أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل بين التأسيس والنقد: تحولات المفهوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة














المزيد.....

العقل بين التأسيس والنقد: تحولات المفهوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 20:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يُعَدّ العقل في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة أحد المفاهيم المركزية التي شكّلت مسار التفكير الفلسفي منذ القرن السابع عشر، حيث اتخذ طابعًا متغيرًا تبعًا لتحولات المشروع الفلسفي ذاته. ففي المرحلة الحديثة، وبخاصة مع ديكارت، غدا العقل أساسًا للمعرفة وشرطًا لليقين، إذ أكد على أن الكوجيتو يمثل نقطة الانطلاق الأولى لأي بناء معرفي متماسك. العقل هنا هو الضامن للحقيقة، ومصدر الشرعية للعلم، وأداة التحرر من الشك والسلطة الميتافيزيقية. ومن ثمّ تعزز هذا المنحى مع فلاسفة التنوير الذين رأوا في العقل أداة نقدية قادرة على تحرير الإنسان من قيود الخرافة والتسلط، ومنحوه مكانة معيارية لتأسيس مفاهيم التقدم والحرية والعدالة.

أما مع كانط، فقد شهد العقل انعطافة نقدية نوعية. فالعقل لم يعد يُفهم بوصفه قدرة مطلقة أو مرآة سلبية تعكس الواقع، وإنما باعتباره سلطة تُنشئ شروط إمكان التجربة ذاتها. لقد ميّز كانط بين العقل النظري الذي يحدد حدود المعرفة، والعقل العملي الذي يؤسس لمجال الأخلاق والحرية، مُبرِزًا بذلك أن العقل ليس مجرد أداة معرفية، بل حاملٌ لبُعد معياري وأخلاقي. ومن خلال هذا الطرح، انتقل التفكير الفلسفي من الثقة المطلقة بالعقل إلى مساءلة قدرته على تأسيس المعرفة والحرية في آن واحد.

غير أن الفلسفة الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين لم تكتفِ بهذا التحديد النقدي، بل سعت إلى إبراز أبعاد جديدة تتعلق بحدود العقل وأزماته. فقد نظر هيغل إلى العقل باعتباره سيرورة تاريخية وجدلية تتجلى في حركة الروح المطلقة، بحيث يُفهَم العالم في ضوء تطور العقل عبر التاريخ. على النقيض من ذلك، انتقد نيتشه مركزية العقل، مُعتبِرًا أن تقديسه أدى إلى إقصاء الحياة والغرائز والاختلاف، ورأى أن العقل ليس سوى بناء قيمي-ثقافي مشروط، قد يتحول إلى قوة قمعية تُفرغ الوجود الإنساني من أصالته وإبداعه. وقد طُوِّرت هذه النزعة النقدية لاحقًا مع مدرسة فرانكفورت، التي كشفت عن الطابع الأداتي للعقل في المجتمعات الحديثة، حيث يتحول إلى أداة للهيمنة التقنية والاقتصادية، فينقطع عن أبعاده النقدية والتحررية.

في السياق ذاته، أعادت الفلسفة الظاهراتية والوجودية التفكير في طبيعة العقل من خلال ربطه بالوعي والوجود. فقد أكد هوسرل أن العقل لا ينكشف من خلال مفاهيم مجردة، بل عبر القصدية التي تربط الوعي بالظواهر في أفق المعنى. أما هايدغر، فقد وجّه نقدًا جذريًا للعقل في صورته التقنية-الحسابية، معتبرًا أن اختزاله في التمثيل والسيطرة يُغيّب سؤال الوجود ذاته، وداعيًا إلى نمط آخر من التفكير ينفتح على الحقيقة بوصفها انكشافًا (aletheia) لا مجرد سيطرة معرفية. وهكذا تحوّل العقل في الفكر الوجودي إلى جزء من انفتاح الكائن البشري على العالم، لا مجرد أداة محايدة للمعرفة.

أما في الفلسفة ما بعد الحداثية، فقد تعمّق نقد العقل المركزي واليقيني، حيث جرى التشكيك في السرديات الكبرى التي اعتبرت العقل مرجعًا مطلقًا لتفسير العالم. فمفكرون مثل ليوتار وفوكو أبرزوا أن العقل ليس بريئًا أو محايدًا، بل هو مرتبط ببنى السلطة والمعرفة، وأن خطاباته لا تُنتج الحقيقة بقدر ما تساهم في تشكيلها ضمن سياقات تاريخية واجتماعية محددة. وبهذا المعنى، أُعيد النظر في مفهوم العقل ذاته ليغدو تعدديًا ومتعدد الأشكال، بعيدًا عن النزعة الكلية الشمولية.

من خلال هذا المسار التاريخي-الفلسفي، يتضح أن الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة قد عالجت العقل باعتباره مفهوماً متطوراً ومتعدد الأبعاد: من كونه أساس اليقين والحرية في العصر الحديث، إلى كونه موضوعًا للنقد والشك في المعاصرة، ومن ثم إعادة تأويله بوصفه ظاهرة تاريخية ووجودية وثقافية. إن هذه التحولات تكشف عن أن العقل لم يعد يُدرَك كمفهوم ثابت، بل كحقل إشكالي مفتوح يتقاطع فيه سؤال المعرفة مع أسئلة الوجود والحرية والقيمة والسلطة، وهو ما جعله محورًا دائمًا لإعادة التفكير الفلسفي في أوروبا حتى اليوم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الفائق كحاكم خفي: إعادة تشكيل منظومات الحوكمة الاسترا ...
- الهيمنة الرقمية: الإنسان بين التقدم وفقدان المعنى
- من كوبرنيكوس إلى عصر الحداثة: الثورات المعرفية التي غيّرت وج ...
- كوبرنيكوس: حين تحدّى الإنسان مركزية الكون فاهتزت عروش اليقين
- المستعربون العرب: جسرٌ مُزيّف يعيد إنتاج السردية الإسرائيلية ...
- العدالة الاقتصادية في عصر الذكاء الفائق: نحو عقد اجتماعي جدي ...
- النفوذ الرقمي: إعادة تشكيل خرائط القوة في القرن الحادي والعش ...
- الوجودية: من قلق الفرد إلى عبء الحرية وصناعة المعنى
- إسرائيل كذراع استراتيجية للولايات المتحدة: بين المصالح العمي ...
- القيادة التحويلية في زمن الأزمات: من احتواء التحديات إلى صنا ...
- هندسة الجاذبية: إدارة القوة الناعمة كرافعة للنفوذ الدولي
- الجغرافيا الجديدة للنفوذ: أمن الطاقة وإعادة تشكيل التوازنات ...
- المؤثرون: بين بناء الثقة وتحديات الشهرة
- ما بعد الإيمان: تحولات فلسفة الدين في العصر الحديث
- السيادة في عصر الشبكات: الأمن الرقمي كدرع للأمن القومي
- أشباه الموصلات وصياغة ملامح القوة في القرن الحادي والعشرين
- حدود العلم بين رؤية كارل بوبر وتأملات محمود كيوان: نحو فلسفة ...
- التخيل الاجتماعي في زمن الذكاء الاصطناعي: صراع السرديات وإعا ...
- اقتصاد الجليد: سباق القوى الكبرى على كنوز القطب وأسرار المست ...
- الحوسبة الاجتماعية: البنية الرقمية الجديدة لسلوك الإنسان الج ...


المزيد.....




- ترامب عن اختراق مسيرات روسية أجواء بولندا: -ربما كان خطأً-
- مجلس الأمن يدين بالإجماع الضربات في قطر من دون ذكر إسرائيل ب ...
- نوحٌ يعبر البحر المتوسط بسفنه
- الحرب على غزة مباشر.. عشرات الشهداء بالقطاع وإدانات واسعة بم ...
- بريطانيا تصدر بيانا بشأن -تلميحات- تزعم مشاركتها في الهجوم ا ...
- الحكومة المصرية تؤجل رفع أسعار الكهرباء -للسيطرة على التضخم- ...
- اجتماع طارئ لمجلس الأمن بشأن خرق مسيّرات روسية لأجواء بولندا ...
- -علّمني كلمة أحبك!-.. المغنية نيكول تعترف بعلاقتها بـ لامين ...
- نتنياهو يوافق على بناء مستوطنات جديدة ويتعهد بعدم قيام دولة ...
- مجلس الأمن يبحث غدا انتهاك أجواء بولندا ودعم عسكري أوروبي لو ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العقل بين التأسيس والنقد: تحولات المفهوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة