أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة شاوتي - قراءةُ فاطمة شاوتي في نصّي الشاعر العراقي -ثامر سعيد -: - الْقَلَقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ- و - كُنْتُ أَظُنُّنِي أَكْتُبُ -















المزيد.....



قراءةُ فاطمة شاوتي في نصّي الشاعر العراقي -ثامر سعيد -: - الْقَلَقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ- و - كُنْتُ أَظُنُّنِي أَكْتُبُ -


فاطمة شاوتي

الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 16:27
المحور: الادب والفن
    


قراءةُ "فاطمة شاوتي" فِي نصّيْنِ يتقاطعانِ فِي تيمةِ الْكتابةِ ، ويخْتلفانِ فِي الصّياغةِ والْهنْدسةِ ، ينْتهيانِ إلَى نتيجةٍ متشابهةٍ

قراءةٌ فِي نصّيِّ الشّاعرِ الْعراقيَّ "ثامر سعيد"

1_ " الْقَلَقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ"
10 يونيو 2025

2_ " كُنْتُ أَظُنُّنِي أَكتُبُ "
28 يونيو 2025

1
_ مقدّمةٌ ضروريّةٌ لِقصيدةِ النّثْرِ :

إذَا كانَ النّقْدُ تفاعلًا إبْداعيَا منْدهشًا منْ خارجِ الذّاتِ ، فإنَّ الْكتابةَ فعْلٌ إبْداعيٌّ مدْهشٌ منْ داخلِ الذّاتِ أيْضًا ...
بيْنَ الْكتابتيْنِ يموتُ الْكاتبُ رمْزيًا عنْدمَا يخْرجُ منْ بوّابةِ النّصِّ ، ويحْيَا فِي ذاكرةِ الْأدبِ حقيقيًّا حينَ يدْخلُ النّاقدُ إلَى نفْسِ النّصِّ منْ نوافذَ ، تركَهَا الْمؤلّفُ مشْرعةً علَى مفاتيحِ الْقراءةِ...
و يموتُ النّاقدُ مباشرةً بعْدَ أنْ يجرّبَ مفْتاحًا خاصًّا لَايُسْتنْسخُ ، لِأنَّ لِكلِّ نصٍّ مفْتاحَهُ أوْ مفاتيحَهُ حسبَ تعدّدِ الْأذْواقِ فِي التّفاعلِ الْقِرائِيِّ...
لكنَّ النّصَّ وحْدَهُ ينْتعشُ منْ رمادِهِمَا معًا، فيتعرَّى لغةً دونَ زوائدَ أوْ دوَالِي ، مَادامَتْ لهُ قابليّةُ التّماهِي معَ نصٍّ خارجَهُ ، لِأنَّ مهمّتَهُمَا انْتهَتْ عنْدمَا كشفَ النّصُّ عنْ نفْسِهِ...
النّصُّ هوَ الْكائنُ اللّغوِيُّ الّذِي يمارسُ وجودَهُ منْ ذاتِهِ ، يتحوّلُ قارئًا نموذجيًّا ، يُجْرِي مونولوغًا أوْ مَاسمّاهُ الْفيْلسوفُ الْيونانِيُّ "سقْراطْ" الْاسْتبْطانَ بِمقولتِهِ الشّهيرةِ:
"أيُّهَا الْإنْسانُ اعْرفْ نفْسَكَ بِنفْسِكَ...! "
النّصُّ /اللّغةُ/الذّاتُ /الشّاعرُ /
سمّاهُ الْفيْلسوفُ الْفرنْسِيُّ "بِرْغْسونْ" الْحدْسَ...
و الْحدْسُ حاسّةٌ سادسةٌ باطنيّةٌ تسْتجْلِي معالمَ النّصِّ كَذاتٍ منْفصلةٍ عنْ ذاتِهَا ، ومتّصلةٍ فِي نفْسِ الْوقْتِ...
لهذَا يتعرَّى أمامَ الْمتلقِّي بِشكلٍ شفّافٍ ،
فيقولُ:
"إنَّ الْفتَى مَنْ يقولُ
هَاآنذَا
ليْسَ الْفتَى منْ يقولُ
كانَ أبِي"
إنَّهُ الْكائنُ الّذِي يغْتربُ عنْ ذاتِهِ لحْظةَ الْولادةِ
متسائلًا :
"متَى كُتِبْتُ أوْ كَتَبْتُ... ؟
متَى عشْتُ حالةَ الْكتابةِ
أليْسَتْ جنونًا أنْ تجْهلَ مَنْ كتبَ مَنْ...؟
لِهذَا قالَ الْكاتبُ الْإيرانِيُّ
"أحْمدُ شاملُو" فِي ديوانِهِ ( مَاأزالُ مشْغولًا بِذلكَ الْغرابِ)
ترْجمَهُ "غسّانْ حمدانْ"
عنِ الْهيْأةِ الْعامّةِ السّوريّةِ لِلْكتابِ 2008 /دمشْق /ص 8 جوابًا علَى منْتقدِي قصيدةِ النّثْرِ بِأنَّهَا ليْسَتْ شعْرًا :
" إنَّ الشّعْرَ الْأبيْضَ هوَ شعْرٌ لَا يريدُ أنْ يظْهرَ علَى شاكلةِ الشّعْرِ ، ربّمَا هوَ رقْصٌ لَا يحْتاجُ إلَى إيقاعٍ أوْ موسيقَى حسّيةٍ، أوْ خمْرٍ لَا تسَعُهَا كأْسٌ ذهبيّةٌ...
الشّعْرُ الْأبيْضُ لديْهِ فكْرٌ سامٍ ولطيفٌ، لكنَّهُ متمرّدٌ بِحيْثُ لَا ينْحصرُ فِي أيِّ قالبٍ ووزْنٍ ، ولَا يسْتطيعُ الْمرْءُ لجْمَهُ "
وقدْ حدّدَهَا" رامْبُو":
" إنَّهَا وسيلةُ التّعْبيرِ عنْ فوْضَى الْأنَا الدّاخلِيّةِ فِي خلْخلةِ الْحواسِّ، السّمْعُ يؤدِّي وظيفةَ حاسّةِ الْبصرِ ، وحاسّةُ النّظرِ حاسّةَ الشّمِّ ، وحاسّةُ السّمْعِ حاسّةَ اللّمْسِ... "
تصيرُ حسبَ تصوّرٍ " رامْبُو" كلُّ الْحواسِّ فاقدةً لِذبْذباتِهَا الْموْروثةِ جينيًّا ، تُولّدُ أحاسيسَ جديدةً ليْسَتْ مَا كانَتْ تشكِّلُهُ كَجزْءٍ منْهَا تدْخلُ فِي بنْيتِهَا الْفِيزْيولوجيّةِ،
تتغيّرُ الْوظائفُ الْمرْتبطةُ بهَا إلَى وظائفَ مغايرةٍ ، لكنَّهَا تكْتسبُ طبيعتَهَا حسبَ السّياقِ الّذِي توضعُ فيهِ... كأنَّ الْقصيدةَ ذاكَ الْكائنُ الْمتحوّلُ..!
يمْلكُ روائحَ تتواصلُ وتتناغمُ فيهَا هيرْمونيكيًّا كلُّ الْحواسِّ.
و النّصُّ هوَ عالمُ الصّمْتِ الّذِي تشيّدُهُ اللّغةُ كمَا يرَى "مَالَارْميهْ" ذلكَ أنَّ قصيدةَ النّثْرِ منْ وجْهةِ نظرِ "جاكوبْ" كمَا وردَ فِي كتابِ الْأسْتاذِ
"عبْدِ الْقادرِ الْجنابِي" "أنْطلوجْيَا قصيدةِ النّثْرِ الْفرنْسِيّةِ" 2001 /ص 15:
عليْهَا " أنْ تكونَ كتْلةً ذاتَ قابليّةٍ لِتوْليدِ انْفعالٍ خاصٍّ ، يخْتلفُ كلّيًا عنِ الْانْفعالِ الْحسّيِّ والْعاطفِيِّ (...)
علَى قصيدةِ النّثْرِ أنْ تكونَ قائمةً بِذاتِهَا ، مسْتقلّةً فِي شكْلِهَا ومبْناهَا ، لاَ تسْتمدُّ وجودَهَا إلَّا منْ ذاتِهَا ، منْفصلةً عنِ الْمؤلّفِ الّذِي كتبَهَا كَعملٍ مغْلقٍ علَى ذاتِهِ... "

2

_ الْكَيْنُونَةُ بيْنَ قَلَقِ الْكِتابَةِ وقَلَقِ الْوُجُودِ منْ خلالِ نموذجٍ شعْرِيٍّ لِلشّاعرِ الْعراقيَّ "ثامرْ سعيدْ"
" أزْمةُ الذّاتِ بيْنَ قلقِهَا الشّعْرِيِّ و قلقِهَا الْوجودِيِّ"
هلْ تتمثّلُ الذّاتُ وجودَهَا قلقًا ؛ أمْ قلقَهَا وجودًا... ؟

إذَا كانَ تاريخُ الْفلْسفةِ قدْ ركّزَ علَى إشْكاليّةِ الذّاتِ والْوجودِ ،إذِاعْتبرَ "ديكارْتُ" أنَّ الْفكْرَ هوَ محدِّدُ الْوجودِ ،بيْنمَا
اعْتبرَ "ميلانْ كونْديرَا" الْألمَ دالّةَ الْوجودِ...
فهلْ يمْكنُ أنْ نتحدّثَ عنْ وجودٍ يحدّدُهُ الْقلقُ ؛ أمْ عنْ وجودٍ قلِقٍ يحدّدُهُ الشّعْرُ أوْ تحدّدُهُ الْكتابةُ بِشكْلٍ عامٍّ... ؟
النّصّانِ:
"الْقلقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ"
"كُنْتُ أظُنُّنِي أَكتُبُ"
يبْدوانِ مخْتلفيْنِ منْ حيْثُ تيمتَاهُمَا والْعتبتانِ ؛ ومحْمولاتُ التّيمتيْنِ ؛ ونتائجُهُمَا ؛ لكنَّ معْطياتِ الْمسْحِ الْأوّلِيِّ أفْرزَتْ عكْسَ مَا يقولُهُ لِلْقارئِ ظاهرُهُمَا اللّفْظِيُّ ، ولازمتاهُمَاوعتبتَاهُمَا ،
فالْحقيقةُ أنَّ كلَّ نصٍّ يمثّلُ تيمةَ الثّانِيِّ ، يتقاطعانِ ؛ ينْفصلانِ ؛ لكنَّهُمَا يلْتقيانِ عنْدَ عتبةٍ جوْهرُهَا يتعلّقُ بِالْكتابةِ والذّاتِ...

_ فهلْ تحقّقَ مطْلبُ قصيدةِ النّثْرِ فِي نموذجيْنِ اخْترْتُ مقاربتَهُمَا بِاعْتبارِهِمَا يجيبانِ علَى السّؤالِ... ؟
أتسْتطيعُ الْقصيدةُ الْمعاصرةُ تجاوزَ الْمواقفِ الْمناوئةِ لهَا... ؟

يضعُنَا التّساؤلُ مباشرةً فِي حقْلِ ألْغامٍ موْقوتةٍ ، تنْفجرُ حتْمًابِالرّدِّ الصّاعقِ:
إنَّهَا اللّغةُ والْحالةُ الْوجْدانيّةُ لدَى "الشّاعرِ الْعراقِيَّ "
" الشّاعرُ هوَ الّذِي يعْلمُ ؛ وعليْهِ أنْ يعْلمَ وبِواسطةِ الْقصيدةِ كيْفَ تُثارُ هذهِ الْحالةُ، فهوَ يعْرفُ هذهِ الْحالةَ ، لكنَّ تجْربتَهُ عنْهَا لَا تتطابقُ معَ الْحالةِ الّتِي يوجدُ فيهَا حينمَا يكْتبُ،
فهوَ يتلقَّى بِلَا إرادةٍ عنْدمَا يكونُ فِي حالةٍ شعْريّةٍ ، ويسيْطرُ أوْ يحاولُ أنْ يسيْطرَ عنْدمَا يعْملُ علَى إثارةِ هذهِ الْحالةِ بِواسطةِ الْقصيدةِ... "

3

_ فكيْفَ صاغَ الشّاعرُ تيمتَهُ الْمزْدوجةَ فِي نصّيْهِ... ؟
النّصِّ الْأوّلِ
" الْقلقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ"
أوّلُ مَا يصْفعُ الْقارئَ هوَ ثلاثيّةُ الْعتبةِ :
الْقلقُ
لَا يطْرُقُ
الْبابَ
الْقلقُ مقولةٌ أساسيّةٌ فِي النّصِّ تفْرضُ تحْليلَ الدّلالةِ اللّغويّةِ ، وإحالاتِها وأبْعادِهَا الْنّفْسيّةِ ، والْفلْسفيّةِ ، وتوْظيفَهَا فِي النّصِّ...
أوّلُ مَا يلْزمُ الْقارئَ والْقارئةَ هوَ الْانْتباهُ إلَى علاقةِ الْمفْهومِ / الْمفْتاحِ بِمفْهومِ الْخوْفِ ، وعلاقتِهِ بِتداعياتِهِ السّيّاقيّةِ...
الْقلقُ بِمعْناهُ الْعامِّ قلقٌ عادِيٌّ نخْتبرُهُ كَحالةٍ إنْسانيّةٍ ، تنْتجُ عنْ سببٍ يثيرُ مشاعرَنَا ترْتبطُ بِمشاكلِ الْجسدِ الصّحّيّةٍ نتحكّمُ فيهَا بِمعالجتِهَا،
و يمْكنُ تجاوزُهَا وتخطِّيهَا بِمساعدةِ الطّبِّ والْأدْويّةِ فِي ضبْطِ مسبّباتِهَا واخْتلالاتِ توازنِهَا ...
قلقٌ طبيعيٌّ حينَ نواجهُ مشاكلَ فِي الْحياةِ والْعملِ، وحينَ ننْتظرُ حلًّا لِمشْكلةٍ عاطفيّةٍ أوْ مهنيّةٍ أوِ اجْتماعيّةٍ ، كَانْتظارِ نتيجةٍ فِي اخْتبارٍ دراسِيٍّ أوْ فِي تحْصيلِ جوازِ سفرٍ لِلدّراسةِ ، بلْ وفِي انْتظارِ رخْصةِ السّيّاقةِ...
كلُّ منَّا عرفَ هذَا الْقلقَ ، وهوَ مخْتلفٌ عنِ الْخوْفِ والرُّهابِ كَخوفِ الْبعْضِ منَ الْأماكنِ الْمغْلقةِ ، أوِ الظّلامِ أوْركوبِ الطّائرةِ، أوْ صعودِ الْمصْعدِ الْكهْربائِيِّ...
لِكلِّ منَّا غرفُهُ السّرّيّةُ دونَ أنْ يصرّحَ بها ، ولنَا كواليسُنَا الْخاصّةُ جدًّا...
يوجدُ قلقٌ ثانٍ ؛ لهُ علاقةٌ بِنفْسِيّةِ الْإنْسانِ يعْتبرُهُ "فْرُويدْ" آليّةً دفاعيّةً لِتخْفيفِ الطّاقةِ اللّيبيديّةِ الْمحْظورةِ ، يركّزُ فيهِ علَى الرّغباتِ الْمكْبوتةِ غيْرِ الْمشْبعةِ بِسببِ ضغْطِ الْمجْتمعِ الّذِي يَشْحنُ الْفرْدَ بِممْنوعاتٍ وطابواتٍ ،
يتمُّ تصْعيدُهَا ومنْعُهَا عنِ التّسرّبِ منَ اللّاشعورِ إلَى الشّعورِ، خاصّةً الرّغْبةَ الْجنْسيّةَ ، يسْتبْدلُهَا عبْرَ آليّةِ التّسامِي فتتشكَّلُ قيمًا رمْزيّةً كَأشْكالِ الْإبْداعِ الْمتنوّعةِ...
بيْنَ الْقلقِ الْعادِي والنَّفْسِيِّ يتوسّطُ الْقلقُ الْوجودِيُّ ، الّذِي عالجتْهُ الْفلْسفةُ معَ أقْطابِهَا مثْلُ (سارْترْ) أكّدَ علَى ضرورةِ التّمْييزِ بيْنَ الْقلقِ و الْخوْفِ أيْضًا، لِأنَّ أحدَهُمَا يسْتبْعدُ الْآخرَ والْفرْقُ بيْنهُمَا
أنَّ الْخوْفَ فزعٌ غيْرُ واعٍ ؛ أمَّا الْقلقُ ففزعٌ واعٍ ؛ قدْ يؤدِّي إلَى الْوسْواسِ الْقهْرِي، بلْ غالبًا إلَى الْانْتحارِ...
كمِ انْتحرَ منْ فلاسفةٍ ومثقّفينَ.. ؟
يزْخرُ أرْشيفُ الْأدبِ بِهذهِ الظّاهرةِ آخرُهَا انْتحارُ الْكاتبةِ الْإيرانيّةِ " شِيوَا أرْسْطويِ" فِي 09 ماي 2025
الْقلقُ السّارْترِيُّ رهينٌ حسبَ موْقفِهِ الْفلْسفِيِّ بِالْوعْيِ بِالذّاتِ والْمصيرِ وبِتحمّلِ الْمسْؤوليّةِ...
"الْإنْسانُ ليْسَ شَيْئًا آخرَ خارجَ إرادتِهِ"
إنَّهُ مفْهومٌ عزّزَهُ موْقفُ الفيْلسوفِ الدّنمرْكِيِّ(سورينْ كْيورْكْغورْدْ)
فيرَى أنَّ الْمفْهومَ (الْقلقَ) لايُطْرحُ خارجَ علاقتِهِ بِمفْهومِ الْحرّيةِ والْاخْتيارِ الْوجودِيِّ.
إنَّ الْقلقَ حسبَ (كْيورْكغورْدْ) ليْسَ مجرّدَ حالةٍ نفْسيّةٍ ؛ أوْ مزاجٍ ؛ أوْ شعورٍ؛ بلْ هوَ بنْيةٌ معقّدةٌ وجوديّةٌ أساسيّةٌ لِلْإنْسانِ...
إنَّهُ بِلغتِهِ :
"الْقلقُ هوَ علامةُ الْحرّيةِ الْإنْسانيّةِ و شرْطُ إمْكانيّةِ الْيأْسِ"
الْفيْلسوفُ الْألْمانيُّ (هيْدْجرْ) يعْنِي لهُ الْقلقُ أنَّ لَا معْنَى لِلْحياةِ ، لكنَّ الْإنْسانَ هوَ مَنْ يمْنحُهَا معْنًى...
لِهذَا فتصوّرُهُ يُطابقُ موْقفَ (سارْترْ) يؤكّدُ بِدوْرِهِ أنَّ الْإنْسانَ يصْنعُ نفْسَهُ بِنفْسِهِ ، ولَا يمْكنُ لِلْإنْسانِ أنْ يجدَ نفْسَهُ إلَّا إذَا كانَ حرًّا"
تقومُ فلْسفتُهُ علَى ثلاثةِ أبْعادٍ :
الْقلقُ /الْاغْترابُ/الْموْتُ
وبيْنَ ثنائيّةِ الْوجودِ والْعدمِ يشْعرُ الْإنْسانُ بِالْقلقِ...
يرَى (مارْتنْ هيْدْجرْ) :
"أنَّ غائيّةَ الْقلقِ هيَ تحْقيقُ الْوعْيِ بِالذّاتِ... "
و" الْحرّيةُ الّتِي تطْمحُ إليْهَا الْكيْنونةُ لَا تتحقّقُ مَالمْ تعشْ تجْربةَ الْقلقِ ، لِأنَّهُ يرَى أنَّ الذّاتَ تعِي أنَّهَا محْكومةٌ بِحدْسٍ يرَى الْعالمَ ومَا فيهِ محكومًا بِالتّناهِي ،"
هنَا ينْبغِي التّمْييزُ بيْنَ الْخوْفِ والْقلقِ ،
الْقلقُ ليْسَ خوْفًا لِأنَّ الْخوْفَ هوَ خوْفٌ محدّدٌ منْ تهْديدٍ فِي الْعالمِ ، بيْنمَا الْقلقُ غيْرُ قابلٍ لِلتّحْديدِ، فنشْعرُ بِالضّيقِ والْعجْزِ لِجهْلِنَا الْمصْدرَ،
إنَّ مَا يُشْعرُنَا بِالْقلقِ هوَ الْعالمُ نفْسُهُ " فلَا نعْرفُ مَا هوَ الشّيْءُ الّذِي يهدّدُنَا داخلَ الْعالمِ... "
إنَّهَا الْموْتُ
لكنَّ (نتْشهْ) يُنْهِي قلقَنَا:
" هناكَ أناسٌ يولدونَ بعْدَ موْتِهِمْ... "
" عليْكَ أنْ تصالحَ نفْسَكَ عشْرَ مرّاتٍ فِي النّهارِ، لِأنَّهُ إذَا كانَ فِي قهْرِ النّفْسِ مرارةٌ فإنَّ فِي بقاءِ الشّقاقِ بيْنَكَ وبيْنَهَا مَا يُزْعجُ رقادَكَ"
"اصْنعْ قوّتَكَ دونَ أنْ تُظْهرَهَا ، احْتفظْ بهَا ، تَخَطَّ كلَّ هزائمِكَ وخيْباتِكَ ! وارْفعْ سقْفَ أحْلامِكَ لِأعْلَى ، خُلقْتَ لِتعيشَ لَا أنْ تموتَ بِجسدٍ يتنفّسُ... "
هكذَا يتحوّلُ الْقلقُ منْ سياقِهِ الْفلْسفِيِّ و الْنّفْسيِّ إلَى سياقٍ ثقافيٍّ ...
فكيْفَ تعاملَ الشاعرُ معَ قلقِ الْكتابةِ منْ خلالِ النّصّيْنِ... ؟

النّصُّ الْأوّلُ

الْقلقُ لَا يطْرقُ الْبابَ


"أرْتجفُ ، كأنِّي اسْتعرْتُ أصابعِي
منْ نبيًّ مذْعورٍ،
الْقصيدةُ رعْبٌ بلغةٍ محايدةٍ
أفكرُ كثيراً في حذفِ كلِّ شيءٍ من النص
حتى وجهي.
أنا سهوُ اللغةِ وهفوةُ الرؤية..

لا أكتبُ في العادة لأقولَ شيئاً، بل لأتخلصَ من القولِ
الذي يخنقني.
يخيفني أن أعثرَ على جملةٍ كاملةٍ
دون أن تملأَ غرفتي بالصراخ
مثلَ مراهقةٍ ضاجعها حلمٌ عنيف،

لا أحد يفهم لماذا يحزن الشاعرُ
من فرطِ الجُمَلِ الناقصة؟
كأن اللغةَ خنجرٌ في حنجرتهِ،
البياضُ لا يكفي والدمُ غزيرٌ جداً.

أخافُ أن أكتبَ فتنهارَ الدنيا على رأسي
أخافُ أن لا أكتبَ فأنهارَ أنا.

أرتجفُ، بحروفٍ تتظاهرُ أنها
تعرفُ الطريقَ
وفي كلّ مسودةٍ، أدفنُ شاعراً ظنّ أنه نجا
من البلاغةِ صدفةً.
أكتبُ كي لا أضربَ رأسي في الجدار
ثم أضربُ رأسي في الجدارِ لأكتبَ،
فمن قالَ: إنّ الشاعرَ مخلوقٌ وديع؟
هو لقيطُ الدهشةِ
والمأساةُ تكتبه بأسماءَ مستعارة.

كلّ شيءٍ يُقلقني ..
الهواءُ الذي يمرُّ مشبّعاً بالأغلاطِ الإملائية
المجازاتُ التي تنمو مثل دماملَ في الأماكن الحسّاسةِ
حتى النافذةُ التي تُسرّبُ ضوءَ المعنى
للغرباء.
قلِقٌ جداً ..
قلِقٌ جداً ..

أراجعُ النصَّ، وليس لي نيّةٌ أن أصححَهُ
بل لأتأكدَ أن النزيفَ لم يتوقفْ
ثم أهربَ منه، فيسبقني.. ويضع رقبتي
على مشنقتهِ.
طالما احترقتُ وأنا أحاولُ أن أكتبَ
كأنني شمعة تجرّبُ أن تقرأ نفسها في الظلام.

القلقُ لا يطرقُ البابَ، يدخلُ عارياً
ويجلسُ على صدرِ الفكرةِ
فهو الضيفُ الوحيدُ الذي يعرفُ أسمائي القديمة.

القلقُ يا حبيبتي لا يُعلِّمُ
إنه يمرّنُ الذاكرةَ على العويلِ من الداخلِ
بصوتٍ غير مسموع،
هو لا يفكرُ مثلنا بالنهاياتٍ التي ستكسرُ التوقعَ
بل يُعلّقُ القلبَ من أذنهِ في مسمارٍ على الحائطِ
ثم ينسحب
لا يدري أن الكلماتِ التي لا تُطيعني تصابُ بي
ولا يدري أيضاً..
أنني كلّما أُصبتُ به،
أعدتُ ترتيبَ الغبارِ الذي تراكمَ على رأسي
وكأن الذكرياتِ قيمةٌ أثرية.

أبَجّلُ من يقلقونَ كثيراً
أكرعُ معهم كؤوسي كلَّ ليلةٍ وأبتهج
أنتظرهم يُطفئون الكلام، وبأنفسهم يكتبون،
هنا تنتهي القصيدةُ
هنا يبدأ القلقُ من جديد!."

ثامر سعيد/ العراق

النّصُّ الثّانِي

"كنتُ أظنّني أكتبُ

ما كنتُ أكتبُ،
لكنَّ مجنوناً في رأسي كان يُناكدُني،
حدّثني عن امرأةٍ
دخلتْ عليهِ مثلَ خطأٍ في التهجئةِ
فأعادتْ ترتيبَ اللغةِ على مقاسِ نبضِها
وكانت تقولُ له:
أنتَ جملةٌ ناقصةٌ،
وأنا الفكرةُ التي لا تستقرُ في خرائط الكلام،

منذ ذلكَ الحرفِ وهو يعوي كقاموسٍ مثقوب
ويخلطُ ما بينَ القُبلةِ والسكين
حتى اكتشفَ، أنَّ النحوَ كان ضدهُ من البداية.
ما كان يعرفُ كيف يُحبُّ
لكنّه يعرفُ تماماً كيف يَنسى،
لا يؤمن بالزواجِ من وردةٍ
أو عاصفةٍ ترابية
لكنّه يعتقدُ أنّ العيشَ بلا أسئلةٍ أفضل.

ثم حدّثني عن شجرةٍ توقفتْ عن النموِ
لأنّها نسيتْ كيف تكونُ شجرة
وقررت أن تصيرَ ظلاً يركضُ خلفَ الريح،
عن خطواتٍ لا تقودُ إلى مكان
ولحظاتٍ تُضيءُ ثم تختفي
كما لو أنّ الضوءَ نفسه خائفٌ من الحقيقة.

كنتُ أظنّني أكتبُ،
فإذا بالحروفِ تُشرّحُني في الهوامشِ
وتعقدُ محكمةً ضدي، كي أُدانَ فيها
بتهمةِ البلاغةِ الزائدةِ على جروحي

ما كنتُ أكتبُ، إذن؟
كانَ المجنون الذي في رأسي يحاولُ
أن يقنعني
أنَّ كلّ العصافير التي مرّتْ به
كانت كلماتٍ مبتورةً
سقطتْ من فمٍ ضائعٍ في الطريق،
وأنه لم يكن عاشقاً، كلّ ما فعله:
أنْ دخلَ على جملةٍ كانت تنامُ بهدوء
فأشعلَ فيها الفوضى،
ربما كان انكماشاً لغوياً أراد أن ينطق؟.

كنتُ أظنّني أكتبُ،
لكنّ الورقَ كان أذكى مني، تظاهر بالبياض
ثم استدرجني إلى اعترافٍ ظننتهُ نجاتي،
كلّ جملةٍ هطلتْ،
كانت تبتسمُ بخبثٍ،
كأنّها تعرفُ أني لستُ سوى ارتباكٍ يدوّنُ نفسه
على هيئة شاعر.

كنتُ أظنّني أكتبُ،
فإذا بي أحوّل النقطةَ إلى رصاصة
وعلامةَ التعجبِ إلى أصبع ديناميت،
فتتهدمُ الجدرانُ وتنزفُ الأسئلة."

ثامر سعيد / العراق

4

_ صياغةُ الْعتبتيْنِ:

الْعتبتانِ :
"الْقَلَقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ"
"كُنتُ أَظُنُّنِي أَكْتُبُ"
خريطةُ الْعتبةِ الْأولَى ثلاثيّةٌ :
الْقلقُ
لَا يطْرقُ
الْبابَ
تفيدُ شخْصنةَ الْقلقِ وهوَ لَا يسْتأْذنُ حينَ يهاجمُ الشّاعرَ.
صورةٌ تمْنحُ الْقلقَ وجودًا مرْئيًا ، كأنّمَا ذاتٌ تقفُ أمامَ الْبابِ ، يبْدُو الْقلقُ شخْصًا خارجًا، و الشّخْصُ الْآخرُ هوَ الْبابُ ، كنايةً عنِ الذّاتِ الّتِي لَا تنْتظرُ ، فيقْتحمُ بِجرْأةٍ ودونَ إشْعارٍ...
الْعتبةُ الثّانيّةُ تماثلُ الْأولَى منْ حيْثُ التّرْكيبُ اللّغوِيُّ:
كنْتُ
أَظُنُّنِي
أكْتبُ
تحْملُ دلالةَ الشّكِّ وهيَ دلالةٌ نابعةٌ منَ الْقلقِ وارْتباكِ الْموْقفِ...
ألاحظُ اخْتلافَ الْمبْنَى، لكنَّ الصّيغةَ مبطّنةٌ تشيرُ إلَى نفْيٍ يتضمّنُ إثْباتًا، شكٌّ يؤدِّي إلَى الْيقينِ...
الْعتبةُ الْأولَى تدلُّ علَى حضورِ الْقلقِ كَمعاناةٍ مزْمنةٍ وكَمُتلازمةٍ شعْريّةٍ ، تُنْتجُ يقينًا أنَّ الْقلقَ مقيمٌ لَاينْفكُّ عنْ مُلازَمةِ الشّاعرِ قبْلَ وبعْدَ الْكتابةِ...
يؤكدُّهَا مطْلعُ النّصِّ:
"أرْتجفُ كأنِّي اسْتعرْتُ أصابعِي منْ نبيٍّ مذْعورٍ"
يَكْفِي قراءةُ فعْلِ الْارْتجافِ ، ونعْتِ الذّعْرِ، والشّكِّ فِي اسْتعارةِ أدواتِ الْكتابةِ يعْنِي الْأصابعَ...
الصّورةُ تحقّقُ هدفَهَا بِربْطِ الْاسْتعارةِ بِالنّبيِّ الْمذْعورِ.
صورةٌ مدْهشةٌ بِاسْتحْضارِ شخْصيّةٍ (طابُو) فِي الْوعْيِ الْعربيِّ، وكأنَّ الْمعْنَى الْخفِيَّ يحيلُ إلَى قداسةِ الْكتابةِ ، إنّهَا نبويّةٌ مشيرًا بِوعْيِهِ ولَاوعْيِهِ إلَى لحْظةِ نزولِ الْوحْيِ علَى النّبيِّ، ذكّرنَا بِذعْرِهِ حينَ جاءَ مرْتجفًا:
"زمّلينِي" ...!
وقفْلتُهُ تعْكسُ ذلكَ حينَ يقولُ :
"هنَا تنْتهِي الْقصيدةُ
هنَا يبْدأُ الْقلقُ منْ جديدٍ"
بِأنَّ حالةَ الْقلقِ تتقمّصُهُ بدايةَ الْكتابةِ ونهايتَهَا ، مؤكّدًا أنَّ اسْتمرارَ الْقلقِ رهينٌ بِاسْتمْرارِ الرّغْبةِ فِي الْكتابةِ ، لِأنَّ نهايةَ قصيدةٍ هوَ بدايةٌ جديدةٌ لِولادةِ قصيدةٍ
إنَّهُ الْقلقُ الْولّادُ...
فِي منْطوقِ الْعتبةِ الثّانيّةِ تقومُ علَى ثنائيّةِ الشّكِّ والْيقينِ، إذَا كانَ الْقلقُ حافزًا ، فإنَّ الشّكَّ بِدوْرِهِ حافزٌ أيْضًا :
"مَا كنْتُ أكْتبُ ،
لكنَّ مجْنونًا فِي رأْسِي يُناكدُنِي"
وكأنَّ الْقلقَ هوَ الْمجْنونُ عيْنُهُ.
هلْ رأيْنَا مجْنونًا يسْتقرُّ دونَ قلقٍ... ؟
صورةٌ حاضرةٌ بِدلالتيْنِ، أوَليْسَ الْجنونُ قلقًا ...!؟
هوَ تقمّصٌ دلالِيٌّ يجْعلُنِي أسْتنْتجُ أنَّ الْقلقَ جنونٌ يسْتوْطنُ الذّاتَ الشّاعرةَ ، يجْعلُ الشّاعرَ يتخيّلُ كائنًا يفكّرُ داخلَهُ ،
كيْنونةٌ انْشطرَتْ قلقًا /جنونًا /هيَ الْبوْصلةُ...
وهوَ شكٌّ انْتفَى فِي آخرِ النّصِّ الثّانِي قفْلةً قالَتْ :
"فإذَا بِي أحوّلُ النّقْطةَ إلَى رصاصةٍ وعلامةَ التّعجّبِ إلَى أصْبعِ ديناميتٍ
فتتهدّمُ الْجدْرانُ ، وتنْزفُ الْأسْئلةُ... "
إنَّهُ الْقلقُ الّذِي يتفجّرُ أَسْئِلَةً...
أنْتهِي منَ التّقابلِ التّيمِاتِيِّ والْعتباتِيِّ إلى نتيجةٍ واحدةٍ:
أنَّ النّصّيْنِ اشْتغلَا بِنْفْسِ الْمنْطقِ ، وإنْ تعارضَتِ الْمونيماتُ والْفونيماتُ...
وهيَ تقْنيّةٌ نجحَ الشّاعرُ ثامرُ فِي نسْجِهَا بِكيْفيّةٍ عميقةٍ...

5
_ ملاحظةٌ لابدَّ منْهَا :

لمْ يعْتمدِ النّصّانِ هنْدسةً بصريّةً تجْعلُ الرّؤْيةَ قراءةً بليغةً ، والْمقاطعَ نسقًا متمفْصلًا يمْنحُ النّقْدَ مساحةً تمكّنُ التّقابلَ منْ تحْقيقِ الْمقارنةِ بيْنَ محْمولاتِ التّيمتيْنِ بِتساوقٍ معَ إشْكاليّةِ علاقةِ الشّاعرِ بِالْقلقِ الْكتابـيِّ والشّكِّ ؛ الّذِي اعْتُبِرَ مقوّمًا أساسيًّا فِي الْفلْسفةِ ، خلقَ خلْخلةً بيْنَهُ والشّعْريّةِ وهوَ يصوغُ شاعريّتَهُ بِحكْمةٍ قويّةٍ وعمْقٍ فلْسفِيٍّ ، يُنْتجُ حوارًا ذكيًّا بِلغةٍ سلْسةٍ حوّلَتِ قضيّةً فلْسفيّةً إلَى لوْحةٍ شعْريّةٍ ، لمْ يؤثّرْ فِي صياغةِ إشْكالِهَا أسْلوبٌ يميلُ لِبنْيةِ السّرْدِ الشّعْرِيِّ ، ذلكَ يعْنِي أنَّ الْكتابةَ الْحداثيّةَ تنْتهكُ الْقواعدَ الْمرْسومةَ ، وتؤسّسُ لِكتابةٍ عابرةٍ لِأجْناسٍ أخْرَى دونَ الْوقوعِ فِي فخِّ النّثْرِالْعادِيِّ ...
إنَّهَا كتابةٌ تخْترقُهُمَا معًا بِعمليّةِ الْحكْيِ والْوصْفِ ، معْتمدًا خطابَ الْمتكلّمِ والْمونولوغِ معَ ذاتِهِ منْفصلًا عنْهَا تارةً ؛ متّصلًا بهَا تارةًأخْرَى ، مرْفقًا ذلكَ بِحوارٍ مقْتضبٍ ، لَا يخلُّ بِالْإيقاعِ الشّعْرِيِّ إطْلاقًا .
هنَا نقطُ قوّةٍ لَا ضعْفٍ ، مسْتعْملًا فِي تجْربتِهِ أفْعالَ الْمضارعِ بِكثافةٍ فِي نصِّ "كنْتُ أظُنُّنِي أكْتبُ" 41
و منْ غيْرِ إغْفالٍ لِلْفعْلِ الْماضِي 34 ،
66 فعْلِ مضارعٍ نصُّ " الْقلقُ لَا يطْرقُ الْبابَ " الّذِي سيْطرَ فيهِ أكْثرَ، و10 فقطْ كانَتْ منْ حظِّ الْماضِي ،
وهوَ بِهذَا التّوْزيعِ اللّامتكافِئِ يشيرُ إلَى اللّحْظةِ الْحاضرةِ فِي الْقلقِ ،( لَايطْرقُ / أرْتجفُ / أفكّرُ / لَا أكْتبُ /أقولُ / لِأتخلّصَ / يخْنقُنِي / يُخيفُنِي/ أعْثرَ / تمْلأَ / يفْهمُ / يحْزنُ / لَايكْفِي / أخافُ / تنْهارُ/ تتظاهرُ / أدْفنُ / تعْرفُ /
لَا أضْربَ/ يُقْلقُنِي / يمرُّ /تنْمُو / تُسرّبُ /أراجعُ /أصحّحُهُ / لِأتأكّدَ / لمْ يتوقّفْ / أهْربُ / يسْبقُنِي / يضعُ / أحاولُ / تجرّبُ / تقْرأَ / يدْخلُ /يجْلسُ / يعْرفُ / لَايُعلّمُ /يُمرّنُ / لَايفكّرُ / تكْسرُ /يُعلّقُ/ ينْسحبُ/ لَاتطيعُنِي/ تُصابُ / لَايدْرِي / أُبجّلُ/ يقْلقونَ/ أكْرعُ/ أبْتهجُ/ أنْتظرُهُمْ /يُطْفئونَ/ تنْتهِي/ يبْدأُ/) مسْتدْعيًا إيّاهَا فِي النّصِّ الثّانِي :
" كنْتُ أظُنُّنِي أكْتبُ " بِواسطةِ الْفعْليْنِ معَ تفاوتٍ ملْحوظٍ كَتذكّرٍ حاضرِ فِي سيْرورةٍ زمنيّةٍ لَاتنْتهِي فِي ذاكرةِ الشّاعرِ، علْمًا أنَّ التّكْرارَ تمَّ علَى مسْتوَى فعْلِ (كتبَ )كَفعْلٍ مرْكزِيٍّ ، تكرّرَ 8 مرّاتٍ معْظمُهَا فِي صيغةِ النّفْيِ، وواحدةٌ فقطْ في صيغةِ الْجمْعِ الْمذكّرِ السّالمِ آخرَ النّصِّ ، الّذِي صاغَهُ الشّاعرُ جمْعًا ، بيْنمَا أفْعالٌ أخْرَى تكرّرَتْ مرّتيْنِ فقطْ مثلًا:
( لَايطْرقُ / لَايدْرِي /أرْتجفُ / أخافُ / تنْهارُ _ أنْهارُ /أضْربُ _لَاأضْربَ / تعْرفُ _يعْرفُ )
والْجمْعُ مثلًا( يكْتبونَ / أنْتظرُهُمْ /يطْفئونَ /يقْلقونَ ) ...
هكذَا يرْسمُ الشّاعرُ الْعراقيُّ خريطةً لِفعْلٍ لهُ دلالةُ الْاسْتمْرارِ ، ولمْ تحْظَ الْخريطةُ بِحضورِ الْفعْلِ الْماضِي إلَّا قليلًا وفْقَ اخْتيارِهِ...

6
_ هلْ لِلنّصِّ الثّانِي هذَا الْمفْتاحُ...؟

تتميّزُ الْخريطةُ اللّغويّةُ فِي النّصِّ الثّانِي
" كنْتُ أظُنُّنِي أكْتبُ "
حينَ عاينْتُ مفاتيحَ التّيمةِ كانَتِ السّيْطرةُ لِفعْلِ الْمضارعِ بِ 41 فعْلٍ حظيَ فعْلُ (أكْتبُ ) بِحضورِهِ 6 مرّاتٍ مقابلَ حضورِ فعْلِ (أظنُّ ) بِ 4 مرّاتٍ بيْنمَا فعْلُ ( يعْرفُ ) كانَ 3 تكْراراتٍ وفعْلُ (تكونُ ) تكرّرَ 2 مرّتيْنِ ، بِغضِّ النّظرِ عنْ كوْنِهِ مجْزومًا أوْ يصْحبُهُ نفْيٌ ...
باقِي الْأفْعالِ حضرَتْ دونَ تكْرارٍ ، معَ الْإشارةِ أنًّ اللّازمةَ :
(مَاكنْتُ أظُنُّنِي أكْتبُ ) 3مرّاتٍ
و (مَاكنْتُ أكْتبُ) مرّتيْنِ ...
ألاحظُ أنَّ فعْلَ الْماضِي فِي نفْسِ الْخريطةِ يقاربُ بِ 34 فعْلٍ ، تصدّرَ الْفعْلُ( كانَ) قمّةَ الْأفْعالِ عكْسَ الْمضارعِ بِ 15 تكْرارٍ ،تارةً منْفيًا وتارةً غيْرَ منْفيِّ ، لِيأْتيَ فعْلُ( حدّثَنِي) فِي الْمرْتبةِ الثّانِيّةِ بِ تكْراريْنِ فقطْ، وسجّلْتُ غيابًا لِلْجمْعِ عكْسَ نصِّ الْقلقِ ...
منْ ملاحظةِ هذَا التّباينِ فِي نسَبِ التّكْراراتِ :
66 أفْعالٌ مضارعةٌ / 10 ماضيةٌ
(النّصُّ الْأوّلُ)
41 أفْعالٌ مضارعةٌ / 34 ماضيةٌ
( النّصُّ الثّانِي )
أسْتنْتجُ أنَّ مساحةَ الْفعْلِ الْمضارعِ كانَتْ متقاربةً ، بيْنمَا تضيقُ بيْنَهُمَا فِي اسْتعْمالِ الْماضِي ، لكنَّهَا لمْ تؤثّرْ علَى مسارِ النّصّيْنِ...

7
_ تفْكيكُ الرّسالتيْنِ :

فِي النّصِّ الْأوّلِ الْقلقُ لهُ تأْثيرٌ قويٌّ علَى شخْصيّةِ الشّاعرِ ، يجسّدُهُ ارْتجافُهُ ، وهوَ يصفُ وقْعَهُ نفْسيًا عليْهِ لِدرجةِ تصوّرِهِ أنَّهُ اسْتعارَ الْأصابعَ؛ لمْ يعْرفْ أنَّهَا لهْ ، ولمْ يدْركْ أنَّ حالةَ الْقلقِ أوْهمتْهُ أنَّهَا ليْسَتْ أصابعَهُ ، فخلعَ عليْهَا صورةَ نبيٍّ مذْعورٍ ، وهيَ صورةٌ بليغةٌ تمكّنَ منْ خلالِهَا نقْلَ الذعْرِ إلَى الْمتلقِّي ، يدْعوهُ إلَى فهْمِ حالةِ قلقٍ تنْتابُهُ كلّمَا باشرَ الْكتابةَ بِدقّةٍ :
"الْقصيدةُ رعْبٌ" و" النّبيُّ المذْعورُ" صورةٌ انْزياحيّةٌ قويّةٌ ، يجْعلُهُ يفكّرُ في حذْفِ مَاكتبَ ،
لحظةُ الْمحْوِ لحْظةُ عنْفٍ وقهْرٍ قسْرِيٍّ أوْصلَهُ إليْهَا خوْفُهُ منَ الْكتابةِ ، وهيَ رسالةٌ واضحةٌ لِلّذينَ يسْتسْهلونَهَا ؛ رعْبٌ يفكّرُ خلالَهُ بِمحْوِ وجْهِهِ مسْتعْملًا لفْظةَ "الْحذْفِ" انْسيابُ كلماتٍ : (الْارتجافُ _الذّعْرُ _الْحذْفُ _) كلماتٌ ذاتُ مضْمونٍ عنيفٍ :
"أفكّرُ كثيرًا فِي حذْفِ كلِّ شيْءٍ منَ النَّصِّ حتَّى وجْهِي".

_ هلْ تمارسُ الْكتابةُ عنْفًا بِهذَا الْحجْمِ...؟

الْكتابةُ لدَى الشّاعرِ هيَ الْخلاصُ منَ الْقلقِ ، فهوَ لَايكْتبُ لِيكْتبَ ، بلْ لِيتحرّرَ منْ الْقوْلِ الْمُقْلقِ :
" لَا أكْتبُ فِي الْعادةِ لِأقولَ شيْئًا ،
بلْ لِأتخلّصَ منَ الْقوْلِ الّذِي يخْنقُنِي"
إنَّهَا تحرّرُهُ منَ اخْتناقِ اللّغةِ ، رعْبٌ يتمثّلُ فِي وجودِ "جمْلةٍ كاملةٍ"دونَ أنْ تصْرخَ ، الْجمْلةُ لديْهِ صرْخةٌ لَامجرّدُ كتابةٍ :
" يخيفُنِي أنْ أعْثرَ علَى جمْلةٍ كاملةٍ
دونَ أنْ تمْلأَ غرْفتِي بِالصّراخِ
مثْلَ مراهقةٍ ضاجعَهَا حلمٌ عنيفٌ "
اسْتبْدلَ الْكابوسَ بِالْحلْمِ لِيصوّرَ عنْفَ لحْظةِ الْالْهامِ ، لَايُسْتساغُ فعْلٌ جنْسيٌّ "الْمضاجعةُ" بِالْعنْفِ والصّراخِ ،
لكنَّ الشّاعرَ قصدَ بِهذَا الْإبْدالِ والتّقابلِ بيْنَ صورتيْنِ متناقضتيْنِ ، التّأْكيدَ علَى صعوبةِ إنْتاجِ خطابٍ شعْرِيٍّ.
شبّهَ لحْظةَ الْولادةِ بِفعْلٍ جنْسيٍّ اتّسمَ بِالْعنْفِ ، وهيَ الْفكْرةُ الْواردةُ فِي النّصِّ الثّانِي :
( كنْتُ أظنُّنِي) حينَ قالَ:
" كانَتْ تقولُ لهُ:
أنْتَ جمْلةٌ ناقصةٌ ،
وأنَا الْفكْرةُ الّتِي لَاتسْتقرُّ فِي خرائطِ الْكلامِ "
هوَ ردٌّ مباشرٌ علَى قولِهِ :
لِهذَا يخافُ الْعثورَ علَى الْجمْلةِ "الْكاملةِ " إنَّهَا الْجمْلةُ الّتِي يخافُهَا ، لِأنَّهُ كانَ فِي النّصِّ (كنْتُ أظنّنِي ) "جمْلةً ناقصةً"
"وكانَتِ الْفكْرةُ الّتِي لَا تسْتقرُّ فِي خرائطِ الْكلامِ"
تقابلٌ يجْعلُ الْبحْثَ عنِ الْكمالِ فِي الْكتابةِ مسْألةَ قلقٍ وارْتباكٍ ، يصلُ حدَّ الرّعْبِ الّذِي يؤدِّي إلَى محاولةِ حذْفِ وجْهِهِ ...
مَالاحظْتُهُ أنَّ الظّاهرَ معاناةٌ منَ اللّغةِ أثْناءَ كتابةِ الْقصيدةِ ، لكنَّ الْخفيَّ وراءَ الْمعْنَى معاناةٌ لمْ يصرّحْ بهَا علنًا ، أتَى بهَا رمْزيًا عبْرَ آليّةِ الْتّوْريةِ والْكنايةِ فِي جمْلتيْنِ :
(الْخطأُ_الْجمْلةُ الْكاملةُ) كَتقابلٍ يقولُ مَا لَايقالُ مباشرةً ، لِينْتهيَ التّقابلُ ثنائيّاتٍ تعْكسُ توثّرَ الْقلقِ والظّنِّ كَمرادفيْنِ ، يتوازيانِ فِي عمليّةِ الْكتابةِ حيْثُ اسْتعْملَ:
الْقبْلةَ/ ضدَّ السّكّينِ ،
و مَاكانَ يعْرفُ / عكْسَ يعْرفُ ،
وكيْفَ يحبُّ /كيْفَ ينْسَى ،
مؤكّدًا علَى الصّمْتِ قائلًا:
"لكنَّهُ يعْتقدُ أنَّ الْعيْشَ بِلَا أسْئلةٍ أفْضلُ."

8

_ هلْ صحيحٌ أنَّنَا نسْعدُ حينَ نلْتزمُ الصّمْتَ كمَا ورّثَتْهُ لنَا ثقافتُنَا "إذَا كانَ الْكلامُ منْ فضّةٍ ،فإنَّ السّكوتَ منْ ذهبٍ"...؟

ذاكرتِي مليئةٌ بِأمْثالٍ تؤكّدُ هذَا السّلوكَ :
"الْفمْ الْمزْمُومْ مَا تْدُخْلُو ذَبّانَةْ"معْناهُ أنَّ الصّامتَ لَا يتأذَّى ، كَفمٍ مغْلقٍ لنْ يدْخلَهُ الذّبابُ...
"مْنِينْ جَاتَكْ الْعافْيَةْ ؟ مَنْ فَمِّي أمُولَايْ "
أيْ لوْ لمْ تتكلّمْ مَا جلبْتَ الْمشاكلَ .
هذانِ مثلانِ منَ الثّقافةِ الشّفهِيّةِ الْمغْربيّةِ لِلدّلالةِ علَى تفْضيلِ الصّمْتِ فنقولُ:
" لَكْلامْ كْثِيرْ والسْكَاتْ حْسَنْ "
إنَّ النّصَّ الثّانِي سمّيْتُهُ نصَّ (الشّكِّ والذُّعْرِ والْجنونِ) يعْطينَا صورةً انْزيّاحيّةً تسْتبْدلُاللّغةَ بِالْمرْأةِ وتشبّهُهَا بِخطإٍ :
"دخلَتْ عليْهِ مثْلَ خطإٍ فِي التّهْجئةِ"
تتحوّلُ شخْصًا يتحدّثُ ويُنبّهُهُ ، أنّهَا لَا تكونُ ثابتةً ؛ بلْ تحْملُ معانٍ متعدّدةً :
"وأنَا الْفكْرةُ الّتِي لَا تسْتقرُّ فِي خرائطِ الْكلامِ"
وقدْ وردَ التّشْبيهُ بيْنَ اللّغةِ والْمرْأةِ عنْدَ شعراءَ سابقينَ كَ"حافظْ إبراهيمْ"حينَ قالَ:
"ولدْتُ ولمَّا لمْ أجدْ لِعرائسِي *** رجالًا أكْفاءَ وأدْتُ بناتِي "
يتحدّثُ الشّاعرُ عنْ مراودةِ اللّغةِ /الْمرْأةِ ، وهوَ مجازٌ ذو دلالةٍ لغويّةٍ فِي سيّاقِ التّيمةِ يشيرُ إلَى وعْيِ الشّاعرِ بِقيمةِ اللّغةِ كَحاملٍ لِلدّلالةِ ،

_ فهلْ نعْتبرُ الْخطأَ إحالةً إلَى صيغةِ الشّخْصنةِ ...؟
هلْ وعْيُ الْكتابةِ منْ خلالِ تشبيهٍ مزْدوجٍ تنْبيهٌ بِأنَّهُ الْجمْلةُ النّاقصةُ وهيَ الْفكْرةُ غيْرُ الْمسْتقرّةِ ، لكنّهَا ( الْخطأُ ) يثيرُ إشْكاليّةَ الْعقْليّةِ الّتِي تشبّعَتْ بِقيمٍ لَا ترَى الْمرْأةَ وجودًا كاملًا ، إنَّهَا الْحرْفُ / الْخطأُ / الْمرْأةُ/؟

كَرؤْيةٍ نقْديّةٍ ومنْ مرْجعيّةٍ حقوقيّةٍ نسائيّةٍ ، لابدَّ أنْ أحطَّ الْأصْبعَ علَى الْجرْحِ دونَ أيِّ مسٍّ بِجماليّةِ النّصِّ ،
إنَّه جرْحُ اللّاشعورِ الْجمْعِيِّ ، لَا يخصُّ الرّجالَ فقطْ بلْ والنّساءَ أيْضًا ، وإنْ لنْ يتّفقَ معَ رؤْيتِي الْجميعُ بِحجّةِ حيادِ الشّعْرِ عنِ الْجنْدرةِ ، إلَّا أنِّي أسجّلُ ملاحظتِي دونَ أنْ تقفَ ضدَّ الموضوعِ ، بلْ ضدَّ الْعقْليّةِ الّتِي لهَا كاملُ الْمسْؤوليّةِ فِي بنْيةِ اللّغةِ منْذَ شرّعَ قواعدَهَا "سيبويْهْ" ، ولمْ تتحلْحلْ عنْ موْروثٍ قديمٍ منْ زمنِ غارقٍ فِي إعادةِ إنْتاجِ نفْسِهِ دونَ تغْييرٍ فِي الْقواعدِ ومضامينِهَا...
لكنَّ الشّاعرَ ينْتهِي إلَى خلاصةٍ تعْتبرُ اللّاسؤالَ يقينًا ، وهيَ نتيجةٌ ناقضَتْ نفْسَهَا بِصيغةٍ إيجابيّةٍ في الْقفْلةِ.
فقالَ معْترفًا:
" وتنْزفُ الْأسْئلةُ "
بيْنَ الْاعْتقادِ بِأنْ نعيشَ دونَ سؤالٍ لِأنَّ :
"السّؤالَ بدْعةٌ ؛ وكلُّ بدْعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ فِي النّارِ."حسبَ منْطوقِ التّراثِ الْعربِيِّ، وضرورةِ النّزْفِ تتحوّلُ النّقْطةُ رصاصةً ،
و التّعجّبُ ديناميتًا، تسيلُ الْأسْئلةُ ...
إنَّهُ اعْترافٌ بِأنَّ الصّمْتَ لحْظةٌ عابرةٌ سرْعانَ مَا تغْدُو متواليّةً منَ التّساؤلاتِ ،
وهذهِ فكْرةٌ تردُّنَا إلَى أهمّيّةِ الْأسْئلةِ فِي بنْيةِ الشّعْرِ تتماثلُ وبنيةَ الْفلْسفةِ منْ منْظورِ "بِرْتْرانْدْراسَلْ" الّذِي يعْتبرُ:
"السّؤالَ أهمَّ منَ الْجوابِ ، لِأنَّ كلَّ جوابٍ يتحوّلُ إلَى سؤالِ ..."
إنَّ الشّاعرَ الْعراقيَّ انْتبهَ بِشكْلٍ مميّزٍ إلَى تقاطعِ الْبنْيتيْنِ الْأدبِيّةِ والْفلْسفيّةِ ،
وهيَ فكْرةٌ جيّدةٌ تشيرُ إلَى توْأمةٍ تناصّيّةٍ تثْرِي الْجنْسيْنِ كَظاهرةٍ تنْتمِي إلَى الْعلومِ الْإنْسانيّةِ بِامْتيازٍ...
يكْتبُ عنِ الْخطإِ /الْمرْأةِ الّذِي صارَ شجرةً ،
مَا أرْوعَ تشبيهَ اللّغةِ /الْمرْأةِ بِهذَا الْكائنِ الْأخْضرِ ...!
إلَّا أنَّهَا تغيّرَتْ :
"ثمَّ حدّثَنِي (الْمجْنونُ/ هوُ نفْسهُ خلعَ شخْصيّةً منْ داخلِهِ ، انْشطرَتْ شخْصيْنِ :
الشّاعرُ/الْمجْنونُ )
تقمّصٌ جعلَهُ ينْظرُ منَ الذّاتِ بِالذّاتِ نفْسِهَا لِشجرةّ
توقّفَتْ عنِ النّموِّ،
لِأنَّهَا نسيَتْ كيْفَ تكونُ شجرةً،
وقرّرَتْ أنْ تصيرَ ظلًّا يرْكضُ خلْفَ الرّيحِ."
صورةُ الشّجرةِ جميلةٌ وبراعةُ الشّاعرِ تجلَّتْ فِي تشْبيهِ اللّغةِ بِالشّجرةِ ، وبِالْمرْأةِ ،
لكنَّ الصّورةَ الْبرّاقةَ تنْمحِي منَ الذّهْنِ ، حينَ نلْمسُ الظّلَّ وليْسَ الشّجرةَ ،منْهيًا الْحديثَ بِصورةٍ سوْداويّةٍ بِقوْلِهِ :
" كمَا لوْ أنَّ الضّوْءَ نفْسَهُ خائفٌ منَ الْحقيقةِ ."
إشارةٌ خفيّةً إلَى واقعٍ يعيشُ معاناتِهِ الْخاصّةَ وحْدَهُ والْقصيدةُ ،
ذكّرَنِي بوْحُهُ هنَا بِعنْوانِ مجْموعةٍ شعْريّةٍ ، قرأْتُ فِيهَا أيْضًا إشارةً إلَى مجْموعةٍ شعْريّةٍ لهُ ، وهوَ فعْلٌ ثقافِيٌّ محْمودٌ كَذاكرةٍ وفيّةٍ دونَ النّبْشِ فِي الْخلْفياتِ...
مقْطعٌ يكْشفُ توثّرَ الذّائقةِ لدَى الشّاعرِ " ثامرَ" يخْتمُهُ سؤالٌ مشْروعٌ :
كيْفَ يخافُ الضّوْءُ منَ الضّوْءِ ...؟
أليْسَتْ صورةً خياليّةً أنْ يخافَ الضّوْءُ/الْحقيقةُ منْ نفْسِهِ ، والْحقيقةُ ضوْءٌ ...؟

9
_ مَالاحظْتُهُ فِي النّصِّ ؛ أنَّ صيغةَ النّفْيِ الّتِي افْتُتِحَ بهَا النّصُّ تتضمّنُ صيغةَ الْإثْباتِ فيقولُ :
" لكنَّ مجْنونًا فِي رأْسِي كانَ يُناكِدُنِي"
أيْ أنَّ شخْصيّةَ الْكاتبِ لحْظةَ الْكتابةِ ، ليْسَتْ هيَ شخْصيّتَهُ قبْلَ الْكتابةِ ، صارَ الْجنونُ هوَ الْكتابةُ ، تجسّدَتْ فِي صورةِ امْرأةٍ وهوَ توظيفٌ تقابلِيٌّ تقمّصَتْ فيهِ اللّغةُ شخْصيّةَ الْمرْأةِ ، ينْتجُ عنْ هذَا التّقابلِ أنْ يصْبحَ الرّأْسُ حلبةَ صراعٍ بيْنَ الْمجْنونِ واللّامجْنونِ ؛ وهمَا شخْصيّةٌ واحدةٌ متآلفةٌ ومتنافرةٌ ، تعْترفُ بِأنَّ الْخطأٌ الّذِي اتّخذَ شكْلَ امْرأةٍ حوّلَ الْقاموسَ ثقوبًا (السّكّينُ والْقبْلةُ) ؛ وأعادَ ترْتيبَ اللّغةِ...
وقدْ شملَ هذَا الْجزْءُ صورًا سلْبيّةً انْتهَتْ إلَى يأْسٍ يوازِي قلقَهُ تحدّدَ فِي خاصّيةِ الْخوْفِ منَ الْحقيقةِ...
إنَّهَا نهايةُ ترْبطُ الصّمْتَ الّذِي حثَّ عليْهِ تجنّبًا لِلْأسْئلةِ بِالْخوْفِ الّذِي اخْتلطَ فيهِ الضَّوْءُ بِالْحقيقةِ...
إنَّهَا اللّازمةُ تكرّرَتْ 3مرّاتٍ :
"مَاكنْتُ أنَا الّذِي أكْتبُ،
لكنَّنِي كنْتُ أظنُّنِي أكْتبُ"
وهذَا يحيلُ فِي اللّازمةِ نفْسِهَا النّافيةِ الْمتسائلةِ:
مَاكنْتُ أكْتبُ إذنْ ؟
سؤالٌ يرْتدُّ إلَى الذّاتِ يسْألُهَا الْمجنونُ /اللّامجْنونُ :
ماذَا كنْتُ أكْتبُ...؟
نفْيٌ واسْتفْهامٌ وإثْباتٌ
تكرّرَ مرّتيْنِ فِي أوّلِ النّصِّ ، وتكرّرَ كنْتُ أظنُّنِي أكْتبُ
3 مرّاتٍ جوابًا ضمْنيًا . تخلّلَ هاتيْنِ اللّازمتيْنِ بيْنَ السّؤالِ والْجوابِ تشْبيهُ
الْكلماتِ / بِالْعصافيرِ
لكنَّهَا مبْتورةٌ سقطَتْ ، والسّقوطُ يفيدُ أنَّ مَنْ أسْقطَهَا كانَ فمًا ضائعًا لَا عاشقًا...
سرْعانَ مَا ينْتبهُ إلَى فعْلِه كَيقظةِ وعْيٍ فتأْتِي صورةٌ إيجابيّةٌ تصحّحُ الْمسارَ صدْفةً ربّمَا :
" كلُّ مَا فعلَهُ أنْ دخلَ علَى جمْلةٍ كانَتْ تنامُ بِهدوءٍ فأشْعلَ فيهَا الْفوْضَى...
ربَّمَا كانَ انْكماشًا لغويًّا
أرادَ أنْ ينْطقَ... ؟"
يسْتمرُّ الْمجنونُ فِي لعْبتِهِ واعْترافِهِ هوَ حديثٌ بيْنَ النّصْفِ الْيقظِ والنّصْفِ الشّبْهِ نائمٍ فِي الذّاتِ الشّاعرةِ ، بلاغةٌ تعْكسُ كيْفَ تحوّلَتِ اللّغةُ منْ حالةِ الْكمونِ (الْانْكماشِ)
إلَى( الْوجودِ )،ومنْ حالةِ التّيهِ والْارْتباكِ إلَى حالةِ الْعشْقِ ،معْترفًا،أنًّ الْكتابةَ عشْقٌ والشّاعرُ الْحقُّ هوَ الْعاشقُ .
( إرادةُ النّطْقِ) ،
فيتحقّقُ الْكمالُ...

10
يسْتمرُّ فِي نصِّ الْقلقِ واصفًا حزْنَ الشّاعرِ دونَ فهْمٍ أوْ تفْسيرٍ لِأسْبابِ هذهِ الْحالةِ ، وتُعادُ صيغةُ
" الْجملِ النّاقصةِ" لِتكثّفَ حرْنَهُ ، مشبّهًا اللّغةَ بِ :
"الْخنْجرِ فِي حنْجرتِهِ"
حينَ تتحوّلُ اللّغةُ لِأداةٍ حادّةٍ شاحذةٍ ، فإنَّ توقّعاتِ الشّاعرِ هوَ أنْ يسيلَ الْحبْرُ علَى الْورقِ ، مقدّمًا صورةً مجازيّةً تتخيّلُ اللّغةَ خنْجرًا ؛ والْورقَ بياضًا والْمدادَ دمًا غزيرًا ، مجازٌ يمْنحُ اللّغةَ قوّةَ الْحضورِ ، فالْخنْجرُ يتلاءمُ والدّمَ الّذِي يصوّرُ الْحالةَ دفْقًا لَا يتوقّفُ ، واللّغةُ مَالمْ تجْرحْ فهيَ تفْقدُ قيمتَهَا ،
صورةٌ جامحةٌ وخيالٌ منْجرفٌ يجْعلُ الْمتلقِّي يتخيّلُ الْبْروفةَ منْ خلالِ تطابقٍ وتوْأمةٍ مشْروعةٍ بيْنَ الْخنْجرِ والدّمِ ؛ بيْنَ الْبياضِ والْورقِ ؛ مسجّلًا مدَى صعوبةِ الْكتابةِ بِتقابلٍ انْعكاسيٍّ الدّمُ غزيرٌ كنايةً عنْ ولادةِ الْمعْنَى مرْتبطًا بِمبْناهُ ، ولِعدمِ كفايةِ الْبياضِ ، تغْدُو اللّغةُ أكْبرَ منْ مساحةٍ ورقيّةٍ كانَتْ بياضًا ، فتدفّقَتْ مشيرًا إلَى لحْظةٍ الْولادةِ بعْدَ مخاضٍ عسيرٍ "الطّلْقِ" ..
وتسْتمرُّ حالةُ الْخوْفِ كَالْقلقِ ،
لحْظةٌ محفّزةٌ تتوثّبُ فيهَا الْأعْصابُ والْمشاعرُ ؛ وتلْتهبُ الْخلايَا ، فيحْتلُّ أسْلوبُ الْمتقابلاتِ والثّنائيّاتِ الْمتضادّةِ فِي اللّعْبةِ الْأبْداعيّةِ أهمّيّةً تناسبُ فعْلَ الْإبْداعِ ، فالْخوْفُ لازمةٌ نفْسيّةٌ كَالْقلقِ والتّوثّرِ ، الّذِي يجْعلُ وضْعيّةَ الشّاعرِ تتأرْجحُ بيْنَ الشّكِّ والْيقينِ ؛ بيْنَ الْقلقِ والْهدوءِ ؛ لحظةٌ حرجةٌ كمَا عكسَهَا بِبراعةٍ :
" أخافُ أنْ أكْتبَ فتنْهارَ الدّنْيَا علَى رأْسِي ، أخافُ ألَّا أكْتبَ ، فأنْهارَ أنَا"
خوفٌ منَ الْكتابةِ واللّاكتابةِ يولّدُ انْهيارًا تزْدوجُ حالتاهُ ، فِي حالةِ التّطْويعِ وحالةِ الْعصْيانِ ، تصْويرٌ بلاغِيٌّ يصلُ قمّتَهُ حدَّ الْقوْلِ:
"فِي كلِّ مسْودّةٍ أدْفنُ شاعرًا ظنَّ أنَّهُ نجَا منْ بلاغةِ حذْفِهِ"
وصفٌ دقيقٌ يسْتمرُّ فيهِ دونَ انْقطاعٍ وبِسلاسةٍ، بيْنَ الْانْهيارِ وتفاقمِ الْقلقِ تأْتِي صورةُ الضّرْبِ والْجدارِ صورةً إضافيّةً تفسّرُ وتدعّمُ ،
فهوَ إنْ كتبَ يخافُ ، وإنْ لمْ يكتُبْ يخافُ،
لِهذَا اعْتبرْتُ الْخوْفَ متلازمةً لَا مجرّدَ لازمةٍ ، متلاعبًا بِتبادلِ الْفعْليْنِ:
"أكْتبُ كيْ لَا أضْربَ رأْسِي فِي الْجدارِ ،
ثمَّ أضْربُ رأْسِي فِي الْجدارِ
لِأكْتبَ..."
لعْبةُ المتناقضاتِ بِصيغتيْنِ مخْتلفتيْنِ: النّفْيُ / الْإثْباتُ
أكْتبُ /تنْهارُ الدّنْيَا
لَا أكْتبُ /أنْهارُ أنَا
أكْتبُ /كيْ لَا أضْربَ
أضْربُ/ لِأكْتبَ
وأضْربُ/ لَا أضْربُ
حتَّى علَى مسْتوَى الْحركاتِ ؛ الرّفْعِ والنّصْبِ مترادفانِ متساوقانِ...
همَا حالتانِ يعيشُهُمَا الشّاعرُ قلقًا مزْمنًا وإدْمانًا مسْتمرًّا قبْلَ وأثْناءَ و بعْدَ ولادةِ النّصِّ...
وصولًا إلَى نتيجةٍ ، أنَّ الْكاتبَ عمومًا والشّاعرَ خصوصًا يُدْفنُ فِي الْمسْودّةِ هربًا منَ الْموْتِ الرّمْزِيِّ ، مسْتنْكرًا لطْفَ ووداعةَ هذَا الْإنْسانِ :
" منْ قالَ:
إنَّ الشّاعرَ مخْلوقٌ وديعٌ... ؟"
مجيبًا عنْ سؤالِهِ لِذاتِهِ:
"هوَ لقيطُ الدّهْشةِ
والْمأْساةُ تكْتبُهُ بِأسْماءَ مسْتعارةٍ..."
إنَّهُ الشّعْرُ نتاجُ الْقلقِ والْخوْفِ معًا أصرَّ علَى موْقفٍهِ كَموْقفٍ وجودِيٍّ مخْتنقٍ ، وجودٌ عمّقتْهُ الْمعاناةُ ، والْكتابةُ فعْلُ معاناةٍ ، ومَاعداهْ عبثٌ مجّانِيٌّ لَا علاقةَ لهُ بِمخاطرِ وخطورةِ الْإبْداعِ...
" كلُّ شيْءٍ يُقْلقُنِي "
منَ الْهواءِ/ إلَى الْأغْلاطِ إلَى الْمجازاتِ/الدّماملِ
إلَى النّافذةِ /حتَّى الْغرباءِ
"قلِقٌ جدًّا
قلِقٌ جدًّا..."
عنْفُ الْكتابةِ/عنْفُ الْذّاتِ الْواعيّةِ بِقيمةِ مَا تكْتبُهُ ، تتكرّرُ صيغةُ قلِقٌ مرّتيْنِ ،
تؤكّدُ علَى درجةِ وحِدّةِ الْمعاناةِ ، مُرْسلًا رسالةً هامّةً بِأنَّ الْكتابةَ فعْلُ وجودٍ أوْ لَاوجودٍ.
أكْتبُ
إذنْ أنَا موْجودٌ
لَا أكْتبُ
إذنْ أنَا لَا موْجودٌ
منْهيًا كوجيطُو شعْرِيًّا بِتصوّرٍ فلْسفِيٍّ يجْعلُ فعْلَ الْكتابةِ فعْلَ وجودٍ ،
و الْخوْفَ والْقلقَ دالّةَ هذَا الْوجودِ أيْضًا...

11
_ خلاصاتٌ محْتملَةٌ:

بيْنَ ظّنٍّ أنَّهَا الْكتابةُ تلبَّسَهَا أوْ تلبّسَتْهُ وبعْضُ الظّنِّ أحْيانًا يقينٌ وليْسَ إثْمًا ، وقلقٌ يخْنقُهُ ويخيفُهُ إلَى درجةِ الرُّهابِ ، يكونُ الْجنونُ وحْدَهُ يكْتبَهُ ؛ ممْتنعًا عنِ الْمراجعةِ بِهدفِ التّصْحيحِ ، بلْ لِلتّأكّدِ كَاعْترافٍ بِضرورةِ النّزْفِ الّذِي يصْنعُهُ الْقلقُ ذاكَ الْماردُ..! الّذِي يخْرجُ منَ الْقمْقمِ ، لِيشْعلَ الْحرائقَ فِي الذّاتِ بِواسطةِ الْحروفِ و الْورقِ ، والْورقُ عصيٌّ بِبياضِهِ...
اشْتغلَ بِهمَا فحاكمتْهُ وأدانتْهُ ثمَّ تحوّلَتْ فوْضَى ، فوْضَى خلّاقةً
إنَّهَا الْورْطةُ
بعْدَ أنْ سادَ الْارْتباكُ :
" كلُّ جمْلةٍ هطلَتْ
كانَتْ تبْتسمُ بِخبْثٍ
كَأنَّهَا تعْرفُ أنِّي لسْتُ
سوَى ارْتباكٍ
يدوّنُ نفْسَهُ ،
علَى هيْأةِ شاعرٍ..."
اعْترافٌ بِالنّزْفِ تمارسُهُ اللّغةُ لِتؤلّفَ قصيدةً،
نزْفٌ مسْتمرٌّ حتَّى الْاحْتراقِ، والْكتابةُ لذّةُ هذَا الْمصيرِ تشْبهُ شمْعةً تحْترقُ ؛ تقْرأُ فِي الظّلامِ والْكتابةُ احْتراقٌ
الشّاعرُ يحْترقُ كلّمَا كتبَ
الشّاعرُ /شمْعةٌ
تضيءُ كتابةً وقراءةً.
الْاحْتراقُ ضوْءٌ...
ينْتهِي الشّاعرُ إلَى خلاصةٍ منْ قراءةِ نصِّ الْقلقِ ونصِّ الظّنِّ إلَى نزيفٍ...
هوَ الإبداعُ/الْاحْتراقُ
نزيفٌ اخْتتمَ بهِ نصَّ
"كنْتُ أَظُنُّنِي أَكتُبُ "
فِي آخرِ النّصِّ:
" وتنْزفُ الْأسْئلةُ"
إنَّهُ الْقلقُ الْعارِيُّ الّذِي يحلُّ ضيْفًا وحيدًا ودائمًا يعْرفُ كلَّ أسْمائِهِ،
الْقلقُ /يدْخلُ/ يجْلسُ / عارٍ /
الْفكْرةُ/ النّصُّ /اللّغةُ /الْمشْنقةُ/
صورةٌ انْزياحيّةٌ تكْتملُ حينَ يعْتبرُ الْقلقَ هوَ النّصُّ الْحقيقيُّ،
أوْ هوَ منْ يكْتبُ،
الشّاعرُ يحْترقُ
وهوَ يكْتبُ
الشّمْعةُ تحترقُ
وهيَ تقْرأُ فِي الظّلامِ
لِأنَّهَا الضَّوْءُ...
وكلاهُمَا لحْظةَ الْاحْتراقِ يضيئانِ ، يعْنِي أنَّ فعْلَ الْكتابةِ والْقراءةِ ضوْءٌ...

12
_ اسْتنْتاجٌ :
الْكتابةُ جحيمٌ لذيذٌ

تأْتِي صرْخةُ الشّاعرِ الْأخيرةُ بِصيغةِ النّفْيِ الْمضْمرِ كَإثْباتٍ لِانْتصارِ الْكاتبِ علَى لحظاتِ ، وهوَ يتهيّأُ لِإنْتاجِ نصٍّ رغْمَ الشّعورِ بِالْقلقِ،
النّقْطةُ تتحوّلُ رصاصةً
علامةُ التّعجّبِ تتحوّلُ منْ قلقٍِ إلَى أصْبعٍ ديناميتٍ
والنّتيجةُ
هدْمُ الْجدْرانِ الّتِي كانَتْ تنْتصبُ أمامَهُ معيقًا ، هوَ هدْمٌ لِلقلقِ والتّخوّفاتِ منَ الْاقْترابِ إلَى أرْضِ الْألْغامِ ، تنْفجرُ أسْئلةً ، ويحلُّ النّصُّ بعْدَ ولادةٍ عسيرةٍ ،
وتنزفُ الْقريحةُ يتحوّلُ الْقلقُ قصيدةً.
تصْويرٌ ذكّيٌّ منْ خلالِ عناصرِهِ الْأساسيّةِ...
الْمجْنونُ داخلَ الرّأْسِ هوَ هوَ شخْصيّتانِ فِي شخْصيّةٍ واحدةٍ ، حدّثَهُ مرّتيْنِ لِيُناكِدُهُ ،ولِيُقْنعَهُ ،
تأْتِي لحْظةُ الْإقْناعِ لِلْخروجِ منْ وضْعيّةِ الْارْتباكِ...
هوَ نفْسُهُ يسجّلُ نتيجةً هامّةً منَ الْارْتباكِ إلَى الْقلقِ فالْقلقِ منْ جديدٍ عبّرَ عنْهُ:
" أُبجّلُ مَنْ يقْلقونَ كثيرًا
أكْرعُ معهُمْ كؤوسِي
كلَّ ليْلةٍ وأبْتهجُ
أنْتظرُهُمْ يُطْفئونَ الْكلامَ
وبِأنْفسِهِمْ يكْتبونَ:
هنَا تنْتهِي الْقصيدةُ هنَا يبْدأُ الْقلقُ منْ جديدٍ"
" وتنْزفُ الْأسْئلةُ"
صيغٌ تكرّرَتْ عمْدَا لِوضْعِنَا أمامَ الْمرْآةِ منْ خلالِ النّصّيْنِ :
"كنْتُ أَظُنُّنِي" 3 مرّاتٍ
"مَا كنْتُ أكْتبُ" 2 مرّتانِ
" أرْتجفُ، لاأكْتبُ ،
يحْزنُ الشّاعرُ ، أخافُ ، يقْلقُنِي ، قلِقٌ جدًّا ، الْقلقُ يَاحبيبتِي ، أُبجّلُ مَنْ يقْلقونَ ، هنَا يبْدأُ الْقلقُ...
الْقلقُ كأْسٌ جماعيّةٌ...
الْقلقُ انْتظارٌ ، والصّمْتُ لحْظةُ سابقةٌ ،
أمَّا الْكتابةُ فهيَ الْخلاصُ منَ الْقلقِ ؛ و بدايتُهُ ، لِيؤكّدَ لِلْكُتّابِ ، أنَّ الْكتابةَ ليْسَتْ منْطقةً حرّةً دونَ ضوابطَ ، ولَا اسْتسْهالًا مرِنًا ومطْواعًا ، وليْسَتْ منْطقةً محظورةً أيْضًا
يُمْنَعُ دخولُهَا أوْ قبّةً حديديّةً يصْعبُ اخْتراقُهَاواقْتحامُهَا...
إنَّهَا منْطقةُ الْجميعِ ؛ لكنَّهُ يهيبُ بِمنْ يقْتحِمُهَا ، أنْ يمْلكَ مفاتيحَهَا بِاعْتبارِهَا منْطقةَ الظّنِّ والشّكِّ ، و قلْعةَ الْجنونِ والْقلقِ ، والْأسْئلةِ والنّزْفِ الْمقدّسِ
" اِخْلعْ نعْليْكَ
إنَّكَ فِي الْوادِي الْمقدّسِ طوَى..."
الْكتابةُ الّتِي لَا تكْسرُ رأسَكَ ليْسَتْ كتابةً...
إنَّهَا مجرّدُ كلامٍ مرتّبٍ دونَ معْنَى، منمّقٍ يغْوي ولَا يفيدُ إلَّا كَواجهةٍ ، تعْرضُ الْبريقَ خاليًا منَ الْقيمةِ...
أسْتنْتجُ أنَّ النّصّيْنِ همَا نصَّا الْقلقِ بِامْتيازٍ ، يمثّلانِ دليلًا لِلْكتابةِ قبْلَ بدايةِ الْكتابةِ...
إنَّهَا الْخميرةُ وليْسَتِ الرّغيفَ قبْلَ الْاخْتمارِ...
شكْرًا لِمبْدعٍ وضعَ الْاصْبعَ علَى الْجرْحِ
قبْلَ الْجراحةِ...
إنَّ الْكتابةَ ليْسَتْ مخدّرًا
بلْ هيَ الْجراحةُ
والْجرّاحُ
والْجرْحُ...



#فاطمة_شاوتي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -اللُّقْمًةُ الْمًسْرُوقَةُ...-
- -مَرْكَبَةٌ. خُرَافِيَّةٌ...-
- -رِحْلَةٌ فِي الْمَجَازِ...-
- - أَحْلَامٌ افْتِرَاضِيَّةٌ،،،-
- - زِيَّارَةٌ مُفَاجِئَةٌ... -
- -أَوَدُّ...أَوَدُّ...أَوَدُّ/ لَوْ...لَوْ...لَوْ...-
- -الْجَسَدُ دَمُ الْفَرَاغِ...-
- -فَرْخُ الطَّوَارِئِ...-
- - الْمَطَرُ لَوْنُ عَيْنَيْكَ...-
- - فُسْحَةٌ لَيْلِيَّةٌ ...-
- - شَمَّاعَةُ الْجُوعِ...-
- - مَجَرَّةُ الرِّيحِ...-
- قراءة ٌ فِي نصِّّ الشّاعرِ الْفلسْطِينِي- رائدْ شنْيورةْ- .. ...
- - دَوْرَةُ الْفَرَاغِ...-
- - جِلْدٌ مُتَشَقِّقٌ...-
- -الذَّكَاءُ الْإِصْطِنَاعِيُّ مُنَشِّطٌ ثَقَافِيًٌ...-
- -فِي قَبْضَةِ اللّازَمَنِ...-
- -جُمْجُمَةُ الْمَاءِ...-
- قراءة فاطمة شاوتي في نص الشاعر المغربي -مصطفى البحري ...-
- -شَفَةٌ مَشْرُومَةٌ...-


المزيد.....




- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما
- سعد الدين شاهين شاعرا للأطفال
- -جوايا اكتشاف-.. إطلاق أغنية فيلم -ضي- بصوت -الكينج- محمد من ...
- رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُ ...
- فيلم -ساحر الكرملين-...الممثل البريطاني جود لو لم يخشَ -عواق ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة شاوتي - قراءةُ فاطمة شاوتي في نصّي الشاعر العراقي -ثامر سعيد -: - الْقَلَقُ لَا يَطْرُقُ الْبَابَ- و - كُنْتُ أَظُنُّنِي أَكْتُبُ -