أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزوار محمد سعيد - تأملات في الوعي والمدينة














المزيد.....

تأملات في الوعي والمدينة


مزوار محمد سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 18:30
المحور: الادب والفن
    


في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، قررت أن أترك الكتب والمخطوطات التي تملأ مكتبي في برمنغهام، وأمنح نفسي فسحة من التأمل الحر. كان اختياري مدينة لندن، تلك المدينة التي تحمل دوماً طابعاً خاصاً بين العواصم الأوروبية؛ مدينة تختلط فيها الأزمنة كما تختلط اللهجات، حيث يصعب أحياناً أن تميز بين ما هو ماضٍ عريق وما هو حاضر متسارع. ركبت القطار باتجاه العاصمة، ومنذ لحظة وصولي إلى محطة "كينغز كروس" شعرت أنني دخلت فضاءً آخر، فضاءً يفرض عليك الإصغاء إلى نبضه الخفي.

سرت متجهاً نحو شارع أكسفورد، أكثر الشوارع حيوية وضجيجاً، شارع تتقاطع فيه الثقافات واللغات، حيث يمتد على طول يقارب الميلين، يعجّ بالمتاجر والمقاهي والمكتبات، وتخترقه الحافلات الحمراء الشهيرة التي تذكرك أن لندن لم تفقد صورتها الرمزية بعد. كان يوم سبت، والناس يتدفقون كتيارات متباينة: سياح يلتقطون الصور بوجوه مبهورة، عمال يسرعون نحو وجهات لا يلتفتون إليها إلا قليلاً، وطلاب جامعيون يضحكون على أبواب المقاهي.

ما شدّني هو الكثافة الإنسانية، ذلك التشابك الغريب بين الحشود، حيث كل فرد يعيش قصته الخاصة ومع ذلك ينصهر في نسيج مشترك. هنا، بدأت عيناي تتعامل مع المشهد كفيلسوف ظاهراتي؛ تذكرت إدموند هوسرل وقوله إن الفلسفة ليست سوى "عودة إلى الأشياء ذاتها". ما هي "الأشياء ذاتها" في شارع مثل أكسفورد؟ أهي الواجهات المضيئة لمتاجر الأزياء العالمية؟ أم وقع خطوات الناس على الرصيف اللامع من أثر المطر؟ أم تلك النظرات السريعة العابرة التي لا تتكرر؟

تقدّمت ببطء، كأنني أمارس تمريناً ظاهراتياً؛ لا أحكم على شيء، بل أصفه كما يظهر لي. أمام متجر "سلفريدجز" العملاق، رأيت زينة النوافذ تعرض الألوان الموسمية: الأحمر الغامق، الأزرق الفاتح، الذهبي اللامع. لكنني لم أرَها كسلع تجارية فحسب، بل كظواهر تشكّل وعينا الجمالي. كل عابر يمر أمامها يتوقف أو يشيح ببصره، وفي الحالتين هناك علاقة قصديّة بين الوعي والموضوع.

الظاهراتية تجعلني أفكر في المعنى الكامن وراء كل حركة. شاب يخرج من المتجر حاملاً حقيبة صغيرة، لكن وجهه لا يحمل بهجة شراء جديد، بل نوعاً من اللامبالاة. هنا تذكرت أن هوسرل كان يرى أن الوعي دائماً "وعي بشيء"، غير أن هذا الشيء ليس بالضرورة ممتلئاً بالمعنى. قد يكون فارغاً، مثل حقيبة لا تضيف شيئاً إلى تجربة الذات.

واصلت السير حتى تقاطع "توتنهام كورت رود". هناك تزداد الضوضاء، وتكثر شاشات الإعلانات العملاقة. لندن الحديثة تعرض نفسها كمدينة استهلاك، لكنني لم أرد أن أقف عند هذا النقد السوسيولوجي المعتاد، بل أردت أن أطرح سؤالاً ظاهراتياً: كيف يعيش الإنسان الإنجليزي المعاصر هذه الكثافة؟ هل ما زال قادراً على الإصغاء إلى ذاته وسط هذا الضجيج البصري والسمعي؟

دخلت مقهى صغيراً بجوار المكتبة الشهيرة "فويلز". جلست عند النافذة أحتسي قهوة سوداء، وأراقب الخارج. من مكاني كان الشارع يبدو كلوحة متحركة: دراجات هوائية، عازف غيتار يؤدي مقطوعة حزينة، سيدة مسنّة تقرأ جريدة ورقية، شابان يتناقشان بحرارة. الفينومينولوجيا هنا لا تعني لي مجرد تحليل أكاديمي، بل صارت طريقة للإنصات إلى إيقاع المدينة. كل فعل إنساني هو "معطى" يمكن أن يكشف بنية الوجود المعاصر.

تذكرت في تلك اللحظة عبارة موريس ميرلو-بونتي، أحد تلامذة هوسرل، حين قال إن "الجسد هو وسيلتنا للوجود في العالم". رأيت ذلك بوضوح: الأجساد تتحرك، تتصادم أحياناً، تبتسم، تحتج، تتجاهل. الجسد في لندن ليس مجرد مادة، بل هو لغة كاملة.

مع كل دقيقة، كنت أجد نفسي أغوص أعمق في السؤال: كيف يمكن للظاهراتية، التي وُلدت في فضاء أوروبي قديم، أن تلتقط تفاصيل الحياة الإنجليزية المعاصرة بكل تناقضاتها؟ ربما الجواب هو أن الفلسفة، مهما بدت نظرية، تصبح أكثر حيوية حين تختلط بالشارع، حين تخرج من قاعات الجامعات لتتأمل عازف غيتار مغمور أو بائعة ورود عند زاوية الطريق.

عندما هممت بالعودة نحو محطة القطار، مررت بحديقة صغيرة قرب "سوهو سكوير". جلست قليلاً على مقعد خشبي، وأغمضت عيني. سمعت ضحكات أطفال، وقع أقدام على العشب، وصوت حمامة تحط بالقرب مني. كل هذه الأصوات لم تكن تفاصيل هامشية، بل هي جزء من "العالم المعيش" الذي تتحدث عنه الظاهراتية.

في نهاية اليوم، أدركت أن جولة في شارع مثل أكسفورد ليست مجرد نزهة، بل تجربة فلسفية. لقد أضاءت لي كيف أن الفينومينولوجيا ليست علماً معزولاً، بل هي قدرة على رؤية ما هو بديهي كشيء استثنائي. في لندن، وجدت أن الوعي الإنجليزي المعاصر يعيش تناقضاً بين الاستهلاك المفرط والبحث الصامت عن معنى. وبين هذين القطبين، هناك دائماً فسحة صغيرة للتأمل، للإنصات إلى العالم دون أحكام مسبقة.

وهكذا عدت إلى برمنغهام وأنا أشعر أن الفلسفة، مهما كانت معقدة في نصوصها، يمكن أن تبدأ من أبسط الأشياء: من مقهى مزدحم، من شارع يتلألأ بضجيجه، ومن قلب يحاول أن يرى ما وراء الظاهر.



#مزوار_محمد_سعيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة الموسكيترز وأرض القراصنة
- التفكر في المعنى داخل المشهد اليومي
- رأي الدكتور مزوار محمد سعيد الفيلسوف الجزائري البريطاني المق ...
- تجليات الفكر في حضرة الموت: تحليل سردي-فلسفي لتأملات الدكتور ...
- الفينومينولوجيا كمدخل لفهم الرؤية الكونية عند ابن عربي
- عبر الطبق والقلم: تأملات في فلسفة النجاح مع الدكتور مزوار مح ...
- صوت البكاء النبيل: تأملات في نص الوداع والحنين
- حوار مع الدكتور مزوار محمد سعيد: -الفينومينولوجيا ليست مجرد ...
- شرح قصيدة سكر الفقدان للشاعر الدكتور مزوار محمد سعيد
- لقاء على أوكسفورد
- شكرا على هذه اللحظة – 33
- دور الثقافة في التحرر البشري: دراسة مقارنة بين شوبنهاور وهوب ...
- بيان إدانة
- لحظة ابتهاج الفرح
- على ذلك المجرى
- أومبرتو إيكو بين الصمت وعدمه
- قراءة -العلم المرح- لفريدريش نيتشه
- دخان الهيجل: تأملات في فلسفة التاريخ
- أعلنتُ عليك حربًا يا وجعي (الورقة الثامِنَة)
- فينومينولوجيا المُعاناة، والسبب: قبعَة


المزيد.....




- موغلا التركية.. انتشال -كنوز- أثرية من حطام سفينة عثمانية
- مريم أبو دقة.. مناضلة المخيمات التي جعلت من المسرح سلاحا للم ...
- هوليود تكتشف كنز أفلام ألعاب الفيديو.. لماذا يعشقها الجيل -ز ...
- الموسيقي نبيل قسيس يعلم السويديين والعرب آلة القانون
- صانعو الأدب ورافضو الأوسمة.. حين يصبح رفض الجائزة موقفا
- -الديفا تحلّق على المسرح-..أكثر من 80 ساعة عمل لإطلالة هيفاء ...
- الممثل الأمريكي -روفالو- يناشد ترامب وأوروبا التدخل لوقف إبا ...
- ما سر تضامن الفنانين الإيرلنديين مع فلسطين؟.. ومن سيخلف المل ...
- التوحيدي وأسئلة الاغتراب: قراءة في جماليات -الإشارات الإلهية ...
- الموسيقى الكونغولية.. من نبض الأرض إلى التراث الإنساني


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزوار محمد سعيد - تأملات في الوعي والمدينة