناك وإن كان مخالفاً طلب هناك تأويله. ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية ". ومن شأن التأويل أن يخرق الإجماع. إذ لا يتصور فيه إجماع علي حد قول ابن رشد، ولهذا يمتنع تكفير المؤول. ولهذا نقد ابن رشد الغزالي عندما كفر هذا الأخير الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابي وابن سينا. الأصولية والعلمانية، ص9، د. مراد وهبة، وانظر "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال" ص32
وقام الشيخ محمد عبده بتأويل الآيات القرآنية التي تتعارض مع العقل (ففي تفسيره للقرآن قام الشيخ بتأويل كل ما ورد في القرآن عن الجن والشياطين بأنها القوى النفسية والغرائز المُحرِّكة للشهوات. هذا فضلًا عن تأويله للطير الأبابيل في سورة «الفيل» بأنه مرَض الجدري. هكذا نرى أن الشيخ يَتحرَّك مرَّة في اتجاه التراث الإسلامي جاعلًا منه الأصل ومِعْيار القيمة، ويتحرك مرَّة أخرى في اتجاه «العقل الغربي» الرافض للأساطير) د. نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة.
والحقيقة أننا لا نحتاج إلى سورة الفيل ولا تأويل الطير الأبابيل، ولا تنفعنا تلك القصص قيد أنملة في علاقتنا مع الله، بل تضرنا، لأنها تدعم التفكير الخرافي، فهذه قصص بنت بيئتها، لأن العرب كانوا يحبون القصص كما يقول الأستاذ أحمد أمين في "فجر الإسلام" وكانت عقليتهم تقبل الخرافة، ولذلك استعمل القرآن هذا النوع من القصص لكي يجتذب اهتمام الجاهليين، وأما اليوم فكيف نصدق هذا؟ وهل إله اليوم عاجز عن أن ينزل حجارة من سجيل على الجنود الإسرائيليين وهم يقتحمون الأقصى؟
إن لله سنن كونية تعمل في الكون، منها العلاقة بين الأشياء وأسبابها، فالنصر يكون لمن يأخذ بأسباب القوة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، ولا يكون النصر للتقي الورع الضعيف بحال من الأحوال، ولو كان هذا صحيحاً، لانتصرت الدولة العثمانية في أواخر أيامها على أوروبا ولم تسقط، ولانتصرنا نحن اليوم في كافة الميادين ولم نظل متخلفين بهذا الشكل. وهذا ليس كلام العلمانيين كما يروج الأصوليون، بل هو كلام العقلاء ورجال النهضة والإصلاح، مثل عبد الرحمن الكواكبي (وهو من رواد الإصلاح) يقول: «إنا كنا أرقى من الغرب علمًا، فنظامًا، فقوة، فكنا له أسيادًا! ثم جاء حينٌ من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالًا: إن فُقناه ثروةً فاقنا باجتماع كلمته. ثم جاء الزمن الأخير ترقى فيه الغرب علمًا، فنظامًا، فقوة، وانضم إلى ذلك، أولًا: قوة اجتماعه شعوبًا كثيرة. ثانيًا: قوة البارود حيث أبطل الشجاعة. ثالثًا: قوة كشْفه أسرار الكيمياء والميكانيك. رابعًا: قوة الفحم الذي أهدته له الطبيعة. خامسًا: قوة النشاط بكسر قيود الاستبداد. سادسًا: قوة الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعَت هذه القوات فيه وليس عند الشرق ما يقابلها غير الافتخار بالأسلاف، وذلك حجةٌ عليه، والغرور بالدين خلافًا للدين، فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يقال عند اليأس، وهو «حسبنا الله ونعم الوكيل»، ويخالفون أمر القرآن لهم بأن يُعدوا ما استطاعوا من قوة، لا ما استطاعوا من صلاة وصوم.» طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد،، دار النفائس، بيروت، ط٣، ٢٠٠٦م، ص١٦١. وهذا الكتاب يبيعونه في مكتباتهم، ولكنهم لا يقرأون إلا لمشايخهم.
إن فكرة نصر الله لعباده المؤمنين فكرة آتية من عصر التفكير الطفولي القديم، ذلك التفكير الخطير على الأمم والمجتمعات الحديثة، والذي تم تدوينه في كتب كانت لعصرها ثم أمست مقدسة، وطريقة التفكير الطفولي التي تحملها صارت طريقة مقدسة، ولو في عصر نضج البشرية وتطورها.. ومن هنا كانت خطورة تدوين تلك النصوص في كتب،

لماذا لم يجمع النبي القرآن؟ ولماذا نهى عن تدوين السنة
وهنا سؤال هام: لماذا لم يجمع النبي محمد القرآن في حياته قبل أن ينتقل، فقد علم أنه قارب على الرحيل وقال لأصحابه (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) فلماذا لم يأمر صاحبه أبا بكر بجمع القرآن، وآثر أن يظل مفرقاً بين أصحابه في الرقاع وفي الصدور؟
ونهى عن تدوين كلامه الذي عرف فيما بعد بالسنة، فقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي محمد قوله: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج» رواه مسلم. لماذا لم يدون القرآن في كتاب واحد وكان قادراً عليه ونهى عن تدوين كلامه - ولا شك أن هذا كان بأمر الله - أليس لئلا يجمد المسلمون اللاحقون على النص، ويعيشون في عصر غير عصرهم؟ ألم يكن هذا توجيهاً إلهياً رحمة بالناس ومراعاة لسنة التطور؟
إن جمع القرآن لم يكن بوحي من الله ولم يكن عملاً نبوياً، ولكنه عمل رجل صحابي ليس بصاحب وحي، وكان صاحب الفكرة هو عمر بن الخطاب، فهو الذي أشار على أبي بكر بجمع القرآن، ورفض أبو بكر في البداية، لأن النبي لم يجمعه، ولكن مع إلحاح عمر وافقه في النهاية. وأبو بكر كان معروفاً عنه أنه رجل متبع للنبي، لا يخطو خطوة لم يخطوها، وكان عليه أن يصر على موقفه، فلن يكون أحرص على مستقبل هذه الأمة من صاحب الرسالة نفسه.
كما أن تدوين السنة لم يكن بوحي ولا عمل نبوي ولا حتى عن طريق أحد من الصحابة، ولكنه كان بأمر من عمر بن عبد العزيز، وكان هذا مخالفة للأمر النبوي. إن ما نعاني منه الآن من صراع مع الحداثة لأنها تتعارض مع النص في مواضع كثيرة، وتسلط رجال الكهنوت علينا، لم يكن إلا بسبب مخالفة النبي نفسه، الذي أهمل تدوين النص وسمح للأجيال القادمة بأن ترسم خط حياتها في حرية دون إصر وأغلال الشريعة التي صنعها الفقهاء فيما بعد وجعلوها تتدخل في تفاصيل الحياة كلها، بناء على الأحاديث الموضوعة التي تملأ كتب الحديث، والتي لا يصح منها إلا النادر.
ولعلَّ النزوع اللانصي للصحابة يتمثل جليًّا فيما تواتر عن موقفهم بخصوص السُّنة القولية من أنه «كان هناك عملٌ سلبي للتقليل من روايتها.» محمد الخضري، تاريخ التشريع الإسلامي، ص٩٠.
فقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان يضرب أبا هريرة وينهره لكثرة تحديثه. وقد ربطوا هذا الإقلال من رواية السُّنة بما ظهر لهم من مخاطر التنازع والاختلاف، التي تترتب على روايتها. ولذلك جمع الصدِّيق الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدِّثون عن رسول الله ﷺ أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله.»٤٠ وهكذا، إنَّ أبا بكر قد بلغ حد إصدار الأمر إلى الناس بألا يحدِّثوا الناس بشيء عن رسول الله؛ بما سيتعارض بالكلِّية مع ما سيتطور إليه الأمر لاحقًا من الإكثار من الرواية عن الرسول؛ وبما فتح الباب أمام ما بدا وكأنه الانفجار النصِّي الذي تفاقم في القرن الثالث الهجري. (علي مبروك، مفهوم الشريعة).
إن السر في النزوع اللانصي للصحابة يكمُن في أنهم قد «نظروا إلى الشريعة في مجموعها، مُلاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آنٍ واحد، فلم يجمدوا. وأما هؤلاء المانعون [للتعليل بالحكمة] فنظروا إلى النصوص الجزئية مفكَّكةً، كأن كل واحدٍ منها جاء بشرعٍ أبدي لا يتغير» وهكذا، إن «كلِّية» النظرة إلى الشريعة وشمولها هي ما يقف وراء تعالي الصحابة بها من جملة «نصوصٍ مفكَّكة» إلى ما يقف وراء هذه النصوص من «مبادئ عامة وقواعد شاملة». وإذ جعلوا من هذه المبادئ والقواعد عِللًا يعللون بها الأحكام، فإنه بدا أنهم لا يقفون عند مجرَّد العِلل المنصوص عليها؛ بل إنهم قد تجاوَزوها إلى العِلل المستنبَطة بالعقل. وكان «عمادهم في العِلل المصلحة أو الحكمة».
هذه الطريقة في النظر إلى الشريعة قد استمرَّت في عصر التابعين، الذين قيل إنهم (أو حتى بعضهم) «لم يخرجوا عن طريقة صحابة رسول الله ﷺ، فعلَّلوا أحكام الله رغم أنف المنكرين، وحكَّموا المصلحة في التشريع، فلم يجمدوا على النصوص تعبُّدًا بألفاظها، ووَزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد.. فإن المدارس الفقهية، التي ظهرَت، في القرن الثاني الهجري، قبل الشافعي، قد اتسعَت لعناصر من هذه الطريقة؛ كالإقلال من بناء الأحكام على المرويات المنسوبة إلى النبي، كما فعل أبو حنيفة الذي أقل من الاستدلال بالأخبار في فقهه وقدم الرأي على خبر الواحد. ونشير هنا إلى أن تعليل الأحكام بالمصالح تم تجديده في القرنَين السابع والثامن الهجريَّين مع العز بن عبد السلام ونجم الدين الطوفي، الذي يرى تقديم حُجَّة «العقل» على حجة «الجمهور» والإجماع، التي تمثِّل مركز الثقل في الثقافة السائدة في الإسلام. يتضح هذا في كتابهما "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" و"رسالة في رعاية المصلحة". ولكن هذا الإتجاه تم وأده، لأن الإتجاه الأقوى كان سارياً بقوة منذ أحدث الشافعي التحول المعروف في مسار التفكير الفقهي؛ الذي راح في هذا التفكير يتحدد بحدود النص/الخبر وحده، ومع ذلك فقد كانت لديه مرونة تجلت في تباين مذهبه في مصر عما كان عليه في العراق، لكن معالم الخطر سوف تظهر مع ابن حنبل، الذي سيربط التفكير في الفقه بالخبر وحده، ولا شيء سواه. وهنالك انطفأ نور العقل وسد باب الإجتهاد مع النص. هذه المدرسة هي التي غلبت وسادت، وهي التي نعاني منها حتى الآن.
وكان هذا خلاف طريقة النبي وأصحابه، حيث كانت الأحاديث في ذلك الوقت شيئاً مخالفاً لمفهوم الوحي، الذي كان قاصراً على القرآن. فقد ورد النهي عن تدوين السُّنة عن النبي وكبار الصحابة، لئلا يؤدِّي ذلك إلى أن تكون بديلًا يستغني به الناس عن كتاب الله. فمما يُروَى أن «عمر بن الخطاب استشار الصحابة في تدوين الحديث، ثم استخار الله في ذلك شهرًا، ثم عدل عن ذلك، وقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيءٍ أبدًا». (علي مبروك، مفهوم الشريعة).
وإذا استحضرنا النص السابق لإمام الحرمين الجويني عن طريقة الصحابة في ربط الأحكام بالمصلحة، وربطنا هذا النص مع نهي كبارهم - كأبي بكر وعمر – عن رواية الحديث، لاكتشفنا أنهم كانوا يعيشون حياة أكثر حرية ممن أتوا بعدهم، ممن غالوا في التحديث والتأصيل وربط الأحكام بالنصوص بالضرورة، كل هذا لم يعرفه الصحابة، وقد تم تزوير صورتهم لتتطابق مع صورة من بعدهم، فوضعوا أحاديث كثيرة تدور حول هذا التحريف، مثل حديث معاذ بن جبل المشهور الذي يذكره الفقهاء والأصوليون بكثرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) المفاجأة أن هذا الحديث حديث ضعيف، ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة برقم 881 وقال حديث منكر.
إن ثقافتنا الدينية الحالية، ثقافة مختلفة عن طريقة المسلمين الأوائل، الذين كانوا أكثر حرية. فلم تكن الأحاديث بهذا الكم المهول من الأحاديث المزورة، وحتى القرآن نفسه كان مفرقاً بينهم في الرقاع، ولم يكن نصاً متاحاً للجميع ليصلوا إليه ويجعلوه سلطاناً يتحكم في حياتهم مثبما هو في حياتنا الآن.
إن الحمل الثقيل الذي نحمله الآن، والمتمثل في هذا الكم الهائل من النصوص، وهذا الكم الهائل من التراث الفقهي، والشريعة التي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إنما هو من صنع رجال الحديث والفقهاء، وليس من رواية الصحابة واستنباطاتهم الفقهية على الإطلاق، إن ما نحن فيه أشبه بأخطبوط كهنوتي باسط أذرعه في كل مكان في الحياة، بشكل مبالغ فيه، وقد آن الأوان أن نتخلص من قبضته.

موقف اسبينوزا من سلطة النص
لماذا نتحدث عن اسبينوزا؟ لأنه كان أول من طبق المنهج العقلاني على النصوص الدينية في الغرب. وفي الواقع، وعلى عكس ما يشيع البعض، فإن اسبينوزا كان يقدر كثيراً الكتابات المقدسة والوحي وذلك من وجهة نظر فائدتهما الاجتماعية وضرورتهما لعامة الشعب. وهو يقسم الناس إلى قسمين: قسم قليل جداً يستطيع اتباع حياة فاضلة ونزيهة طبقاً لهداية العقل فقط، وقسم كبير جداً لا يستطيع ذلك. وبالتالي فهو بحاجة إلى مساعدة الوحي أو الدين لكي يعيش حياة صالحة. وهكذا ينظر إلى الوحي من وجهة نظر فائدته العملية فقط: أي فائدته الأخلاقية والتوجيهية بالنسبة للكثرة أو لعامة الشعب. ولكن يمكن للفيلسوف بالطبع الاستغناء عنه، لأن لديه شيئاً آخر يهديه إلى طريق الحقيقة والاستقامة الأخلاقية هو: العقل. يرى سبينوزا أن الفلسفة تتوصل إلى نفس الحقائق الدينية، ولكن عن طريق العقل والبرهان لا عن طريق الإيمان والتسليم. وبالتالي فهناك طريقان إلى الحقيقة أو الخلاص: طريق الفلسفة وطريق الدين والأول خاص بالمثقفين فقط، أما الثاني فخاص بعامة الشعب الذين لا يستطيعون التوصل إلى الحقيقة عن طريق العقل. وهذا الكلام يشبه کلام ابن رشد وهناك طريقان لتصور الله بحسب سبينوزا: طريق الدين حيث نجد الله يخاطب البشر من خلال موسى وعيسى والأنبياء بشكل عام. وهناك الله المطابق للكون وما فيه بحسب التصور الفلسفي. ونجد الكتابات المقدسة لا تقدم لنا أي شيء عن طبيعة هذا التصور الفلسفي لله، وعلاقاته بالبشر فهذه أشياء من اختصاص الفلسفة وحدها.
وينبغي العلم بأن نقطة انطلاق اسبينوزا الأولى هي الوحي الذي يعترف به بدون أي مناقشة، فأنبياء العهد القديم وحواريو العهد الجديد استطاعوا التوصل إلى مجموعة صغيرة من الحقائق الأساسية الضرورية لهداية الإنسان في هذه الحياة. لقد توصلوا إليها عن طريق آخر غير طريق الفلسفة وأولى هذه الحقائق هي انه يوجد إله، والله هو الذي يسهر بعنايته على البشر ويأمرهم بأن يحب بعضهم بعضاً. وكل اللاهوت الديني يختزله سبينوزا إلى هذه الفكرة الأساسية، والاعتقاد بصحة ذلك يجعلك شخص مؤمن، وتطبيق هذا الأمر في الحياة العملية يعني أنك تقي ورع. وسبينوزا يعتقد أن طاعة الله والإيمان به وتنفيذ أوامره التي تتلخص كلها بمحبة الآخرين، تكفي لنجاة الإنسان أو خلاص روحه في الدار الآخرة. وهو ليس بحاجة إلى الإيمان بشيء آخر، أو ممارسة أية طقوس أو شعائر.. هكذا نلاحظ أنه بسط الدين إلى أقصى حد ممكن وأعاده إلى جوهره الحقيقي: التقى الورع الاستقامة، محبة الآخرين. ولكن هناك طريقاً آخر للخلاص هو: طريق الفلسفة. ويرى غوته الذي كان معجباً جداً بسبينوزا أن عامة الشعب الذين لا يفهمون العلوم ولا يتذوقون جمال الفن هم وحدهم الذين يحتاجون إلى الدين من أجل طمأنينة أرواحهم. هكذا نكون قد عدنا إلى ذلك التقسيم الذي يفصل بين العامة والخاصة، أو بين اللاهوت والفلسفة.
في الواقع إنه كان يرفض شخصياً كل الطقوس والشعائر سواء أكانت مسيحية أم يهودية. لماذا؟ لأن جوهر الدين يكمن في مكان آخر، ولأن اختلافها من هذا الدين إلى ذاك، بل وأحياناً. هذا المذهب إلى ذاك، يدلُّ على عرضيتها وطابعها التاريخي المحض. وبالتالي فهي ليست ملزمة أو ضرورية بالنسبة للفيلسوف. أما بالنسبة للعامة فبإمكانهم أن يمارسوها إذا كانت تؤمن لهم الراحة النفسية ولكن ماذا نفعل إذا ما عثرنا على تناقض بين أحد مقاطع التوراة وبين العقل؟ سبينوزا لا يتردد لحظة واحدة في الإنتصار للعقل وإهمال المقطع المذكور واعتباره شيئاً مضافاً من قبل النساخ إلى الكتاب المقدس، والتالي فهو ليس منه ولا يلزمنا بأي حال. (مدخل إلى التنوير الأوروبي، د. هاشم صالح ص 182-214 باختصار).



#محمد_بركات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الف ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى ا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
- المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (20)
- المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (17) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (16) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (15) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (14) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (13) محيي الدين بن عربي


المزيد.....




- المرشد الأعلى الإيراني يرفض التفاوض المباشر في الملف النووي ...
- -اسرائيل- تسعى لسيطرة دائمة على غزة وأغلبية يهودية بالضفة
- تحقيق أممي: إسرائيل تسعى لسيطرة دائمة على غزة وضمان أغلبية ي ...
- هل انتهى نفوذ الإخوان في الخليج؟
- احتفال ديني يهودي بالمغرب يثير غضبا حقوقيا بسبب دعوات لدعم ج ...
- ما الذي قد يسفر عنه اجتماع ترامب مع قادة لدول عربية وإسلامية ...
- قائد الثورة الاسلامية سيُلقي كلمةً بمناسبة اسبوع الدفاع المق ...
- ترامب يلتقي بمسؤولين من دول عربية وإسلامية ويقدم خطة جديدة ل ...
- جدل في كينيا بعد إدراج -الإخوان المسلمين- و-حزب التحرير- على ...
- حماس: مساعي الاحتلال لبناء الهيكل المزعوم على أنقاض الأقصى ا ...


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سلطة النص