أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - الذئب الذي يقطف الإوزة














المزيد.....

الذئب الذي يقطف الإوزة


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


ليس افتراس الذئب ما يثير الدهشة، بل كيف يلتقط الرقة بأنياب الجوع دون أن يُسقط منها قطرة دم. هل القسوة دائمًا شر، أم أن الافتراس أحيانًا قدرٌ لا مفر منه؟
ليست الغابة سوى استعارة كبرى للعالم، حيث يتجاور الجمال مع القسوة، وتتعانق الحياة مع الموت في نسيج واحد لا ينفصم. ومن بين صورها الغامضة، يطلّ علينا مشهد غريب: ذئب يلتقط إوزة بين أنيابه كما يقطف شاعر وردة، دون أن يُسقط منها قطرة دم. ما يثير الدهشة ليس الافتراس ذاته، فهو قدر الطبيعة الذي لا مهرب منه، بل الكيفية التي مارس بها الذئب فعلته؛ قسوة مغلفة برقة، عنف مضمخ بجمال.
هذا المشهد البسيط يفتح أبواباً من الأسئلة التي طالما أرّقت الفلاسفة والشعراء والمتصوفة:
هل الشرّ شَرٌّ لذاته، أم أنه جزء من توازن كوني لا يكتمل إلا به؟ هل القسوة نقيض الرقة، أم أن كليهما يلتقيان في سرّ واحد يتجاوز ثنائية الخير والشر؟ أيمكن للحياة أن تفرض علينا أفعالاً قاسية، لكنها تُنجز بطريقة تحفظ لها ملمس الرحمة؟
هكذا، يصبح الذئب أكثر من حيوان، والإوزة أكثر من ضحية؛ كلاهما يتحول إلى رمز: الذئب صورة للضرورة، والإوزة صورة للبراءة، واللحظة كلها صورة للوجود الإنساني ذاته، الممزق بين الغريزة والحرية، بين القسوة والرحمة، بين قدرٍ مفروض واختيارٍ مفتوح. ومن هذه القصة الصغيرة، نفتح مجال البحث في رؤى الفلاسفة والأدباء والمتصوفة، لنقف على معنى عميق: أن القسوة ليست شراً مطلقاً، بل قد تكون في بعض وجوهها طريقاً إلى حكمة أعلى، أو مرآة لجمال خفي لم يُكتشف بعد.
في الغابة، حيث يختبئ الصمت خلف أجنحة الليل، خرج ذئب جائع. الجوع ليس خياراً، بل لعنة بيولوجية كتبها القدر على الكائنات. ومع ذلك، حين اقترب من الإوزة البيضاء، لم ينهشها كما يتوقع العقل البدائي، بل التقطها بين أنيابه برقة مدهشة، كمن يقطف زهرة، دون أن يُريق منها قطرة دم. لم يكن المشهد درساً في الافتراس بقدر ما كان درساً في جدلية الوجود: كيف تتعايش القسوة مع الرقة في لحظة واحدة، وكيف يتقاطع العنف مع الجمال في فعل واحد.
وهنا ينهض السؤال الفلسفي: هل القسوة دائماً شر مطلق، أم أن بعض القسوة قدرٌ لا مفر منه، يحمل في داخله معنى الرقة؟
لقد رأى نيتشه أن الحياة إرادة قوة، وأن الكائن لا يحيا إلا إذا فرض حضوره على غيره. غير أن الذئب في قصتنا لم يفرض وحشيته كاملة، بل مارسها كفنان يضفي لمسة جمالية على فعل قاسٍ، كأنه يعلن أن الافتراس ليس بالضرورة غياباً للرقة، بل قد يكون طريقاً آخر لإثباتها. هذه هي صورة "السوبرمان" النيتشوي الذي يتجاوز الأخلاق الموروثة ليخلق قيماً خاصة به.
أما دوستويفسكي فقد بيّن أن الإنسان أشرس من الوحش، لأنه يقتل أحياناً من غير حاجة، بينما الذئب يقتل ليبقى. الشر عند الحيوان ضرورة، وعند الإنسان خيار، ولهذا يبدو الذئب أكثر براءة من إنسانٍ يبتكر الحروب بدافع الطغيان.
ويضيف سارتر أن الإنسان "محكوم عليه بالحرية". الحرية إذن ليست نعمة خالصة، بل عبء أخلاقي يفتح الباب على إمكانية التحول إلى وحش بإرادة واعية. الذئب في قصتنا غير حر؛ محكوم بجوعه وغريزته، لكنه مع ذلك مارس غريزته برقة. أما الإنسان، ففي حريته، يختار العنف أحياناً بلا سبب، فيغدو أكثر وحشية من الوحوش.
أما هيغل فيذكّرنا بأن "الحقيقة هي الكل، والكل هو عملية تطوره". ولو طبقنا هذا على الحكاية، لوجدنا أن الافتراس ليس سوى لحظة في حركة الحياة، قد يبدو منفصلاً لكنه جزء من جدلٍ أوسع يضم الموت والحياة، القسوة والرقة.
لكن المشهد يتجاوز حدود الفلسفة الوضعية ليقترب من الروحانية. ففي القرآن الكريم، نجد أن الابتلاء جزء من حكمة الخلق: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]. الذئب هنا ابتلاء للإوزة، والإوزة امتحان لرحمة الذئب، والمشهد برمته فتنة وجودية، حيث الخير والشر ليسا مطلقين بل متداخلين في قدر الله.
وعند ابن عربي، يصبح الوجود كله تجلياً لأسماء الله الحسنى، ومنها القهار واللطيف. فالذئب حين يقطف الإوزة يجمع بين "القهر" و"اللطف" في لحظة واحدة، كأن الغابة نفسها مرآة لتجلي الأسماء الإلهية. يقول ابن عربي: "الحق لا يتجلى في صورة إلا ومعها ضدها." ومن هنا نفهم أن القسوة لا تنفصل عن الرقة، بل هما وجهان لتجلٍّ واحد.
أما في التصوف الشعبي، فترد الحكايات عن "الذئب الولي" الذي يحمي الرعاة أو يرافق الأولياء في خلواتهم، رمزاً للقدرة الإلهية التي تروض حتى الوحش. وهنا يبدو الذئب في قصتنا كأنه "وليّ الغابة"، يمارس قسوته بصفاء وبتناغم مع ناموس الكون.
ولعل الشعر كان أكثر وعياً بهذه الجدلية من الفلسفة ذاتها. فقد كتب درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". حتى مشاهد القسوة، إذا ما أحاطها الجمال، قد تصبح جديرة بالتأمل. فيما يذكّرنا المتنبي أن "النفوس الكبار" تبحث دائماً عن معنى وراء الألم، كأن الذئب في لحظة التقاطه كان روحاً كبيرة تمارس فعلاً قاسياً بلمسة جمال.
وفي الأساطير، نرى صورة الذئب مزدوجة: فهو في التراث السامي مقرون بالمكر والخديعة (كما في قصة يوسف وإخوته)، لكنه في الميثولوجيا الإسكندنافية قوة قدرية لا تُقاوَم، يرمز إلى الحتمية التي تفني الآلهة ذاتها. الذئب، إذن، ليس مجرد كائن، بل رمز للضرورة التي لا تُقاوَم.
هكذا، تنقلب الدلالات: الذئب ليس شراً خالصاً، ولا الإوزة خيراً محضاً، بل كلاهما طرف في معادلة أوسع. الشر ليس مطلقاً، والقسوة ليست دائماً نقيض الرقة. بين أنياب الجوع قد تختبئ لمسة حنو، وبين قسوة الضرورة قد يزهر جمال خفي.
ولعل هذا هو الدرس الأخير للحكاية: لستَ ما تفعل فقط، بل كيف تفعل ما تفعل. فكما مارس الذئب افتراسه برقة، يمكن للإنسان أن يمارس حتميات وجوده بلمسة جمال، وأن يحول القسوة إلى فعلٍ يحمل في داخله بذرة رحمة.
وهنا يظل السؤال معلقاً: هل نستطيع نحن البشر، بما نملك من حرية ومسؤولية، أن نتعلم من الذئب كيف نمارس قسوة الضرورة دون أن نفقد رقة الوجود؟



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملل المدرسي بين العوامل المؤثرة والاستراتيجيات العلاجية: م ...
- بين الفهم والوهم
- فنون التعليم الحديثة: بين تعزيز المشاركة وبناء العاطفة وتنمي ...
- أشياء لا يفعلها الرجل إلا للمرأة التي يحبها حقًا
- -اخضرار الياسمين-،
- -الانطفاء الأخير-
- المقامة الفاسدة
- الأدب الياباني: مرايا الروح بين البساطة والعمق
- التي جعلت إبليس يعيد التفكير في كل شيء
- صراع وصفقات وضياع شعب
- «سكن الليل وفي ثوب السكون تختبئ الأحلام» – جبران خليل جبران
- نقد النقد: المفهوم والتطبيق في ضوء المقاربات الأدبية – قراءة ...
- تانكا من نبض القلب
- -الأبدية في رسائل لم تُرسل- -حين تلتف الكلمات حول عنق الذاكر ...
- في رمزية الهايكو وتجلياتها
- -حين عبرت عائدة، ابتسمت دمشق-
- حين ابتسمت الخلايا… وابتدأتُ أنا
- تأملات فلسفية ونفسية في مشوار العمر والشيب-
- الزواج: ميثاق المحبة والسكينة بين الروح والجسد
- الأكسجين والغباء في منظور إنساني وفلسفي -


المزيد.....




- جان بيير فيليو متجنياً على الكرد والعلويين والدروز
- صالة الكندي للسينما: ذاكرة دمشق وصوت جيل كامل
- وزارة الثقافة اللبنانية تنفي وجود أي أسلحة تعود لأحزاب في قل ...
- في النظرية الأدبية: جدل الجمال ونحو-لوجيا النص
- السينما مرآة القلق المعاصر.. لماذا تجذبنا أفلام الاضطرابات ا ...
- فنانون ومشاهير يسعون إلى حشد ضغط شعبي لاتخاذ مزيد من الإجراء ...
- يوجينيو آرياس هيرانز.. حلاق بيكاسو الوفي
- تنامي مقاطعة الفنانين والمشاهير الغربيين لدولة الاحتلال بسبب ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية... -سودان ياغالي- ابداع الشباب ...
- أحمد مهنا.. فنان يرسم الجوع والأمل على صناديق المساعدات بغزة ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - الذئب الذي يقطف الإوزة