أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - معرض -تكوين- التشكيلي















المزيد.....


معرض -تكوين- التشكيلي


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 12:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


معرض تكوين
دار الفنون - طرابلس 20-25 سبتمبر 2025

شذرات وشظايا للتكوين

1 - الشذرة أو الشظية أو الكسرة أو القطعة أو الجزء، كلها تراجم تقريبية للكلمة الفرنسية والإنجليزية fragment، والمستعارة من الكلمة اللاتينية fragmentum، التي تعني "قطعة من شيء مكسور"، شظية، حطام، مُمزّق مشتت. مثل تجميع شذرات من نص إو رسالة، قطع من صورة فوتوغرافية ممزقة، شظية من من مرآة مكسورة أو من مزهرية أثرية إلخ. في اللغة العربية، الشظية عادة تتعلق بشيء صلب، شظية من صخر، شظايا من زجاج، شظية قنبلة إلخ. أما الشذرة فترجع عادة إلى شيء أقل صلابة، كالورق مثلا وعادة ما تتعلق بالكتابة وما تبقى من نصوص أكلها الزمن أو بنوع معين من الكتابة، مثل بعض كتب نيتشة وإيميل سيوران. الشذرة إذا ليست بداية، بل هي نتيجة عمل يتكون. ليست الأثر المُتحكم به لعملية تقسيم أو تفكيك مُنظمة ومنهجية، بل هي النتيجة اللاإرادية وغير المتوقعة والعرضية لحدث ما.

2 - ونحن في الحياة اليومية، نفكر وندرك العالم من حولنا بشكل مُجزأ ومتقطع؛ فحياتنا مُكونة من شظايا وشذرات وقطع وأجزاء من الأحاسيس والصور والأفكار والذكريات والأفعال. ولا ندرك من العالم سوى ما هو في تناول إمكانياتنا ومتناول أدواتنا البدائية من السمع والبصر والتصور والخيال في محيط زماني-مكاني. فالعالم من حولنا لا يظهر لنا سوي كمجموعة هائلة من الشظايا المتفرقة والقطع المتتالية التي تكون في مجملها معنى متكامل وكلي نسميه العالم، وليس لنا في الحقيقة سوى صورة جزئية ضبابية ومشوشة لهذا العالم. بينما العالم نفسه ليس مُجزأ؛ فالعالم المادي، بما في ذلك الواقع البشري، هو كلٌّ متماسك، مُنظم كساعة سويسرية رغم عبثيته المرعبة. إن نظرتنا، وانخراطنا وحضورنا في العالم، يفرض علينا هذا التشتت، لا يُمكننا إلا استيعاب شظايا زمنية ومكانية من هذا الكل، تبعًا لتاريخنا وموقعنا في الزمان والمكان. تماما كما لا يُمكننا رؤية سوى ثلاثة جوانب، من جوانب المكعب الستة في الوقت نفسه، ولا سماع لحن أو قطعة موسيقية مركزة في لحظة زمنية واحدة، ولا رؤية جميع صور فيلم سينيمائي دفعة واحدة في الوقت نفسه، بل نرى ونُدرك شظايا مُتتالية زمنيا ومتفرقة مكانيا من الأشياء والظواهر التي تُحيط بنا. وعينا متعدد، وقادر على "الاحتفاظ" بصور وأصوات الكلمات، والربط بين الصور والأحداث المتتالية ليكون إدراكا متكاملا من النص أو الصورة أو القطعة الموسيقية أو فصول المسرحية، ليس كتذكار أو ذكرى، بل كإدراك مُحوَّل، إدراك مُستمر يسيل مع الزمن الذي لا يتوقف، قادر على الربط بين إدراك الكلمة أو الصوت الحالي، والكلمة التي اختفت للتو مع اللحظة التي مضت. نسمع أصواتًا ونري صورا وأحداثا تدوم رغم إختفائها الفوري، أي أصواتًا مترابطة في شكل صوتي متواصل كالصدى، وندرك هذا الشكل الصوتي بأكمله في تطور مستمر، وكما يُسمع فنربط الأصواط وندرك الكلمات ثم الجمل ثم المحادثة بأكملها، وندرك وحدة المظهر الإدراكي لهذا الشكل الصوتي كبيانات دلالية ذات هوية مطلقة كقطعة موسيقية او كسمفونية.

3 - لم تعد الشذرة تبدو كبقايا وحدة مفقودة، أو كحطام أو نفايات من العالم، أو كبقايا من الواقع، بل يجب أن يُنظر إليها على أنها جزء لا يتجزأ من كلٍّ يُبنى ويُخترع ويتكون تدريجيا. يُسهم ترابط القطع المنفصلة والغيرمتجانسة في خلق - تكوين- كلٍّ متجانس. جماليات القطعة أو الشذرة أو الشظية لا تنفصل عن جماليات العرضي، والعشوائي، والغير متوقع، والارتجالي والمدهش. كما أن الشذرة تُؤكد نفسها كقطيعة مع الجماليات الكلاسيكية، مُعارضةً المفهوم الأرسطي للجمال القائم على علاقات التناسب والوحدة والإنسجام والتناغم. تُحطم الشذرة في الوقت نفسه مفاهيم القياس، والاكتمال، والشمول. كتابة الشذرة على سبيل المثال، كما هو الحال عند نيتشة، بيسوا، سيوران، تطمح نحو كسر النسق الكلاسيكي الأفقي الصارم للإبداع اللغوي، وتقديم الفكرة في شكل موجز ومركز مضيء، يثير ويوحي أكثر مما يؤكد، يشرح أويفسر. يفكك ويؤول أكثر مما يؤسس ويدلل. الشذرة غالبًا تشير إلى التمايز وإلى الإئتلاف والتماثل في نفس الوقت، إنها بطريقة ما تمثل الصيرورة الجمالية التي توحد بين الجزئي وبين الكلي في تركيب جديد يتجاوزهما مع الإحتفاظ بهما في نفس الوقت. تُشكل الشذرة للفكر المعاصر كيانًا جماليًا مستقلًا ومكتفيًا بذاته وتجربة ديناميكية في المكان والزمان. إن تجربة إدراك "الحاضر"، بالنسبة للفنان، هي تجربة كائن تأسس مرة واحدة وإلى الأبد، ولا شيء يمنعه من أن يكون موجودًا ككائن أساسه الحرية، حرية التفكير وحرية الفعل. والإدراك كمعرفة وإندماج في الحاضر هو الظاهرة المركزية التي تجعل وحدة الذات ممكنة، ومعها فكرة الموضوعية والحقيقة وإمكانية المعرفة-الفعل "البراكسيس" لتغيير هذا الحاضر.

4 - ذلك أن إلإنتاج الفني مسألة مادية تتعلق بالجسد كطاقة، كسائر الأعمال البشرية عمومًا. الإنتاج الفني مسألة حركة واعية للتأثير في المادة وتكوينها في أشكال جديدة. فعادة ما يُحدد مكون أو مُنتج العمل الجمالي اللحظة الزمنية لبداية التكوين المادي لموضوعه الفني، ويُهيئ المكان، ويُرتب الأدوات والمواد اللازمة، وفي اللحظة المُحددة يبدأ عمليه الخلق والأداء. قد يكون قد وضع مُسبقًا خطةً أو مشروعًا مُحددًا، من خلال دراسات ورسومات تخطيطية، وما إلى ذلك، ثم يبدأ في بناء مشروعه، مُتخيلًا ومُطورًا له على مدى فترة من الزمن. قد تكون هذه الخطة أو الخريطة أو البرنامج ذات أهداف أخلاقية، أو نفسية، أو فلسفية، أو سياسية (غيرنيكا)، أو جمالية (آنسات أفينيون)، أو شكليةً ببساطة (المكعب لتوني سميث) أو فلسفية ( واحد وثلاثة كراسي لجوزيف كوسوت). قد يكون الفنان أيضًا لم يخطط لأي شيء على الإطلاق، بل ينطلق في ارتجال تام، تائهًا، يبني ويدمر، يتلمس طريقه، ويختبر ويجرب المسارات والطرق، لا يسلك طريقًا مستقيمًا معبدا ومضاءً، بل أزقة ومتاهات، تشبه شبكة العنكبوت. وليس هذا النوع من التجوال حرًا تمامًا أو متروكًا للصدفة المطلقة، لأن هناك دائمًا أسرارًا صغيرة، وخططًا مختبئة في جيب الفنان وذاكرته، و"عادات" وتجارب سابقة أو حتى هواجس تقود العمل التلقائي الغير منظم والذي يفتقد خارطة الطريق إلى مسارات مألوفة. لهذا السبب، يصعب التمييز بوضوح بين هذين الأسلوبين في الممارسة الفنية: العقل والحدس، النظام والفوضى، وأبوللو وديونيسوس.. انطلاقًا من فكرة أن الإبداع الفني مرتبط في المقام الأول بالجسد والإيماءة او الحركة الفعالة، فإن ممارسة الفعل الجمالي المباشر، أو العمل الفني الأدائي performance، هي تجربة تُستهلك كليًا في الوقت الفعلي الحاضر، حيث لا توجد بقايا مادية أكثر أهمية مما عاشه الفنان والمشاهد أثناء الأداء - يمكن تقديرها بعد ذلك رغم ان نتائج البيرفورمانس يمكن مشاهدتها او سماعها بعد انتهاء الأداء. وتظل هذه التجربة من بين الممارسات الفنية الأكثر أصالة، والتي تنفصل وتبتعد عن "التعبير" وتقترب من تكوين "المعنى".

5 - البراكسيس يُحمل قبل كل شيء على المجال الإنساني المحض، وهو بذلك نمط تتحدد على أساسه العلاقة مع الفضاء المادي، فهو إن شئنا فضاء يجمع أو يدمج الذات بالموضوع، حيث تنتفي بمقتضاه كل مسافة تفصل الواقع العملي عن النظرية، أو كل محاولة لتقديم أحدهما على الآخر. اعتبار البراكسيس عموما "نشاطا ماديا" للبشر، وهو بالإضافة إلى ذلك مجموع العلاقات المادية التي يؤسسها الأفراد بين بعضهم البعض داخل مجموعة اجتماعية. والفنان باعتباره فردا ينتمي إلى فئة إجتماعية بأكملها لا يكتفي بمعاينة التناقضات من الخارج من أجل فهمها بل يتخذ لنفسه موقعا كعنصر ضمن التناقض وكطرف من المعادلة، ويرفع هذا العنصر إلى مرتبة مبدإ للمعرفة، ومن ثمة مبدإ للفعل. ليس البراكسيس إذن سوى النشاط النظري والعملي على حد سواء، والذي يهدف إلى تغيير الطبيعة بإضافة تكوينات وعناصر جديدة، تساهم في فك الحصار عن المجتمع وبالتالي الإنسان باعتباره وحدة تأليفية لهذين الحدين. وتبعا لذلك تعني الممارسة. وليست النظرية شيئا ما مختلفا يتقابل مع الممارسة، بل هي شكل مخصوص من أشكالها، إذ أنها تنتمي إلى الممارسة الاجتماعية لمجتمع إنساني محدد.

6 - العمل الفني هو نوع من البراكسيس، يعتمد أساسا على جسد الفنان وحركتة في المكان والزمان لإدراك المادة والتأثير فيها وتكوين أشكال جديدة من الكائنات أو الظواهر الجمالية. إنها عملية يتم إنجازها في الزمان سواء أثناء تكوين العمل الفني سواء أثناء تلقيه وإستقباله من قبل المتلقي. وبالتالي فإن العمل الفني بالضورة يتشتت ويتفكك إلى وحدات وشذرات وشظايا زمنية تكون كليته في لحظة ما. هذا التشتت الزمني، أو التواصل الزمني لوحدات العمل الفني تظهر بوضوح في ما يخص الموسيقى والمسرح والرقص والسينما، ولكن أيضا في الشعر والرواية والقصة .. أما بخصوص اللوحة، أو الصورة الثابتة عموما، فرغم أنها ذات بعد زماني أثناء إنجازها، إلا أنها تعطى أو تظهر للمتلقى دفعة واحدة وفي لحظة واحدة. بمعنى أنها متحررة من التيار الزمني. القطعة الموسيقية أو المسرحية أو الرواية أو الفيلم السينيمائي، تتطور وتتكون تدريجيا في فترة زمنية محددة، أثناء إنجازها وأثناء تلقيها، لأن لها بداية ونهاية، بينما اللوحة والتي قد تأخذ عدة أسابيع أو شهور لإنجازها، أثناء عرضها، تظهر هنا أمامنا بطريقة شبه سحرية مطلقة وكلية ودفعة واحدة. وإقامة معرض شخصي او فردي للفنان قد يعطي البعد الزمني لتلقي اللوحة بمجرد ترتيب الأعمال وعرضها حسب تاريخ إنجازها أو أي نوع آخر من الترتيب كاللون أو الحجم أو الموضوع إلخ، غير أن هذا في حقيقة الأمر زمانية خارجية مضافة للعمل وليست في صميميته، وبالتالي فهي زمنية مفتعلة ووهمية. غير أن المعرض ذاته لا بد أن يحتوي بعدا زمنيا، حيث يعيش المشاهد تجربة جمالية بتنقله من لوحة لأخري كما ننتقل من فصل لآخر أثناء مشاهدة المسرحية أو قراءة رواية، رغم غياب السرد أو التراكم أو التراتب في بنائية اللوحة. ومن هنا إمكانية أن يكون العرض ذو معنى محدد وذو فكرة أو تصور واضح، وأن تكون التكوينات المعروضة ذات علاقة ببعضها البعض وتكوّن في نهاية الأمر لوحة واحدة ذات قطع متفرقة في المكان والزمان. ولذلك يلجأ بعض الفنانين نحو تحرير اللوحة من الحواجز ومن كل ما يفصلها رمزيا عن بقية الأعمال مثل البراويز والكوادر والعناوين الفردية وما إلى ذلك. وبالإضافة إلى ذلك يجب تحرير اللوحة من كل ما يلصق بها من إسقاطات خارجية، بإعتبارها تعبيرا عن الأحاسيس والعواطف والمواقف أو الآراء عموما، أو التعبير عن العالم الوهمي الداخلي للفنان أو للمجتمع. تحرير اللوحة من البسيكولوجيا ومن كعكة "بروست - la madeleine de proust" ومن فكرة "التعبير" عموما. في أغلب الأحيان، لا يمكن قراءة اللوحة، اللوحة يمكن النظر إليها فقط. اللوحة هي تكوين مستقل لا تشير سوى إلى ذاتها كألوان وأشكال ومساحات وفضاءات جمالية، اللوحة هي قطعة فريدة وإبداع جزئي ينتمي إلى الإنتاج العام للفنان، وكل قطعة لا تشير سوى إلى ذاتها كلوحة وإن كانت في نفس الوقت تشير إلى التركيب العام الذي تنتمي إليه. اللوحة ظاهرة محايدة، لا تحتوي أية دلالة رمزية أو إيحائية مهما كانت قوة الخطوط والألوان أو عنف التركيب والآداء. لا يمكننا النظر إلى اللوحة مثلما ننظر إلى الزهرة أو الحجر أو سحابة بيضاء وسط السماء، لآن اللوحة الفنية تنتمي لعالم الخيال وليس لعالم الإدراك.

7 - هناك العالم وهناك الإنسان. العالم هو كل ماهو ليس الإنسان، السماء والأرض والبحر والشمس والقمر والنجوم، أي عالم الكائنات بأكمله من حيوان ونبات وجماد. والإنسان مكون من مكونات هذا العالم وليس مقابلا له. التقابل "إنسان - عالم" يفرضه العقل الذي يريد أن يفهم ويسبر أغوار الأشياء المحيطة به فيحول العالم إلى موضوع. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له هذه القدرة الخارقة المسماة بالوعي consciousness - conscience والذي يجعله يعي ذاته ويعي العالم في نفس الوقت. أما العالم، فإنه هو كما هو عليه، ليس له أية إمكانية لوعي ذاته أو لتجاوز هذه الذات المغلقة والإنفلات منها إلى الخارج، فالحجر في ذاته ليس له داخل ولا خارج ولا لون ولا ملمس، إنه كتلة صماء من الكينونة المطلقة. ذلك أن الموت والحياة والفناء والزمان والمكان والفراغ والجمال والقبح .. إلخ، هي مقولات تأتي إلى العالم عن طريق الإنسان الذي يضيفها إلى مكوناته، أما الأشياء فإنها "كائنة" فقط ولا غير. ولكن هناك علاقة غريبة وشبه سحرية بين الإنسان وبين هذه الكائنات المتعددة والتي لا تكف عن التكاثر والتي تزاحمه الحياة وتشاركه في كينونته وتضيق عليه فضائه الحيوي. فهذه الملايين والمليارات من الأشياء، لا بد للإنسان من معاينتها وتحديدها وترتيبها ليتمكن من التعامل معها واستخدامها في أغراضه المختلفة، فاختلق اللغة لهذا الغرض وأعطى إسما لكي شيْ. وهذه العملية تتعلق بما يسمى بـ" الدلالة" Signification. الكلمات تدل على أشياء حقيقية، مادية أو غير مادية، الكرسي والطاولة والسرير هي أشياء نستعملها في حياتنا اليومية للجلوس والكتابة والنوم. الدلالة هي العلاقة التي نتجاوز فيها أحد الحدين - الدال - إلى ما يدل عليه. فكلمة كلب مثلا، توجه إنتباهنا إلى الكلب الحقيقي الذي ينبح ويعض و ويحرك ذيله فرحا ويتبع سيده، وتجعلنا نتجاوز هذه الحروف أو الأصوات المكونة للكلمة. وهذه الحروف والأصوات ما هي إلا عملية إتفاقية بين أعضاء مجموعات إجتماعية وثقافية محددة. فاللغة الإنجليزية تستعمل كلمة Dog والفرنسية كلمة Chien واليونانية كلمة σκύλος والأمازيغية ayeddi أو aγerzul للدلالة على الكلب‪.‬ فكل هذه العلامات المختلفة تشير إلى نفس الحيوان الأليف صديق الإنسان كما يقال. فالدلالة إذا هي علاقة متفق عليها تجعل شيئا ما حاضرا يحل محل شيء آخرغائبا كان أم حاضرا. فاللغة إذا هي مملكة الدلالات بلا منازع، حيث تعلم الإنسان منذ العصور البدائية أن يشير إلى الأشياء التي تملأ العالم بواسطة علامات صوتية في البداية ثم بواسطة حروف منقوشة تمثل هذه الأصوات. غير أن الإنسان لا يكتفي بتسمية الأشياء والإشارة إليها بواسطة اللغة، وإنما يبحث عن "معنى" هذه الأشياء، والمعنى Sens يختلف إختلافا جوهريا عن الدلالة. فهذه الأشياء المحيطة بنا تنضح وتزخر بالمعنى، وهذا المعنى رغم غموضه وصعوبته على الإستقراء فإنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الإنسان، المصدر الوحيد لمعنى العالم والأشياء والظواهر. فليس هناك معنى قبلي يسكن نواة الأشياء قبل أن تلتقي بالإنسان، وليس هناك عمليات جيولوجية يقوم بها الإنسان ليكتشف أعماق هذه النواة وليس هناك عملية تقشير أو تعرية أو غوص في أعماق الأشياء كما يدعي الشعراء والمتصوفة. فمعنى الشيء ليس ملتصقا به ولا مدسوسا أو مخبأ في أعماقه خارج الإرادة الواعية للإنسان، فهذه الشجرة أو هذا الكرسي أو هذا الجزء من الشاطيء أو هذا الشارع له معنى بالنسبة لي أنا، فأنا الذي أزود هذه الأشياء بالمعنى الذي سيكون كينونتها. وربما إتخاذ مثال يتعلق بالأعمال الفنية سيجعل الأمر أكثر وضوحا. ففيما يتعلق بالفنون التشكيلية وبالذات الموسيقى، والتي في صميمها عمل غير دلالي، عادة ما يتسائل المشاهد أو المستمع عن معنى هذه اللوحة أو هذه الصورة أو معنى هذه القطعة الموسيقية، ونتسائل نادرا عن دلالة اللوحة أو السيمفونية. مع العلم أنه في الغالب ما يخلط هذا المشاهد والمستمع بين المعنى والدلالة. فالمعنى هو أن الشيء أو الظاهرة أو الواقعة الحاضرة تشارك بكينونتها كينونة شيء أو ظاهرة أخرى، حاضرة أو غائبة، مرئية أو غير مرئية، أي أنها تمثل وتجسد حقيقة تتجاوزها، ولكننا لا نستطيع الإحاطة بها خارجها أو بمعزل عنها، ولا نستطيع، ولا يمكن التعبير عن هذه الحقيقة بأي نظام لغوي مهما كانت درجة دقته. إن معنى الشيء هو حقيقته التي تتجاوزه لتشمل العالم أو العصر بأكمله، فأي لوحة فنية أو قطعة موسيقية على سبيل المثال، فإنها شيء كلي متكامل لا يمكن فصل معناه عن القطعة ذاتها، ولا " تدل" ولا تعني أي شيء آخر غير ذاتها كقطعة موسيقية. معنى الصورة أو المنظر الطبيعي أو اللوحة أو القطعة الموسيقية هو كينونتها في هذا الزمان والمكان وأمام هذه الأعين التي تشاهدها، ولا تشير إلى أي شيء خارجها. وهذا لا يعني عدم وجود دلالة لبعض الأعمال الفنية، وبالذات الرمزية والتعبيرية منها. فعندما نتمعن في لوحة غيرنيكا Guernica لبيكاسو، فإن دلالتها واضحة ومعروفة بسبب الظروف التي رسمت فيها هذه اللوحة وهدف بيكاسو الواضح للتعبير عن موقفه ضد الحرب والعنف والهجوم النازي والفاشي الذي قام بقصف هذه المدينة الصغيرة في بلاد الباسك بالطائرات في ٢٦ أبريل سنة ١٩٣٧ أثناء الثورة الإسبانية. وفي هذه الحالة تتحول اللوحة إلى رمز أو إشارة للدلالة على شيء آخر غير اللوحة ذاتها، مثل الوقوف ضد الحرب والعنف أو مساندة الثورة أو الإنسانية إلخ، وتفقد بطريقة ما جزءا من هويتها الفنية والجمالية.

8 - ‫لقد تمكن الفن الحديث والمعاصر من التخلص من فكرة المحاكاة La mimèsis - μίμησις الموروثة عن الثقافة اليونانية، التي درسها إفلاطون في الجمهورية ثم طورها أرسطو فيما بعد. رغم كون ذلك خطوة جبارة في تطوير الفنون وتقدمها ومكنها من التحرر من التقليد ومحاولة إعادة خلق ما هو موجود ومرئي في الطبيعة بطريقة إصطناعية، غير ان ذلك أدى في نفس الوقت إلى سقوط الفن في غياهب ظلمة فكرية وتشوش نظري وإبتداع آلهة وانبياء وديانات جديدة، وأدى إلى خلق سلطة روحية من نوع جديد، سلطة لا حدود لها، ومنحها لمفسري الفن ومنظريه من كل نوع، وخلق دينا جديدا بكهنته وأحباره وشيوخه ومعابده في جميع عواصم العالم المتحضر. وأدى خلق هذه السلطة الفنية، والمكونة من النقاد الفنيين والمثقفين والفلاسفة والشعراء والمشتغلين بالفنون التشكيلية، أي الفنانين انفسهم، بالاضافة إلى اصحاب صالات العرض ومديري المتاحف والمسئولين السياسيين عن الثقافة، إلى خلق هوة عميقة بين الفن والحياة وبين الفن والمشاهد العادي الذي لم يستطع ان يتجاوز مرحلة المحاكاة ولم يستطع - حسب نظرة هؤلاء النقاد- الوصول إلى اسرار الفن ومعانيه العميقة والغوص أبعد مما يراه ويسمعه. فنلاحظ هذه النظرة الغيبية للفن بوضوح اكثر حدة، فيما يتعلق بالفن التشكيلي، حيث نشاهد ظواهر غريبة في مجال النقد، أذ يتكلم الناقد احيانا مثلما يتكلم العرّافون، الذين يتنبأون بما يخبئه المستقبل، فيفسرون معنى الألوان والأشكال، ويجعلون "اللوحة" تنطق وتبوح بسرها كما يفعل المشعوذون الذين يحركون الطاولات، ويجعلونها تتحاور مع البشر بأية لغة يشاءون. ذلك ان اغلب النقاد يعتبرون الفن لغة يجب اكتشاف وتحليل شفرتها، وترجمتها إلى لغة الكلمات، أو في احسن الأحوال يجعلونها رموزا يجب تحليلها مثل الأحلام، ويستعملون في ذلك ادوات الإنشاء الفرويدية وغيره من مفسري النفس البشرية وابداعاتها. وهذه القطيعة بين الفن والمجتمع ترجع بالدرجة الأولى إلى إعتبار الفن لغة دلالية، أي أن العمل الفني يقول شيئا ما يجب إكتشافه والبوح به بالكلمات والجمل أي باللغة الكلامية. ونحن نعرف اليوم بأنه لا يوجد وراء اللوحة سوى الحائط الذي يسندها والمسمار الذي يشدها إلى الحائط، وكل ماعدا ذلك هو من السحر والشعوذة الفكرية، والتي لا تقود إلا إلى المزيد من التعمية، وتعميق الهوة ـ العميقة أصلا ـ بين المشاهد والفن، واغراقه في الخطأ الأساسي، وهو محاولة ايجاد الرسالة المخبأة وراء الألوان والخطوط والأشكال. وبهذا القول لا نعني انه لا يوجد أي معنى او رمز أو دلالة لأية لوحة او أي عمل من الأعمال الفنية، بل نعني بان هذا المعنى او الرمز ـ إذا وجد ـ فإنه ليس له علاقة مباشرة، او داخلية بالعمل الفني ذاته، فنحن لا نحب الأشياء لأنها جميلة، ولكن الأشياء جميلة لأننا نحبها كما يقول الشيخ سبينوزا. المتحف أو المركز الفني لا يحتوي داخل صالاته كل هذه الأعمال واللوحات الفنية لأنها أعمال عظيمة وجميلة أو لأنها تحف، بل هذه الإبداعات عظيمة وجميلة وتعتبر تحفا لأنها توجد داخل محراب المتحف. فهذا المكان، كالمعبد هو الذي يضفي صفة العظمة والقدسية على كل ما يحتويه داخل جدرانه. البعد الجمالي، أو الحكم على جمالية العمل الفني هو بناء وتركيب بعدي، وليس من خصائص العمل الفني جوهريا، إنه يتعلق باللوحة وبالمشاهد معا وتفاعلهما مع المكان الذي يتواجد فيه العمل الفني، انه مجرد "علاقة" او اضافة ثقافية اجتماعيةة إيديولوجيه، تلتصق بالعمل الفني من الخارج، كعنوان اللوحة، وسعرها، وتاريخها، وتوقيع الرسام، الخ. إن الفنان حين يبدأ في رسم لوحته، لايضع خطة جهنمية لإخفاء مايريد قوله، إنه لا يرسم اسرارا، إنه فقط يقوم بعمله حسب احاسيسه، وقواعده، وقوانينه الداخلية، وحسب المعطيات المادية المتاحة امامه، ولا يستطيع هو ذاته تنظير عمله علميا بطريقة لغوية. إنه لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللغة، كما لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللوحة. فاللغة حدودها الدلالة، بينما الرسم والفن عموما، هو مسرح الخيال، أو المخيلة. وهذا لا يعني عدم وجود الخيال في الكتابة مثلا، فالشعر والرواية والقصة والمسرحية تنتمي بدورها إلى عالم الصور والخيال.غير ان الوسيلة المستعملة "لفتح" لوحة ما، غير الوسيلة المستعملة لفتح رواية او قصيدة شعرية. المفتاح يختلف اختلافا جوهريا، ولا نستطيع حتى ولو كنا سحرة، ان نفتح عملا فنيا كاللوحة، بمفتاح اللغة، لا بد من استعمال العين والبصر والرؤية المباشرة للوصول إليها كعمل فني. وفي نفس الوقت لا نستطيع ان نفتح قصيدة شعرية، بمفتاح الخيال مباشرة، ولا بمفتاح البصر والرؤية وحدها، فلا بد من المرور بمحطة جديدة هي محطة الكلمات حتى ندخل عالم الخيال الشعري. رغم وجود بعض التجارب المعاصره التي تحاول ان تتجه في هذا الاتجاه، أي إلغاء محطة اللغة والوصول إلى العمل الفني مباشرة، حيث تستعمل الكلمات كأشكال بصرية أو صوتيه، وتحاول التخلص من دلالة الكلمات قدر الإمكان، مثل تجارب الشعر الصوتي والشعر البصري التي تنحو هذا الاتجاه دون نجاح كبير في البداية، لسبب تقني بسيط، هو عدم قدرة هذه التيارات التخلص من فكرة الكتاب كوسيلة لنشر هذا النوع من الشعر، ولكن اليوم أصبحت هذه التيارات تتطور وتنتشر بسرعة كبيرة في العديد من العواصم الأوربية لوجود إمكانيات تقنية أكثر مناسبة لهذا النوع من الإبداع والذي ما يزال يسمى شعرا، مثل الكمبيوتر والفيديو والسينما والمجال السمعي البصري عموما. ولكننا مع ذلك نعرف أن الأعمال الفنية تختلف عن الصناعات الأخرى، ونعرف أيضا أن أي لوحة لروتكو‬ ‫Mark Rothko أو نيومان Barnett Newman ل مجرد مسطح يستمن الألوان المرتجفة مع الضوء، هناك شيء ما يجعلنا نتوقف أمام الخطوط والألوان والأصوات وننتقل بطريقة سحرية من عالم المشاهدة العينية الواقعية، عالم الإدراك، إلى عالم آخر هو عالم الخيال، وعندما نزيح أنظارنا عن اللوحة فإننا يبدو كأننا نستيقظ من أحد أحلامنا، فما هو إذا هذا الشيء الذي يضفي السحر على الأشياء التي بطبيعتها مجرد أشياء مادية عادية؟ ‬



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفول العقل المطلق
- فويرباخ والإستلاب
- نهاية هيجل
- الصيرورة في الكينونة والعدم
- هيجل وعلم المنطق
- السلب والإيجاب عند هيجل
- هيجل
- الجسد معبد اللغة
- تفتت الأنا
- ميلاد الموتى
- دهاليز الروح
- سبينوزا ونهاية المغامرة
- سبينوزا وفكرة السلب
- حرية الحجر
- الجسد المثقوب
- الرصاصة والثقب
- المعطف المثقوب
- اليهودي الملعون
- فيخته بين العقل والأخلاق
- إما الثورة وإما العبودية ..


المزيد.....




- أمام ترامب.. فيديو ما فعله أحد الخيول بمراسم الاستقبال بلندن ...
- بعد ضربة قطر.. أمين حزب الله و6 نقاط وجهها إلى السعودية -لفت ...
- غوتيريش: العالم يجب ألا يخشى ردود أفعال إسرائيل الانتقامية
- ترامب يواجه البرازيل.. هل يشعل الاقتراب من الصين صداما قريبا ...
- أردوغان لنتنياهو: لن نعطيك نقش سلوان أو حصاة واحدة من القدس ...
- ماذا قال ترامب عن -انتهاك- مقاتلات روسية المجال الجوي لإستون ...
- روسيا تصدر بيانا للرد على مزاعم -انتهاك- مقاتلاتها لأجواء إس ...
- البرتغال تعترف رسميا بدولة فلسطين الأحد المقبل
- الجزيرة نت تروي قصة مسجد في الفاشر شهد مجزرة وتحول إلى مقبرة ...
- تونس: ما أسباب تراجع الزيجات والولادات


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - معرض -تكوين- التشكيلي