ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 00:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : د . ادم عربي
يُقدَّر عدد سكان العالم اليوم بنحو سبعة مليارات ونصف المليار نسمة، لكن سؤالاً أجده يفرض نفسه بإلحاح وهو كم بلغ عدد البشر الذين عاشوا على وجه الأرض منذ أنْ وُجد الإنسان؟ أو بعبارة أخرى، كم عدد الذين ماتوا منذ ظهور البشرية؟
إنه سؤال يصعب، بلْ يستحيل، الجزم بإجابته. غير أنَّ مجرد طرحه كفيل بأنْ يوقظ في الإنسان روحه الفلسفية، ويطلق العنان لخياله وتفكيره، فيدفعه إلى تأملٍ عميق، وينتشله من رتابة همومه اليومية، ويحثّه على تجاوز صغائر الأمور. في تلك اللحظة، يتشبّه في فكره وسلوكه بالعظماء، كما وصفهم المتنبي حين قال:
"وتعظم في عين الصغير صغارها، وتصغر في عين العظيم العظائم."
إنها "الحياة" التي لم نحسن فهمها حتى يومنا هذا، لأننا تلقّينا عنها تصوراً معكوساً؛ إذْ تعلمنا أنْ نفهمها من خلال نقيضها "الموت". وبهذا الفهم المغلوط، عشنا الحياة بأسوأ وجه، فسلّمنا أنفسنا للماضي والموتى، لا لأجسادهم فقط، بلْ لأفكارهم ومفاهيمهم وطرقهم في التفكير وميزانهم في الحكم على الأمور.
صار الأموات هم من يحكمون الأحياء، يقيّدون حركتهم، ويفرضون سلطانهم، حتى أصبحنا أشبه بأمواتٍ نسير على الأرض، لا نُدرك الحياة ولا نحتضنها. لم نأبه بنداء إيليا أبو ماضي حين قال: "أحكم الناس في الحياة أناس علّلوها، فأحسنوا التعليل." إذ دعا إلى أنْ نكون أبناءً للحياة، لا أسرى للموت في ثوبٍ من حياة.
أدعو كل من يطمح إلى فهمٍ أعمق للحياة، وإلى إتقان فنّ تعليلها، أنْ يزور بلدة "جدارا" ، المعروفة اليوم بأم قيس في الأردن ، لا كمن يبحث عن متعة سياحية عابرة، بلْ كفيلسوفٍ يسعى إلى التأمل.
لتكن زيارته بداية وقفة صامتة أمام حجر الشاهد على قبر الشاعر أرابيوس، حيث نُقشت كلمات خالدة خاطب بها الزائرين قائلاً:
"أيها العابر من هنا، كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة، فأنت فانٍ."
إنها دعوة تختصر المعنى العميق للوجود، وتوقظ الوعي بقيمة الزمن الذي نملكه قبل أنْ نصير نحن أنفسنا منقوشين على حجر.
لم يكن سائحاً يتجوّل، ولا متنزّهاً يبحث عن راحة، بلْ فيلسوفاً غاص في التأمل، قصد نهر هيراقليطس، وهناك، في جريان الماء، اكتشف المعنى العميق للحياة، وسرّ الطبيعة وقانون الكون، حين قال عبارته الشهيرة:
"لا يمكنك أنْ تستحمّ في مياه النهر نفسها مرتين"،
لأنَّ المياه لا تكفّ عن الجريان والتغيّر.
يا لعظمة نهر هيراقليطس! فأولئك الذين يتأملونه بصفاء البصر والبصيرة، يدركون أنَّ كل شيء في الوجود هو تكرارٌ للوحدة في ازدواجها، هو الشيء ذاته وغيره في آنٍ معاً، في كل لحظة متغيرة.
فأيُّ كائن ظهر إلى الوجود إلّا وكان، في لحظة ظهوره، مستحقاً للزوال؟ ما من شيء يولد إلّا ويحمل في داخله بذرة فنائه.
ابحثوا عن "الخلود" ما شئتم، استنزفوا الوقت والجهد، فتّشوا في الكتب والمجرات والرموز، فلن تجدوه في نهاية المطاف إلّا في نهر هيراقليطس، الذي لا يتكلم إلّا بلغة واحدة وهي الجريان.
فالخلود ليس سكوناً، بلْ حركة مستمرة، ليس بقاءً على حال، بلْ نشوءٌ يفضي إلى زوال، وزوالٌ يولد منه النشوء.
وكما أنَّ نهر هيراقليطس لا يتوقف، كذلك هو الزمن. ينساب من منبع لا ينضب، ويصبّ في مصبّ لا يمتلئ أبداً، ونحن ننساب معه.
ورغم أنه يملك كل شيء، إلّا أنه بخيلٌ معنا، لا يمنحنا من ملكه الواسع إلّا لحظة واحدة فقط وهي الحاضر، أو "الآن".
كأنه اختبرنا، فوجد أننا لا نستحق حتى هذا القليل. والواقع أننا فعلاً لا نستحق، لأننا لا نحسن استثماره.
من منا عاش اللحظة وهو يدرك أنها الوحيدة التي يمتلكها؟ من تعامل مع "الآن" على أنه السيد عليها، المنتفع منها، العارف بأنها الفرصة الوحيدة التي بين يديه؟
غالباً ما يُحاصر الإنسان في لحظته الحاضرة بين مشاعر اثنين لا ثالث لهما هما ندمٌ على ماضٍ مضى، أو قلقٌ من مستقبلٍ لم يأتِ بعد.
فكيف يمكن أنْ نحيا "الحاضر"، أنْ نحسن عيشه وهو كل ما نملك، ونحن تائهون بين حزنٍ على ما فات، وخوفٍ مما لم يحدث بعد؟!
إنَّ الإنسان، في مشاعره، كثيراً ما يكون سجين ما مضى، حبيس لحظاتٍ انقضت وصارت أثراً بعد عين، لا سبيل لاستعادتها أو الرجوع إليها. أو تراه أسيراَ لقلقٍ من مستقبلٍ قد لا يأتي أبداً. والنتيجة؟ أنه ينشغل عما يملك فعلاً، ويُفوّت اللحظة الحاضرة، وهي وحدها التي تستحق أنْ تُعاش وتُثمر، إذْ يُبدّدها بين حزنٍ على ما فات وخوفٍ مما لم يقع بعد. والأسوأ من ذلك أنَّ ما ينتظره بقلق قد يأتي بعد فوات الأوان… بعد أنْ يكون قد رحل هو نفسه عن الحياة!
ولم أجد "حكمة" أتعس من تلك التي تولد في عقل من يعيش داخل سجن الماضي، ذلك الذي لا يكفّ عن قول: "لو عاد بي الزمن، لما فعلت ما فعلت، وما كنت لأجلب على نفسي هذا الندم والأسى."
لكن الحقيقة أنَّ هذه ليست حكمة، بلْ وهمٌ يتغذّى على العجز.
كلا، لا يوجد في هذا الادّعاء ما يُشبه الحكمة، ولو بأدنى قدر. فلو لم يرتكب الإنسان ذلك "الخطأ"، ويخُض تلك التجربة المؤلمة، ويتحمّل ما ترتب عليها من تبعات، لما توصّل إلى ما يسميه اليوم "حكمة". لكنها ليست حكمة حقيقية، لأنَّ العودة إلى الماضي لا تعني العودة وهو مُجهّزٌ بهذه الخبرة الجديدة، بلْ تعني عودته إلى اللحظة نفسها، وهو محكوم بذات الأسباب والدوافع والضغوط التي قادته في المرة الأولى إلى ارتكاب الفعل ذاته، الذي لم يُدركه كخطأ إلّا حين ظهرت نتائجه لاحقاً.
إنها "حكمة" لا تليق إلّا بأمثال زين العابدين بن علي، الذي أدرك فجأة ،ولكن بعد فوات الأوان، أنه قد فهم شعبه، معترفاً بخطأه وكأنَّ الفضيلة لا تأتي إلّا بعد السقوط، وكأنَّ الاعتراف لا يكون إلّا حين يغدو بلا ثمن. وكأنَّ الحكمة هي بنت الضرورة لا البصيرة!
لا سلطان للزمن إلَّا لمن يدرك قيمته حقاً، كما فعل ذلك الشخص الذي نظر إلى ساعته وقال: "اليوم هو الرابع والعشرون من أكتوبر؛ قبله بيوم لم يحن الوقت بعد، وبعده بيوم يكون قد فات الأوان."
عِشْ اللحظة الحاضرة، وتعلّم كيف تستغلها وتستفيد منها، فهذه اللحظة هي الزمن الوحيد الذي تملكه. عشها بحرية، متحرراً من مشاعر لا تغيّر ما حدث، ولا تمنع ما قد يأتي. وكن حراً من خوفٍ يشبه الحماقة، ألا وهو "الخوف من الموت". فقد وصف حكماء الإغريق هذا الخوف بأنه جنون، لأنَّ الموت لا يحضر معنا ما دمنا على قيد الحياة، وإذا متنا، فإنَّ كل المشاعر تموت معنا، بما فيها ذلك الخوف من الموت ذاته ، فالميت هو الوحيد الذي لا يخاف الموت.
إنَّها حكمة، لكنها ، كغيرها من الحكم ، لا تخلو من خطأ. فالموت قد يبدو وكأنه يأتي فجأة، لكن علينا أنْ نفهم معنى هذه "الغيبة" كما نفهم قصة "القشة التي قصمت ظهر البعير". فالقشة ليست ذات قوة خارقة، لكنها القش المتراكم على ظهر البعير على مرّ الزمن هو الذي جعلها تبدو قشةً عاديةً تتسبب في كسر مفاجئ.
وكذلك الموت، يتراكم في أجسامنا وأرواحنا ونحن على قيد الحياة، منذ لحظة مجيئنا إلى الوجود، إلى أنْ تأتي "النقطة الأخيرة" التي تبدو بمثابة حادث مفاجئ، لكنها في الواقع كانت نتيجة تراكم مستمر، فتقضي على الحياة فينا بكل حدة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟