الذكاء الاصطناعي والاقتصاد النفسي: عقل بشري في قبضة خوارزمية؟

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 00:13
المحور: الادارة و الاقتصاد
    

د.حمدي سيد محمد محمود
لقد شكل الاقتصاد النفسي، منذ نشأته، ثورة فكرية حقيقية، مزعزعًا الافتراضات الكلاسيكية حول عقلانية الإنسان. فبفضل رواده أمثال كانيمان وثالر، أدركنا أن قراراتنا الاقتصادية ليست مجرد معادلات منطقية، بل هي نتاج معقد للتحيزات المعرفية، والعواطف المتضاربة، والنفور من الخسارة. لقد كشف لنا هذا العلم أننا لسنا "آلات" اتخاذ قرار، بل كائنات بشرية تتخذ قراراتها في ظل ظروف من عدم اليقين، متأثرة بحدسها ومشاعرها أكثر مما نتخيل. هذه الرؤية الجديدة حول السلوك البشري كانت حجر الزاوية في فهمنا لأسواق المال، وسلوك المستهلكين، وحتى سياسات الحكومات. ولكن، مع بزوغ فجر عصر الذكاء الاصطناعي الفائق، بدأت هذه الصورة في التحول جذريًا، لتطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل هذا الفرع من الاقتصاد، ومصير عقلانية الإنسان نفسه.
يأتي الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كأداة تحليلية، بل كقوة فاعلة تغير قواعد اللعبة بأكملها. فمن خلال قدرته الهائلة على معالجة البيانات الضخمة، أصبح بإمكانه رصد أدق تفاصيل سلوكنا الاقتصادي، من نقراتنا على الإنترنت إلى مشاعرنا التي نعبر عنها على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا القدر من المراقبة والتحليل يسمح للخوارزميات بإنشاء نماذج سلوكية دقيقة للغاية، تتنبأ بقراراتنا قبل أن نتخذها، وتحدد تحيزاتنا قبل أن ندركها. وبذلك، يتحول الاقتصاد النفسي من علم يدرس التحيزات البشرية إلى علم تستغله الآلة لتوجيهنا والتأثير فينا. فعلى سبيل المثال، يمكن لنظام ذكاء اصطناعي أن يكتشف أنك أكثر عرضة للشراء عند الشعور بالملل، فيقوم بإرسال إشعارات وعروض مخصصة لك في تلك اللحظة بالذات، مستغلًا ضعفك النفسي ببراعة لا يضاهيها أي مسوق بشري.
لكن القصة لا تتوقف عند حدود التنبؤ والتوجيه، بل تمتد لتلامس جوهر عملية اتخاذ القرار نفسها. ففي المستقبل القريب، قد نجد أنفسنا نعتمد بشكل كلي على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قراراتنا المالية والاستثمارية. سيقوم المستشارون الماليون الآليون بتحليل بيانات الأسواق العالمية وبياناتنا الشخصية لحظة بلحظة، ليقدموا لنا توصيات استثمارية خالية من العواطف والتحيزات البشرية. قد يجادل البعض بأن هذا سيحررنا من قراراتنا الخاطئة ويجعلنا أكثر عقلانية. ولكن، هل هذا التحرر يأتي بثمن؟ هل التخلي عن الحدس الإنساني لصالح المنطق الخوارزمي يعني التخلي عن جزء من إنسانيتنا؟ قد نجد أنفسنا في عالم لا نتخذ فيه قراراتنا بأنفسنا، بل نتبع فيه إملاءات نظام ذكي صمم خصيصًا ليعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا.
هذا المستقبل يضعنا أمام تحديات أخلاقية وفلسفية عميقة. فهل سنقبل العيش في عالم تسيطر فيه الخوارزميات على قراراتنا؟ وهل ستكون هذه الخوارزميات محايدة حقًا؟ فالذكاء الاصطناعي ليس خاليًا من التحيز، بل إنه يعكس تحيزات البيانات التي يتغذى عليها. وإذا كانت هذه البيانات تعكس تحيزاتنا الاجتماعية والتاريخية، فإن الذكاء الاصطناعي سيعيد إنتاجها ويضخمها بشكل خطير. إن مستقبل الاقتصاد النفسي في ظل الذكاء الاصطناعي الفائق لا يتعلق فقط بمسألة الكفاءة الاقتصادية، بل يتطلب منا إعادة التفكير في معنى السلوك البشري، والحرية في الاختيار، والحدود الفاصلة بين المساعدة والتلاعب. إننا على وشك الدخول في عصر قد لا يكون فيه العقل البشري هو السيد الوحيد لقراراته الاقتصادية، بل شريكًا، أو ربما تابعًا، لعقل خوارزمي فائق.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل