قراءة -العلم المرح- لفريدريش نيتشه

مزوار محمد سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 8226 - 2025 / 1 / 18 - 14:01
المحور: قضايا ثقافية
    

في مدينة برمنغهام البريطانية، حيث يقطن الدكتور مزوار محمد سعيد، كان يعيش الفيلسوف الجزائري حياة هادئة وعميقة في نفس الوقت. بعيدًا عن وطنه الأم، الجزائر، حيث التزم بالتأمل والدراسة، استقر في هذه المدينة التي تشتهر بتعدد ثقافتها وحيويتها الفكرية. الدكتور مزوار، الذي كان أستاذًا جامعيًا في الفلسفة ودارسًا معمقًا لأعمال الفلاسفة الغربيين، كان دائمًا يلتقط أفكارًا جديدة لتحليلها من منظور ثقافي وفلسفي نابع من خلفيته الجزائرية. من بين الأعمال التي تركت أثرًا كبيرًا في تفكيره، كان كتاب "العلم المرح" للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه.

**البداية: لقاء مع الكتاب**

في أحد الأيام الشتوية الباردة، كان الدكتور مزوار يتصفح رفوف مكتبته الخاصة في شقته المتواضعة، حيث كانت الكتب الفلسفية تتناثر على الطاولات والأرفف. بينما كان يبحث عن مصدر إلهام جديد لطلبته، لفت انتباهه كتاب "العلم المرح" (Die fröhliche Wissenschaft) لنيتشه. كان قد قرأ بعض أعمال نيتشه في الماضي، لكن هذا الكتاب تحديدًا أثار فضوله بشكل خاص. يعرف الدكتور مزوار أن نيتشه كان شخصية مثيرة للجدل، تتراوح آراء المفكرين حوله بين مؤيد ومعارض، لكنه كان مقتنعًا أن أية قراءة جديدة لأعماله يمكن أن تفتح أبوابًا جديدة للفهم.

فتح الدكتور مزوار الكتاب وبدأ في قراءة الفصول الأولى. تعمق في أسلوب نيتشه الذي يتسم بالتحرر من الأشكال التقليدية للفلسفة، وركّز على مفهوم "العلم المرح" الذي اقترحه نيتشه في هذا الكتاب. العلم هنا لا يعني المعرفة الجافة أو المجردة فقط، بل هو علم ينبض بالحياة، يحمل معه الفرح والاحتفال بالحياة نفسها.

**فهم "العلم المرح"**

أخذ الدكتور مزوار يتأمل في ما يمكن أن يعنيه هذا المفهوم في سياق واقعنا المعاصر. فـ"العلم المرح" عند نيتشه هو نوع من الفهم الذي يرفض الاستخفاف بالحياة ويحتفل بها، حتى في ظل المعاناة والتحديات التي تواجهها البشرية. في الكتاب، ينقلب نيتشه على الفكرة التقليدية للعلم كأداة جافة وميكانيكية للكشف عن الحقائق، ليقدم لنا "علمًا" يتماشى مع الطاقة الحية والتجربة البشرية المتنوعة، ويرتبط بالفرح والانتصار على الذات.

أما في نظر الدكتور مزوار، فإن فكرة نيتشه عن "العلم المرح" يمكن أن تتداخل مع العديد من القضايا الفكرية في العالم العربي، الذي يمر بتحولات ثقافية واجتماعية كبيرة. كان يرى في "العلم المرح" دعوة للانعتاق من القيود الفكرية والاجتماعية، التي قد تقيد الفرد وتمنعه من الاحتفال بحريته الفكرية والوجودية. نيتشه، كما يرى الدكتور مزوار، كان يدعو إلى التمرد على المفاهيم السائدة التي تُفرض على الأفراد، سواء كانت دينية أو اجتماعية، ويسعى إلى التحرر من العبء العقلي والنفسي الذي يفرضه العالم التقليدي.

**التمرد على القيم التقليدية**

أحد الموضوعات الرئيسية في الكتاب هو نقد نيتشه للقيم الأخلاقية التقليدية، التي كانت تعيق تطور الإنسان كما يراها. وُلدت هذه القيم، في نظره، من ضرورة القمع والتسلط في المجتمعات القديمة. كان نيتشه يرى أن هذه القيم قد تحولت إلى معوقات للفرد المعاصر الذي يسعى لتحرير ذاته وتحقيق إمكانياته بالكامل. تتعلق دعوته في الكتاب بتحطيم هذه القيود والانطلاق في بحث عن معايير جديدة للعيش، مع التركيز على قوة الإرادة والتطور الفردي.

استفاد الدكتور مزوار من هذه الفكرة في تفسير الواقع الفكري والاجتماعي في الجزائر وفي العالم العربي بشكل عام. وفي نقاشاته مع طلابه في جامعة برمنغهام، كان يطرح تساؤلاته حول كيفية تأثير هذه القيود التقليدية في مجتمعاتنا الحديثة. هل نحن فعلاً أحرار في فكرنا؟ هل يمكننا خلق قيم جديدة تحترم حرية الفرد وتسمح له بالتطور؟ وهل يمكن للعقل العربي أن يشارك في "العلم المرح" الذي دعى إليه نيتشه من خلال تبني منظور أوسع للحياة؟

**الحكمة والتمرد: حوار مع الذات**

أكثر ما أثار إعجاب الدكتور مزوار في "العلم المرح" هو قدرة نيتشه على استخدام الفلسفة لطرح أسئلة وجودية حول الحياة والوجود. كان نيتشه يرى أن الإنسان لا بد أن يواجه مصيره الخاص، لا أن يتهرب منه أو يتجاهله. ربما يكون من المثير للاهتمام، أن الدكتور مزوار كفيلسوف جزائري، كان يراها دعوة للعديد من الأفراد في العالم العربي، الذين يعانون من واقع معقد ومرتبك، إلى ضرورة مواجهة هذه الصعوبات بوعي حقيقي ونقد داخلي مستمر.

الكتاب، كما كان يراه الدكتور مزوار، ليس مجرد دعوة للتمرد على القيم التقليدية، بل هو دعوة للأمل والنظر إلى الحياة بعين مليئة بالفرح والفرص التي لا تعد ولا تحصى. الفرح، في هذا السياق، ليس مجرد شعور سطحي، بل هو حالة من الوعي العميق بكل ما تعنيه الحياة. حتى في المآسي والمعاناة، كان نيتشه يعتقد أن هناك قيمة يمكن استخلاصها من خلال قبول هذه التجارب كجزء من حياتنا.

**دور "العلم المرح" في الفكر الجزائري المعاصر**

من خلال تحليله لكتاب "العلم المرح"، بدأ الدكتور مزوار يفكر في كيفية تطبيق هذه الأفكار في الجزائر المعاصرة. كيف يمكن للمجتمعات العربية أن تتبنى أسلوبًا أكثر مرونة في التفكير، يعترف بقيمة الفرد وحريته في إعادة تشكيل القيم والأخلاقيات؟ كما كان يفكر في كيفية إدخال هذه المفاهيم إلى النقاشات الفكرية داخل الجزائر وفي الجامعات العربية، التي ما زالت متأثرة بأنماط فكرية تقليدية قد لا تترك المجال للأفراد لتطوير آراءهم الخاصة بحرية.

إن أهم درس يمكن أن يستخلصه الدكتور مزوار من كتاب نيتشه هو ضرورة تحرير الفكر العربي من الأنماط الثابتة، والبحث عن طرق جديدة للتفاعل مع الحياة والتطور. وبهذا المعنى، كان "العلم المرح" بمثابة نقطة انطلاق جديدة لفهم نيتشه من منظور ثقافي جديد قد يكون أكثر قدرة على التفاعل مع الواقع المعاصر في العالم العربي.

**الخاتمة**

بعد أن أكمل الدكتور مزوار قراءة "العلم المرح" وشارك أفكاره مع طلابه وزملائه، شعر بأنه قد اكتشف أرضًا خصبة لفهم عميق يتجاوز الفلسفة الغربية الكلاسيكية. كان نيتشه، من خلال هذا الكتاب، قد طرح أسئلة لم يكن قد تمت الإجابة عنها بشكل كافٍ في الفلسفة العربية المعاصرة. وهو بذلك فتح بابًا جديدًا لفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين العقل والعاطفة، وبين الفرح والمعاناة.

في النهاية، أصبح الدكتور مزوار أكثر إيمانًا بأن الفكر الفلسفي، مثل "العلم المرح"، لا يجب أن يُعَامَل كأداة فكرية مجردة، بل كأداة تنير الطريق لفهم أعمق لحياتنا، وتحررنا من القيود التي تحد من قدرتنا على أن نكون أفضل.

#مزوار_محمد_سعيد (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل